الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير} قوله تعالى{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة{ تقدم. والحمد لله تعالى. {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله{ جاء في الحديث وقال آخر: وقال آخر: فاعمل ليوم تكون فيه إذا بكوا في يوم موتك ضاحكا مسرورا وقال آخر: وقدم الخير فكل امرئ على الذي قدمه يقدم وأحسن من هذا كله قول أبي العتاهية: وإذا تركت لمفسد لم يبقه وأخو الصلاح قليله يتزيد وإن استطعت فكن لنفسك وارثا إن المورث نفسه لمسدد {إن الله بما تعملون بصير{ تقدم. الآية رقم (111 : 112) {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قوله تعالى{وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم{ المعنى: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا. وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا. وأجاز الفراء أن يكون {هودا{ بمعنى يهوديا، حذف منه الزائد، وأن يكون جمع هائد. وقال الأخفش سعيد{إلا من كان{ جعل {كان{ واحدا على لفظ {من{، ثم قال هودا فجمع، لأن معنى {من{ جمع. ويجوز {تلك أمانيهم{ وتقدم الكلام في هذا، والحمد لله. قوله تعالى{قل هاتوا برهانكم{ أصل {هاتوا{ هاتيوا، حذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، يقال في الواحد المذكر: هات، مثل رام، وفي المؤنث: هاتي، مثل رامي. والبرهان: الدليل الذي يوقع اليقين، وجمعه براهين، مثل قربان وقرابين، وسلطان وسلاطين. قال الطبري: طلب الدليل هنا يقضي إثبات النظر ويرد على من ينفيه. {إن كنتم صادقين{ يعني في إيمانكم أو في قولكم تدخلون الجنة، أي بينوا ما قلتم ببرهان، ثم قال تعالى{بلى{ ردا عليهم وتكذيبا لهم، أي ليس كما تقولون. وقيل: إن {بلى{ محمولة على المعنى، كأنه قيل أما يدخل الجنة أحد؟ فقيل{بلى من أسلم وجهه لله{ ومعنى {أسلم{ استسلم وخضع. وقيل: أخلص عمله. وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان، ولأنه موضع الحواس، وفيه يظهر العز والذل. والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء. ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد. {وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون{ جملة في موضع الحال، وعاد الضمير في {وجهه{ و{له{ على لفظ {من{ وكذلك {أجره{ وعاد في {عليهم{ على المعنى، وكذلك في {يحزنون{ وقد تقدم. الآية رقم (113) {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} قوله تعالى{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} معناه ادعى كل فريق منهم أن صاحبه ليس على شيء، وأنه أحق برحمة الله منه. {وهم يتلون الكتاب{ يعني التوراة والإنجيل، والجملة في موضع الحال. {كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون{ والمراد {بالذين لا يعلمون{ في قول الجمهور: كفار العرب، لأنهم لا كتاب لهم. وقال عطاء: المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى. الربيع بن أنس: المعنى كذلك قالت اليهود قبل النصارى. ابن عباس: قدم أهل نجران على النبي صلى الله عليه وسلم فأتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت كل فرقة منهم للأخرى لستم على شيء، فنزلت الآية. الآية رقم (114) {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} قوله تعالى{ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها{ {ومن{ رفع بالابتداء، و{أظلم{ خبره، والمعنى لا أحد أظلم. و{أن{ في موضع نصب على البدل من {مساجد{، ويجوز أن يكون التقدير: كراهية أن يذكر، ثم حذف. ويجوز أن يكون التقدير: من أن يذكر فيها، وحرف الخفض يحذف مع {أن{ لطول الكلام. وأراد بالمساجد هنا بيت المقدس ومحاريبه. وقيل الكعبة، وجمعت لأنها قبلة المساجد أو للتعظيم. وقيل: المراد سائر المساجد، والواحد مسجد بكسر الجيم ومن العرب من يقول: مسجد، بفتحها قال الفراء كل ما كان على فعل يفعل، مثل دخل يدخل، فالمفعل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا، ولا يقع فيه الفرق، مثل دخل يدخل مدخلا، وهذا مدخله، إلا أحرفا من الأسماء ألزموها كسر العين، من ذلك: المسجد والمطلع والمغرب والمشرق والمسقط والمفرق والمجزر والمسكن والمرفق من رفق يرفق والمنبت والمنسك من نسك ينسك فجعلوا الكسر علامة للاسم، وربما فتحه بعض العرب في الاسم{. والمسجد بالفتح جبهة الرجل حيث يصيبه ندب السجود. والآراب السبعة مساجد، قاله الجوهري. واختلف الناس في المراد بهذه الآية وفيمن نزلت، فذكر المفسرون أنها نزلت في بخت نصر، لأنه كان أخرب بيت المقدس. وقال ابن عباس وغيره: نزلت في النصارى، والمعنى كيف تدعون أيها النصارى أنكم من أهل الجنة! وقد خربتم بيت المقدس ومنعتم المصلين من الصلاة فيه. ومعنى الآية على هذا: التعجب من فعل النصارى ببيت المقدس مع تعظيمهم له، وإنما فعلوا ما فعلوا عداوة لليهود. روى سعيد عن قتادة قال: أولئك أعداء الله النصارى. حملهم إبغاض اليهود على أن أعانوا بخت نصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وروي أن هذا التخريب بقي إلى زمن عمر رضي الله