فصل: سورة الأنفال

صباحاً 0 :36
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 196‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏189‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏190‏)‏ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏191‏)‏ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏192‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ‏(‏193‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏194‏)‏ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏‏}‏

ولما ذكر سبحانه الساعة هنا كما ذكرها أول السورة بما لم يذكره هناك من تهكمهم واستهزائهم، وختم هنا بحصر العلم والقدرة في الله الموجب لتفرده بالإلهية، وكان الذي جرهم إلى ذلك الاستهزاء إشراكهم، ذكر ما ذكر قبلها أول السورة من ابتداء الخلق على وجه الحصر المستلزم لتمام القدرة الموجب لنفي الشريك واعتقاد القدرة على الساعة وغيرها والصدق في كل ما وقع الإخبار به من أمرها وغيره الموجب للاستقامة في قبول بشارته ونذارته والإقبال بالكلية على الخالق، فقال مقرراً للتوحيد مؤكداً لأمره‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي خلقكم‏}‏ أي ولم تكونوا شيئاً ‏{‏من نفس واحدة‏}‏ أي خلقها ابتداء من تراب وهي آدم عليه السلام- كما مر بيانه، ومن قدر على اختراع حي من شيء ليس له أصل في الحياة، كان على إعادته حياً من ذلك الشيء بعد أن صار له أصل في الحياة أقدر‏.‏

ولما كان آدم عليه السلام بعد صيرورته لحماً ودماً أقرب إلى السببية لخلق ذات لحم ودم منه، قال معبراً بالواو لأنه كاف في نفي الشرك الذي السياق للتحذير منه بخلاف الزمر فإنه للقهر، وتأخير المسببات عن الأسباب مدة أدل عليه لأنه خلاف الأصل، ‏{‏وجعل‏}‏ لأن الجعل- كما قال الحرالي- إظهار أمر عن سبب وتصيير ‏{‏منها‏}‏ أي لا من غيرها ‏{‏زوجها‏}‏ أي حواء من لحمها ودمها وعظمها‏.‏

ولما كان المراد بالنفس آدم عليه السلام وكان الزوج يقال على الذكر والأنثى، استخدم ضميره في المذكر ذاكراً علة الجعل بقوله‏:‏ ‏{‏ليسكن‏}‏ أي آدم هو المراد بالنفس هنا، ولما كان الزوج هنا هو المرأة أنث الضمير فقال‏:‏ ‏{‏إليها‏}‏ وتنقلكم من ذلك السكون منه إليها- لأن النفس إلى الجنس أميل وعليه أقبل، ولا سيما إن كان بعضاً، ألا ترى إلى محبة الوالد لولده والقريب لقريبه، وإنما منع سبحانه من نكاح الأصل والفرع لما في ذلك من الضرار وغيره من الحكم الكبار، فيغشاها عند ما يسكن إليها فيحصل الحبل والولادة فتتفرع النفوس من تلك النفس‏.‏

ولما كان السكون هنا كناية عن الجماع، أعاده بلفظ أقرب منه- فقال مؤذناً بقرب غشيانها بعد جعلها، أو ناسقاً له على ما تقديره‏:‏ فسكن إليها فمالت نفسه إليها فلم يتمالك أن غشيها ‏{‏فلما تغشّاها‏}‏ أي غشيها آدم عليه السلام المعبر عنه بالنفس بهمة عظيمة ‏{‏حملت حملاً خفيفاً‏}‏ أي لأنه نطفة ‏{‏فمرت به‏}‏ أي فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت، لم يعقها عن شيء من ذلك، إعلاماً بأن أمرها فيه كان على عادة النساء التي نعرفها ‏{‏فلما أثقلت‏}‏ أي صارت ثقيلة بكبره وتحركه في بطنها ‏{‏دعوا الله‏}‏ أي آدم وحواء عليهما السلام‏.‏

ولما ذكر الاسم الأعظم استحضاراً لأن المدعو هو الذي له جميع الكمال، فهو قادر على ما دعوا به لأنه قادر على كل ما يريد، ذكر صفة الإحسان رجاء القبول والامتنان فقال‏:‏ ‏{‏ربهما‏}‏ أي الذي أحسن إليهما، مقسمين ‏{‏لئن آتيتنا صالحاً‏}‏ أي ولداً لا عيب فيه ‏{‏لنكونن من الشاكرين*‏}‏ أي نحن وأولادنا على نعمتك علينا، وذلك أنهما جوزا أن يكون غير سوى لقدرة الله على كل ما يريد، لأنه الفاعل المختار لا الطبيعة ولا غيرها، وأشار بالفاء إلى قرب الولادة من الدعاء فقال‏:‏ ‏{‏فلما آتاهما‏}‏ أي أبويكم آدم وحواء ‏{‏صالحاً‏}‏ أي جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوة وعقلاً، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكوراً وإناثاً ‏{‏جعلا‏}‏ أي النوعان من أولادهما الذكور والإناث، لأن «صالحاً» صفة لولد وهو للجنس فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل‏:‏ فلما آتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان ‏{‏له شركاء‏}‏ أي بعضهم أصناماً وبعضهم ناراً وبعضهم شمساً وبعضهم غير ذلك، هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة نافع وأبي بكر عن عاصم بكسر الشين وإسكان الراء والتنوين التقدير‏:‏ ذوي شرك ‏{‏فيما آتاهما‏}‏ أي من القوى بالعبادة والرزق بالنذور ونحوها‏.‏

ولما لم يضر المشركون بالإشراك إلا أنفسهم، سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فتعالى الله‏}‏ أي بما له من صفات الكمال التي ليست لغيره تعالياً كثيراً، والدليل على إرادة النوعين قوله‏:‏ ‏{‏عما يشركون*‏}‏ بالجمع، وكذا ما بعده من عيب عبادة الأصنام‏.‏

ولما ذكر علوه سبحانه، شرع يذكر من أوصافه عبارة وإشارة ما يدل على ذلك، ويقيم الأدلة على عدم صلاحية ما أشركوا به للشركة بعجزها، بأنها من جملة خلقه ولا تصرف لها تستحق به وجهاً من التعظيم، فقال منكراً على عبادها دالاًّ على أن المراد الشرك الحقيقي، لاما ذكر من قصة إبليس في تسببه في التسمية بعبد الحارث ونحوه‏:‏ ‏{‏أيشركون‏}‏ أي المشركون وأولادهما في العبادة ‏{‏ما لا يخلق‏}‏ أي من الأصنام والطبائع والكواكب وغيرها ‏{‏شيئاً‏}‏ أي يوجده من العدم كما يفعل الله الذي أشركوها به‏.‏

ولما كان يلزم أن يكون ما لا يخلق شيئاً مخلوقاً لأنه لا يتكون عاجزاً بغير قادر أوجده، صرح به في قوله مجرياً للأوثان مجرى أولي العلم لتنزيلهم منزلتهم في الاعتقاد والعبادة‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ ولما كان المصنوع لا يكون صانعاً، اكتفى بالبناء للمفعول فقال‏:‏ ‏{‏يخلقون*‏}‏ أي متجدداً خلق أعراضهم وذواتهم وأمثالهم ‏{‏ولا يستطيعون لهم‏}‏ أي للمشركين الذين يعبدونها ‏{‏نصراً‏}‏ وهو المعونة على العدو، ولعله عبر بصيغة العاقل إشارة إلى أنهم لو كانوا يعقلون، وكانوا بهذه الصفات الخسيسة ما أهلوهم لأن يكونوا أحبابهم فضلاً عن أن يجعلوهم أربابهم‏.‏

ولما كان من لا ينصر غيره قد ينصر نفسه، نفي ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا أنفسهم ينصرون*‏}‏ أي في وقت من الأوقات عند يصيبهم بسوء، بل عبدتهم يدافعون عنهم‏.‏

ولما تبين من هذا الاستفهام الإنكاري المعجب من حالهم في ضلالهم في أسلوب الغيبة أن من أشركوه ليس فيه نوع قابلية لما أهلوه، فإن المعبود يجب أن يكون قادراً، ومن كان عاجزاً نوع عجز كان مربوباً، وكان للتنبيه بالخطاب ما ليس له بالغيبة؛أتبع ذلك في إسلوبه تعجيباً آخر منهم أشد من الأول، وذلك أن معبوداتهم التي أشركوا بها كما أنها لا تفعل شيئاً من تلقاء أنفسها، لا تفعله عند دعاء الداعي ولا تهتدي إليه فقال تعالى ‏{‏وإن تدعوهم‏}‏ أي وإن تدعوا أيها المشركون أصنامكم دعاء مستمراً متجدداً ‏{‏إلى الهدى‏}‏ أي إلى الذي يدل الداعي إليه قطعاً، على أن المتخلف عنه سيئ المزاح، محتاج إلى العلاج، لكونه تخلف عما لا يتخلف عنه من له نوع صلاح لكونه أشرف الأشياء، فالمتخلف عنه راض لنفسه بالدون ‏{‏لا يتبعوكم‏}‏ أي في ذلك الهدى الذي دعوتموهم إليه ولم بالغتم في الاستتباع، ولعله عبر بصيغة الافتعال إشارة إلى أنها لا يتصور منها قصد التبع فضلاً عن إيجاده، ثم بين أن ذلك ليس بأمر عارض، بل هو مستمر دائم بقوله مستأنفاً تأكيداً للمعنى‏:‏ ‏{‏سواء عليكم‏}‏‏.‏

ولما كان السواء لا يكون إلا بين أمرين، تشوف السامع إليهما فقال؛ ‏{‏أدعوتموهم‏}‏ أي وجد منكم ذلك الدعاء الذي أشير إلى استمراره، وعبر بالاسمية إشارة إلى أنهم لا يدعونهم في وقت الشدائد، بل يدعون الله فقال‏:‏ ‏{‏أم أنتم صامتون*‏}‏ أي عن ذلك على الدوام على عادتكم في الإعراض عن دعائهم في أوقات الملمات، فالذين يدعون معتقديهم في وقت الضرورات أقبح حالاً في ذلك من المشركين ويجوز أن تكون الآية من الاحتباك، فيكون نظمها‏:‏ أدعوتموهم مرة أو أنتم داعوهم دائماً أم صَمَتُّمْ عن دعائهم في وقت ما أم أنتم صامتون دائماً عن دعائهم، حاكم في كل هذه الأجوبة سواء في عدم الإجابة، لا اختلاف فيه بوجه، دل بالفعل أولاً على حذف مثله ثانياً، وبالاسم ثانياً على حذف مثله أولاً‏.‏

ولما كان اتباع من يدعي أنه أعقل الناس وأبعدهم عن النقائص وأعرقهم في معالي الأخلاق وأرفعهم عن سفسافها لمن هذا سبيله أخزى الخزي وأقبح العار، وكانوا مع العلم بهذا الذي وصفت به- معبوداتهم يفعلون في الإشراك بهم وفي خوفهم ورجائهم ما هو عين الجهل؛ كرر تبكيتهم باتباعهم في أسلوب آخر أوضح مما قبله في تبيين النقائص والتنبيه على المعايب ملجئ إلى الاعتراف أو التصريح بالعناد أو الجنون فقال مؤكداً‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون‏}‏ أي أيها المشركون دعاء عبادة ملازمين لذلك، أو أنه أطلق الدعاء على العبادة إشارة إلى أنه لا تصح عبادة من ليس فيه قابيلة أن يدعى، والحاصل أن الدعاء يلازم المعبود‏.‏

ولما كان دعاؤهم لهم إنما هو على سبيل الإشراك، قال مشيراً إلى سفول رتبتهم بإثبات الجار‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال والعظمه والجلال ‏{‏عباد أمثالكم‏}‏ أي في العجز عن كل شيء لا سيما عما وقع به التحدي من معارضة القرآن وغيرها، وأنتم تزيدون عليها بالحياة والعقل، والمعبود لا يصح أن يكون مثل العابد فكيف إذا كان دونه؛ ولما كانوا لا يسلمون أنهم أمثالهم، سبب عن ذلك أمرهم بدعائهم لبيان دعوى المثلية بل الدونية فقال‏:‏ ‏{‏فادعوهم‏}‏ أي إلى شيء من الأشياء‏.‏

ولما كان الإله الحق يجيب وليه عند التحدي من غير تخلف، أشار إلى ذلك بالربط بالفاء فقال‏:‏ ‏{‏فليستجيبوا لكم‏}‏ أي يوجدوا لكم إجابة بينة في الإتيان بسورة تماثل شيئاً من القرآن وفي شيء من المنافع‏.‏

