الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
سورة الأنفال: مدنية بدرية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن عباس: هي مدنية إلا سبع آيات، من قوله تعالى{وإذ يمكر بك الذين كفروا} إلى آخر السبع آيات. {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} الأنفال واحدها نفل بتحريك الفاء؛ قال: أي خير غنيمة. والنفل: اليمين؛ ومنه الحديث }فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم}. والنفل الانتفاء؛ ومنه الحديث }فانتفل من ولدها}. والنفل: نبت معروف. والنفل: الزيادة على الواجب، وهو التطوع. وولد الولد نافلة؛ لأنه زيادة على الولد. والغنيمة نافلة؛ لأنها زيادة فيما أحل الله لهذه الأمة مما كان محرما على غيرها. أي الغنائم. ودل حديث ابن عمر على ما ذكره الوليد والحكم عن شعيب عن نافع أن السرية إذا خرجت من العسكر فغنمت أن العسكر شركاؤهم. وهذه مسألة وحكم لم يذكره في الحديث غير شعيب عن نافع، ولم يختلف العلماء فيه، والحمد لله. واختلف العلماء في الإمام يقول قبل القتال: من هدم كذا من الحصن فله كذا، ومن بلغ إلى موضع كذا فله كذا، ومن جاء برأس فله كذا، ومن جاء بأسير فله كذا؛ يضريهم. فروي عن مالك أنه كرهه. وقال: هو قتال على الدنيا. وكان لا يجيزه. قال الثوري: ذلك جائز ولا بأس به. قلت: وقد جاء هذا المعنى مرفوعا من واستحب مالك رحمه الله ألا ينفل الإمام إلا ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف. ومنع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهبا أو فضة أو لؤلؤا ونحوه. وقال بعضهم: النفل جائز من كل شيء. وهو الصحيح لقول عمر ومقتضى الآية، والله أعلم. قوله تعالى{فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} أم بالتقوى والإصلاح، أي كونوا مجتمعين على أمر الله في الدعاء: اللهم أصلح ذات البين، أي الحال التي يقع بها الاجتماع. فدل هذا على التصريح بأنه شجر بينهم اختلاف، أو مالت النفوس إلى التشاح؛ كما هو منصوص في الحديث. وتقدم معنى التقوى، أي اتقوا الله في أقوالكم، وأفعالكم، وأصلحوا ذات بينكم. }وأطيعوا الله ورسوله} في الغنائم ونحوها. }إن كنتم مؤمنين} أي إن سبيل المؤمن أن يمتثل ما ذكرنا. وقيل{إن} بمعنى }إذ}. {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} قال العلماء: هذه الآية تحريض على إلزام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من قسمة تلك الغنيمة. والوجل: الخوف. وفي مستقبله أربع لغات: وجل يوجل وياجل وييجل وييجل، حكاه سيبويه. والمصدر وجل جلا وموجلا؛ بالفتح. وهذا موجله (بالكسر) للموضع والاسم. فمن قال: ياجل في المستقبل جعل الواو ألفا لفتحة ما قبلها. ولغة القرآن الواو وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره. وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه. ونظير هذه الآية قوله تعالى{زادتهم إيمانا} أي تصديقا. فإن إيمان هذه الساعة زيادة على إيمان أمس؛ فمن صدق ثانيا وثالثا فهو زيادة تصديق بالنسبة إلى ما تقدم. وقيل: هو زيادة انشراح الصدر بكثرة الآيات والأدلة؛ وقد مضى هذا المعنى في }آل عمران}. }وعلى ربهم يتوكلون} تقدم معنى التوكل في }آل عمران} أيضا. }الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} تقدم في سورة }البقرة}. {أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} قوله تعالى{أولئك هم المؤمنون حقا} أي الذي استوى في الإيمان ظاهرهم وباطنهم. ودل هذا على أن لكل حق حقيقة؛ وقد قال عليه السلام لحارثة{إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك}؟ الحديث. وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد؛ أمؤمن أنت؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا به مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم - إلى قوله - أولئك هم المؤمنون حقا} فوالله ما أدري أنا منهم أم لا. وقال أبو بكر الواسطي: من قال أنا مؤمن بالله حقا؛ قيل له: الحقيقة تشير إلى إشراف واطلاع وإحاطة؛ فمن فقده بطل دعواه فيها. يريد بذلك ما قاله أهل السنة: إن المؤمن الحقيقي من كان محكوما له بالجنة، فمن لم يعلم ذلك من سر حكمته تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقا غير صحيح. {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} قوله تعالى{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} قال الزجاج: الكاف في موضع نصب؛ أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. أي مثل إخراجك ربك من بيتك بالحق. والمعنى: امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا؛ لأن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل لكل من أتى بأسير شيئا قال: يبقى أكثر الناس بغير شيء. فموضع الكاف في }كما} نصب كما ذكرنا. وقال الفراء أيضا. قال أبو عبيدة: هو قسم، أي والذي أخرجك؛ فالكاف بمعنى الواو، وما بمعنى الذي. وقال سعيد بن مسعدة: المعنى أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. قال وقال بعض العلماء }كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم. وقال عكرمة: المعنى أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك. وقيل{كما أخرجك} متعلق بقوله }لهم درجات} المعنى: لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم. أي هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الواجب له؛ فأنجزك وعدك. وأظفرك بعدوك وأوفى لك؛ لأنه قال عز وجل {يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} قوله تعالى{يجادلونك في الحق بعد ما تبين} مجادلتهم: قولهم لما ندبهم إلى العير وفات العير وأمرهم بالقتال ولم يكن معهم كبير أهبة شق ذلك عليهم وقالوا: لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة. ومعنى }في الحق} أي في القتال. }بعد ما تبين} لهم أنك لا تأمر بشيء إلا بإذن الله. وقيل: بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم إما الظفر بالعير أو بأهل مكة، وإذ فات العير فلا بد من أهل مكة والظفر بهم. فمعنى الكلام الإنكار لمجادلتهم. }كأنما يساقون إلى الموت} كراهة للقاء القوم. }وهم ينظرون} أي يعلمون أن ذلك واقع بهم؛ قال الله تعالى {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} قوله تعالى{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} }إحدى} في موضع نصب مفعول ثان. }أنها لكم} في موضع نصب أيضا بدلا من }إحدى}. }وتودون} أي تحبون }أن غير ذات الشوكة تكون لكم} قال أبو عبيدة: أي غير ذات الحد. والشوكة: السلاح. والشوك: النبت الذي له حد؛ ومنه رجل شائك السلاح، أي حديد السلاح. ثم يقلب فيقال: شاكي السلاح. أي تودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح ولا فيها حرب؛ عن الزجاج. }ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} أي أن يظهر الإسلام. والحق حق أبدا، ولكن إظهاره تحقيق له من حيث إنه إذا لم يظهر أشبه الباطل. }بكلماته} أي بوعده؛ فإنه وعد نبيه ذلك في سورة }الدخان} فقال {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين، وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم} قوله تعالى{إذ تستغيثون ربكم} الاستغاثة: طلب الغوث