الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
وإن خلق الإنسان بهذا الاستعداد المزدوج، ونفي العبث عن فعل الله سبحانه، ليقتضيان أن يكون لهذا الإنسان مصير معين، ينتهي إليه بعد انتهاء رحلته الأرضية. وهذا هو صميم قضية الآخرة. ومن ثم يجيء بعد توجيه النظر إلى الحكمة والقصد في خلق السماوات والأرض. يجيء قوله تعالى: {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم}.. يجيء هذا القول طبيعياً ومرتبطاً بما قبله كل الارتباط. فالحكمة تقتضي أن يكون هناك يوم يفصل فيه بين الخلائق، ويحكم فيه بين الهدى والضلال، ويكرم فيه الخير ويهان فيه الشر، ويتجرد الناس من كل سند لهم في الأرض، ومن كل قربى وآصرة، ويعودون إلى خالقهم فرادى كما خلقهم، يتلقون جزاء ما عملت أيديهم، لا ينصرهم أحد، ولا يرحمهم أحد، إلا من ينال رحمة ربه العزيز القادر الرحيم العطوف. الذي خرجوا من يده سبحانه ليعملوا؛ وعادوا إلى يده سبحانه ليتسلموا منه الجزاء. وما بين خروجهم ورجوعهم إنما هو فرصة للعمل ومجال للابتداء. هكذا تقتضي الحكمة الظاهرة في تصميم هذا الكون، وفي خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق، وفي التقدير الواضح والقصد الناطق في كل شيء في هذا الوجود.. وبعد تقرير هذا المبدأ يعرض عليهم مشهداً من مشاهد يوم الفصل؛ وما ينتهي إليه العصاة والطائعون من عذاب ومن نعيم. مشهداً عنيفاً يتناسق مع ظلال السورة وجوها العنيف: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم}. .سورة الجاثية: .تفسير الآيات (1- 23): هذه السورة المكية تصور جانباً من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها، واتباعهم للهوى اتباعاً كاملاً في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان. كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى، المغلقة دون الهدى؛ وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة، ويذكرهم عذابه، ويصور لهم ثوابه، ويقرر لهم سننه، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود. ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة، نرى فريقاً من الناس مصرا على الضلالة، مكابراً في الحق، شديد العناد، سيئ الأدب في حق الله وحق كلامه، ترسمه هذه الآيات، وتواجهه بما يستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب الله المهين الأليم العظيم: {ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما تخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم}.. ونرى جماعة من الناس، ربما كانوا من أهل الكتاب سيئي التصور والتقدير؛ لا يقيمون وزناً لحقيقة الإيمان الخالصة، لا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات وبين المؤمنين الذي يعملون الصالحات. والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقاً أصيلاً في ميزان الله بين الفريقين، ويقرر سوء حكمهم وسوء تصورهم للأمور؛ وقيام الأمر في ميزان الله على العدل الأصيل في صلب الوجود كله منذ بدء الخلق والتكوين: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون}.. ونرى فريقاً من الناس لا يعرف حكماً يرجع إليه إلا هواه، فهو إلهه الذي يتعبده، ويطيع كل ما يراه. نرى هذا الفريق من الناس مصوراً تصويراً فذاً في هذه الآية؛ وهو يعجب من أمره ويشهر بغفلته وعماه: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون}.. ونرى هذا الفريق من الناس ينكر أمر الآخرة، ويشك كل الشك في قضية البعث والحساب، ويتعنت في الإنكار وفي طلب البرهان بما لا سبيل إليه في هذه الأرض. والقرآن يوجه هذا الفريق إلى الدلائل القائمة الحاضرة على صدق هذه القضية، وهم عنها معرضون: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ويجوز أن يكون هؤلاء جميعاً فريقاً واحداً من الناس يصدر منه هذا وذاك، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك. كما يجوز أن يكونوا فرقاً متعددة ممن واجهوا الدعوة في مكة. بما في ذلك بعض أهل الكتاب، وقليل منهم كان في مكة. ويجوز أن تكون هذه إشارة عن هذا الفريق ليعتبر بها أهل مكة دون أن يقتضي هذا وجوده في مكة بالذات في ذلك الحين. وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث.. كذلك واجههم بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، وحذرهم حساب يوم القيامة، وبصرهم بما جرى لمن قبلهم ممن انحرفوا عن دين الله القويم. واجههم بآيات الله في هذا الأسلوب البسيط المؤثر العميق: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}.. وواجههم بها مرة أخرى في صورة نعم من أنعم الله عليهم يغفلون عن تذكرها وتدبرها: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.. كذلك واجههم بحالهم يوم القيامة الذي ينكرونه أو يمارون