ولما كان المقام محتاجاً إلى مزيد توبيخ وإلهاب، قدم منه ما رأيت، ثم زاد في الإلهاب فقال‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏صادقين*‏}‏ أي في دعوى أنهم آلهة، فإن رتبة الإله تقتضي ذلك، وقرأ سعيد بن جبير ‏{‏إن‏}‏ خفيفة و‏{‏عباداً أمثالكم بنصب الدال واللام، واتفق المفسرون على تخريجها على أن «إن» هي النافية أعملت عما «ما» الحجازية، فرفعت الاسم ونصبت الخبر، وإعمالها هذا العمل فيه خلاف، أجازه الكسائي وأكثر الكوفيين، ومن البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني، ومنع منه الفراء وأكثر البصريين، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد، والصيحح أن إعمالها لغة ثبت ذلك في النظم والنثر- ذكر ذلك كله أبو حيان وذكر أنه أشبع الكلام فيه في شرح التسهيل، واعترض على هذا التخريج بأنه يلزم منه منافاتها للقراءة المشهورة، وإنما يسلم له ذلك لو توارد النفي والإثبات على شيء واحد، وليس الأمر هنا كذلك، فالإثبات لمماثلتها لهم في مطلق العجز، والنفي لمساواتها لهم فيه لزيادتهم عنها بالبطش ونحوه، أو يكون الأمر- كما قال الزمخشري- أن الإثبات على سبيل التنزل والنفي على الحقيقة‏.‏

ولما أثبت عجزهم وأنهم أمثالهم، دل عليه وعلى أنهم دونهم بأسلوب إنكار وتعجيب مفصلاً لبعض ما نفاه عنهم- فقال مقدماً الأرجل لأن أول ما يخشى من الشيء انتقاله‏:‏ ‏{‏ألهم أرجل‏}‏ ولما كانت لهم جوارح مصنوعة، بين المراد بقوله‏:‏ ‏{‏يمشون بها‏}‏‏.‏

ولما كان المخشيّ بعد الانتقال مدّ اليد، قال‏:‏ ‏{‏أم لهم أيد‏}‏ أي موصوفة بأنهم ‏{‏يبطشون بها‏}‏ أي نوعاً من البطش؛ ولما كان المخوف بعد البطش باليد البصر خوفاً من الدلالة قال‏:‏ ‏{‏أم لهم أعين‏}‏ أي منعوتة بأنهم ‏{‏يبصرون بها‏}‏ أي ضرباً من الإبصار؛ ولما كان الإنسان ربما خاف مما يقصد ضره فتغيب عنه فلا يصل إليه بعد ذلك إلا بالسمع قال خاتماً‏:‏ ‏{‏أم لهم آذان‏}‏ أي مقول فيها أنهم ‏{‏يسمعون بها‏}‏ أي شيئاً من السمع‏.‏

ولما سواها بهم ونفى عنهم ما تقدم، لزم نقصانها عنهم وأنه في الحقيقة مسلوب عنهم لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا العدم، والقدرة فيما يقدرون عليه إنما هي بيد الصانع لهم أشركهم معها، وقال دالاًّ على ذلك مستأنفاً‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهولاءالمشركين ‏{‏ادعوا شركاءكم‏}‏ أي هذه التي تقدمت ومهما شئتم غيرها، واستعينوا بها في عداوتي‏.‏

ولما كان هذا تحدياً عظيماً يحق لفاعله التمدح به، نبه عليه بآداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم كيدون‏}‏ أي جميعاً أنتم وهم وأنتم أكثر من حصى البطحاء ورمل الفضاء وأنا وحدي، ولما كان المعنى‏:‏ وعجلوا، عطف بفاء السبب قوله‏:‏ ‏{‏فلا تنظرون*‏}‏ أي تمهلون لحظة فما فوقها لئلا تعتلوا في الإنظار بعلة، وعلل عدم المبالاة بكيدهم بقوله دالاًّ على اتصاف معبوده بما نفاه عن شركائهم من الإحاطة بمنافع الدارين فيما يتعلق بالأديان والأبدان، وقدم الدين إشارة إلى أنه الأهم فقال مؤكداً في مقابلة إنكارهم‏:‏ ‏{‏إن وليّي‏}‏ أي ناصري ومتولي جميع أموري ‏{‏الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال ‏{‏الذي نزل‏}‏ أي بحسب التديج متكفلاً بفصل الوقائع ‏{‏الكتاب‏}‏ أي الجامع لعلوم الأولين والآخرين وأمر المعاش والمعاد وأحوال الدارين وكل ما فيه صلاح من أحوال القلوب وغيرها الذي عجزتم بأجمعكم ومن دعيتم شركته عن معارضة شيء منه‏.‏

ولما تكفل هذا التنزيل بجميع الصفات، وهي الحياة التامة المستلزمه للإرادة والقدرة والعلم والسمع والبصر والكلام، وكان عجزهم عن المعارضة للكتاب دليلاً شهودياً قولياً على كذبهم، أتبع ذلك دليلاً آخر شهودياً فعلياً فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏يتولى‏}‏ أي يلي ولاية تامه ‏{‏الصالحين*‏}‏ أي كلهم بنصرهم على كل مناو وكفايتهم لكل مهم وقد علمتم ما قدمه في هذه السورة من وقائعه بمن كذب أنبياءه واستهزأ برسله وأنه أنجى كل من والاه، وأهلك جميع من عاداه كمن عدوهم آلهة، وهو وما بعده وما قبله متلفت إلى قوله تعالى ‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏ بالشرح، وهو دال على أنه الذي فعل ما تقدم لأجل أوليائه بدليل أنه أعجزهم عن معارضة شيء من كتابه، وعن الوصول إلى جميع ما يريدون من أوليائه وأحبابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏197- 201‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏197‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ‏(‏199‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏200‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ‏(‏201‏)‏‏}‏

ولما صور بهذا جلاله، وقرر عظمته وكماله، باتصافه بجميع الصفات العلى التي منها القدرة التي تكفهم عنه؛ كرر التنفير عن أندادهم في أسلوب آخر تأكيداً للمعنى السابق بزيادة بالغة في العجز وهو تصويب النظر من غير إبصار، مع أن الأول للتقريع، وهذا الفرق بين من يعبد بحق ومن يعبد بباطل ليرجعوا عن غيهم وعنادهم، فقال مبيناً أنهم ليسوا في شيء من صفاته مصرحاً بنفي النصرة التي أثبتها له عنهم مع المواجهة بالخطاب الذي هو أفظع في الجواب‏:‏ ‏{‏والذين تدعون‏}‏ أي تديمون دعاءهم ‏{‏من دونه‏}‏- فإنهم يدعونه سبحانه في بعض الأوقات- أوتدعونهم تاركين له ‏{‏لا يستطيعون نصركم‏}‏ أي بوجه من وجوه النصرة بدليل عجزكم عني وأنا وحدي وأنتم أهل الأرض ‏{‏ولا أنفسهم ينصرون*‏}‏ بدليل أن الكلب يبول عليهم فلا يمنعونه‏.‏

ولما كان دعاء الجماعة أقرب إلى السماع من دعاء الواحد، نسق على ما قبله قوله‏:‏ ‏{‏وإن تدعوهم‏}‏ أي يا من هم أضل منهم وأعجز ‏{‏إلى الهدى‏}‏ أي إلى الذي هو أشرف الخلال ليهتدوا في نصر أنفسهم أو غير ذلك ‏{‏لا يسمعوا‏}‏ أي شيئاً من ذلك الدعاء ولا غيره؛ ولما كان حالهم في البصر بالنسبة إلى كل أحد على حد سواء، قال مفرداً للمخاطب‏:‏ ‏{‏وتراهم‏}‏ أي أيها الناظر إليهم ‏{‏ينظرون إليك‏}‏ أي كأنهم ينظرون لما صنعوا لهم من الأعين ‏{‏وهم لا يبصرون*‏}‏ أي نوعاً من الإبصار، وما أشبه مضمون هذه الآيات بما في سفر أنبياء بني إسرائيل في نبوة أشعياً‏:‏ هكذا يقول الرب ملك إسرائيل ومخلصه‏:‏ أنا الأول وأنا الآخر، وليس إله غيري‏.‏ ومن مثلي يدعي ويظهر قوته ويخبر بما كان منذ بسطت الدنيا إلى الأبد، والآيات القديمة تظهر للشعوب، فلا يفزعون ولا يخافون، ألم أسمعكم منذ أول الدهر وأظهرها لكم وأبين لكم الأمور وأنتم شهدائي أن ليس إله غيري، وليس عزيز منيع إلا وأنا أعز منه، لأن جميع الصناع الذين يعملون الأصنام إنما عملهم باطل وليس في أعمالهم منفعة، وأن الصناع الذين يعملونها هم يشهدون عليها أنها لا تبصر ولا تسمع ولا تعلم، لذلك يخزي جميع صناع الأوثان المسبوكة لأن جميع ما صنعوا لا عقل له، فيجمعون كلهم ويخزون ويفتضحون لأن النجار نحت بحديده وهيأ صنماً بمنقاره وسدده بقوة ساعده وجاع وعطش في عمله‏.‏ والنجار اختار خشبة وقدرها وألصق بعضها ببعض بالغراء وركبها وعملها كشبه الإنسان، أقام من الخشب الذي قطع من الغيضة كشبه رجل الذي نبت من شرب المطر ليصير للناس للوقود فعملوه لهم إلهاً وعبدوه وسجدوا له، الذي ينصفه خبزوا لهم خبزاً وشووا لهم لحماً على جمرة وأكلوا وشربوا واصطلوا وقالوا‏:‏ قد حمينا لأنا قد أوقدنا ناراً واصطلينا، والذي بقي منه اتخذوه إلهاً منحوتاً وسجدوا له وصلوا وقالوا‏:‏ نجّنا لأنك إلهنا‏.‏

ولم يخطر على بالهم فكر أن يقولوا‏:‏ إنا قد أوقدنا نصفه بالنار، وخبزنا خبزنا وشوينا على جمره اللحم وأكلنا، ولم يعلموا أن باقيه عمل منه صنم وسجدوا له، لأن قلوبهم متمرغة في رماده، وضلت عقولهم فلا يقدرون ينجون أنفسهم ولا يقولون‏:‏ إن أيادينا عملت الباطل واتخذت الكذب، ثم قال‏:‏ أليس أنا الرب منذ أول، وليس إله غيري ولا مخلص سواي، ادنوا إليّ يا جميع الذين في أقطار الأرض لتنجوا لأني أنا الرب وليس إله غيري، حلفت بيميني وأخرجت كلمة صدق ولست أرجع عنها لأنه لي تنحني كل ركبة، وبي يحلف كل إنسان ويقول‏:‏ إنما البر بالرب، وإليه تدنو الأعزاء ويخزى جميع المبغضين، وبي يمتدح ويتبرر، بمن شبهتموني‏؟‏ وإلى من نسبتموني‏؟‏ بالضالين الذين أخرجوا الذهب من أكياسهم ووزنوا الفضة بالميزان واكتروا الصناع حتى عملوا لهم آلهة يسجدون لها ويحملونها على أكتافهم ويمشون بها ثم يصلون لها ويدعونها لا تجيبهم ولا تخلصهم من شدائدهم ثم يحملونها أيضاً ويردونها إلى مواضعها، اذكروا هذه الأشياء واعقلوا أيها الأثمة واخطروها على قلوبكم وتذكروا الأيام التي كانت من الابتداء، إني أنا الله الخالق وليس إله غيري ولا مثلي، فأنا أظهر العتيدات وأخبر بالذي يكون قبل أن يكون، وأثبت رأيي وأكمل إراداتي وهواي، وأدعو من في المشارق فيأتون أسرع من الطير، وأتاني الرجل الذي قد عمل مسرتي من الأرض البعيدة، لأني أنا إذا تكلمت بشيء فعلته‏.‏ أنا خلقت وأنا أخلق؛ وفي الزبور في المزمور الثالث عشر بعد المائه‏:‏ إلهنا في الأرض، كل ما يشاء يصنع، أوثان الأمم ذهب وفضة عمل أيدي البشر، لها أفواه ولا تتكلم، لها أعين ولا تنظر، لها آذان ولا تسمع، وآناف ولا تشم، وأيد ولا تلمس، وأرجل ولا تمشي، ولا صوت بحناجرها ولا روح في أفواهها، فليكن صانعوها مثلها وجميع من يتوكل عليها- انتهى‏.‏