والنصر. غوث الرجل قال: واغوثاه. والاسم الغوث والغواث والغواث. واستغاثني فلان فأغثته؛ والاسم الغياث؛ عن الجوهري. {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} قوله تعالى{إذ يغشيكم النعاس} مفعولان. وهي قراءة أهل المدينة، وهي حسنة لإضافة الفعل إلى الله عز وجل لتقدم ذكره في قوله{وما النصر إلا من عند الله}. ولأن بعده }وينزل عليكم} فأضاف الفعل إلى الله عز وجل. فكذلك الإغشاء يضاف إلى الله عز وجل ليتشاكل الكلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو }يغشاكم النعاس} بإضافة الفعل إلى النعاس. دليله قوله تعالى{وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر. وقال ابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس. وحكى الزجاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وبقى المؤمنون لا ماء لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك؛ فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول وحالنا هذه والمشركون على الماء. فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية؛ فشربوا وتطهروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال. وقد قيل: إن هذه الأحوال كانت قبل وصولهم إلى بدر؛ وهو أصح، وهو الذي ذكره ابن إسحاق في سيرته وغيره. وهذا اختصاره: قال ابن عباس لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان أنه مقبل من الشأم ندب المسلمين إليهم وقال{هذه عير قريش فيها الأموال فأخرجوا إليهم لعل الله أن ينفلكموها} قال: فانبعث معه من خف؛ وثقل قوم وكرهوا الخروج، وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر، ولا ينتظر من غاب ظهره، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه من مهاجري وأنصاري. تداولها الرياح وكل جون من الوسمي منهمر سكوب فأمسى ربعها خلقا وأمست يبابا بعد ساكنها الحبيب فدع عنك التذكر كل يوم ورد حرارة الصدر الكئيب وخبر بالذي لا عيب فيه بصدق غير إخبار الكذوب بما صنع الإله غداة بدر لنا في المشركين من النصيب غداة كأن جمعهم حراء بدت أركانه جنح الغروب فلاقيناهم منا بجمع كأسد الغاب مردان وشيب أمام محمد قد وازروه على الأعداء في لفح الحروب بأيديهم صوارم مرهفات وكل مجرب خاظي الكعوب بنو الأوس الغطارف وازرتها بنو النجار في الدين الصليب فغادرنا أبا جهل صريعا وعتبة قد تركنا بالجبوب وشيبة قد تركنا في رجال ذوي نسب إذا نسبوا حسيب يناديهم رسول الله لما قذفناهم كباكب في القليب ألم تجدوا كلامي كان حقا وأمر الله يأخذ بالقلوب فما نطقوا، ولو نطقوا لقالوا أصبت وكنت ذا رأي مصيب وهنا ثلاث مسائل: الأولى: الثانية: ودل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال. وهو يرد ما كره مالك من ذلك؛ إذ قال: ذلك قتال على الدنيا، وما جاء أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله دون من يقاتل للغنيمة، يراد به إذا كان قصده وحده وليس للدين فيه حظ. الثالثة: قوله تعالى{ويثبت به الأقدام} الضمير في }به} عائد على الماء الذي شد دهس الوادي، كما تقوم. وقيل: هو عائد على ربط القلوب؛ فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب. {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} قوله تعالى{إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} العامل في }إذ، يثبت} أي يثبت به الأقدام ذلك الوقت. وقيل: العامل }ليربط} أي وليربط إذ يوحي. وقد يكون التقدير: اذكر }إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} في موضع نصب، والمعنى: بأني معكم، أي بالنصر والمعونة. }معكم} بفتح العين ظرف، ومن أسكنها فهي عنده حرف. }فثبتوا الذين آمنوا} أي بشروهم بالنصر أو القتال معهم أو الحضور معهم من غير قتال؛ فكان الملك يسير أمام الصف في، صورة الرجل ويقول: سيروا فإن الله ناصركم. ويظن المسلمون أنه منهم؛ وقد تقدم في }آل عمران} أن الملائكة قاتلت ذلك اليوم. فكانوا يرون رؤوسا تندر عن الأعناق من غير ضارب يرونه. وسمع بعضهم قائلا يسمع قوله ولا يرى شخصه: أقدم حيزوم. وقيل: كان هذا التثبيت ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين نزول الملائكة مددا. قوله تعالى{سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} تقدم في آل عمران بيانه. }فاضربوا فوق الأعناق} هذا أمر للملائكة. وقيل: للمؤمنين، أي اضربوا الأعناق، و}فوق} زائدة؛ قاله الأخفش والضحاك وعطية. ومما جاء أن البنان الأصابع قول عنترة أيضا: وهو كثير في أشعار العرب، البنان: الأصابع. قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف. وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان ويبن. وقال الضحاك: البنان كل مفصل. {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} قوله تعالى{ذلك} في موضع رفع على الابتداء، والتقدير: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك. }شاقوا الله} أي أولياءه. والشقاق: أن يصير كل واحد في شق. وقد تقدم. }ذلكم} رفع بإضمار الأمر أو القصة، أي الأمر ذلكم فذوقوه. ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ }ذوقوا} كقولك: زيدا فاضربه. ومعنى الكلام التوبيخ للكافرين. }وأن} في موضع رفع عطف على ذلكم. قال الفراء: ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى وبأن للكافرين. قال: ويجوز أن يضمر واعلموا أن. الزجاج: لو جاز إضمار واعلموا لجاز زيد منطلق وعمرا جالسا، بل كان يجوز في الابتداء زيدا منطلقا؛ لأن المخبر معلم، وهذا لا يقوله أحد من النحويين. {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} قوله تعالى{زحفا} الزحف الدنو قليلا قليلا. وأصله الاندفاع على الألية؛ ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفا. والتزاحف: التداني والتقارب؛ يقال: زحف إلى العدو زحفا. وازحف القوم، أي مشى بعضهم إلى بعض. ومنه زحاف الشعر، وهو أن يسقط بين الحرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر. يقول: إذا تدانيتم وتعاينتم فلا تفروا عنهم ولا تعطوهم أدباركم. حرم الله ذلك على المؤمنين حين فرض عليهم الجهاد وقتال الكفار. قال ابن عطية: والأدبار جمع دبر. والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة؛ لأنها بشعة على الفار، ذامة له. أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار. وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين؛ فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين فالفرض ألا يفروا أمامهم. فمن فر من اثنين فهو فار من الزحف. ومن فر من ثلاثة فليس بفار من الزحف، ولا يتوجه عليه الوعيد. والفرار كبيرة موبقة بظاهر القرآن وإجماع الأكثر من الأئمة. وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة: إنه يراعى الضعف والقوة والعدة؛ فيجوز على قولهم أن يفر مائة فارس من مائة فارس إذا علموا أن ما عند المشركين من النجدة والبسالة ضعف ما عندهم. وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا مما زاد على، المائتين؛ فمهما كان في مقابلة مسلم أكثر من اثنين فيجوز الانهزام، والصبر أحسن. وقد وقف جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف، منهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام. قلت: ووقع في تاريخ فتح الأندلس، أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة؛ فالتقى وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان؛ فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق، وكان الفتح. قال ابن وهب: سمعت مالكا يسأل عن القوم يلقون العدو أو يكونون في محرس يحرسون فيأتيهم العدو وهم يسير، أيقاتلون أو ينصرفون فيؤذنون أصحابهم؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم. واختلف الناس هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة؟ فروي عن أبي سعيد الخدري أن ذلك مخصوص بيوم بدر، وبه قال نافع والحسن وقتادة ويزيد بن أبي حبيب والضحاك، وبه قال أبو حنيفة. وأن ذلك خاص بأهل بدر فلم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا للمسلمين فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض. قال الكيا: وهذا فيه نظر؛ لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ولم يكونوا يرون أنه قتال، وإنما ظنوا أنها العير؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه. ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة. احتج الأولون بما ذكرنا، وبقوله تعالى{يومئذ} فقالوا: هو إشارة إلى يوم بدر، وأنه نسخ حكم الآية بآية الضعف. وبقي حكم الفرار من الزحف ليس بكبيرة. وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم، وقال الله فيهم يوم حنين قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة من فر من الزحف، ولا يجوز لهم الفرار وإن فر إمامهم؛ لقوله عز وجل{ومن يولهم يومئذ دبره} الآية. قال: ويجوز الفرار من أكثر من ضعفهم، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا؛ فإن بلغ اثني عشر ألفا لم يحل لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم{ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة} فإن أكثر أهل العلم خصصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية. قلت: فإن فر فليستغفر الله عز وجل. قوله تعالى{إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة} التحرف: الزوال عن جهة الاستواء. فالمتحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم؛ وكذلك المتحيز إذا نوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضا. قوله تعالى{فقد باء بغضب من الله} أي استحق الغضب. وأصل }باء} رجع وقد تقدم. }ومأواه جهنم} أي مقامه. وهذا لا يدل على الخلود؛ كما تقدم في غير موضع. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم غفر له وإن كان قد فر من الزحف). {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم، ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين} قوله تعالى{فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} أي يوم بدر. روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك. فنزلت الآية إعلاما بأن الله تعالى هو المميت والمقدر لجميع الأشياء، وأن العبد إنما يشارك بتكسبه وقصده. وهذه الآية ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم. فقيل: المعنى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم. وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم. }وما رميت إذ رميت} مثله. }ولكن الله رمى}. الأول: إن هذا الرمي إنما كان في حصب رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؛ رواه ابن وهب عن مالك. قال مالك: ولم يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه ذلك. وكذلك روى عنه ابن القاسم أيضا. الثاني: أن هذا كان يوم أحد حين رمى أبي بن خلف بالحربة في عنقه؛ فكر أبي منهزما. فقال له المشركون: والله ما بك من بأس. فقال: والله لو بصق علي لقتلني. أليس قد قال: بل أنا أقتله. وكان أوعد أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل بمكة؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم{بل أنا أقتلك} فمات عدو الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة، بموضع يقال له }سرف}. قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: لما كان يوم أحد أقبل أبي مقنعا في الحديد على فرسه يقول: لا نجوت إن نجا محمد؛ فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريه قتله. قال موسى بن عقبة قال سعيد بن المسيب: فاعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه؛ فاستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة البيضة والدرع؛ فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم. قال سعيد: فكسر ضلعا من أضلاعه؛ فقال: ففي ذلك نزل }وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}. وهذا ضعيف؛ لأن الآية نزلت عقيب بدر. الثالث: أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه. وهذا أيضا فاسد، وخيبر وفتحها أبعد من أحد بكثير. والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا. الرابع: أنها كانت يوم بدر؛ قال ابن إسحاق. وهو أصح؛ لأن السورة بدرية، وذلك أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (خذ قبضة من التراب) فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشركين، من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة؛ وقاله ابن عباس؛ وسيأتي. قال ثعلب: المعنى }وما رميت} الفزع والرعب في قلوبهم }إذ رميت} بالحصباء فانهزموا }ولكن الله رمى} أي أعانك وأظفرك. والعرب تقول: رمى الله لك، أي أعانك وأظفرك وصنع لك. حكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز. وقال محمد بن يزيد: وما رميت بقوتك، إذ رميت، ولكنك بقوة الله رميت. }وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} البلاء ههنا النعمة. واللام تتعلق بمحذوف؛ أي وليبلي المؤمنين فعل ذلك. }موَهِّن} قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو. وقراءة أهل الكوفة }موهن كيد الكافرين}. وفي التشديد معنى المبالغة. وروي عن الحسن }موهن كيد الكافرين} بالإضافة والتخفيف. والمعنى: أن الله عز وجل يلقي في قلوبهم الرعب حتى يتشتتوا ويتفرق جمعهم فيضعفوا. والكيد: المكر. وقد تقدم. {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين} قوله تعالى{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} شرطه وجوابه. وفيه ثلاثة أقوال: يكون خطابا للكفار؛ لأنهم استفتحوا فقالوا: اللهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصره عليه؛ قاله الحسن ومجاهد وغيرهما. وكان هذا القول منهم وقت خروجهم لنصرة العير. وقيل: قاله أبو جهل وقت القتال. وقال النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وهو ممن قتل ببدر. والاستفتاح: طلب النصر؛ أي قد جاءكم الفتح ولكنه كان للمسلمين عليكم. أي فقد جاءكم ما بان به الأمر، وانكشف لكم الحق. }وإن تنتهوا} أي عن الكفر }فهو خير لكم}. }وإن تعودوا} أي إلى هذا القول وقتال محمد. }نعد} إلى نصر المؤمنين. }ولن تغني عنكم فئتكم} أي عن جماعتكم }شيئا}. }ولو كثرت} أي في العدد. الثاني: يكون خطابا للمؤمنين؛ أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر. وإن }تنتهوا} أي عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم والأسرى قبل الإذن؛ }فهو خير لكم}. و}وإن تعودوا} أي إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم. كما قال والقول الثالث: أن يكون }إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} خطابا للمؤمنين، وما بعده للكفار. أي وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى مثل وقعة بدر. القشيري: والصحيح أنه خطاب للكفار؛ فإنهم لما نفروا إلى نصرة العير تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أهدى الطائفتين، وأفضل الدينين. المهدوي: وروي أن المشركين خرجوا معهم بأستار الكعبة يستفتحون بها، أي يستنصرون. قلت: ولا تعارض لاحتمال أن يكونوا فعلوا الحالتين. {وإن الله مع المؤمنين} بكسر الألف على الاستئناف، وبفتحها عطف على قوله{وأن الله موهن كيد الكافرين}. أو على قوله{أني معكم}. والمعنى: ولأن الله؛ والتقدير لكثرتها وأن الله. أي من كان الله في نصره لم تغلبه فئة وإن كثرت. {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله} الخطاب للمؤمنين المصدقين. أفردهم بالخطاب دون المنافقين إجلالا لهم. جدد الله عليهم الأمر بطاعة الله والرسول، ونهاهم عن التولي عنه. هذا قول الجمهور. وقالت فرقة: الخطاب بهذه الآية إنما للمنافقين. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط. قال ابن عطية: وهذا وإن كان محتملا على بعد فهو ضعيف جدا؛ لأن الله تعالى وصف من خاطب في هذه الآية بالإيمان. والإيمان التصديق، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء. وأبعد من هذا من قال: إن الخطاب لبني إسرائيل، فإنه أجنبي من الآية. قوله تعالى{ولا تولوا عنه} التولي الإعراض. وقال }عنه} ولم يقل عنهما لأن طاعة الرسول طاعته؛ وهو كقوله تعالى {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} قوله تعالى{ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا} أي كاليهود أو المنافقين أو المشركين. وهو من سماع الأذن. }وهم لا يسمعون} أي لا يتدبرون ما سمعوا، ولا يفكرون فيه، فهم بمنزلة من لم يسمع وأعرض عن الحق. نهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. فدلت الآية على أن قول المؤمن: سمعت وأطعت، لا فائدة فيه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال فعله. فإذا قصر في الأوامر فلم يأتها، واعتمد النواهي فاقتحمها فأي سمع عنده وأي طاعة! وإنما يكون حينئذ بمنزلة المنافقين الذي يظهر الإيمان، ويسر الكفر؛ وذلك هو المراد بقوله{ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون}. يعني بذلك المنافقين، أي اليهود أو المشركين، على مما تقدم. ثم أخبر تعالى أن الكفار شر ما دب على الأرض. وفي البخاري عن ابن عباس }إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} قال: هم نفر من بني عبدالدار. والأصل أشر، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. وكذا خير؛ الأصل أخير. {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} قوله تعالى{ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} قيل: الحجج والبراهين؛ إسماع تفهم. ولكن سبق علمه بشقاوتهم }ولو أسمعهم} أي لو أفهمهم لما آمنوا بعد علمه الأزلي بكفرهم. وقيل: المعنى لأسمعهم كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم؛ لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. الزجاج: لأسمعهم جواب كل ما سألوا عنه. }ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} إذ سبق في علمه أنهم لا يؤمنون. {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول} هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف. والاستجابة: الإجابة. و}يحييكم} أصله يحييكم، حذفت الضمة من الياء لثقلها. ولا يجوز الإدغام. قال أبو عبيدة: معنى }استجيبوا} أجيبوا؛ ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام، ويتعدى أجاب دون لام. قال الله تعالى تقول: أجابه وأجاب عن سؤاله. والمصدر الإجابة. والاسم الجابة؛ بمنزلة الطاقة والطاعة. تقول: أساء سمعا فأساء جابة. هكذا يتكلم بهذا الحرف. والمجاوبة والتجاوب: التحاور. وتقول: إنه لحسن الجيبة (بالكسر) أي الجواب. }لما يحييكم} متعلق بقوله{استجيبوا}. المعنى: استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم. وقيل: اللام بمعنى إلى، أي إلى ما يحييكم، أي يحيي دينكم ويعلمكم. وقيل: أي إلى ما يحيي به قلوبكم فتوحدوه، وهذا إحياء مستعار؛ لأنه من موت الكفر والجهل. وقال مجاهد والجمهور: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي؛ ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله }لما يحييكم} الجهاد، فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدو إذا لم يغز غزا؛ وفي غزوه الموت، والموت في الجهاد الحياة الأبدية؛ قال الله عز وجل قلت: وفيه حجة لقول الأوزاعي: لو أن رجلا يصلي فأبصر غلاما يريد أن يسقط في، بئر فصاح به وانصرف إليه وانتهره لم يكن بذلك بأس. والله أعلم. قوله تعالى{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} قيل: إنه يقتضي النص منه على خلقه تعالى الكفر والإيمان فيحول بين المرء الكافر وبين الإيمان الذي أمره به، فلا يكتسبه إذا لم يقدره عليه بل أقدره على ضده وهو الكفر. وهكذا المؤمن يحول بينه وبين الكفر. فبان بهذا النص أنه تعالى خالق لجميع اكتساب العباد خيرها وشرها. وهذا معنى قوله عليه السلام{لا، ومقلب القلوب}. وكان فعل الله تعالى ذلك عدلا فيمن أضله وخذله؛ إذ لم يمنعهم حقا وجب عليه فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم. قال السدي: يحول بين المرء وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن إلا بإذنه، ولا يكفر أيضا إلا بإذنه؛ أي بمشيئته. والقلب موضع الفكر. وقد تقدم في }البقرة} بيانه. وهو بيد الله، متى شاء حال بين العبد وبينه بمرض أو آفة كيلا يعقل. أي بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل. وقال مجاهد: المعنى يحول بين المرء وعقله حتى لا يدري ما يصنع. وفي التنزيل { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب. وكذلك تأول فيها الزبير بن العوام فإنه قال يوم الجمل، وكان سنة ست وثلاثين: ما علمت أنا أردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب ذلك الوقت. وكذلك تأول الحسن البصري والسدي وغيرهما. قال السدي: نزلت الآية في أهل بدر خاصة؛ فأصابتهم الفتنة يوم الجمل فاقتتلوا. وقال ابن عباس رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر فيما بينهم فيعمهم الله بالعذاب. قلت: وهذه التأويلات هي التي تعضدها الأحاديث الصحيحة؛ واختلف النحاة في دخول النون في }لا تصيبن}. قال الفراء: هو بمنزلة قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنك؛ فهو جواب الأمر بلفظ النهي؛ أي إن تنزل عنها لا تطرحنك. ومثله قوله تعالى {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون} قوله تعالى{واذكروا إذ أنتم قليل} قال الكلبي: نزلت في المهاجرين؛ يعني وصف حالهم قبل الهجرة وفي ابتداء الإسلام. }مستضعفون} نعت. }في الأرض} أي أرض مكة. }تخافون} نعت. }أن يتخطفكم} في موضع نصب. والخطب: الأخذ بسرعة. }الناس} رفع على الفاعل. قتادة وعكرمة: هم مشركو قريش. وهب بن منبه: فارس والروم. }فآواكم} قال ابن عباس: إلى الأنصار. السدي: إلى المدينة؛ والمعنى واحد. أوى إليه (بالمد): ضم إليه. وأوى إليه (بالقصر): انضم إليه. }وأيدكم} قواكم. }بنصره} أي بعونه. وقيل: بالأنصار. وقيل: بالملائكة يوم بدر. }من الطيبات} أي الغنائم. }لعلكم تشكرون} قد تقدم معناه. {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} روي أنها نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر حين أشار إلى بني قريظة بالذبح. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله؛ فنزلت هذه الآية. فلما نزلت شد نفسه إلى سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله علي. الخبر مشهور. {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم} قوله تعالى{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} كان لأبي لبابة أموال وأولاد في بني قريظة: وهو الذي حمله على ملاينتهم؛ فهذا إشارة إلى ذلك. }فتنة} أي اختبار؛ امتحنهم بها. }وأن الله عنده أجر عظيم} فآثروا حقه على حقكم. {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} قد تقدم معنى }التقوى}. وكان الله عالما بأنهم يتقون أم لا يتقون. فذكر بلفظ الشرط؛ لأنه خاطب العباد بما يخاطب بعضهم بعضا. فإذا اتقى العبد ربه - وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه - وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وشحن قلبه بالنية الخالصة، وجوارحه بالأعمال الصالحة، وتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر بمراعاة غير الله في الأعمال، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال، جعل له بين الحق والباطل فرقانا، ورزقه فيما يريد من الخير إمكانا. قال ابن وهب: سألت مالكا عن قوله سبحانه وتعالى{إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} قال: مخرجا، ثم قرأ وقال آخر: ابن إسحاق{فرقانا} فصلا بين الحق والباطل؛ وقال ابن زيد. السدي: نجاة. الفراء: فتحا ونصرا. وقيل: في الآخرة، فيدخلكم الجنة ويدخل الكفار النار. {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} هذا إخبار بما اجتمع عليه المشركون من المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة؛ فاجتمع رأيهم على قتله فبيتوه، ورصدوه على باب منزل طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يعمى عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض. فلما أصبحوا خرج عليهم علي فأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا. الخبر مشهور في السيرة وغيرها. ومعنى }ليثبتوك} ليحبسوك؛ يقال: أثبته إذا حبسته. وقال قتادة{ليثبتوك} وثاقا. وعنه أيضا وعبدالله بن كثير: ليسجنوك. وقال أبان بن تغلب وأبو حاتم: ليثخنوك بالجراحات والضرب الشديد. قال الشاعر: {أو يقتلوك أو يخرجوك} عطف. }ويمكرون} مستأنف. والمكر: التدبير في الأمر في خفية. }والله خير الماكرين} خير} ابتداء وخبر. والمكر من الله هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم من حيث لا يشعرون. {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} نزلت في النضر بن الحارث؛ كان خرج إلى الحيرة في التجارة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكسرى وقيصر؛ فلما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار من مضى قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا. وكان هذا وقاحة وكذبا. وقيل: إنهم توهموا أنهم يأتون بمثله، كما توهمت سحرة موسى، ثم راموا ذلك فعجزوا عنه وقالوا عنادا: إن هذا إلا أساطير الأولين. وقد تقدم. {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} القراء على نصب }الحق} على خبر (كان). ودخلت (هو) للفصل. ويجوز (هو الحق) بالرفع. }من عندك} قال الزجاج: ولا أعلم أحدا قرأ بها. ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها ولكن القراءة سنة، لا يقرأ فيها إلا بقراءة مرضية. واختلف فيمن قال هذه المقالة؛ فقال مجاهد وابن جبير: قائل هذا هو النضر بن الحارث. أنس بن مالك: قائله أبو جهل؛ رواه البخاري ومسلم. ثم يجوز أن يقال: قالوه لشبهة كانت في صدورهم، أو على وجه العناد والإبهام على الناس أنهم على بصيرة، ثم حل بهم يوم بدر ما سألوا. حكي أن ابن عباس لقيه رجل من اليهود؛ فقال اليهودي: ممن أنت؟ قال: من قريش. فقال: أنت من القوم الذين قالوا{اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الآية. فهلا عليهم أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له! إن هؤلاء قوم يجهلون. قال ابن عباس: وأنت يا إسرائيلي، من القوم الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه، وأنجى موسى وقومه؛ حتى قالوا {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} لما قال أبو جهل{اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الآية، نزلت }وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} كذا في صحيح مسلم. وقال ابن عباس: لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم منها والمؤمنون؛ يلحقوا بحيث أمروا. }وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ابن عباس: كانوا يقولون في الطواف: غفرانك. والاستغفار وإن وقع من الفجار يدفع به ضرب من الشرور والإضرار. وقيل: إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم. أي وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين؛ فلما خرجوا عذبهم الله يوم بدر وغيره؛. قاله الضحاك وغيره. وقيل: إن الاستغفار هنا يراد به الإسلام. أي }وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} أي يسلمون؛ قاله مجاهد وعكرمة. وقيل{وهم يستغفرون} أي في أصلابهم من يستغفر الله. روي عن مجاهد أيضا. وقيل: معنى }يستغفرون} لو استغفروا. أي لو استغفروا لم يعذبوا. استدعاهم إلى الاستغفار؛ قاله قتادة وابن زيد. وقال المدائني عن بعض العلماء قال: كان رجل من العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مسرفا على نفسه، لم يكن يتحرج؛ فلما أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصوف ورجع عما كان عليه، وأظهر الدين والنسك. فقيل له: لو فعلت هذا والنبي صلى الله عليه وسلم حي لفرح بك. قال: كان لي أمانان، فمضى واحد وبقي الآخر؛ قال الله تبارك وتعالى{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} فهذا أمان. والثاني }وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}. {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون} قوله تعالى{وما لهم ألا يعذبهم الله} المعنى: وما يمنعهم من أن يعذبوا. أي إنهم مستحقون العذاب لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، ولكن لكل أجل كتاب؛ فعذبهم الله بالسيف بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك نزلت {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، يصفقون ويصفرون؛ فكان ذلك عبادة في ظنهم والمكاء: الصفير. والتصدية: التصفيق؛ قاله مجاهد والسدي وابن عمر رضي الله عنهم. ومنه قول عنترة: أي تصوت. ومنه مكت أست الدابة إذا نفخت بالريح. قال السدي: المكاء الصفير، على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء. قال