عنه. وقيل: نزلت في المشركين إذ منعوا المصلين والنبي صلى الله عليه وسلم، وصدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية. وقيل: المراد من منع من كل مسجد إلى يوم القيامة، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها ببعض المساجد وبعض الأشخاص ضعيف، والله تعالى اعلم. خراب المساجد قد يكون حقيقيا كتخريب بخت نصر والنصارى بيت المقدس على ما ذكر أنهم غزوا بني إسرائيل مع بعض ملوكهم - قيل: اسمه نطوس بن اسبيسانوس الرومي فيما ذكر الغزنوي - فقتلوا وسبوا، وحرقوا التوراة، وقذفوا في بيت المقدس العذرة وخربوه. ويكون مجازا كمنع المشركين المسلمين حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها. قال علماؤنا: ولهذا قلنا لا يجوز منع المرأة من الحج إذا كانت ضرورة، سواء كان لها محرم أو لم يكن، ولا تمنع أيضا من الصلاة في المساجد ما لم يخف عليها الفتنة، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل موضع يمكن أن يعبد الله فيه ويسجد له يسمى مسجدا، قال صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى{أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} {أولئك{ مبتدأ وما بعده خبره. {خائفين{ حال، يعني إذا استولى عليها المسلمون وحصلت تحت سلطانهم فلا يتمكن الكافر حينئذ من دخولها. فإن دخلوها، فعلى خوف من إخراج المسلمين لهم، وتأديبهم على دخولها. وفي هذا دليل على أن الكافر ليس له دخول المسجد بحال، على ما يأتي في {براءة{ إن شاء الله تعالى. ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد بناء عمر بيت المقدس في الإسلام لا يدخله نصراني إلا أوجع ضربا بعد أن كان متعبدهم. ومن جعلها في قريش قال: كذلك نودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى{لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم{ قيل القتل للحربي، والجزية للذمي، عن قتادة. السدي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهدي، وفتح عمورية ورومية وقسطنطينية، وغير ذلك من مدنهم، على ما ذكرناه في كتاب التذكرة. ومن جعلها في قريش جعل الخزي عليهم في الفتح، والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافرا. الآية رقم (115) {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم} قوله تعالى{ولله المشرق والمغرب{ {المشرق{ موضع الشروق. {والمغرب{ موضع الغروب، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات بالإيجاد والاختراع، كما تقدم. وخصهما بالذكر والإضافة إليه تشريفا، نحو بيت الله، وناقة الله، ولأن سبب الآية اقتضى ذلك، على ما يأتي. قوله تعالى{فأينما تولوا فثم وجه الله{ {فأينما تولوا{ شرط، ولذلك حذفت النون، و{أين{ العاملة، و{ما{ زائدة، والجواب {فثم وجه الله{. وقرأ الحسن {تولوا{ بفتح التاء واللام، والأصل تتولوا. و{ثم{ في موضع نصب على الظرف، ومعناها البعد، إلا أنها مبنية على الفتح غير معربة لأنها مبهمة، تكون بمنزلة هناك للبعد، فإن أردت القرب قلت هنا. اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه {فأينما تولوا{ على خمسة أقوال: فقال عبدالله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة، أخرجه الترمذي عنه عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت{فأينما تولوا فثم وجه الله{. قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يضعف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا، قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة، وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق. قلت: وهو قول أبي حنيفة ومالك، غير أن مالكا قال: تستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه، لأنه قد أدى فرضه على ما أمر، والكمال يستدرك في الوقت، استدلالا بالسنة فيمن صلى وحده ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة أنه يعيد معهم، ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرق أو غرب جدا مجتهدا، وأما من تيامن أو تياسر قليلا مجتهدا فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقال المغيرة والشافعي: لا يجزيه، لأن القبلة شرط من شروط الصلاة. وما قاله مالك أصح، لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المسايفة، وتبيحها أيضا الرخصة حالة السفر. وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يتنفل حيثما توجهت به راحلته. أخرجه مسلم عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت {فأينما تولوا فثم وجه الله{. ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله. ولا يجوز لأحد أن يدع القبلة عامدا بوجهة من الوجوه إلا في شدة الخوف، على ما يأتي. واختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله، فمرة قال: لا يصلي على ظهر البعير فريضة وإن اشتد مرضه. قال سحنون: فإن فعل أعاد، حكاه الباجي. ومرة قال: إن كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماء فليصل على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد صحيح أن يصلي فريضة إلا بالأرض إلا في الخوف الشديد خاصة، على ما يأتي بيانه. واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة، فقال مالك وأصحابه والثوري: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة، قالوا: لأن الأسفار التي حكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوع فيها كانت مما تقصر فيه الصلاة. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حي والليث بن سعد وداود بن علي: يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا، لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر، فكل سفر جائز ذلك فيه، إلا أن يخص شيء من الأسفار بما يجب التسليم له. وقال أبو يوسف: يصلي في المصر على الدابة بالإيماء، لحديث يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء. وقال الطبري: يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان أو مسافرا أن يتنفل على دابته وراحلته وعلى رجليه [بالإيماء]. وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحضر والسفر. وقال الأثرم: قيل لأحمد بن حنبل الصلاة على الدابة في الحضر، فقال: أما في السفر فقد سمعت، وما سمعت في الحضر. قال ابن القاسم: من تنفل في محمله تنفل جالسا، قيامه تربع، يركع واضعا يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه. وقال قتادة: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة، فقالوا: كيف نصلي على رجل مات؟ وهو يصلي لغير قبلتنا، وكان النجاشي ملك الحبشة - واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية - يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت الآية، ونزل فيه والأصل عندهم في ذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي. وقال علماؤنا رحمة الله عليهم: النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مخصوص لثلاثة أوجه: أحدها: أن الأرض دحيت له جنوبا وشمالا حتى رأى نعش النجاشي، كما دحيت له شمالا وجنوبا حتى رأى المسجد الأقصى. وقال المخالف: وأي فائدة في رؤيته، وإنما الفائدة في لحوق بركته. الثاني: أن النجاشي لم يكن له هناك ولي من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه. قال المخالف: هذا محال عادة ملك على دين لا يكون له اتباع، والتأويل بالمحال محال. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه واستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الاهتمام به حيا وميتا. قال المخالف: بركة الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم ومن سواه تلحق الميت باتفاق. قال ابن العربي: والذي عندي في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أنه علم أن النجاشي ومن آمن معه ليس عندهم من سنة الصلاة على الميت أثر، فعلم أنهم سيدفنونه بغير صلاة فبادر إلى الصلاة عليه. قلت: والتأويل الأول أحسن، لأنه إذا رآه فما صلى على غائب وإنما صلى على مرئي حاضر، والغائب ما لا يرى. والله تعالى اعلم. القول الرابع: قال ابن زيد: كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وقالوا: ما اهتدى إلا بنا، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فنزلت{ولله المشرق والمغرب{ فوجه النظم على هذا القول: أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبد عباده بما شاء، فإن شاء أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس، وإن شاء أمرهم بالتوجه إلى الكعبة، فعل لا حجة عليه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. القول الخامس: أن الآية منسوخة بقوله وقول سادس: روي عن مجاهد والضحاك أنها محكمة، المعنى: أينما كنتم من شرق وغرب فثم وجه الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة. وعن مجاهد أيضا وابن جبير لما نزلت{ادعوني استجب لكم{ قالوا: إلى أين؟ فنزلت{فأينما تولوا فثم وجه الله{. وعن ابن عمر والنخعي: أينما تولوا في أسفاركم ومنصرفاتكم فثم وجه الله. وقيل: هي متصلة بقوله تعالى{ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه}البقرة: 114] الآية، فالمعنى أن بلاد لله أيها المؤمنون تسعكم، فلا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله أن تولوا وجوهكم نحو قبلة الله أينما كنتم من أرضه. وقيل: نزلت حين صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية فاغتم المسلمون لذلك. فهذه عشرة أقوال. ومن جعلها منسوخة فلا اعتراض عليه من جهة كونها خبرا، لأنها محتملة لمعنى الأمر. يحتمل أن يكون معنى {فأينما تولوا فثم وجه الله{: ولوا وجوهكم نحو وجه الله، وهذه الآية هي التي تلا سعيد بن جبير رحمه الله لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض. اختلف الناس في تأويل الوجه المضاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة، فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدرا. وقال ابن فورك: قد تذكر صفة الشيء والمراد بها الموصوف توسعا، كما يقول القائل: رأيت علم فلان اليوم، ونظرت إلى علمه، وإنما يريد بذلك رأيت العالم ونظرت إلى العالم، كذلك إذا ذكر الوجه هنا، والمراد