ولما كان محصل أمرهم الإعراض عما أتاهم بالتكذيب والإقبال على ما لم يأتهم بالطلب والتعنت كالسؤال عن الساعة، والأمر بالمنكر من الشرك وما يلزم منه من مساوي الأخلاق، والنهي عن المعروف الذي هو التوحيد وما يتبعه من محاسن الشرع، وذلك هو الجهل، وختم ذلك بالإخبار بأنه سبحانه أصلح له الدين بالكتاب، والدنيا بالحفظ من كل ما ينتاب، وكان حالهم ربما كان موئساً من فلاحهم، مفتراً عن دعائهم إلى صلاحهم، كان الداعي لهم صلى الله عليه وسلم كأنه قال‏:‏ فما أصنع في أمرهم‏؟‏ فأجابه بالتحذير من مثل حالهم والأمر بضد قالهم وفعالهم والإبلاغ في الرفق بهم فقال‏:‏ ‏{‏خذ العفو‏}‏ أي ما أتاك من الله والناس بلا جهد ومشقه، وهذا المادة تدور على السهولة، وتارة تكون من الكثرة وتارة من القلة، فعفا المال، أي كثر، فصار يسهل إخراجه ويسمح به لزيادته عن الحاجة، وعفا المنزل، أي درس، فسهل أمره حتى صار لا يلتفت إليه‏.‏

ولما أمره بذلك في نفسه، أمره به في غيره فقال‏:‏؛ ‏{‏وأمر بالعرف‏}‏ أي بكل ما عرفه الشرع وأجازه، فإنه من العفو سهولة وشرفاً، وقد تضمن ذلك النهي عن المنكر فأغنى بذلك عن ذكره لأن السياق للمساهلة؛ ولما أمره بالفعل في نفسه وغيره، أتبعه الترك فقال‏:‏ ‏{‏وأعرض عن الجاهلين*‏}‏ أي فلان تكافئهم بخفتهم وسفههم ولا تمارهم فإن ذلك أسهل من غيره، وذلك بعد فضيحتهم بالدعاء، وذلك- لأن محط حالهم اتباع الهوى فيدعوهم إلى تكلف ضد هذه الخصال، وفيه إشارة إلى النهي عن أن يذهب نفسه عليهم حسرات مبالغة في الشفقة عليهم، وعن جعفر الصادق أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها‏.‏

ولما كان الشيطان بعداوته لبني آدم مجتهداً في التنفير من هذه المحاسن والترغيب في أضدادها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزع منه حظ الشيطان بطرح تلك العلقة السوداء من قبله إذ شق جبرائيل عليه السلام صدره وغسل قلبه وقال‏:‏ هذا حظ الشيطان منك؛ شرع لأمته ما يعصمهم منه عند نزغه مخاطباً له بذلك ليكون أدعى لهم إلى القبول وأجدر باشتداد الخوف المقتضي للفرار المثمر للنجاة، لأنهم إذا علموا قصد الشيطان لمن نزع منه حظه وعصم من كل محنة علموا أنه لهم أشد قصداً وأعظم كيداً وصداً، فقال مؤكداً بأنواع التأكيد إشارة إلى شدة قصد الشيطان للفتنة وإفراطه في ذلك، ليبالغ في الحذر منه وإن كان قصده بذلك في محل الإنكار لعلمه بالعصمة- لذلك عبر بأداة الشك إشارة إلى ضعف كيده للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى أعانه على قرينه فأسلم‏:‏ ‏{‏وإما‏}‏ أي إن، وأكدت ب ‏{‏ما‏}‏ إثباتاً للمعنى ونفياً لضده ‏{‏ينزغنك‏}‏ أي ينخسنك نخساً عظيماً ‏{‏من الشيطان نزغ‏}‏ أي نخس بوسوسته من شأنه أن يزعج فيسوق إلى خلاف ما تقدم من المحاسن في نحو غضب من جهل الجاهل وسفه السفيه أو إفراط في بعض أوجه كما تساق الدابة بما تنخس به، فيفسر ويجعل النخس ناخساً إشارة إلى شدته ‏{‏فاستعذ‏}‏ أي فأوجد أو اطلب العوذ وهو الاعتصام ‏{‏بالله‏}‏ أي الذي له جميع العز والعظمة والقدرة والقهر لا نقطاعك عن الإخوان والأنصار إليه فلا ولي لك ولا ناصر إلا هو، فإنه إذا أراد إعاذتك ذكرك من عزيز نعمه وشديد نقمه ما يريد عن الفساد رغباً ورهباً، والآية ناظرة إلى قوله تعالى أولها ‏{‏لأقعدن لهم صراطك المستقيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ولما أبطل تعالى أن يكون لشركائهم سمع أو علم، صار إثبات ذلك له كافياً في اختصاصه به من غير حاجة إلى الحصر المتضمن لنفيه عن غيره لتقدمه صريحاً بخلاف ما في فصلت، فقال معللاً‏:‏ ‏{‏إنه سميع‏}‏ أي بالغ السمع فهو يسمع استعاذتك فيجيبك إن شاء ‏{‏عليم*‏}‏ شامل العلم بما تريد ويريد منك عدوك، فلا يعجزه شيء، وختم بصفة العلم في الموضعين لأن الوسوسة من باب ما يعلم، وختمها في سورة المؤمن بالبصير المشتق من البصر والبصيرة، لأن المستعاذ منه أمر الناس ومنه ما يبصر‏.‏

ولما كان لا يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم إلا شيء خفيف جداً كما نبه عليه بالنزغ، وهو ليس بمحقق كما نبهت عليه أداة الشك، وكان لا يستعيذ بالله إلا المتقون فكان كأنه قيل‏:‏ افعل ذلك عند أول نزغه لتكون من المتقين، علله بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين اتقوا‏}‏ أي حصل لهم هذا الوصف، وحقق أذاه لهم بأداة التحقيق- بخلاف ما مضى عند إفراد الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ ‏{‏إذا مسهم طائف‏}‏ أي طواف على أنه مصدر، ويجوز أن يكون تخفيف طيّف كميت وهو بمعنى قراءة طائف على أنه فاعل كميت ومائت، ويجوز أن يكون مصدراً أيضاً، وهو إشارة إلى أن الشيطان دائر حولهم لا يفارقهم، فتارة يؤثر فيهم طوافه فيكون قد مسهم مساً هو أكبر من النزغ لكونه أطاف بهم من جميع الجوانب، وتارة لا يؤثر ‏{‏من الشيطان‏}‏ أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة ‏{‏تذكروا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم ذكر الله بجميع ما ينفعهم في ذلك إقداماً وإحجاماً‏.‏

ولما كانوا بإسراع التذكر كأنهم لم يمسهم شيء من أمره، أشاره إلى ذلك بالجملة الاسمية مؤكداً لسرعة البصر بإذا الفجائية‏:‏ ‏{‏فإذا هم‏}‏ أي بنور ضمائرهم ‏{‏مبصرون *‏}‏ أي ثابت إبصارهم فلا يتابعون الشيطان، فإن المتقي من يشتهي فينتهي، ويبصر فيقصر، وفي ذلك تنبيه على أن من تمادى مع الشيطان عمي لأنه ظالم، والظالم هو من يكون كأنه في الظلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏202- 206‏]‏

‏{‏وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ‏(‏202‏)‏ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏203‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏204‏)‏ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

ولما وصف المتقون الذين هم العلماء ملوحاً إلى نصح وليهم لهم، وعرف من حالهم أنهم أعداء الشيطان، وعرف أن أضدادهم أولياؤه؛ أتبعه وصف الجاهلين وغش أوليائهم لهم والكل غير متقين، فقال‏:‏ ‏{‏وإخوانهم‏}‏ أي وإخوان الجاهلين من شياطين الأنس والجن ‏{‏يمدونهم‏}‏ أي يمدون الجاهلين، من المد وهو الإمهال والإطالة على قراءة الجماعة، وهو بمعنى قراءة أهل المدينة بالضم من الإمداد، وقال الواحدي‏:‏ إن هذا أكثر ما يأتي فيما يحمد كأمددناهم بفاكهة، فهو من استعمال الشيء في ضده نحو ‏{‏فبشرهم بعذاب‏}‏، وكأنه يشير إلى أن الشيطان أكثر ما يأتي الإنسان في صورة الناصح الشفيق، والأوجه أن يكون الإخوان الجاهلين لأنهم في مقابلة ‏{‏الذين اتقوا‏}‏ ويكون الضمير للشيطان المراد به الجنس، أي وإخوان الشياطين- وهم الجاهلون الذين لا يتقون- يمدهم أولياؤهم من الشياطين ‏{‏في الغي‏}‏ وهو ضد الرشاد، وأشار إلى مزيد اعتنائهم بالإغواء ومثابرتهم على الإضلال والإغراء بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم لا يقصرون*‏}‏ أي لا يتركون إغواءهم ولو لحظة لجهلهم وشرهم‏.‏

ولما تقرر ما شرعه من التعفف وعدم التنطع والتكلف، وكان قد أخبر أن من عمههم تكلفهم السؤال عن الساعة، والشياطين لا يفترون عن إغوائهم، أخبره عن مطلق تكلفهم تعجباً منهم وإشهاداً لتماديهم مع إغواء شياطينهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بما يجيبهم به فقال عاطفاً على ‏{‏يمدونهم‏}‏‏:‏ ‏{‏وإذا لم تأتهم بآية‏}‏ أي على حسب اقتراحهم ‏{‏قالوا لولا‏}‏ أي هلا ‏{‏اجتبيتها‏}‏ والجبي‏:‏ الجمع، والإجباء تركه، والاجتباء‏:‏ الجد في الجمع، ويلزم منه الاصطفاء والاختبار، فمعنى اجتبيتها اجتلبتها، أي تكلفت من عند نفسك الإتيان بها مختاره‏.‏

ولما كان المقام داعياً إلى السؤال في تعليم الجواب، أسعف ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي إذا قالوا ذلك ‏{‏إنما أتبع‏}‏ أي أتعمد وأتكلف اتباع ‏{‏ما يوحي إليّ‏}‏ أي يأتيني به الملك ‏{‏من ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بتعليمي ما ينفعني، لا أني آتي بشيء من عند نفسي ولا أقترح على ربي‏.‏

ولما حصر حاله في اتباع الوحي كان كأنه قيل‏:‏ ما هذا الذي يوحي إليك‏؟‏ فقال- ويجوز أن يكون تعليلاً لاتباعه لأنه كاف في إثبات نبوته مغنٍ عن الآيات المقترحه قاهر في وجوب اتباعه-‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ مشيراً إلى ما يوحى إليه تنبيهاً على أنه يجب أن يكون مستحضراً في سائر الأذهان، حاضراً بين عيني كل إنسان ‏{‏بصائر‏}‏ أي أشياء هي- على حسب ما طلبتم- مجتباة، بل هي خيار الخيار، يكون بها نور القلب فيصير للعيون أيضاً بصر يقربه مما يحث الكتاب على نظره من الآيات المرئيات إلى علوم لم تكن لها قبل ذلك، وهي حجج بينة قاهرة على تصديقي وقبول كل ما جئت به، وسماه بذلك لأنه سبب لبصر العقول بدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وجميع الشريعة أصولاً وفروعاً، فهو تسمية للسبب باسم المسبب، وعليّ مدحها بقولة‏:‏ ‏{‏من ربكم‏}‏ أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم أصلاً، فهو جدير بأن يتلقي ما أتى منه بكل جميل‏.‏

ولما كانت البصائر جمعاً، وكانت العادة جارية بأن مفردات الجمع تكون متفاوتة، أكدها بما يشير إلى أنها خارقة للعادة في أنها على حد سواء في أعلى طبقات الهداية فقال‏:‏ ‏{‏وهدى‏}‏ أي بيان؛ ولما كان البيان قد لا يكون على وجه الإكرام، قال‏:‏ ‏{‏ورحمة‏}‏ أي إكرام‏.‏

ولما كان من لا ينتفع بالشيء يصح أن ينفي عن الشيء النافع النفع بالنسبة إليه، قال‏:‏ ‏{‏لقوم يؤمنون*‏}‏ أي يوجدون هذه الحقيقة ويستمرون على تجديدها في كل وقت، وأما غيرهم فقد يكون عليهم عذاباً‏.‏

ولما عظم الله شأن القرآن، فكان التقدير‏:‏ فآمنوا به تفلحوا، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإذا قرئ القرآن‏}‏ أي وهو هذا الذي يوحى إليّ، فتأدبوا وتواضعوا لأنه صفة ربكم ‏{‏فاستمعوا له‏}‏ أي ألقوا إليه أسماعكم مجتهدين في عدم شاغل يشغلكم عن السمع‏.‏

ولما كان بعض الفهماء يسمع وهو يتكلم، أشار إلى أن هذا الكتاب أعلى قدراً من أن يناله من يشتغل عنه بأدنى شغل فقال‏:‏ ‏{‏وأنصتوا‏}‏ أي للتأمل والتدبر لتنجلي قلوبكم فتعلموا حقيقته فتعلموا بما فيه ولا يكون في صدوركم حرج منه؛ ولما كان ظاهر الآية وجوب الإنصات لكل قارئ على كل أحد، رغب فيه تعظيماً لشأنه فقال‏:‏ ‏{‏لعلكم ترحمون*‏}‏ أي لتكونوا على رجاء من أن يكرمكم ربكم ويفعل بكم كل ما يفعله الراحم مع المرحوم‏.‏

