الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
{والذين هم بشهاداتهم قائمون}..وقد ناط الله بأداء الشهادة حقوقاً كثيرة، بل ناط بها حدود الله، التي تقام بقيام الشهادة. فلم يكن بد أن يشدد الله في القيام بالشهادة، وعدم التخلف عنها ابتداء، وعدم كتمانها عند التقاضي، ومن القيام بها أداؤها بالحق دون ميل ولا تحريف. وقد جعلها الله شهادة له هو ليربطها بطاعته، فقال: {وأقيموا الشهادة لله}.. وجعلها هنا سمة من سمات المؤمنين وهي أمانة من الأمانات، أفردها بالذكر للتعظيم من شأنها وإبراز أهميتها..وكما بدأ سمات النفوس المؤمنة بالصلاة، ختمها كذلك بالصلاة:{والذين هم على صلاتهم يحافظون}..وهي صفة غير صفة الدوام التي ذكرت في صدر هذه الصفات.تتحقق بالمحافظة على الصلاة في مواعيدها، وفي فرائضها، وفي سننها، وفي هيئتها، وفي الروح التي تؤدى بها. فلا يضيعونها إهمالاً وكسلا. ولا يضيعونها بعدم إقامتها على وجهها.. وذكر الصلاة في المطلع والختام يوحي بالاحتفال والاهتمام. وبهذا تختم سمات المؤمنين..وعندئذ يقرر مصير هذا الفريق من الناس بعد ما قرر من قبل مصير الفريق الآخر:{أولئك في جنات مكرمون}..ويجمع هذا النص القصير بين لون من النعيم الحسي ولون من النعيم الروحي. فهم في جنات. وهم يلقون الكرامة في هذه الجنات. فتجتمع لهم اللذة بالنعيم مع التكريم، جزاء على هذا الخلق الكريم، الذي يتميز به المؤمنون.ثم يعرض السياق مشهداً من مشاهد الدعوة في مكة، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن. ثم يتفرقون حواليه جماعات. ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير ما رغبة في الاهتداء بما يسمعون:{فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين}..المهطع هو الذي يسرع الخطى ماداً عنقه كالمقود. وعزين جمع عزة كفئة وزناً ومعنى.. وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة. وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها. وتعجب منهم. وتساؤل عن هذا الحال منهم! وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا، ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون!ما لهم؟ {أيطمع كل امرئ منهم أن يُدخل جنة نعيم}..وهم على هذه الحال التي لا تؤدي إلى جنة نعيم، إنما تؤدي إلى لظى مأوى المجرمين!ألعلهم يحسبون أنفسهم شيئاً عظيماً عند الله؛ فهم يكفرون ويؤذون الرسول، ويسمعون القرآن ويتناجون بالكيد. ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله لأنهم في ميزان الله شيء عظيم؟!.{كلا} في ردع وفي تحقير.. {إنا خلقناهم مما يعلمون}!وهم يعلمون مم خلقوا! من ذلك الماء المهين الذي يعرفون! والتعبير القرآني المبدع يلمسهم هذه اللمسة الخفية العميقة في الوقت ذاته؛ فيمسح بها كبرياءهم مسحاً، وينكس به خيلاءهم تنكيساً، دون لفظة واحدة نابية، أو تعبير واحد جارح. بينما هذه الإشارة العابرة تصور الهوان والزهادة والرخص أكمل تصوير! فكيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع؟ وهم مخلوقون مما يعلمون! وهم أهون على الله من أن تكون لهم دالة عليه، وخرق لسنته في الجزاء العادل باللظى وبالنعيم.واستطراداً في تهوين أمرهم، وتصغير شأنهم، وتنكيس كبريائهم، ويقرر أن الله قادر على أن يخلق خيراً منهم، وأنهم لا يعجزونه فيذهبون دون ما يستحقون من جزاء أليم:{فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين}.
|