من له الوجه، أي الوجود. وعلى هذا يتأول قوله تعالى وقيل: المعنى فثم رضا الله وثوابه، كما قال قوله تعالى{إن الله واسع عليم{ أي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم. وقيل{واسع{ بمعنى أنه يسع علمه كل شيء، كما قال الآية رقم (116) {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون} قوله تعالى{وقالوا اتخذ الله ولدا{ هذا إخبار عن النصارى في قولهم: المسيح ابن الله. وقيل عن اليهود في قولهم: عزير ابن الله. وقيل عن كفرة العرب في قولهم: الملائكة بنات الله. وقد جاء مثل هذه الأخبار عن الجهلة الكفار في [ مريم ] و[الأنبياء ] قوله تعالى{سبحانه بل له{ الآية. خرج البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سبحان{ منصوب على المصدر، ومعناه التبرئة والتنزيه والمحاشاة، من قولهم: اتخذ الله ولدا، بل هو الله تعالى واحد في ذاته، أحد في صفاته، لم يلد فيحتاج إلى صاحبة، لا يكون الولد إلا من جنس الوالد، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولدا من مخلوقاته وهو لا يشبهه شيء، وقد قال قوله تعالى{كل له قانتون{ ابتداء وخبر، والتقدير كلهم، ثم حذف الهاء والميم. {قانتون{ أي مطيعون وخاضعون، فالمخلوقات كلها تقنت لله، أي تخضع وتطبع. والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم. فالقنوت الطاعة، والقنوت السكوت، ومنه قول زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه إلى جنبه حتى نزلت وقال السدي وغيره في قوله{كل له قانتون{ أي يوم القيامة. الحسن: كل قائم بالشهادة أنه عبده. والقنوت في اللغة أصله القيام، ومنه الحديث: (أفضل الصلاة طول القنوت) قاله الزجاج. فالخلق قانتون، أي قائمون بالعبودية إما إقرارا وإما أن يكونوا على خلاف ذلك، فأثر الصنعة بين عليهم. وقيل: أصله الطاعة، ومنه قوله تعالى الآية رقم (117) {بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} قوله تعالى{بديع السماوات والأرض{ فعيل للمبالغة، وارتفع على خبر ابتداء محذوف، واسم الفاعل مبدع، كبصير من مبصر. أبدعت الشيء لا عن مثال، فالله عز وجل بديع السموات والأرض، أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال. وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع، ومنه أصحاب البدع. وسميت البدعة بدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام، وفي البخاري كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يجوز أن يكون لها أصل في الشرع أولا، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وخص رسول عليه، فهي في حيز المدح. وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه، لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس، عليها، فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها، وجمع الناس لها، وندبهم إليها، بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة. وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسول فهي في حيز الذم والإنكار، قال معناه الخطابي وغيره. قلت: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: قوله تعالى{وإذا قضى{ أي إذا أراد إحكامه وإتقانه - كما سبق في علمه - قال له كن. قال ابن عرفة: قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، ومنه سمي القاضي، لأنه إذا حكم فقد فرغ مما ببن الخصمين. وقال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، قال أبو ذؤيب: وقال الشماخ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال علماؤنا{قضى{ لفظ مشترك، يكون بمعنى الخلق، قال الله تعالى قوله تعالى{أمرا{ الأمر واحد الأمور، وليس بمصدر أمر يأمر. قال علماؤنا: الأول: الدين، قال الله تعالى الثالث: العذاب، ومنه قوله تعالى الرابع: عيسى عليه السلام، قال الله تعالى الخامس: القتل ببدر، قال الله تعالى السادس: فتح مكة، قال الله تعالى السابع: قتل قريظة وجلاء بني الضير، قال الله تعالى الثامن: القيامة، قال الله تعالى التاسع: القضاء، قال الله تعالى العاشر: الوحي، قال الله تعالى الحادي عشر: أمر الخلق، قال الله تعالى الثاني عشر: النصر، قال الله تعالى الثالث عشر: الذنب، قال الله تعالى الرابع عشر: الشأن والفعل، قال الله تعالى قوله تعالى{فإنما يقول له كن{ قيل: الكاف من كينونه، والنون من نوره، وهي المراد بقوله عليه السلام: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق). ويروى: (بكلمة الله التامة) على الإفراد. فالجمع لما كانت هذه الكلمة في الأمور كلها، فإذا قال لكل أمر كن، ولكل شيء كن، فهن كلمات. يدل على هذا ما قوله تعالى{فيكون{ قرئ برفع النون على الاستئناف. قال سيبويه. فهو يكون، أو فإنه يكون. وقال غيره: هو معطوف على {يقول{، فعلى الأول كائنا بعد الأمر، وإن كان معدوما فإنه بمنزلة الموجود إذا هو عنده معلوم، على ما يأتي بيانه. وعلى الثاني كائنا مع الأمر، واختاره الطبري وقال: أمره للشيء بـ {كن{ لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلا وهو موجود بالأمر، ولا موجودا إلا وهو مأمور بالوجود، على ما يأتي بيانه. قال: ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه، كما قال وتلخيص المعتقد في هذه الآية: أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، قادرا مع تأخر المقدورات، عالما مع تأخر المعلومات. فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن. وكل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم فهو قديم ولم يزل. والمعنى الذي تقتضيه عبارة {كن{: هو قديم قائم بالذات. وقال أبو الحسن الماوردي فإن قيل: ففي أي حال يقول له كن فيكون؟ أفي حال عدمه، أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه استحال أن يأمر إلا مأمورا، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لأنه موجود حادث؟ قيل عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة: أحدها: أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا واردا في إيجاد المعدومات. الثاني: أن الله عز وجل عالم هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني. ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم. الثالث: أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان، ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا، كقول أبي النجم: ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن، وكقول عمرو بن حممة الدوسي: وكما قال الآخر: الآية رقم (118) {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون} قوله تعالى{وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية{ قال ابن عباس: هم اليهود. مجاهد: النصارى، ورجحه الطبري، لأنهم المذكورون في الآية أولا. وقال الربيع والسدي وقتادة: مشركو العرب. و{لولا{ بمعنى {هلا{ تحضيض، كما قال الأشهب بن رميلة: وليست هذه {لولا{ التي تعطي منع الشيء لوجود غيره، والفرق بينهما عند علماء اللسان أن {لولا{ بمعنى التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهرا أو مقدرا، والتي للامتناع يليها الابتداء، وجرت العادة بحذف الخبر. ومعنى الكلام هلا يكلمنا الله بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فنعلم أنه نبي فنؤمن به، أو يأتينا بآية تكون علامة على نبوته. والآية: الدلالة والعلامة، وقد تقدم. {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم{ {الذين من قبلهم{ اليهود والنصارى في قول من جعل {الذين لا يعلمون كفار العرب، أو الأمم السالفة في قول من جعل {الذين لا يعلمون{ اليهود والنصارى، أو اليهود في قول من جعل {الذين لا يعلمون{ النصارى. {تشابهت قلوبهم{ قيل: في التعنيت والاقتراح وترك الإيمان. وقال الفراء. {تشابهت قلوبهم{ في اتفاقهم على الكفر. {قد بينا الآيات لقوم يوقنون{ تقدم. الآية رقم (119) {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} قوله تعالى{إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا{ {بشيرا{ نصب على الحال، {ونذيرا{ عطف عليه، قد تقدم معناهما. {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم{ قال مقاتل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحدهما: أنه نهى عن السؤال عمن عصى وكفر من الأحياء، لأنه قد يتغير حاله فينتقل عن الكفر إلى الإيمان، وعن المعصية إلى الطاعة. والثاني: وهو الأظهر، أنه نهى عن السؤال عمن مات على كفره ومعصيته، تعظيما لحاله وتغليظا لشأنه، وهذا كما يقال: لا تسأل عن فلان! أي قد بلغ فوق ما تحسب. وقرأ ابن مسعود {ولن تسأل}. وقرأ أبي {وما تسأل{، ومعناهما موافق لقراءة الجمهور، نفى أن يكون مسؤولا عنهم. وقيل: إنما سأل أي أبويه أحدث موتا، فنزلت. وقد ذكرنا في كتاب {التذكرة{ أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به، وذكرنا قول عليه السلام للرجل: (إن أبي وأباك في النار) وبينا ذلك، والحمد لله. الآية رقم (120) {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} قوله تعالى{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} المعنى: ليس غرضهم يا محمد بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا، بل لو أتيتهم بكل ما يسألون لم يرضوا عنك، وإنما يرضيهم ترك ما أنت عليه من الإسلام واتباعهم. يقال: رضي يرضى رِضا ورُضا ورُضوانا ورِضوانا ومَرضاة، وهو من ذوات الواو، ويقال في التثنية: رِضوان، وحكى الكسائي: رِضَيان. وحكي رضاء ممدود، وكأنه مصدر راضى يراضي مُراضاة ورِضاء. {تتبع{ منصوب بأن ولكنها لا تظهر مع حتى، قاله الخليل. وذلك أن حتى خافضة للاسم، كقوله الثانية: تمسك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة، لقوله تعالى{ملتهم{ فوحد الملة، وبقوله تعالى قوله تعالى{قل إن هدى الله هو الهدى{ المعنى ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء. قوله تعالى{ولئن اتبعت أهواءهم{ الأهواء جمع هوى، كما تقول: جمل وأجمال، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على أفراد الملة لقال هواهم. وفي هذا الخطاب وجهان: أحدهما: أنه للرسول، لتوجه الخطاب إليه. والثاني: أنه للرسول والمراد به أمته، وعلى الأول يكون فيه تأديب لأمته، إذ منزلتهم دون منزلته. وسبب الآية أنهم كانوا يسألون المسالمة والهدية، ويعدون النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام، فأعلمه الله أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، وأمره بجهادهم. قوله تعالى{بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير{ مثل أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر، فقيل: بم كفرته؟ فقال: بآيات من كتاب الله تعالى الآية رقم (121 : 123) {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون، يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين، واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} قوله تعالى{الذين آتيناهم الكتاب{ قال قتادة: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب على هذا التأويل القرآن. وقال ابن زيد: هم من أسلم من بني إسرائيل. والكتاب على هذا التأويل: التوراة، والآية تعم. و{الذين{ رفع بالابتداء، {آتيناهم{ صلته، {يتلونه{ خبر الابتداء، وإن شئت كان الخبر {أولئك يؤمنون به}. واختلف في معنى {يتلونه حق تلاوته{ فقيل: يتبعونه حق اتباعه، باتباع الأمر والنهي، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بما تضمنه، قاله عكرمة. قال عكرمة: أما سمعت قول الله تعالى وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى{يتلونه حق تلاوته{ قال: (يتبعونه حق اتباعه). في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكر الخطيب أبو بكر أحمد، إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها. وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ. وقال الحسن: هم الذين يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وقيل: يقرؤونه حق قراءته. قلت: وهذا فيه بعد، إلا أن يكون المعنى يرتلون ألفاظه، ويفهمون معانيه، فإن بفهم المعاني يكون الاتباع لمن وفق. الآية رقم (124) {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} فيه عشرون مسألة: الأولى: لما جرى ذكر الكعبة والقبلة اتصل ذلك بذكر إبراهيم عليه السلام، وأنه الذي بنى البيت، فكان من حق اليهود - وهم من نسل إبراهيم - ألا يرغبوا عن دينه. والابتلاء: الامتحان والاختبار، ومعناه أمر وتعبد. وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية: أب رحيم. قال السهيلي: وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب راحم، لرحمته بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين يموتون صغارا إلى يوم القيامة. قلت: ومما يدل على هذا ما خرجه البخاري من حديث الرؤيا الطويل عن سمرة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس. وقد أتينا عليه في كتاب التذكرة، والحمد لله. وإبراهيم هو ابن تاريخ بن ناخور في قول بعض المؤرخين. وفي التنزيل الثانية: قوله تعالى{بكلمات{ الكلمات جمع كلمة، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري تعالى، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما سمي عيسى كلمة، لأنه صدر عن كلمة وهي {كن{. وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز، قاله ابن العربي. الثالثة: واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال: أحدها: شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهما، عشرة منها في سورة براءة قلت: وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من أضاف الضيف، وأول من استحد، وأول من قلم الأظفار، وأول من قص الشارب، وأول من شاب، فلما رأى الشيب قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب زدني وقارا. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله. قال غيره: وأول من ثرد الثريد، وأول من ضرب بالسيف، وأول من استاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل. قلت: وهذه أحكام يجب بيانها والوقف عليها والكلام فيها، فأول ذلك {الختان{ وما جاء فيه. الرابعة: أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن. واختلف في السن التي اختتن فيها، ففي الموطأ الخامسة: واختلف العلماء في الختان، فجمهورهم على أن ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال. وقالت طائفة: ذلك فرض، لقوله تعالى قلت: أعلى ما يحتج به في هذا الباب السادسة: فإن ولد الصبي مختونا فقد كفي مؤنة الختان. قال الميموني قال لي أحمد: إن ههنا رجلا ولد له ولد مختون، فاغتم لذلك غما شديدا، فقلت له: إذا كان الله قد كفاك المؤنة فما غمك بهذا. السابعة: قال أبو الفرج الجوزي حدثت عن كعب الأحبار قال: خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مختونين: آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى والنبي صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن حبيب الهاشمي: هم أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان (نبي أصحاب الرس) ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين. قلت: اختلفت الروايات في النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أبو