ولما تقدم الأمر بالذكر عند نزغ الشيطان، ومر إلى أن أمر بالاستماع لأعظم الذكر، وكان التالي ربما بالغ في الجهر ليكثر سامعه، وربما أسر لئلا يوجب على غيره الإصغاء، علمهم أدب القراءة، وأطلق ذلك في كل حال لأنه ربما فهم فاهم الاقتصار على ذكر في حالة النزغ، ورقي الخطاب منهم إلى إمامهم ليكون أدعى لقبولهم مع الإشارة إلى أنه لا يكاد يقوم بهذا الأمر حق قيامه غيره صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏واذكر‏}‏ أي بكل ذكر من القرآن وغيره- ‏{‏ربك‏}‏ أي الذي بلغ الغاية في الإحسان إليك ‏{‏في نفسك‏}‏ أي ذكراً يكون راسخاً فيك مظروفاً لك لفهمك لمعانيه وتخلقك بما فيه، وليكن سراً لأن ذلك أقرب إلى الإخلاص وأعون على التفكر، وكونه سراً دال على أشرف الأحوال، وهو المراقبة مع تحقق القرب، فإذا كان كذلك أثمر قوله‏:‏ ‏{‏تضرعاً‏}‏ أي حال كونك ذا تضرع بالظاهر ‏{‏وخيفة‏}‏ أي لتدعو المخافة إلى تذلل قبلك لتجمع بين تضرع السر والعلن، وبهذا يكمل ذل العبودية لعز الربوبية‏.‏

ولما أمر بالسر، قال مقابلاً له‏:‏ ‏{‏ودون الجهر‏}‏ أي لأنه أدخل في الإخلاص، ومن المعلوم أنه فوق السر، وإلا لم تفد الجملة شيئاً، ولما كان الجهر قد يكون في الأفعال، أكده بقوله‏:‏ ‏{‏من القول‏}‏ أي فإن ذلك يشعر بالتذلل والخضوع من غير صياح كما يناجي الملوك ويستجلب منهم الرغائب، وكما قال صلى الله عليه وسلم للصحابة وقد جهروا بالدعاء فوق المقدار

«إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً» فإن المقصود حصول الذكر اللساني ليعين الذكر القلبي، والمقصود حاصل بإسماع النفس فإنه يتأثر الخيال فيتقوى الذكر القلبي، ولا تزال الأنوار تتزايد فينعكس تراجع بعضها إلى بعض حتى يزداد الترقي من ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام‏.‏

ولما أمر بالذكر مكيفاً بكيفيته اللائقة به، أمره صلى الله عليه وسلم بالمداومة عليه ذاكراً أحسن الأوقات له وأحقها به، لكونها لما فيها من الشغل- أدل على إيثارة لمزيد المحبة والتعظيم فقال‏:‏ ‏{‏بالغدو‏}‏ أي أوقات البكر، ولعله أفرده على جعله مصدر غداً، لأنه ما ثم إلا صلاة الصبح، وجمع ما بعده للعصرين والمغرب فقال‏:‏ ‏{‏والآصال‏}‏ أي أوقات العشاء، وقيل‏:‏ الغدو وجمع غدوة، فيراد حينئذ مع الصبح الضحى، وآخر كل نهار متصل بأول ليلة اليوم الثاني فسمي آخر اليوم أصيلاً لأنه يتصل بما هو أصل اليوم الثاني، وخص هذين الوقتين وإن كان المراد الدوام بتسمية كل من اليوم والليل باسم جزئه، ليذكر بالغدو الانتشار من الموت، وبالأصيل السكون بالموت والرجوع إلى حال العدم فيستحضر بذلك جلال الله عز وجل فيكون ذلك حاوياً على تعظيمه حق تعظيمه‏.‏

ولما كان ربما أوهم هذا الخصوص بهذين الوقتين وإن ظاهراً في الدوام، قال مصرحاً‏:‏ ‏{‏ولا تكن من الغافلين*‏}‏ أي في وقت غيرهما، بل كن ذاكره في كل وقت على كل حال؛ ثم علل الأمر بالمراقبة الدالة على أعظم الخضوع بأنها وظيفة المقربين فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين‏}‏ وزاد ترغيباً في ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏عند ربك‏}‏ أي المحسن إليك بتقريبك من جنابه وجعلك أكرم أحبابه، وهم الملائكة الكرام أولو العصمة، والقرب دنو مكانة لا مكان ‏{‏لا يستكبرون‏}‏ أي لا يوجدون ولا يطلبون الكبر ‏{‏عن عبادته‏}‏ أي الخضوع له والتلبس بانحاء التذلل مع مزيد قربهم وغاية طهارتهم وحبهم ‏{‏ويسبحونه‏}‏ أي ينزهونه عن كل مالا يليق مع خلوصهم عن دواعي الشهوات والحظوظ‏.‏

ولما كان هذا يرجع إلى المعارف، وقدمه دلالة على أنه الأصل في العبادة أعمال القلوب، أردفه بقوله‏:‏ ‏{‏وله‏}‏ أي وحده ‏{‏يسجدون‏}‏ أي يخضعون بإثباتهم له كل كمال، وبالمباشرة لمحاسن الأعمال، وقد تضمنت الآية الإخبار عن الملائكة الأبرار بثلاثة أخبار‏:‏ عدم الاستكبار الذي هو أجل أنواع العبادة إذ هو الحامل على الطاعة كما أن ضده حامل على المعصية، والتسبيح الذي هو التنزيه عن كل مالا يليق، وتخصيصه بالسجود، ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار، وكانت على قسمين‏:‏ قلبية وجسمانية، أشار إلى القلبية بالتنزيه، وإلى الجسمانية بالسجود، وهو الحال الذي يكون العبد به عند ربه كالملائكة قرباً وزلفى «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» نبه عليه أبو حيان على أن العبادتين مرجعهما القلب، وإحداهما مدلول عليها بالقول والأخرى بالفعل، وقد رجع آخر السورة في الأمر باتباع القرآن إلى أولها أحسن رجوع، ولوصف المقربين بعدم الاستكبار والمواظبة على وظائف الخضوع إلى وصف إبليس بعصيان أمر الله في السجود لآدم عليه السلام على طريق الاستكبار أيّ التفات، بل شرع في رد المقطع على المطلع حين أتم قصص الأنبياء، فقوله

‏{‏ولقد ذرأنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏ هو قوله ‏{‏والذي خبث لا يخرج إلا نكداً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏ يتضح لك ذلك إذا راجعت ما قدمته في المراد منها ‏{‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏ هو- ‏{‏ادعوا ربكم تضرعاً وخفية‏}‏ و‏{‏ممن خلقنا أمة يهدون بالحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏- هو ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 42‏]‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏وإن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 185‏]‏ هو ‏{‏إذا جاء أجلهم لا يستأخرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ و‏{‏يسئلونك عن الساعة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 42‏]‏ هو ‏{‏كما بدأكم تعودون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ و‏{‏لكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 24‏]‏ و‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 189‏]‏ ‏{‏لقد خلقناكم ثم صورناكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏إنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 203‏]‏- إلى آخرها بعد التنفير من الأنداد- هو كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه- إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏ فسبحان من هذا كلامه، وتعالى حجابه وعز مرامه، وعلى من أنزل عليه صلاته وسلامه، وتحيته وإكرامه‏.‏

سورة الأنفال

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏1‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك‏}‏ أي الذين عند ربك هم الذين هزموا الكفار في الحقيقة كما علمتم ذلك- وسيأتي بيانه، فهم المستحقون للأنفال وليس لهم إليها التفات وإنما همهم العبادة، والذين عندك إنما جعلتهم آلة ظاهرة ومع ذلك فهم يسألون ‏{‏عن الأنفال‏}‏ التي توليتهم إياها بأيدي جنودي سؤال منازعة ينبغي الاستعاذة بالله منها- كما نبه عليه آخر الأعراف- لأن ذلك يفضي إلى افتراق الكلمة والضعف عن مقاومة الأعداد، وهو جمع نفل- بالتحريك، وهو ما يعطاه الغازي زيادة على سهمه، والمراد بها هنا الغنيمة، وهي المال المأخوذ من أهل الحرب قهراً، سميت هنا بذلك لأن أصلها في اللغة الزيادة، وقد فضل المسلمون بها على سائر الأمم‏.‏

ولما كان السؤال عن حكمها، كان كأنه قيل‏:‏ فماذا يفعل‏؟‏ فقال دالاًّ على أنهم سألوا عن مصرفها وحكمها- ليطابق الجواب السؤال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهم في جواب سؤالهم ‏{‏الأنفال لله‏}‏ أي الذي ليس النصر إلا من عنده لما له من صفات الكمال ‏{‏والرسول‏}‏ أي الذي كان جازماً بأمر الله مسلماً لقضائه ماضياً فيما أرسله به غير متخوف من مخالطة الردى بمواقعة العدى؛ قال أبو حيان‏:‏ ولا خلاف أن الآية نزلت في يوم بدر وغنائمه، وقال ابن زيد‏:‏ لا نسخ، إنما أخبر أن الغنائم لله من حيث إنها ملكه ورزقه، وللرسول عليه السلام من حيث هو مبين لحكم الله والصادع فيها بأمره ليقع التسليم من الناس، وحكم القسمة نازل خلال ذلك- انتهى‏.‏

ولما أخبر سبحانه أنه لا شيء لهم فيها إلا عن أمر الله ورسوله، وكان ذلك موحباً لتوقفهم إلى بروز أمره سبحانه على لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت التقوى موجبة للوقوف خوفاً حتى يأتي الدليل الذي يجسّر على المشي وراءه، سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي خافوا خوفاً عظيماً في جميع أحوالكم من الذي لا عظمة لغيره ولا أمر لسواه، فلا تطلبوا شيئاً بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتخاصموا، فإن الله تعالى الذي رحمكم بإرسال رسول لنجاتكم وإنزال كتاب لعصمتكم غير مهمل ما يصلحكم، فهو يعطيكم ما سبق في علمه الحكم بأنه لكم، ويمنعكم ما ليس لكم ‏{‏وأصلحوا ذات بينكم‏}‏ أي الحال التي هي صاحبة افتراقكم واجتماعكم، فإن أغلب أمرها البين الذي هو القطيعة، وقد أشرفت على الفساد بطلب كل فريق الأثرة على صاحبه فأقبلوا على رعايتها بالتسليم لأمر الله ورسوله الأمرين بالإعراض عن الدنيا ليقسمها بينكم على سواء، القوي والضعيف سواء، فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، لتجتمع كلمتكم فيشتد أمركم ويقوى أزركم فتقدروا على إقامة الدين وقمع المفسدين ‏{‏وأطيعوا الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏ورسوله‏}‏ أي الذي عظمته من عظمته في كل ما يأمرانكم به من تنفيل لمن يراه وإنفاذ شرط ووفاء عهد لمن عاهده‏.‏

ولما أمر ونهى هيج وألهب فقال مبيناً كون الإيمان مستلزماً للطاعة‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين*‏}‏ أي صادقين في دعوى الإيمان، فليس كل من يدعي شيئاً يكون صادقاً في دعواه حتى يحصل البيان بالامتحان، ولذلك وصل به قوله مؤكداً غاية التأكيد لأن التخلص من الأعراض الدنيوية عسر‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏ أي الراسخون في وصف الإيمان ‏{‏الذين‏}‏ أي يقيمون الدليل على دعوى الإيمان بتصديق أفعالهم لأقوالهم فيكونون ‏{‏إذا ذكر الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال مجرد ذكر في نحو قوله ‏{‏الأنفال لله‏}‏ ‏{‏وجلت‏}‏ أي خافت خوفاً عظيماً يتخلل صميم عظامهم ويجول في سائر معانيهم وأجسامهم ‏{‏قلوبهم‏}‏ أي بمجرد ذكره استعظاماً له ‏{‏وإذا تليت‏}‏ أي قرئت على سبيل الموالاة والاتصال من ايّ تال كان ‏{‏عليهم آياته‏}‏ أي كما يأتي في إقامة الأدلة على ذلك الحكم الذي ورد ذكره فيه ‏{‏زادتهم إيماناً‏}‏ أي بإيمانهم بها وبما حصل لهم من نور القلب وطمأنينة اليقين بسببها، فإنها هي الدالة على الله بما تبين من عظيم أفعاله ونعوت جلاله وجماله، وتظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه، وكمال قدرة الله تعالى إنما يعرف بواسطة آثار حكمته في مخلوقاته، وذلك بحر لا ساحل له، ولما كانت المراتب لا نهاية لها، كانت مراتب التجلي والمعرفة لا نهاية لها، فالزيادة في أشخاص التصديق ‏{‏وعلى‏}‏ أي والحال أنهم على ‏{‏ربهم‏}‏ أي الدائم الإحسان إليهم وحده ‏{‏يتوكلون‏}‏ أي يجددون إسناد أمورهم إليه مهما وسوس لهم الشيطان بالفقر أو غيره ليكفيهم من حيث لا يحتسبون، فإن خزائنه واسعة، ويده سحاء الليل والنهار، كما أنهم لما توكلوا عليه في القتال نصرهم وقد كانوا في غاية الخوف من الخذلان، وكان حالهم جديراً بذلك لقلقهم وخوفهم وقتلهم وضعفهم‏.‏