الشاعر: قتادة: المكاء ضرب بالأيدي، والتصدية صياح. وعلى التفسيرين ففيه رد على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون ويصعقون. وذلك كله منكر يتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت. وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم. والتصدية: الصفير، يريدون أن يشغلوا بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم عن الصلاة. قال النحاس: المعروف في اللغة ما روي عن ابن عمر. حكى أبو عبيد وغيره أنه يقال: مكا يمكو ومكاء إذا صفر. وصدى يصدي تصدية إذا صفق؛ ومنه قول عمرو بن الإطنابة: أي بالتصفيق. سعيد بن جبير وابن زيد: معنى التصدية صدهم عن البيت؛ فالأصل على هذا تصدده، فأبدل من أحد الدالين ياء. {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون، ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} معنى }ليميز الله الخبيث من الطيب} أي المؤمن من الكافر. وقيل: هو عام في كل شيء، من الأعمال والنفقات وغير ذلك. {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} قوله تعالى{قل للذين كفروا} أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى، وسواء قال بهذه العبارة أو غيرها. قال ابن عطية: ولو كان كما ذكر الكسائي أنه في مصحف عبدالله بن مسعود }قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم} لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها؛ هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ. قوله تعالى{إن ينتهوا} يريد عن الكفر. قال ابن عطية: ولا بد؛ والحامل على ذلك جواب الشرط }يغفر لهم ما قد سلف} ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر. ولقد أحسن القائل أبو سعيد أحمد بن محمد الزبيري: لقوله سبحانه في المعترف إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك فيمن طلق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق له. وكذلك من حلف فأسلم فلا حنث عليه. وكذا من وجبت عليه هذه الأشياء؛ فذلك مغفور له. فأما من افترى على مسلم ثم أسلم أو سرق ثم أسلم أقيم عليه الحد للفرية والسرقة. ولو زنى وأسلم، أو اغتصب مسلمة سقط عنه الحد. وروى أشهب عن مالك أنه قال: إنما يعني الله عز وجل ما قد مضى قبل الإسلام، من مال أو دم أو شيء. قال ابن العربي: وهذا هو الصواب؛ لما قدمناه من عموم قوله تعالى{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}، قلت: أما الكافر الحربي فلا خلاف في إسقاط ما فعله في حال كفره في دار الحرب. وأما إن دخل إلينا بأمان فقذف مسلما فإنه يحد، وإن سرق قطع. وكذلك الذمي إذا قذف حد ثمانين، وإذا سرق قطع، وإن قتل قتل. ولا يسقط الإسلام ذلك عنه لنقضه العهد حال كفره؛ على رواية ابن القاسم وغيره. قال ابن المنذر: واختلفوا في النصراني يزني ثم يسلم، وقد شهدت عليه بينة من المسلمين؛ فحكي عن الشافعي رضي الله عنه إذ هو بالعراق لا حد عليه ولا تغريب؛ لقول الله عز وجل{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} قال ابن المنذر: وهذا موافق لما روي عن مالك. وقال أبو ثور: إذا أقر وهو مسلم أنه زنى وهو كافر أقيم عليه الحد. وحكي عن الكوفي أنه قال: لا يحد. فأما المرتد إذا أسلم وقد فاتته صلوات، وأصاب جنايات وأتلف أموالا؛ فقيل: حكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم؛ لا يؤخذ بشيء مما أحدثه في حال ارتداده. وقال الشافعي في أحد قوليه: يلزمه كل حق لله عز وجل وللآدمي؛ بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى. وقال أبو حنيفة: ما كان لله يسقط، وما كان للآدمي لا يسقط. قال ابن العربي: وهو قول علمائنا؛ لأن الله تعالى مستغن عن حقه، والآدمي مفتقر إليه. ألا ترى أن حقوق الله عز وجل لا تجب على الصبي وتلزمه حقوق الآدميين. قالوا: وقوله تعالى{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} عام في الحقوق لله تعالى. قوله تعالى{وإن يعودوا} يريد إلى القتال؛ لأن لفظة }عاد} إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة كان الإنسان عليها ثم انتقل عنها. قال ابن عطية: ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال. ولا يجوز أن يتأول إلى الكفر؛ لأنهم لم ينفصلوا عنه، وإنما قلنا ذلك في }عاد} إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر، فيكون معناها معنى صار؛ كما تقول: عاد زيد ملكا؛ يريد صار. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل. فهي مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونها؛ فحكمها حكم صار. قوله تعالى{فقد مضت سنة الأولين} عبارة تجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله. {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} قوله تعالى{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي كفر. إلى آخر الآية تقدم معناها وتفسير ألفاظها في }البقرة} وغيرها والحمد لله. {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير} قوله تعالى }واعلموا أنما غنمتم من شيء} الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي، ومن ذلك قول الشاعر: وقال آخر: والمغنم والغنيمة بمعنى؛ يقال: غنم القوم غنما. وأعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى{غنمتم من شيء} مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر. ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيناه، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع. وسمى الشرع الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين: غنيمة وفيئا. فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة. ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا. والفيء مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف. كخراج الأرضين وجزية الجماجم وخمس الغنائم. ونحو هذا قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب. وقيل: إنهما واحد، وفيهما الخمس؛ قاله قتادة. وقيل: الفيء عبارة عن كل ما صار للمسلمين من الأموال بغير قهر. والمعنى متقارب. هذه الآية ناسخة لأول السورة، عند الجمهور. وقد ادعى ابن عبدالبر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله قلت: ومما يدل على صحة هذا قلت: وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} والأربعة الأخماس للإمام، إن شاء حبسها وإن شاء قسمها بين الغانمين. وهذا ليس بشيء، لما ذكرناه، ولأن الله سبحانه أضاف الغنيمة للغانمين فقال{واعلموا أنما غنمتم من شيء} ثم عين الخمس لمن سمى في كتابه، وسكت عن الأربعة الأخماس، كما سكت عن الثلثين في قوله لم يختلف العلماء أن قوله{واعلموا أنما غنمتم من شيء} ليس على عمومه، وأنه يدخله الخصوص، فمما خصصوه بإجماع أن قالوا: سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام. وكذلك الرقاب، أعني الأسارى، الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف، على ما يأتي بيانه. ومما خص به أيضا الأرض. والمعنى: ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الأمتعة والسبي. وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية، ذهب مالك وأبو حنيفة والثوري إلى أن السلب