نعيم الحافظ في {كتاب الحلية{ بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا. وأسند أبو عمر في التمهيد حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف حدثنا محمد بن أبى السري العسقلاني حدثنا الوليد بن مسلم عن شعيب عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس: أن عبدالمطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وجعل له مأدبة وسماه {محمدا}. قال أبو عمر: هذا حديث مسند غريب. قال يحيى بن أيوب: طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري. قال أبو عمر: وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا. الثامنة: واختلفوا متى يختن الصبي، فثبت في الأخبار عن جماعة من العلماء أنهم قالوا: ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عشرة سنة. وختن ابنه إسحاق لسبعة أيام. وروي عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع، وأنكر ذلك مالك وقال ذلك من عمل اليهود. ذكره عنه ابن وهب. وقال الليث بن سعد: يختن الصبي ما بين سبع سنين إلى عشر. ونحوه روى ابن وهب عن مالك. وقال أحمد: لم أسمع في ذلك شيئا. وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس: مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا يومئذ مختون. قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك أو يقارب الاحتلام. واستحب العلماء في الرجل الكبير يسلم أن يختن، وكان عطاء يقول: لا يتم إسلامه حتى يختتن وإن بلغ ثمانين سنة. وروي عن الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يسلم ألا يختتن، ولا يرى به بأسا ولا بشهادته وذبيحته وحجه وصلاته، قال ابن عبدالبر: وعامة أهل العلم على هذا. وحديث بريدة في حج الأغلف لا يثبت. وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد وعكرمة: أن الأغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تجوز شهادته. التاسعة: قوله: (1) العاشرة: في تقليم الأظفار. وتقليم الأظفار: قصها، والقلامة ما يزال منها. وقال مالك: أحب للنساء من قص الأظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال. ذكره الحارث بن مسكين وسحنون عن ابن القاسم. وذكر الترمذي الحكيم في {نوادر الأصول{ له وأما قوله: (ادفنوا قلاماتكم) فإن جسد المؤمن ذو حرمة، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم، فيحق عليه أن يدفنه، كما أنه لو مات دفن، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته بدفنه، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة. وأما قوله: (نقوا براجمكم) فالبراجم تلك الغضون من المفاصل، وهي مجتمع الدرن (واحدها برجمة) وهو ظهر عقدة كل مفصل، فظهر العقدة يسمى برجمة، وما بين العقدتين تسمى راجبة، وجمعها رواجب، وذلك مما يلي ظهرها، وهي قصبة الأصبع، فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن لها برجمة وراجبتين، فأمر بتنقيته لئلا يدرن فتبقى فيه الجنابة، ويحول الدرن بين الماء والبشرة. وأما قوله: (نظفوا لثاتكم) فاللثة واحدة، واللثات جماعة، وهي اللحمة فوق الأسنان ودون الأسنان، وهي منابتها. والعمور: اللحمة القليلة بين السنين، واحدها عمر. فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة، ويتأذى الملكان، لأنه طريق القرآن، ومقعد الملكين عند نابيه. وروي في الخبر في قوله تعالى وأما قوله: (تسننوا) وهو السواك مأخوذ من السن، أي نظفوا السن. وقوله: (لا تدخلوا علي قخرا بخرا) فالمحفوظ عندي قحلا وقلحا وسمعت الجارود يذكر عن النضر قال: الأقلح الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها، ولا أعرف القخر. والبخر: الذي تجد له رائحة منكرة لبشرته، يقال: رجل أبخر، ورجال بخر. حدثنا الجارود قال: حدثنا جرير عن منصور عن أبي علي عن أبي جعفر بن تمام بن العباس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استاكوا، ما لكم تدخلون علي قلحا الحادية عشرة: في قص الشارب. وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار، ولا يجزه فيمثل نفسه، قاله مالك. وذكر ابن عبدالحكم عنه قال: وأرى أن يؤدب من حلق شاربه. وذكر أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب: هذه بدع، وأرى أن يوجع ضربا من فعله. وقال ابن خويز منداد قال مالك: أرى أن يوجع من حلقه ضربا. كأنه يراه ممثلا بنفسه، وكذلك بنتفه الشعر، وتقصيره عنده أولى من حلقه. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ذا لمة، وكان أصحابه من بين وافر الشعر أو مقصر، وإنما حلق وحلقوا في النسك. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص أظافره وشاربه قبل أن يخرج إلى الجمعة. وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي في هذا شيئا منصوصا، وأصحابه الذين رأيناهم: المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما، ويدل ذلك أنهما أخذا ذلك عن الشافعي رحمه الله تعالى. قال: وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير. وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة سواء. وقال أبو بكر الأثرم: رأيت أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا، وسمعته سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يحفى كما الثانية عشرة: وأما الإبط فسنته النتف، كما أن سنة العانة الحلق، فلو عكس جاز لحصول النظافة، والأول أولى، لأنه المتيسر المعتاد. الثالثة عشرة: وفرق الشعر: تفريقه في المفرق، وفي صفته صلى الله عليه وسلم: إن انفرقت عقيصته فرق، يقال: فرقت الشعر أفرقه فرقا، يقال: إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه، فإن لم ينفرق تركه وفرة واحدة. خرج النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون شعورهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس. قال القاضي عياض: سدل الشعر إرساله، والمراد به ههنا عند العلماء إرساله على الجبين، واتخاذه كالقصة، والفرق في الشعر سنة، لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي أن عمر بن عبدالعزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزون ناصية كل من لم يفرق شعره. وقد قيل: إن الفرق كان من سنة إبراهيم عليه السلام، فالله اعلم. الرابعة عشرة: وأما الشيب فنور ويكره نتفه، ففي النسائي وأبي داود من قلت: وكما يكره نتفه كذلك يكره تغييره بالسواد، فأما تغييره بغير السواد فجائز، لقوله صلى الله عليه وسلم في حق أبي قحافة - وقد جيء به ولحيته كالثغامة بياضا - : وقال الآخر: الخامسة عشرة: وأما الثريد فهو أزكى الطعام وأكثره بركة، وهو طعام العرب، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل على سائر الطعام فقال: السادسة عشرة: قلت: وهذا كله في معنى ما ذكره عبدالرزاق عن ابن عباس، وما قاله سعيد بن المسيب وغيره. ويأتي ذكر المضمضة والاستنشاق والسواك في سورة {النساء{ وحكم الاستنجاء في {براءة} وحكم الضيافة في {هود{ إن شاء الله تعالى." وخرج مسلم السابعة عشرة: قوله تعالى{قال إني جاعلك للناس إماما{ الإمام: القدوة، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، لأنه يؤم فيه للمسالك، أي يقصد. فالمعنى: جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون. فجعله الله تعالى إماما لأهل طاعته، فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه - والله اعلم - أنه كان حنيفا. الثامنة عشرة: قوله تعالى{قال ومن ذريتي{ دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى، أي من ذريتي يا رب فاجعل. وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الإمامة. قال ابن عباس: سأل إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال{لا ينال عهدي الظالمين}. التاسعة عشرة: قوله تعالى{ومن ذريتي{ أصل ذرية، فعلية من الذر، لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم. وقيل: هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع الذراري. وقرأ زيد بن ثابت {ذرية{ بكسر الذال و{ذرية{ بفتحها. قال ابن جني أبو الفتح عثمان: يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ: أحدها: ذرأ، والثاني: ذرر، والثالث: ذرو، والرابع: ذري، فأما الهمزة فمن ذرأ الله الخلق، وأما ذرر فمن لفظ الذر ومعناه، وذلك لما ورد في الخبر عشرون: قوله تعالى{قال لا ينال عهدي الظالمين{ اختلف في المراد بالعهد، فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه النبوة، وقال السدي. مجاهد: الإمامة. قتادة: الإيمان. عطاء: الرحمة. الضحاك: دين الله تعالى. وقيل: عهده أمره. ويطلق العهد على الأمر، قال الله تعالى استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله، على ما تقدم من القول فيه. فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل، لقوله تعالى{لا ينال عهدي الظالمين} ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم. وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة. والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج، فاعلمه. قال ابن خويز منداد: وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض. وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع، أو يخالفوا النصوص. وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم ينقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم. قال ابن خويز منداد: وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي الأمراء اليوم فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كلص في يده مال مسروق، ومال جيد حلال وقد وكله فيه رجل فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة، وإن كان قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق، إذا لم يكن شيء معروف بنهب، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما - وإن كان الورع التنزه عنه - وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها. وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم. ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق، ويجعل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين.
|