ولما وصفهم بالإيمان الحامل على الطاعة والتوكل الجامع لهم الدافع للمانع منها، منتقلاً من عمل الباطن إلى عمل الظاهر مبيناً أن همتهم إنما هي العبادة والمكارم‏:‏ ‏{‏الذين يقيمون الصلاة‏}‏ أي يفترون عن تجديد ذلك؛ ولما كانت صلة بين الخلق والخالق، أتبعها الوصلة بين الخلائق فقال‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم‏}‏ أي على عظمتنا وهو لنا دونهم ‏{‏ينفقون*‏}‏ ولو كانوا مقلين اعتماداً على ما عندنا فالإنفاق وإهانة الدنيا همتهم، لا الحرص عليها، فحينئذ يكونون كالذين عند ربك في التحلي بالعبادة والتخلي من الدنيا إعراضاً وزهادة، وهو تذكير بوصف المتقين المذكور أول الكتاب بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ‏(‏5‏)‏ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ‏(‏7‏)‏ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏8‏)‏ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ولما حققوا إيمانهم بأفعال القلوب والجوارح والأموال، فاستوفوا بذلك جميع شعب الدين، عظم سبحانه شأنهم بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الهمم ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏المؤمنون‏}‏ وأكد مضمون الجملة بقوله‏:‏ ‏{‏حقاً‏}‏‏.‏

ولما كانت صفاتهم الخمس المذكورة المشتملة على الأخلاق والأعمال لها تأثيرات في تصفية القلوب وتنويرها بالمعارف الإلهية، وكلما كان المؤثر أقوى كانت التأثيرات أعلى، فلما كانت هي درجات كان جزاؤها كذلك، فلهذا قال سبحانه تعالى في جواب من كأنه قال‏:‏ فما جزاؤهم على ذلك‏؟‏ ‏{‏لهم درجات‏}‏ ولما كثرها بجمع السلامة بما دل عليه سياق الامتنان، عظمها بقوله‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ أي بتسليمهم لأمره‏.‏

ولما كان قدر الله عظيماً، وكان الإنسان عن بلوغ ما يجب عليه من ذلك ضعيفاً حقيراً، وكان بأدنى شيء من أعماله يستفزه الإعجاب، أشار سبحانه إلى أنه لا يسعه إلا العفو ولو بذل فوق الجهد فقال‏:‏ ‏{‏ومغفرة‏}‏ أي لذنوبهم إن رجعوا عن المنازعة في الأنفال وغيرها، ‏{‏ورزق كريم*‏}‏ أي لا ضيق فيه ولا كدر بوجه ما من منازعة ولا غيرها، فهو يغنيهم عن هذه الأنفال، ويملأ أيديهم من الأموال من عنائم فارس والروم وغير ذلك، هذا في الدنيا، واما في الآخرة فما لا يحيط به الوصف؛ قال أبو حيان‏:‏ لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وهي الوجل وزيادة الإيمان والتوكل- وبدنية ومالية، ترتب عليها ثلاثة أشياء، فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات والبدنية بالغفران، وقوبلت المالية بالرزق الكريم، وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البديع- انتهى‏.‏ ولما كان الإيمان عند الشافعي رحمه الله الاعتقاد والإقرار والعمل جوز أن يقال‏:‏ مؤمن إن شاء الله، لأن استيفاء الأعمال مشكوك فيه وإن كان الاعتقاد والإقرار يقيناً، وعند أبي حنيفة رحمه الله الإيمان الاعتقاد والإقرار فقط، فلم يجوز الاستثناء، فالخلاف لفظي، هذا إذا كان الاستثناء للشك، وإن كان لغيره كان لكسر النفس عن التمدح، وللشهادة بالجنة التي هي للمؤمن، وللحكم على حالة الموت، على أن هذه الكلمة لا تنافي الجزم، فهي بمجرد التبرك كقوله تعالى ‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ ذكر ذلك الإمام فخر الدين‏.‏

ولما كان ترك الدنيا شديداً على النفس، وترك النزاع بعد الانتساب فيه أشد، شرع يذكر لهم ما كانوا له كارهين ففعله بهم وأمرهم به لعلمه بالعواقب فحمدوا أثره، ليكون ادعى لتسليمهم لأمره وازدجارهم بزجره، فشبه حال كراهتهم لترك مرادهم في الأنفال بحال كراهتهم لخروجهم معه ثم بحال كراهتهم للقاء الجيش دون العير، ثم إنهم رأوا أحسن العاقبة في كلا الأمرين فقال‏:‏ ‏{‏كما‏}‏ أي حالهم في كراهية تسليم الأنفال- مع كون التسليم هو الحق والأولى لهم- كما كانت حالهم إذ ‏{‏أخرجك ربك‏}‏ أي المحسن إليك بالإشارد إلى جميع مقاصد الخير ‏{‏من بيتك بالحق‏}‏ أي الأمر الفيصل الفارق بين الثابت والمزلزل ‏{‏وإن‏}‏ أي والحال أن ‏{‏فريقاً‏}‏ عبر به لأن آراءهم كانت تؤول إلى الفرقة ‏{‏من المؤمنين‏}‏ أي الراسخين في الإيمان ‏{‏لكارهون*‏}‏ ثم ذكر دليل كراهتهم فقال‏:‏ ‏{‏يجادلونك‏}‏ أي يكررون ذلك إرادة أن يفتلوك عن اللقاء للجيش إلى الرجوع عنه‏.‏

ولما كان الجيش امراً قد حتمه الله فلا بد من وقوعه مع أنه يرضيه، قال‏:‏ ‏{‏في الحق‏}‏ أي الذي هو إيثار الجهاد ‏{‏بعد ما تبين‏}‏ أي وضح وضوحاً عظيماً سهلاً من غير كلفة نظر بقرائن الأحوال بفوات العير وتيسير أمر النفير وبإعلام الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تارة صريحاً وتارة تلويحاً كقوله «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، هذا مصرع فلان وذلك مصرع فلان»‏.‏

ولما كان سبحانه قد حكم باللقاء والنصرة تأييداً لوليه وإعلاء لكلمته مع شدة كراهتهم لذلك، شبه سوقه لهم إلى مراده‏.‏ فقال بانياً للمفعول لأن المكروه إليهم السوق لا كونه من معين‏:‏ ‏{‏كأنما يساقون‏}‏ أي يسوقهم سائق لا قدرة لهم على ممانعته ‏{‏إلى الموت وهم ينظرون*‏}‏ لأنها كانت أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيها لقاء، وكانوا غير متأهبين للقتال غاية التأهب، إنما خرجوا للقاء العير، هذا مع أنهم عدد يسير، وعدد أهل النفير كثير، وكانوا في غاية الهيبة للقائهم والرعب من قتالهم، وكل هذا تذكير لهم بأنه لم ينصرهم إلا الله بلا صنع منهم، بل كانوا في يد قدرته كالآلة في يد أحدهم، لينتج ذلك أنه ليس لهم أن ينازعوا في الأنفال‏.‏

ولما لانوا بهذا الخطاب، وأقبلوا على الملك التواب، أقبل عليهم فقال‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي اذكروا هذا الذي ذكره الله لكم وقد كان حالكم فيه ما ذكره، ثم أفضى إلى سعادة عظيمة وعز لا يشبهه عز، واذكروا إذ ‏{‏يعدكم الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال ‏{‏إحدى الطائفتين‏}‏‏:‏ العير أو النفير، وأبدل من الإحدى- ليكون الوعد بها مكرراً- قوله‏:‏ ‏{‏أنها لكم‏}‏ أي فتكرهون لقاء ذات الشوكة ‏{‏وتودون‏}‏ أي والحال أنكم تحبون محبة عظيمة ‏{‏أن غير ذات الشوكة‏}‏ أي السلاح والقتال والكفاح الذي به تعرف الأبطال ويميز بين الرجال من ذوات الحجال ‏{‏تكون لكم‏}‏ أي العير لكونها لم يكن فيها إلا ناس قليل، يقال‏:‏ إنهم أربعون رجلاً، جهلاً منكم بالعواقب، ثم تبين لكم أن ما فعله الله خير لكم بما لا يبلغ كنهه، فسلموا له الأمر في السر والجهر تنالوا الغنى والنصر، وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير العاصمي في مناسبة تعقيب الأعراف بهذه السورة ومناسبة آخر تلك لأول هذه ما نصه‏:‏ لما قصَّ سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم في سوة الأعراف أخبار الأمم، وقطع المؤمنون من مجموع ذلك بأنه لا يكون الهدى إلا بسابقة السعادة، لافتتاح السورة من ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام، وكلاهما كفر على علم ولم ينفعه ما قد كان حصل عليه، ونبه تعالى عباده على الباب الذي أتى منه على بلعام بقوله سبحانه ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فأشار سبحانه إلى أن اتباع الأهواء أضل كل ضلال، نبهوا على ما فيه الحزم من ترك الأهواء جملة فقال تعالى

‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏ الآية، فكان قد قيل لهم‏:‏ اتركوا ما ترون أنه حق واجب لكم، وفوضوا في أمره لله وللرسول، فذلك أسلم لكم وأحزم في ردع أغراضكم وقمع شهواتكم وترك أمور ربكم وقد ألف في هذه الشريعة السمحة البيضاء حسم الذرائع كثيراً وإقامة مظنة الشيء مقامه كتحريم الجرعة من الخمر والقطرة، والخطبة في العدة واعتداد النوم الثقيل ناقضاً، فهذه مظان لم يقع الحكم فيها على ما هو لأنفسها ولا بما هي كذا، بل بما هي مظان ودواع لما منع لعينه أو استوجب حكماً لعينه وعلته الخاصة به، ولما أمر المسلمون بحل أيديهم عن الأنفال يوم بدر إذ كان المقاتلة قد هموا بأخذها وحدثوا أنفسهم بالأنفراد بها ورأوا أنها من حقهم وأن من لم يباشر قتالاً من الشيوخ ومن انحاز منه لمهم فلا حق له فيها، ورأى الآخرون أيضاً أن حقهم فيها ثابت لأنهم كانوا فيه للمقاتلين عدة وملجأ وراء ظهورهم، كان ما أمرهم الله به من تسليم الحكم في ذلك إلى الله رسوله من باب حسم الذرائع لأن تمشية أغراضهم في ذلك- وإن تعلق كل من الفريقين بحجة- مظنة لرئاسة النفوس واستسهال اتباع الأهواء، فأمرهم الله بالتنزه عن ذلك والتفويض الله ولرسوله فإن ذلك أسلم لهم وأوفى لدينهم وأبقى في إصلاح ذات البين وأجدى في الأتباع ‏{‏فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏ الآية، ثم ذكروا بما ينبغي لهم يلتزموا فقال تعالى ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏زادتهم إيماناً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏ ثم نبهوا على أن أعراض الدنيا من نفل أو غيره لا ينبغي للمؤمن أن يعتمد عليه اعتماداً يدخل عليه ضراراً من الشرك أو التفاتاً إلى غير الله سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ ثم ذكروا بما وصف به المتقين من الصلاة والإنفاق ثم قال ‏{‏أولئك هم المؤمنون حقاً‏}‏ تنبيهاً على أن من قصر في هذه الأحوال ولم يأت بها على كمالها لم يخرج عن الإيمان ولكن ينزل عن درجة الكمال بحسب تقصيره، وكان في هذا إشعار بعذرهم في كلامهم في الأنفال وأنهم قد كانوا في مطلبهم على حالة من الصواب وشرب من التمسك والأتباع، ولكن أعلى الدرجات ما بين لهم ومنحوه، وأنه الكمال والفوز، ثم نبههم سبحانه بكيفية أمرهم في الخروج إلى بدر وودهم أن غير ذات الشوكة تكون لهم وهو سبحانه يريهم حسن العاقبة فيما اختاره لهم، فقد كانوا تمنوا لقاء العير، واختاروا ذلك على لقاء العدو ولم يعلموا ما وراء ذلك