ليس للقاتل، وأن حكمه حكم الغنيمة، إلا أن يقول الأمير: من قتل قتيلا فله سلبه، فيكون حينئذ له. وقال الليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر: السلب للقاتل على كل حال، قاله الإمام أو لم يقله. إلا أن الشافعي رضي الله عنه قال: إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل قتيلا مقبلا عليه: وأما إذا قتله مدبرا عنه فلا. قال أبو العباس بن سريج من أصحاب الشافعي: ليس الحديث قلت: اختلف العلماء في تخميس السلب، فقال الشافعي: لا يخمس. وقال إسحاق: إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل، وإن كان كثيرا خمس. وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله، فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفا فخمس ذلك. أنس عن البراء بن مالك أنه قتل من المشركين مائة رجل إلا رجلا مبارزة، وأنهم لما غزوا الزارة خرج دهقان الزارة فقال: رجل ورجل، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده، ثم أخذ السيف فذبحه، وأخذ سلاحه ومنطقته وأتى به عمر، فنفله السلاح وقوم المنطقة بثلاثين ألفا فخمسها، وقال: إنها مال. وقال الأوزاعي ومكحول: السلب مغنم وفيه الخمس. وروي نحوه عن عمر بن الخطاب. والحجة للشافعي ما ذهب جمهور العلماء إلى أن السلب لا يعطى للقاتل إلا أن يقيم البينة على قتله. قال أكثرهم: ويجزئ شاهد واحد، على حديث أبي قتادة. وقيل: شاهدان أو شاهد ويمين. وقال الأوزاعي: يعطاه بمجرد دعواه، وليست البينة: شرطا في الاستحقاق، بل إن اتفق ذلك فهو الأولى دفعا للمنازعة. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا قتادة صلب مقتول من غير شهادة ولا يمين. ولا تكفي شهادة واحد، ولا يناط بها حكم بمجردها. وبه قال الليث بن سعد. قلت: سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبدالعظيم يقول: إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السلب بشهادة الأسود بن خزاعي وعبدالله بن أنيس. وعلى هذا يندفع النزاع ويزول الإشكال، ويطرد الحكم. وأما المالكية فيخرج على قولهم أنه لا يحتاج الإمام فيه إلى بينة، لأنه من الإمام ابتداء عطية، فإن شرط الشهادة كان له، وإن لم يشترط جاز أن يعطيه من غير شهادة. واختلفوا في السلب ما هو، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا خلاف أنه من السلب، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه. وقال أحمد في الفرس: ليس من السلب. وكذلك إن كان في هميانه وفي منطقته دنانير أو جواهر أو نحو هذا، فلا خلاف أنه ليس من السلب. واختلفوا فيما يتزين به للحرب، فقال الأوزاعي: ذلك كله من السلب. وقالت فرقة: ليس من السلب. وهذا مروي عن سحنون رحمه الله، إلا المنطقة فإنها عنده من السلب. وقال ابن حبيب في الواضحة: والسواران من السلب. قوله تعالى{فأن لله خمسه} قال أبو عبيد: هذا ناسخ لقوله عز وجل في أول السورة قلت: وهذا التأويل يرده قول علي يومئذ، وذلك إشارة إلى يوم قسم غنائم بدر، إلا أنه يحتمل أن يكون من الخمس إن كان لم يقع في بدر تخميس، من خمس سرية عبدالله بن جحش فإنها أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول خمس كان في الإسلام، ثم نزل القرآن }واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}. وهذا أولى من التأويل الأول. والله أعلم. {ما} في قوله{ما غنمتم} بمعنى الذي والهاء محذوفة، أي الذي غنمتموه. ودخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. و}أن} الثانية توكيد للأولى، ويجوز كسرها، وروي عن أبي عمرو. قال الحسن: هذا مفتاح كلام، الدنيا والآخرة لله، ذكره النسائي. واستفتح عز وجل الكلام في الفيء والخمس بذكر نفسه، لأنهما أشرف الكسب، ولم ينسب الصدقة إليه لأنها أوساخ الناس. الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة، فيجعل السدس للكعبة، وهو الذي لله. والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث لذوي القربى. والرابع لليتامى. والخامس للمساكين، والسادس لابن السبيل. وقال بعض أصحاب هذا القول: يرد السهم الذي لله على ذوي الحاجة. الثاني: قال أبو العالية والربيع: تقسم الغنيمة على خمسة، فيعزل منها سهم واحد، وتقسم الأربعة على الناس، ثم يضرب بيده على السهم الذي عزله فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة، سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. الثالث: قال المنهال بن عمرو: سألت عبدالله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقال: هو لنا. قلت لعلي: إن الله تعالى يقول{واليتامى والمساكين وابن السبيل} فقال: أيتامنا ومساكيننا. الرابع: قال الشافعي: يقسم على خمسة. ورأى أن سهم الله ورسوله واحد، وأنه يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية. الخامس: قال أبو حنيفة: يقسم على ثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل. وارتفع عنده حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع حكم سهمه. قالوا: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضا. السادس: قال مالك: هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي منه القرابة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. وبه قال الخلفاء الأربعة، وبه عملوا. وعليه يدل قوله تعالى{ولذي القربى} ليست اللام لبيان الاستحقاق والملك، وإنما هي لبيان المصرف والمحل. والدليل عليه واختلف العلماء في ذوي القربى على ثلاثة أقوال: قريش كلها، قاله بعض السلف، لما بين الله عز وجل حكم الخمس وسكت عن الأربعة الأخماس، دل ذلك على أنها ملك للغانمين. وقال آخر: يقال: ربع الجيش يربعه رباعة إذا أخذ ربع الغنيمة. قال الأصمعي: ربع في الجاهلية وخمس في الإسلام، فكان يأخذ بغير شرع ولا دين الربع من الغنيمة، ويصطفي منها، ثم يتحكم بعد الصفي في أي شي أراد، وكان ما شذ منها وما فضل من خرثي ومتاع له. فأحكم الله سبحانه الدين بقوله{واعلموا أنما غنمتم من شي - فأن لله خمسه}. وأبقى سهم الصفي لنبيه صلى الله عليه وسلم وأسقط حكم الجاهلية. وقال عامر الشعبي: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا أو أمة أو فرسا يختاره قبل الخمس، أخرجه أبو داود. وفي حديث أبي هريرة قال: فيلقى العبد فيقول: (أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع) الحديث. أخرجه مسلم. }تربع} بالباء الموحدة من تحتها: تأخذ المرباع، أي الربع مما يحصل لقومك من الغنائم والكسب. وقد ذهب بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه إلى أن خمس الخمس كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفه في كفاية أولاده ونسائه، ويدخر من ذلك قوت سنته، ويصرف الباقي في الكراع والسلاح. وهذا يرده ما رواه عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على نفسه منها قوت سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. ليس في كتاب الله تعالى دلالة على تفضيل الفارس على الراجل، بل فيه أنهم سواء، لأن الله تعالى جعل الأربعة أخماس لهم ولم يخص راجلا من فارس. ولولا الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان الفارس كالراجل، والعبد كالحر، والصبي كالبالغ. وقد اختلف العلماء في قسمة الأربعة الأخماس، فالذي عليه عامة أهل العلم فيما ذكر ابن المنذر أنه يسهم للفارس سهمان، وللراجل سهم. وممن قال ذلك مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة. وكذلك قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام. وكذلك قال الثوري ومن وافقه من أهل العراق. وهو قول الليث بن سعد ومن تبعه من أهل مصر. وكذلك قال الشافعي رضي الله عنه وأصحابه. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور ويعقوب ومحمد. قال بن المنذر: ولا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا النعمان فإنه خالف فيه السنن وما عليه جل أهل العلم في القديم والحديث. قال: لا يسهم للفارس إلا سهم واحد. قلت: ولعله شبه عليه لا يفاضل بين الفارس والراجل بأكثر من فرس واحد، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يسهم لأكثر من فرس واحد، لأنه أكثر عنا وأعظم منفعة، وبه قال ابن الجهم من أصحابنا، ورواه سحنون عن ابن وهب. ودليلنا أنه لم ترد رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسهم لأكثر من فرس واحد، وكذلك الأئمة بعده، ولأن العدو لا يمكن أن يقاتل إلا على فرس واحد، وما زاد على ذلك فرفاهية وزيادة عدة، وذلك لا يؤثر في زيادة السهمان، كالذي معه زيادة سيوف أو رماح، واعتبارا بالثالث والرابع. وقد روي عن سليمان بن موسى أنه يسهم لمن كان عنده أفراس، لكل فرس سهم. لا يسهم إلا للعتاق من الخيل، لما فيها من الكر والفر، وما كان من البراذين والهجن بمثابتها في ذلك. وما لم يكن كذلك لم يسهم له. وقيل: إن أجازهم الإمام أسهم لها، لأن الانتفاع بها يختلف بحسب الموضع، فالهجن والبراذين تصلح للمواضع المتوعرة كالشعاب والجبال، والعتاق تصلح للمواضع التي يتأتى فيها الكر والفر، فكان ذلك متعلقا برأي الإمام. والعتاق: خيل العرب. والهجن والبراذين: خيل الروم. واختلف علماؤنا في الفرس الضعيف، فقال أشهب وابن نافع: لا يسهم له، لأنه لا يمكن القتال عليه فأشبه الكسير. وقيل: يسهم له لأنه يرجى برؤه. ولا يسهم للأعجف إذا كان في حيز ما لا ينتفع به، كما لا يسهم للكسير. فأما المريض مرضا خفيفا مثل الرهيص، وما يجري مجراه مما لا يمنعه المرض عن حصول المنفعة المقصودة منه فإنه يسهم له. ويعطى الفرس المستعار والمستأجر، وكذلك المغصوب، وسهمه لصاحبه. ويستحق السهم للخيل وإن كانت في السفن ووقعت الغنيمة في البحر، لأنها معدة لنزول إلى البر. لا حق في الغنائم للحشوة كالأجراء والصناع الذين يصحبون الجيش للمعاش، لأنهم لم يقصدوا قتالا ولا خرجوا مجاهدين. وقيل: يسهم لهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الغنيمة لمن شهد الوقعة). أخرجه البخاري. وهذا لا حجة فيه لأنه جاء بيانا لن باشر الحرب وخرج إليه، وكفى ببيان الله عز وجل المقاتلين وأهل المعاش من المسلمين حيث جعلهم فرقتين متميزتين، لكل واحدة حالها في حكمها، فقال فأما العبيد والنساء فمذهب الكتاب أنه لا يسهم لهم ولا يرضخ. وقيل: يرضخ لهم، وبه قال جمهور العلماء. وقال الأوزاعي: إن قاتلت المرأة أسهم لها. وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء يوم خيبر. قال: وأخذ المسلمون بذلك عندنا. وإلى هذا القول مال ابن حبيب من أصحابنا. خرج مسلم عن ابن عباس أنه كان في كتابه إلى نجدة: تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن. وأما الصبيان فإن كان مطيقا للقتال ففيه عندنا ثلاثة أقوال: الإسهام ونفيه حتى يبلغ، لحديث ابن عمر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والتفرقة بين أن يقاتل فيسهم له أو يقاتل فلا يسهم له. والصحيح الأول، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أن يقتل منهم من أنبت ويخلي منهم من لم ينبت. وهذه مراعاة لإطاقة القتال لا للبلوغ. الكافر إذا حضر بإذن الإمام وقاتل ففي الإسهام له عندنا ثلاثة أقوال: الإسهام ونفيه، وبه قال مالك وابن القاسم. زاد ابن حبيب: ولا نصيب لهم. ويفرق في الثالث - وهو لسحنون - بين أن يستقل المسلمون بأنفسهم فلا يسهم له، أو لا يستقلوا ويفتقروا إلى معونته فيسهم له. فإن لم يقاتل فلا يستحق شيئا. وكذلك العبيد مع الأحرار. وقال الثوري والأوزاعي: إذا استعين بأهل الذمة أسهم لهم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يسهم لهم، ولكن يرضخ لهم. وقال الشافعي رضي الله عنه: يستأجرهم الإمام من مال لا مالك له بعينه. فإن لم يفعل أعطاهم سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في موضع آخر: يرضخ للمشركين إذا قاتلوا مع المسلمين. قال أبو عمر: اتفق الجميع أن العبد، وهو ممن يجوز أمانه، إذا قاتل لم يسهم له ولكن يرضخ، فالكافر بذلك أولى ألا يسهم له. لو خرج العبد وأهل الذمة لصوصا وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس، لأنه لم يدخل في عموم قوله عز وجل{وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} أحد منهم ولا من النساء. فأما الكفار فلا مدخل لهم من غير خلاف. وقال سحنون. لا يخمس ما ينوب العبد. وقال ابن القاسم: يخمس، لأنه يجوز أن يأذن له سيده في القتال ويقاتل على الدين، بخلاف الكافر. وقال أشهب في كتاب محمد: إذا خرج العبد والذمي من الجيش وغنما فالغنيمة للجيش دونهم. سبب استحقاق السهم شهود الوقعة لنصر المسلمين، على ما تقدم. فلو شهد آخر الوقعة استحق. ولو حضر بعد انقضاء القتال فلا. ولو غاب بانهزام فكذلك. فإن كان قصد التحيز إلى فئة فلا يسقط استحقاقه. واختلف العلماء فيمن خرج لشهود الوقعة فمنعه العذر منه كمرض، ففي ثبوت الإسهام له ونفيه ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث، وهو المشهور، فيثبته إن كان الضلال قبل القتال وبعد الإدراب، وهو الأصح، قاله ابن العربي. وينفيه إن كان قبله. وكمن بعثه الأمير من الجيش في أمر من مصلحة الجيش فشغله ذلك عن شهود الوقعة فإنه يسهم له، قاله ابن المواز، ورواه ابن وهب وابن نافع عن مالك. وروي لا يسهم له بل يوضخ له لعدم السبب الذي يستحق به السهم، والله أعلم. وقال أشهب: يسهم للأسير وإن كان في الحديد. والصحيح أنه لا يسهم له، لأنه ملك مستحق بالقتال، فمن غاب أو حضر مريضا كمن لم يحضر. الغائب المطلق لا يسهم له، ولم يسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغائب قط إلا يوم خيبر، فإنه أسهم لأهل الحديبية من حضر منهم ومن غاب، لقول الله عز وجل قلت: الظاهر أن ذلك مخصوص بعثمان وطلحة وسعيد فلا يقاس عليهم غيرهم. وأن سهمهم كان من صلب الغنيمة كسائر من حضرها لا من الخمس. هذا الظاهر من الأحاديث والله أعلم. وقد قوله تعالى{إن كنتم آمنتم بالله} قال الزجاج عن فرقة: المعنى فأعلموا أن الله مولاكم إن كنتم، فـ (إن) متعلقة بهذا الوعد. وقالت فرقة: إن (إن) متعلقة بقوله }وأعلموا أنما غنمتم}. قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح، لأن قوله }واعلموا} يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم، فعلق (إن) بقوله{واعلموا} على هذا المعنى، أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة. قوله تعالى{وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان} (ما) في موضع خفض عطف على اسم الله }يوم الفرقان} أي اليوم الذي فرقت فيه بين الحق والباطل، وهو يوم بدر. }يوم التقى الجمعان} حزب الله وحزب الشيطان.
|