فيه: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون} كذلك لم يدع أي لبس أو شك في عدالة الجزاء وفردية التبعة؛ فبين أن هذا الأصل عميق في تكوين الوجود كله، وعليه يقوم هذا الوجود. ذلك حين يقول: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون}. وحين يرد على من يحسبون وهم يجترحون السيئات أنهم عند الله كالمؤمنين الذين يعملون الصالحات، فيقول: {وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون}.. والسورة كلها وحدة في علاج موضوعها؛ ولكننا قسمناها إلى درسين اثنين لتيسير عرضها وتفصيلها. وهي تبدأ بالأحرف المقطعة: {حا ميم}. والإشارة إلى القرآن الكريم: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}.. وتختم بحمد الله وربوبيته المطلقة، وتمجيده وتعظيمه، إزاء أولئك الذين يغفلون عن آياته ويستهزئون بها ويستكبرون عنها: {فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}.. ويسير سياق السورة في عرض موضوعها في يسر وهوادة وإيضاح هادئ، وبيان دقيق عميق. على غير ما يسير سياق سورة الدخان قبلها في إيقاع عنيف كأنه مطارق تقرع القلوب. والله خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق. وتارة باللمس الناعم الرفيق، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق. حسب تنوعها هي واختلافها. وحسب تنوع حالاتها ومواقفها في ذاتها. وهو اللطيف الخبير. وهو العزيز الحكيم.. والآن نأخذ في التفصيل: {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون}.. يذكر الحرفين: {حا ميم} ويذكر بعدهما تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. وفيهما دلالة على مصدر الكتاب، كما أسلفنا الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. من ناحية أن هذا الكتاب المعجز مصوغ من مثل هذه الأحرف، وهم لا يقدرون على شيء منه، فهذه دلالة قائمة على أن تنزيل هذا الكتاب من الله {العزيز} القادر الذي لا يعجزه شيء. {الحكيم} الذي يخلق كل شيء بقدر، ويمضي كل أمر بحكمة. وهو تعقيب يناسب جو السورة وما تتعرض له من ألوان النفوس. وقبل أن يعرض للقوم وموقفهم من هذا الكتاب؛ يشير إلى آيات الله المبثوثة في الكون من حولهم. وقد كانت وحدها كفيلة بتوجيههم إلى الإيمان. ويوجه قلوبهم إليها لعلها توقظها وتفتح مغاليقها، وتستجيش فيها الحساسية بالله منزل هذا الكتاب، وخالق هذا الكون العظيم: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين}.. والآيات المبثوثة في السماوات والأرض لا تقتصر على شيء دون شيء، ولا حال دون حال. فحيثما مد الإنسان ببصره وجد آيات الله تطالعه في هذا الكون العجيب.. وأي شيء ليس آية؟ هذه السماوات بأجرامها الضخمة، وأفلاكها الهائلة، وهي على ضخامتها مبعثرة كالنثار الصغير في الفضاء.. الفضاء الهائل الرهيب.. الجميل..! ودورة هذه الأجرام في أفلاكها في دقة واطراد وتناسق. تناسق جميل لا تشبع العين من النظر إليه، ولا يشبع القلب من تمليه! وهذه الأرض الواسعة العريضة بالقياس إلى البشر، وهي ذرة، أو هباءة بالقياس إلى النجوم الكبيرة. ثم بالقياس إلى هذا الفضاء الذي تتوه فيه.. تتوه لولا القدرة التي تمسك بها وتنتظمها في العقد الكوني الذي لا يتوه شيء فيه! وما أودعه الله طبيعة هذه الأرض في موقعها الكوني الخاص من صلاحية لنشوء الحياة فوقها، ومن خصائص دقيقة مقصودة متراكبة متجمعة متناسقة. لو اختلت خصيصة واحدة منها أو تخلفت ما أمكن أن تقوم فيها الحياة أو تدوم! وكل شيء في هذه الأرض وكل حي.. آية.. وكل جزء من كل شيء ومن كل حي في هذه الأرض.. آية.. والصغير الدقيق كالضخم الكبير.. آية.. هذه الورقة الصغيرة في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة.. آية.. آية في شكلها وحجمها، آية في لونها وملمسها. آية في وظيفتها وتركيبها. وهذه الشعرة في جسم الحيوان أو الإنسان.. آية.. آية في خصائصها ولونها وحجمها. وهذه الريشة في جناح الطائر.. آية.. آية في مادتها وتنسيقها ووظيفتها. وحيثنما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات وتراكبت، وأعلنت عن نفسها لقلبه وسمعه وبصره. ولكن، من الذي يرى هذه الآيات ويستشعرها؟ لمن تعلن هذه الآيات عن نفسها؟ لمن؟ {للمؤمنين}.. فالإيمان هو الذي يفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء والأنداد؛ والإحساس بما فيها من آيات الله المبثوثة في الأرض والسماء. والإيمان هو الذي تخالط القلوب بشاشته فتحيا وترق وتلطف؛ وتلتقط ما يذخر به الكون من إيحاءات خفية وظاهرة، تشير كلها إلى اليد الصانعة، وطابعها المميز في كل ما تصوغه وتبدعه من أشياء ومن أحياء. وكل ما خرج من هذه اليد فهو خارق معجز لا يقدر على إبداعه أحد من خلق الله. ثم ينتقل بهم السياق من آفاق الكون إلى ذوات أنفسهم؛ وهي أقرب إليهم، وهم بها أكثر حساسية:
|