‏{‏ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏ إلى ما قصه تعالى عليهم من اكتنافهم برحمته وشمول ألطافه وآلائه وبسط نفوسهم ونبههم على ما يثبت يقينهم ويزيد في إيمانهم، ثم أعلم أن الخير كله في التقوى فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏ الاية، وهذا الفرقان هو الذي حرمه إبليس وبلعام، فكان منهما ما تقدم من اتباع الأهواء القاطعة لهم عن الرحمة، وقد تضمنت الآية حصول خير الدنيا والآخرة بنعمة الاتقاء، ثم أجمل الخيران معاً في قوله ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏ بعد تفصيل ما إليه إسراع المؤمنين من الفرقان والتكفير والغفران، ولم يقع التصريح بخيري الدنيا الخاص بها مع اقتضاء الآية إياه تنزيهاً للمؤمن في مقام إعطاء الفرقان وتكفير السيئات، والغفران من ذكر متاع الدنيا التي هي لهو ولعب فلم يكن ذكر متاعها الفاني ليذكر مفصلاً مع ما لا يجانسه ولا يشاكله ‏{‏وإن الدار الآخرة لهي الحيوان‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 64‏]‏ ثم التحمت الآي، ووجه آخر وهو أنه تعالى لما قال ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له‏}‏ بيَّن لهم كيفية هذا الاستماع وما الذي يتصف به المؤمن من ضروبه فقال ‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏ الآية، فهؤلاء لم يسمعوا بآذانهم فقط، ولا كانت لهم آذان لا يسمعون بها ولا قلوب لا يفقهون بها، ولو كانوا كذا لما وجلت وعمهم الفزع والخشية وزادتهم الآيات إيماناً، فإذن إنما يكون سماع المؤمن هكذا ‏{‏ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 21‏]‏ ولما كان هؤلاء إنما أتى عليهم من اتباع أهوائهم والوقوف مع أعراضهم وشهواتهم ‏{‏يأخذون عرض هذا الأدنى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 169‏]‏ ‏{‏ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏ وهذه بعينها كانت آفة إبليس، رأى لنفسه المزيد واعتقد لها الحق ثم اتبع هذا الهوى حين قال ‏{‏لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 33‏]‏ فلما كان اتباع الهوى أصلاً في الضلال وتنكب الصراط المستقيم، أمر المؤمنين بحسم باب الأهواء، والتسليم فيما لهم به تعلق وغن لم يكن هوى مجرداً لكنه مظنة تيسير لاتباع الهوى، فافتتحت السورة بسؤالهم عن الأنفال وأخبروا أنها لله ورسوله، يحكم فيها ما يشاء ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ واحذروا الأهواء التي أهلكت من قص عليكم ذكره ‏{‏وأصلحوا ذات بينكم‏}‏ برفع التنازع، وسلموا لله ولرسوله، وإلا لم تكونوا سامعين وقد أمرتم أن تسمعوا السماع الذي عنه ترجى الرحمة، وبيانه في قوله ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏- الآيات، ووجه آخر وهو أن قصص بني إسرائيل عقب بوصاة المؤمنين وخصوصاً بالتقوى وعلى حسب ما يكون الغالب فيما يذكر من أمر بني إسرائيل، ففي البقرة أتبع قصصهم بقوله

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏ ولما كان قصصهم مفتتحاً بذكر تفضيلهم ‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين‏}‏ افتتح خطاب هذه الأمة بما يشعر بتفضليهم، وتأمل ما بين ‏{‏يا بني إسرائيل‏}‏ و‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ وأمر أولئك بالإيمان ‏{‏وآمنوا بما أنزلت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏ وأمر هؤلاء بتعبد احتياطي فقيل ‏{‏وقولوا انظرنا واسمعوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏ ثم أعقبت البقرة بآل عمران وافتتحت ببيان المحكم والمتشابه الذي من جهته أتى على بني إسرائيل في كثير من مرتكباتهم، ولما ضمنت سورة آل عمران من ذكرهم ما ورد فيها، أعقبت بقوله تعالى؛ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 100‏]‏ ثم أعقبت السورة بقوله ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ وعدل عن الخطاب باسم الإيمان للمناسبة، وذلك أن سورة آل عمران خصت من مرتكبات بني إسرائيل بجرائم كقولهم في الكفار ‏{‏هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏ فهذا بهت، ومنها قولهم ‏{‏الله فقير ونحن أغنياء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 181‏]‏ إلى ما تخلل هاتين من الآيات المنبئة عن تعمدهم الجرائم، فعدل عن ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ إلى ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ ليكون أوقع في الترتيب وأوضح مناسبة لما ذكر، ولما ضمنت سورة النساء قوله تعالى ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأكلهم أموال الناس بالباطل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 161‏]‏ أتبعت بقوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏ ثم ذكر لهم ما أحل لهم وحرم عليهم ليحذروا مما وقع فيه أولئك، فعلى هذا لما ضمنت سورة الأعراف من قصصهم جملة، وبين فيها اعتداءهم، وبناه على اتباع الأهواء والهجوم على الأغراض، طلب هؤلاء باتقاء ذلك والبعد عما يشبهه جملة، فقيل في آخر السورة ‏{‏إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏ ثم افتتحت السورة الأخرى بصرفهم عما لهم به تعلق وإليه تشبث يقيم عذرهم شرعاً فيما كان منهم، فكان قد قيل لهم‏:‏ ترك هذا أعلم وأبعد عن اتباع الأهواء، فسلموا في ذلك الحكم لله ورسوله واتقوا الله، ثم تناسج السياق والتحمت الآي، وقد تبين وجه اتصال الأنفال بالأعراف من وجوه، والحمد لله- انتهى‏.‏

ولما أخبر تعالى بما هو الحق من أن إرادتهم بل ودادتهم إنما كانت منصبة إلى العير لا إلى النفير، تبين أنه لا صنع لهم فيما وقع إذ لو كان لكان على ما أرادوا، فلا حظ لهم في الغنيمة إلا ما يقسمه الله لهم لأن الحكم لمراده لا لمراد غيره، فقال تعالى عاطفاً على ‏{‏وتودون‏}‏‏:‏ ‏{‏ويريد الله‏}‏ أي بما له من العز والعظمة والعلم ‏{‏أن يحق الحق‏}‏ اي يثبت في عالم الشهادة الثابت عنده في عالم الغيب، وهو هنا إصابة ذات الشوكة ‏{‏بكلماته‏}‏ أي التي أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم يهزمون ويقتلون ويؤسرون، وأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، ليعلي دينه ويظهر أمره على كل أمر ‏{‏ويقطع دابر‏}‏ أي آخر ‏{‏الكافرين*‏}‏ أي كما يقطع أولهم، أي يستأصلهم بحيث لا يبقى منهم أحد يشاقق أهل حزبه فهو يدبر أمركم على ما يريد، فلذلك اختار لكم ذات الجد والشوكة ليكون ما وعدكم به من إعلاء الدين وقمع المفسدين بقطع دابرهم ‏{‏ليحق الحق‏}‏ أي الذي هو دينه القيم وفيه فوز الدارين ‏{‏ويبطل الباطل‏}‏ وهو كل ما خالفه ‏{‏ولو كره‏}‏ أي ذلك ‏{‏المجرمون*‏}‏ أي الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويكسر قوتهم بضعفكم ويفني كثرتهم بقلتكم ويمحق عزهم بذلتكم فيظهر علو أمره ويخضع الأعناق لذكره ‏{‏إذ‏}‏ ظرف ‏{‏ليحق الحق‏}‏ ‏{‏تستغيثون ربكم‏}‏ أي تطلبون إغاثة المحسن إليكم، وهو بدل من ‏{‏إذ يعدكم‏}‏ فهو من البيان لكراهتهم لقاء ذات الشوكة بشدة جزعهم الموجب لهم الاستغاثة مع إسفار العاقبة عن أن الخير فيما كرهوه، وأنه أحق الحق وأظهر الدين وأوهن أمر المشركين‏.‏

ولما أسرع سبحانه الإجابة، دل على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فاستجاب‏}‏ أي فأوجد الإجابة إيجاد من هو طالب لها شديد الرغبة فيها ‏{‏لكم‏}‏ بغاية ما تريدون تثبيتاً لقلوبكم ‏{‏أني‏}‏ أي بأني ‏{‏ممدكم‏}‏ أي موجد المدد «لكم» أي بإمدادكم، ولعله حول العبارة لما في التصريح بضميره من العظمة والبركة ‏{‏بألف من الملائكة‏}‏ حال كونهم ‏{‏مردفين*‏}‏ أي متبعين بأمثالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ‏(‏11‏)‏ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ‏(‏12‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

ولما كانت نصرة المسلمين في هذه الغزوة ظاهرة جداً، قال‏:‏ ‏{‏وما جعله الله‏}‏ اي الإمداد والوعد به على ما له سبحانه من العظمة التي من راقبها لم يهب شيئاً ‏{‏إلا بشرى‏}‏ أي لتستبشر به نفوسكم، ولم يحتج إلى تقييد بأن يقال‏:‏ لكم، وأما في قصة أحد فقد كان المقتول منهم أكثر من المقتول من الكفار فلولا قوله «لكم» لربما طرق بعض الأوهام حين سماع أول الكلام أن الإمداد بشرى للكفار‏.‏

ولما كان الذي وقع الحكم به هنا على الإمداد أنه بشرى نفسه من غير قيد، علم أن العناية به أشد، فكان المحكوم به الطمأنينة كذلك، فكان أصل الكلام‏:‏ إلا بشرى هو وطمأنينة هو، فلذلك وجب تقديم ضميره في قوله «به» على القلوب تأكيداً لأمره وتفخيماً لشأنه، وإشارة إلى إتمامه على عادة العرب في تقديم ماهم به أعنى وهو عندهم أهم فقال‏:‏ ‏{‏ولتطمئن‏}‏ أي وطمأنينة لتطمئن ‏{‏به‏}‏ أي وحده من غير نظر إلى شيء من قوتكم ولا غيرها ‏{‏قلوبكم‏}‏ فالآية من الاحتباك، وأما في قصة أحد فلما قيدت البشرى بالإمداد بلكم لما تقدم، علم الطمأنينة كذلك، فكان الأنسب تأخير ضميره وتقديم القلوب الملابسة لضميرهم موازنة لقوله «لكم»‏.‏

ولما كان ذلك مفهماً أن النصر ليس إلا بيده وأن شيئاً من الإمداد أو غيره لا يوجب النصر بذاته، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏وما النصر‏}‏ أي حاصلاً وموجوداً بالملائكة وغيرهم من الأسباب ‏{‏إلا من عند الله‏}‏ أي لأن له وحده صفات الكمال، فما عنده ليس منحصراً في الإمداد بالملائكة فالنصر وإن كان بها فليس من عندها، فلا تعتمدوا على وجودها ولا تهنوا بفقدها اعتماداً عليه سبحانه خاصة، فإن ما عنده من الأسباب لا يحيط به علماً، هذا إذا أراد النصر بالأسباب، وإن أراد بغير ذلك فعل فكان التعبير بعند لإفهام ذلك‏.‏

ولما كانت هذه الغزوة في أول الأمر، وكانوا بعد بروز الوعد الصادق لهم بإحدى الطائفتين كارهين للقاء ذات الشوكة جداً، ثم وقع لهم ما وقع من النصر، كان المقام مقتضياً لإثبات عزة الله وحكمته على سبيل التأكيد إعلاماً بأن صفات الكمال ثابتة له دائماً، فهو ينصر من صبر واتقى بعزته، ويحكم أمره على أتم وجه بحكمته، هذا فعله دائماً كما فعل في هذه الغزوة فلذلك قال معللاً لما قبله مؤكداً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏عزيز‏}‏ أي هو في غاية الامتناع والقهر لمن يريد قهره أزلاً وأبد‏.‏ لا يغلب ولا يحوج وليه إلى زيادة العدد ولا نفاسة العدد ‏{‏حكيم‏}‏ أي إذا قضى أمراً كان في غاية الإتقان والإحكام، فلا يستطيع أحد نقص شيء منه، هذا له دائماً، فهو يفعل في نصركم هكذا مهما استأنستم إلى بشراه ولم تنظروا إلى قوتكم ولا غيرها مما سواه فلا تقلقوا إذا أمركم بالهجوم على البأس ولو كان فيه لقاء جميع الناس‏.‏

ولما أكد هنا، لم يحتج إلى إعادة تأكيده في آل عمران فقيل ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 126‏]‏ أي الذي أخبركم عن عزته وحكمته في غزوة بدر بما يليق بذلك المقام من التأكيد، وأخبركم أنكم إن فاديتم الأسرى قتل منها في العام المقبل مثل عددهم، فوقوع الأمر على ما قال مغن عن التأكيد، ولم يكن أحد من المسلمين في أحد متردداً في اللقاء ولا هائباً له الإ ما وقع من الهم بالفشل من الطائفتين والعصمة منه في الحال، وقد مضى في آل عمران لهذا مزيد بيان‏.‏

ولما ذكر البشرى والطمأنينة بالإمداد، ناسب أن يذكر لهم أنه أتبع القول الفعل فألقى في قلوبهم بعزته وحكمته الطمأنينة والأمن والسكينة بدليل النعاس الذي غشيهم في موضع هو أبعد الأشياء عنه وهو موطن الجلاد ومصاولة الأنداد والتيقظ لمخاتلة أهل العناد، وكذا المطر وأثره، فقال مبدلاً أيضاً من ‏{‏إذ يعدكم‏}‏ أو معلقاً بالنصر أو بما في الظرف من رائحة الفعل مصوراً لعزته وحكمته‏:‏ ‏{‏إذ يغشاكم‏}‏ بفتح حرف المضارعة في قراءة ابن كثير وأبي عمرو فالفاعل ‏{‏النعاس‏}‏ وضم الباقون الياء، وأسكن نافع الغين وفتحها الباقون وشددوا الشين المكسورة، فالفاعل في القراءة الأولى مفعول هنا، والفاعل ضمير يعود على الله، ولما ذكر هذه التغشية الغريبة الخارقة للعوائد، ذكر ما فعلت لأجله فقال‏:‏ ‏{‏أمنة‏}‏ ولما كان ذلك خارقاً للعادة، جاء الوصف بقوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ أي بحكمته لأنه لا ينام في مثل تلك الحال إلا الآمن، ويمنع عنكم العدو وأنتم نائمون بعزته، ولم يختلف فاعل، الفعل المعلل في القراءات الثلاث لأن كون النعاس فاعلاً مجاز، ويصح عندي نصبها على الحال‏.‏

ولما كان النعاس آية الموت، ذكر بعده آية الحياة فقال‏:‏ ‏{‏وينزل عليكم‏}‏ وحقق كونه مطراً بقوله‏:‏ ‏{‏من السماء ماء‏}‏ ووقع في البيضاوي وأصله وكذا تفسير أبي حيان أن المشركين سبقوا إلى الماء وغلبوا عليه، وليس كذلك بل الذي سبق إلى بدر وغلب على مائها المؤمنون كما ثبت في صحيح مسلم وغيره، فيكون شرح القصة أنم مطروا في المنزل الذي ساروا منه إلى بدر فحصل للمسلمين منه ما ملؤوا منه أسقيتهم فتطهروا من حدث أو جنابة ولبد لهم الرمل وسهل عليهم المسير، وأصاب المشركين ما زلق أرضهم حتى منعهم المسير، فكان ذلك سبباً لسبق المسلمين لهم إلى المنزل وتمكينهم من بناء الحياض وتغوير ما وراء الماء الذي نزلوا عليه من القلب كما هو مشهور في السير، ويكون رجز الشيطان وسوسته لهم بالقلة والضعف والتخويف بكثرة العدو، والربط على القلوب طمأنينتهم وطيب نفوسهم بما أراهم من الكرامة كما يوضح ذلك جميعه قول ابن هشام ‏{‏وينزل عليكم من السماء‏}‏ ماء للمطر الذي أصابهم تلك الليلة، فحبس المشركين أن يسبقوا إلى الماء وخلى سبيل المؤمنين إليه ‏{‏ليطهركم به‏}‏ أي من كل درن، وابتدأ من فوائد الماء بالتطهير لأنه المقرب من صفات الملائكة المقربين من حضرات القدس وعطف عليه- بقوله‏:‏ ‏{‏ويذهب عنكم‏}‏ أي لا عن غيركم ‏{‏رجز الشيطان‏}‏ بغير لام ما هو لازم له، وهو العبد الذي كان مع الحدث الذي منه الجنابة المقربة من الخبائث الشيطانية بضيق الصدر والشك والخوف لإبعاد من الحضرات الملائكة «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب» والرجز يطلق على القذر وعبادة الأوثان والعذاب والشرك، فقد كان الشيطان وسوس لهم، ولا شك أن وسوسته من أعظم القذر فإنها تجر من تمادى معها إلى كل ما ذكر؛ ثم عطف عليه ما تهيأ له القلب من الحكم الإلهية وهو إفراغ السكينة فقال‏:‏ ‏{‏وليربط‏}‏ أي بالصبر واليقين‏.‏

ولما كان ذلك ربطاً محكماً غالباً عالياً، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏على قلوبكم‏}‏ أي بعد إسكانها الوثوق بلطفه عند كل ملمة حتى امتلأت من كل خير وثبت فيها الربط، فشبهها بجراب ملئ شيئاً ثم ربط رأسه حتى لا يخرج من ذلك الذي فيه شيء، وأعاد اللام إشارة إلى أنه المقصد الأعظم وما قبله وسيلة إليه وعطف عليه بغير لام لازمه من التثبيت فقال‏:‏ ‏{‏ويثبت به‏}‏ أي بالربط بالمطر ‏{‏الأقدام*‏}‏ أي لعدم الخوف فإن الخائف لا تثبت قدمه في المكان الذي يقف به، بل تصير رجله تنتقل من غير اختيار أو بتلبيد الرمل‏.‏

ولما ذكر حكمة الإمداد وما تبعه من الآثار المثبتة للقلوب والأقدام، ذكر ما أمر به المدد من التثبيت بالقول والفعل فقال‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ بدلاً ثالثاً من ‏{‏إذ يعدكم‏}‏ أو ظرفاً ليثبت ‏{‏يوحي ربك‏}‏ أي المحسن إليك بجميع ذلك ‏{‏إلى الملائكة‏}‏ وبين أن النصر منه لا من المدد بقوله‏:‏ ‏{‏أني معكم‏}‏ أي ومن كنت معه كان ظافراً بجميع مأموله ‏{‏فثبتوا‏}‏ أي بسبب ذلك ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي بأنواع التثبيت من تكثير سوادهم وتقوية قلوبهم وقتال أعدائهم وتقليلهم في أعينهم وتحقير شأنهم؛ ثم بيّن المعية بقوله‏:‏ ‏{‏سألقي‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه ‏{‏في قلوب الذين كفروا‏}‏ أي أوجدوا الكفر ‏{‏الرعب‏}‏ فلا يكون لهم ثبات ‏{‏فاضربوا‏}‏ أي أيها المؤمنون من الملائكة والبشر غير هائبين بسبب ذلك‏.‏

ولما كان ضرب العنق والراس أوحى مهلك للإنسان، وكان العنق يستر في الحرب غالباً، عبر بقوله‏:‏ ‏{‏فوق الأعناق‏}‏ أي الرؤوس أو أعالي الأعناق منهم لأنها مفاصل ومذابح‏.‏

ولما كان إفساد الأصابع أنكى ما يكون بعد ذلك لأنه يبطل قتال المضروب أو كمال قتاله، قال‏:‏ ‏{‏واضربوا منهم كل بنان‏}‏ أي فإنه لا مانع من ذلك لكوني معكم، ثم علل تسليطهم عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي التسليط العظيم، وأخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏بأنهم‏}‏ أي الذي تلبسوا الآن بالكفر ولو كانوا ممن يقضي بايمانه بعد ‏{‏شاقوا الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا يطاق انتقامه ‏{‏ورسوله‏}‏ أي طلبوا أن يكونوا بمخالفة الأوامر والنواهي في شق غير الذي فيه حزب الهدى في مكر منهم وخداع، وشاقوه باشتهار السيف جهراً- ثم بين ما لفاعل ذلك، فقال عاطفاً على تقديره‏:‏ فمن شاق الله ورسوله فافعلوا به ذلك، فإني فاعل به ما فعلت بهؤلاء، وأظهر الإدغام في المضارع لأن القصة للعرب وأمرهم في عداوتهم كان بعد الهجرة شديداً ومجاهرة، وأدغم في الماضي لأن ما مضى قبلها كان ما بين مساترة بالمماكرة ومجاهرة بالمقاهرة، وعبر بالمضارع ندباً إلى التوبة بتقييد الوعيد بالاستمرار، وأدغم في الحشر في الموضعين لأن القصة لليهود وأمرهم كان ضعيفاً ومساترة في مماكرة‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ويشاقه سراً أو جهراً ‏{‏ورسوله‏}‏ بأن يكون في شق غير الشق الذي يرضيانه ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏شديد العقاب*‏}‏ أي له هذه الصفة، فليتوقع مشاققه عذابه، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الفعل المدغم أولاً دليل على حذف المظهر ثانياً، والمظهر ثانياً على حذف المدغم أولاً‏.‏

ولما ختم الآية ببيان السبب الموجب لإهانة الذين كفروا وبما له من الوصف العظيم، أتبعه ما يقول لهم لبيان الحال عند ذلك بقوله التفاتاً إليهم لمزيد التبكيت والتوبيخ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏

‏{‏ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ‏(‏14‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ‏(‏15‏)‏ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏16‏)‏ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ‏(‏18‏)‏ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏19‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏ذلكم‏}‏ أي هو سبحانه بما له من هذا الوصف الهائل يذيق عدوه من عذابه ما لا طاقة لهم به ولا يدان، فيصير لسان الحال مخاطباً لهم نيابة عن المقال‏:‏ الأمر الذي حذرتكم منه الرسل وأتتكم به الكتب وكنتم تستهزئون به أيها الكفرة هو هذا الأمر الشديد وقعه البعيد على من ينزل عليه دفعه دهمكم، فما لكم لا تدافعونه‏!‏ كلا والله شغل كلاًّ ما قابله ولم يقدر أن يزاوله‏.‏

ولما كان ما وقع لهم في وقعة بدر من القتل والأسر والقهر يسيراً جداً بالنسبة إلى ما لهم في الآخرة، سماه ذوقاً لأنه يكون بالقليل ليعرف به حال الكثير فقال‏:‏ ‏{‏فذوقوه‏}‏ أي باشروه قهراً مباشرة الذائق واعلموا أنه بالنسبة إلى ما تستقبلونه كالمذوق بالنسبة إلى المذوق لأجله ‏{‏وأنَّ‏}‏ أي والأمر الذي أتتكم به الرسل والكتب أن لكم مع هذا الذي ذقتموه في الدنيا، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال‏:‏ ‏{‏للكافرين‏}‏ أي على كفرهم وإن لم يظهروا المشاققة ‏{‏عذاب النار*‏}‏ وهو مواقعكم وهو أكبر وسترون‏.‏

ولما قرر إهانتهم في الدنيا والآخرة بما حسر عليهم القلوب، حسن أن يتبع ذلك نهي من ادعى الإيمان عن الفرار منهم وتهديد من نكص عنهم بعد هذا البيان وهو يدعي الإيمان فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي بما أتاهم من عند ربهم ‏{‏إذا لقيتم الذين كفروا‏}‏ أي بآيات ربهم فشاققوه، وعبر عن حال لقائهم بالمصدر مبالغة في التشبيه فقال‏:‏ ‏{‏زحفاً‏}‏ أي حال كونهم زاحفين محاربين وهم من الكثرة بحيث لا يدرك من حركتهم- وإن كانت سريعة- إلا مثلل الزحف ‏{‏فلا تولوهم الأدبار*‏}‏ أي هرباً منهم وإن كنتم أقل منهم ‏{‏ومن يولهم‏}‏ ولما كان الأغلب في وقوع القتال النهار، وكان التولية مما لا يكون الظرف معياراً له لأنها مما لا يمتد زمنه، فالعصيان يقع بمجرد الالتفات بقصد الفرار، والتمادي تكرير أمثال، لا شرط في صحة إطلاق الاسم، عبر باليوم، وجرده عن «في» ندباً إلى الكر بعد الفر مع عدم الالتباس، فإن الظرف لا يكون معياراً للفعل إلا إذا كان ممتد الزمان كالصوم فقال ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ لقيتم على هذه الحالة في أيّ وقت كان من أوقات القتال من ليل كان أو نهار ‏{‏دبره‏}‏ أي يجعل ظهره إليهم لشيء من الأشياء تولية لا يريد الإقبال إلى القتال منها ‏{‏إلا‏}‏ أي حال كونه ‏{‏متحرفاً‏}‏ أو الحال التحرف، وهو الزوال عن جهة الاستواء ‏{‏لقتال‏}‏ أي لا يتسهل له إلا بذلك يخيل إلى عدوه أنه منهزم خداعاً له ثم يكر عليه ‏{‏أو متحيزاً‏}‏ أي متنقلاً من حيز إلى آخر ومتنحياً ‏{‏إلى فئة‏}‏ أي جماعة أخرى من أهل حزبه هم أهل لآن يرجع إليهم ليستعين بهم أو يعينهم‏.‏

ولما كان هذا محل توقع السامع للجواب وتفريغ ذهنه له، أجاب رابطاً بالفاء إعلاماً بأن الفعل المحدث عنه سبب لهذا الجزاء فقال‏:‏ ‏{‏فقد باء‏}‏ أي رجع ‏{‏بغضب من الله‏}‏ اي الحائز لجميع صفات الكمال ‏{‏ومأواه جهنم‏}‏ أي تتجهمه كما أنه هاب تجهم الكفار ولقاء الوجوه العابسة بوجه كالح عابس ‏{‏وبئس المصير*‏}‏ هذا إذا لم يزد الكفار عن الضعف- كما سيأتي النص به‏.‏

ولما تقدم إليهم في ذلك، علله بتقرير عزته وحكمته، وأن النصر ليس إلا من عنده، فمن صح إيمانه لم يتوقف عن امتثال أوامره، فقال مسبباً عن تحريمه الفرار وإن كان العدو كثيراً، تذكيراً بما صنع لهم في بدر، ليجريهم على مثل ذلك، ومنعاً لهم من الإعجاب بما كان على أيديهم في ذلك اليوم من الخوارق ‏{‏فلم تقتلوهم‏}‏ أي حلَّ على المدبر الغضب لأنه تبين لكل مؤمن أنه تعالى لا يأمر أحداً إلا بما هو قادر سبحانه على تطويقه له، فإنه قد وضح مما يجري على قوانين العوائد أنكم لم تقتلوا قتلى بدر وإن تعاطيتم أسباب قتلهم، لأنكم لم تدخلوا قلوب ذلك الجيش العظيم الرعب الذي كان سبب هزيمتهم التي كانت سبب قتل من قتلتم، لضعفكم عن مقاومتهم في العادة، وفيه مع ذلك زجر لهم عن أن يقول أحد منهم على وجه الافتخار‏:‏ قتلت كذا وكذا رجلاً وفعلت كذا ‏{‏ولكن الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله فلا يخرج شيء عن مراده ‏{‏قتلهم‏}‏ أي بأن هزمهم لكم لما رأوا الملائكة وامتلأت أعينهم من التراب الذي رماهم به صلى الله عليه وسلم وقلوبهم جزعاً حتى تمكنتم من قتلهم خرق عادة كان وعدكم بها، فصدق مقاله وتمت أفعاله‏.‏

ولما رد ما باشروه إليه سبحانه، أتبعه ما باشره نبيه صلى الله عليه وسلم دلالة على ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشاً مقبلة قال‏:‏ اللهم‏!‏ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، فقال جبرائيل عليه السلام‏:‏ خذ قبضة من تراب فأرمهم بها، ففعل فملأت أعينهم فانهزموا فقال‏:‏ ‏{‏وما رميت‏}‏ أي يا سيد المؤمنين الرمل في أعين الكفار ‏{‏إذ رميت‏}‏ أي أوقعت صورة قذفه من كفك، لأن هذا الأثر الذي وجد عن رميك خارق للعادة، فمن الواضح أنه ليس فعلك، وهذا هو الجواب عن كونه لم يقل‏:‏ فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم، لأن زهوق النفس عن الجراح المثخن هو العادة، فهم الذين قتلوهم حين باشروا ضربهم، فلا يصح‏:‏ فلم تقتلوهم حتى قتلتموهم، والمنفيّ إنما هو السبب المتقدم على القتل الممكن من القتل، وهو تسكين قلوبهم الناشئ عند إقدامهم وإرعاب الكفار الناشئ عند ضعفهم وانهزامهم الممكن منهم، فالمنفي عنهم البداية والمنفي عنه صلى الله عليه وسلم الغاية، أو أن الملائكة عليهم السلام لما باشرت قتل بعضهم صح أن ينفي عنهم قتل المجموع مطلقاً، أو أنهم لما افتخر بعضهم بقتل من قتل نفاه سبحانه عنهم مطلقاً لأن مباشرتهم لقتل من قتل في جنب ما أعد لهم من الأسباب وأيدهم به من الجنود عدم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه فعل ما أمر به من رمي الرمل ولم يعد فعله ولا ذكره، فأثبته سبحانه له مع نفي تأثيره عنه وإثباته لمن إليه ترجع الأمور تأديباً منه سبحانه لهذه الأمة، أي لا ينظر أحد إلى شيء من طاعته، فإنا قد نفينا هذا الفعل العظيم عن أكمل الخلق مع أنه عالم مقر بأنه منا فليحذر الذي يرى له فعلاً من عظيم سطواتنا، ولكن لينسب جميع أفعاله الحسنة إلى الله تعالى كما نسب الرمي إليه بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن الله‏}‏ أي الذي لا راد لأمره ‏{‏رمى‏}‏ لأنه الذي أوصل أثره بما كان هازماً للكفار، فعل ذلك كله ليبلي الكفار منه بأيدي من أراد من عباده بلاء عاقبته سيئة ‏{‏وليبلي المؤمنين‏}‏ أي الراسخين في الإيمان ‏{‏منه‏}‏ أي وحده ‏{‏بلاء حسناً‏}‏ أي من النصر والغنيمة والأجر، ومادة بلاء يائية أو واوية بأيّ ترتيب كان تدور على الخلطة، وتارة تكون مطلقة نحو أبلاه عذراً، وتارة بكثرة ومحاولة وعناء وهو أغلب أحوال المادة، وتارة تكون للامتحان وأخرى لغيره، وماأباليه بالة- أظنه من البال الذي هو الخاطر فهو من بول لا بلو، أجوف لا من ذوات الأربعة، ومعناه‏:‏ ما أفاعله بالبال، أي ما أكترث به فما أصرف خاطري إلى مخالطة أحواله حيث يصرف خاطره إليّ أي ما أفكر في أمره لهوانه عليّ وسيأتي بسط معاني المادة إن شاء الله تعالى في سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى

‏{‏ما بال النسوة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 50‏]‏ وهذه المادة معناها ضد الدعة، لأن هذه يلزمها شغل الخاطر الذي عنه ينشأ التعب بمدافعة الملابس، والدعة يلزمها هدوء السر وفراغ البال الذي هو منشأ الراحة، فمعنى الآية أنه تعالى فعل ذلك من الإمكان من إذلال الكفار ليخالطهم من شؤونه ما يكون لهم في مدافعته عاقبة سيئة، وليخالط المؤمنين من ذلك ما يكون لهم في مزاولته عاقبة حسنة بل أحسن من الراحة، لأنه يفضي بهم إلى راحة دائمة، والدعة تقضي إلى تعب طويل- والله موفق‏.‏

ولما ثبت بما مضى أن له تعالى الأفعال العظيمة والبطشات الجسمية‏.‏ ودلت أقوال من قال من المؤمنين‏:‏ إنا لم نتأهب للقاء ذات الشوكة، على ضعف العزائم؛ ختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ‏{‏سميع‏}‏ أي لأقوالكم من الاستعانة في المعونة على النصرة وغيرها ‏{‏عليم*‏}‏ أي بعزائمكم وإن لم تتكلموا بها، فهو يجازي المؤمن على حسب إيمانه والكافر على ما يبدي ويخفي من كفرانه، الأمر ‏{‏ذلكم‏}‏ العظيم الشأن البعيد المتناول الذي أمركم فيه بأوامره ونهاكم به عن مناهيه وأبلاكم فيه البلاء الحسن، وأراكم بأعينكم توهينه لهذه الطائفة التي قصدتكم وأنتم عندها أكلة جزور وعصفور بين يدي صقور، وبين لكم من علل ذلك وعجائب مقدوره ما لم يبق معه عذر لمؤمن، فألزموا طاعته وسابقوا في طاعة رسوله ولا تنظروا في عاقبة شيء مما يأمر به، فإنه ما ينطق عن الهوى بل إنما يأمر عنا، ونحن لم نأمر بشيء إلا بعد تدبيره على أحكم الوجوه وأتقنها ‏{‏وأنَّ‏}‏ أي والأمر أيضاً أن ‏{‏الله‏}‏ أي الحاوي لجميع صفات العز والعظمة ‏{‏موهن‏}‏ أي مضعف إضعافاً شديداً ثابتاً دائماً أبداً ‏{‏كيد الكافرين*‏}‏ أي الراسخين في الكفر جميعهم، فلا تهنوا في ابتغاء القوم وإن نالكم قرح فإنا نجعله لكم تطهيراً وللكافرين تدميراً والعاقبة للتقوى، فنطلعكم على عوراتهم ونلقي الرعب في قلوبهم ونفرق كلمتهم وننقض ما أبرموا‏.‏

ولما تضمن ذلك إيقاع الإهانة بالكفار بهذه الوقعة، والوعد بإلزامهم الإهانة فيما يأتي، كان ذلك مفصلاً للالتفات إلى تهديدهم في قالب استجلائهم والاستهزاء بهم وتفخيم أمر المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏إن تستفتحوا‏}‏ أي تسألوا الفتح أيها الكفار بعد هذا اليوم كما استفتحتم في هذه الوقعة عند أخذكم أستار الكعبة وقت خروجكم بقولكم‏:‏ اللهم انصر أهدى الحزبين، وأكرم الجندين، وأعلى الفئتين، وأفضل الدينين، ووقت ترائي الجمعين؛ بقول أبي جهل‏:‏ اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعلم فأحنه الغداة؛ أتاكم الفتح كما أتاكم في هذا اليوم ‏{‏فقد جاءكم‏}‏ أي في هذا اليوم بنصر المؤمنين ‏{‏الفتح‏}‏ أي الذي استفتحتم له لأنهم أهدى الفئتين وأكرم الطائفتين ‏{‏وإن تنتهوا‏}‏ أي بعد هذا عن مثل هذه الأقوال والأفعال المتضمنه للشك أو العناد ‏{‏فهو خير لكم‏}‏ وقد رأيتم دلائل ذلك ‏{‏وإن تعودوا‏}‏ أي إلى المغالبة لأنكم لم تنتهوا ‏{‏نعد‏}‏ أي إلى خذلانكم ‏{‏ولن تغني عنكم‏}‏ أي أبداً ‏{‏فئتكم‏}‏ أي جماعتكم التي ترجعون إليها للاعتزاز بها ‏{‏شيئاً‏}‏ أي من الإغناء ‏{‏ولو كثرت‏}‏ لأن الله على الكافرين ‏{‏وأنَّ الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏مع المؤمنين*‏}‏ أي الراسخين في الإيمان، ولعله عبر المستقبل في الشرط والماضي في الجزاء إشارة إلى أنكم استفتحتم في بدر وجاءكم من الفتح ما رأيتم، فإن كان أعجبكم فألزموه في المستقبل، فإني لا أجيئكم أبداً ما دمتم على حالكم إلا بما جئتكم به يومئذ، والفتح يحتمل أن يكون بمعنى النصر فيكون تهكماً بهم، وأن يكون بمعنى القضاء‏.‏

ولما كان سبب ما أحله بالكفار- من الإعراض عن إجابتهم فيما قصدوا من دعائهم ومن خذلانهم في هذه الوقعة وإيجاب مثل ذلك لهم أبداً- هو عصيانهم الرسول وتوليهم عن قبول ما يسمعونه منه من الروح؛ حذر المؤمنين من مثل حالهم بالتمادي في التنازع في الغنيمة أو غيرها فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ادعوا ذلك ‏{‏أطيعوا الله‏}‏ أي الذي له جميع العز والعظمة ‏{‏ورسوله‏}‏ تصديقاً لدعواكم الإيمان‏.‏

ولما كانت طاعة الرسول هي طاعة الله لأنه إنما يدعوه إليه وإنما خلقه القرآن، وحد الضمير فقال‏:‏ ‏{‏ولا تولوا عنه‏}‏ أي عن الرسول في حال من الأحوال، في أمر من الأوامر من الجهاد وغيره، من الغنائم وغيرها، خف أو ثقل، سهل أو صعب ‏{‏وأنتم‏}‏ اي والحال أنكم ‏{‏تسمعون*‏}‏ أي لكم سمع لما يقوله، أو وأنتم تصدقونه، لأن ارتكاب شيء من ذلك يكذب دعوى الإيمان وينطبق علىأحوال الكفار، وإلى ذلك إشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا‏}‏ أي بآذاننا ‏{‏وهم لا يسمعون*‏}‏ أي لا يستجبون فكأنهم لم يسمعوا، لما انتفت الثمرة عد المثمر عدماً‏.‏