فصل: الآية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

مساءً 1 :52
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 71 ‏)‏

‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف‏.‏ وقال في المنافقين ‏}‏بعضهم من بعض‏}‏ لأن قلوبهم مختلفة ولكن يقسم بعضهم إلى بعض في الحكم‏.‏

قوله تعالى‏{‏يأمرون بالمعروف‏}‏ أي بعبادة الله تعالى وتوحيده، وكل ما أتبع ذلك‏.‏ ‏}‏وينهون عن المنكر‏}‏ عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك‏.‏ وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال‏:‏ كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين‏.‏ وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة ‏}‏المائدة‏}‏ و‏}‏آل عمران‏}‏ والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ تقدم في أول ‏}‏البقرة‏}‏ القول فيه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هي الصلوات الخمس، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة‏.‏ ابن عطية‏:‏ والمدح عندي بالنوافل أبلغ؛ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويطيعون الله‏}‏ في الفرائض ‏}‏ورسوله‏}‏ فيما سن لهم‏.‏ والسين في قوله‏{‏سيرحمهم الله‏}‏ مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه؛ وفضله تعالى زعيم بالإنجاز‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 72 ‏)‏

‏{‏وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات‏}‏ أي بساتين ‏}‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود‏.‏ ‏}‏خالدين فيها ومساكن طيبة‏}‏ قصور من الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام‏.‏ ‏}‏في جنات عدن‏}‏ أي في دار إقامة‏.‏ يقال‏:‏ عدن بالمكان إذا أقام به؛ ومنه المعدن‏.‏ وقال عطاء الخراساني‏{‏جنات عدن‏}‏ هي قصبة الجنة، وسقفها عرش الرحمن جل وعز‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ هي بطنان الجنة، أي وسطها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل؛ ونحوه عن الضحاك‏.‏ وقال مقاتل والكلبي‏:‏ عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله‏.‏ ‏}‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ أي أكبر من ذلك‏.‏ ‏}‏ذلك هو الفوز العظيم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 73 ‏)‏

‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده‏.‏ قيل‏:‏ المراد جاهد بالمؤمنين الكفار‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ جاهد المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان - واختار قتادة - وكانوا أكثر من يصيب الحدود‏.‏ ابن العربي‏:‏ أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة وأما بالحدود لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين‏.‏

قوله تعالى‏{‏واغلظ عليهم‏}‏ الغلظ‏:‏ نقيض الرأفة، وهي شدة القلب على إحلال الأمر بصاحبه‏.‏ وليس ذلك في اللسان؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏{‏إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها‏)‏‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك‏}‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏ ومنه قول النسوة لعمر‏:‏ أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الغلظ خشونة الجانب‏.‏ فهي ضد قوله تعالى‏{‏واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏}‏الشعراء‏:‏ 215‏]‏‏.‏ ‏}‏واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‏}‏الإسراء‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 74 ‏)‏

‏{‏يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏يحلفون بالله ما قالوا‏}‏ روي أن هذه الآية نزلت في الجُلاس بن سويد بن الصامت، ووديعة بن ثابت؛ وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير‏.‏ فقال له عامر بن قيس‏:‏ أجل والله إن محمدا لصادق مصدق؛ وإنك لشر من حمار‏.‏ وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب‏.‏ وحلف عامر لقد قال، وقال‏:‏ اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي سمعه عاصم بن عدي‏.‏ وقيل حذيفة‏.‏ وقيل‏:‏ بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد؛ فيما قال ابن إسحاق‏.‏ وقال غيره‏:‏ اسمه مصعب‏.‏ فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره؛ ففيه نزل‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل، عجز عن ذلك‏.‏ قال، ذلك هي الإشارة بقوله، ‏}‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في عبدالله بن أبي، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فعلا الغفاري الجهني‏.‏ فقال ابن أبي‏:‏ يا بني الأوس والخزرج، انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل‏:‏ سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏.‏ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاءه عبدالله بن أبي فحلف أنه لم يقله؛ قال قتادة‏.‏ وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين؛ قال الحسن‏.‏ ابن العربي‏:‏ وهو الصحيح؛ لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولقد قالوا كلمة الكفر‏}‏ قال النقاش‏:‏ تكذيبهم بما وعد الله من الفتح‏.‏ وقيل‏{‏كلمة الكفر‏}‏ قول الجلاس‏:‏ إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير‏.‏ وقول عبدالله بن أبي‏:‏ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏.‏ قال القشيري‏:‏ كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام‏.‏ ‏}‏وكفروا بعد إسلامهم‏}‏ أي بعد الحكم بإسلامهم‏.‏ فدل هذا على أن المنافقين كفار، وفي قوله تعالى‏{‏ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا‏}‏المنافقون‏:‏ 3‏]‏ دليل قاطع‏.‏ ودلت الآية أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة؛ وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة‏.‏ قال إسحاق بن راهويه‏:‏ ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع؛ لأنهم بأجمعهم قالوا‏:‏ من عُرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة‏.‏ ولم يعلموا منه إقرارا باللسان أنه يحكم له بالإيمان، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل دلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏ يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلا‏.‏ قال حذيفة‏:‏ سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم ولهم‏.‏ فقلت‏:‏ ألا تبعث إليهم فتقتلهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله بالدبيلة‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله وما الدبيلة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه‏)‏‏.‏ فكان كذلك‏.‏ خرجه مسلم بمعناه‏.‏ وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي ليجتمعوا عليه‏.‏ وقد تقدم قول مجاهد في هذا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله‏}‏ أي ليس ينقمون شيئا؛ كما قال النابغة‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

ويقال‏:‏ نقَم ينقِم، ونقِم ينقَم؛ قال الشاعر في الكسر‏:‏

ما نقِموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا

وقال زهير‏:‏

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقَم

ينشد بكسر القاف وفتحها‏.‏ قال الشعبي‏:‏ كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا‏.‏ ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا‏.‏ ويقال‏:‏ إن القتيل كان مولى الجلاس‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم‏.‏ وهذا المثل مشهور‏:‏ اتق شر من أحسنت إليه‏.‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه‏؟‏ قال نعم، ‏}‏وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإن يتوبوا يكن خيرا لهم‏}‏ روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب‏.‏ فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان؛ وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق‏.‏ وقد اختلف في ذلك العلماء؛ فقال الشافعي‏:‏ تقبل توبته‏.‏ وقال مالك‏:‏ توبة الزنديق لا تعرف؛ لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله‏.‏ وكذلك يفعل الآن في كل حين، يقول‏:‏ أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر؛ فإذا عثر عليه وقال‏:‏ تبت، لم يتغير حاله عما كان عليه‏.‏ فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته؛ وهو المراد بالآية‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن يتولوا‏}‏ أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة ‏}‏يعذبهم الله عذابا أليما‏}‏ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار‏.‏ ‏}‏وما لهم في الأرض من ولي‏}‏ أي مانع يمنعهم ‏}‏ولا نصير‏}‏ أي معين‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 75 ‏:‏ 76 ‏)‏

‏{‏ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومنهم من عاهد الله‏}‏ قال قتادة‏:‏ هذا رجل من الأنصار قال‏:‏ لئن رزقني الله شيئا لأؤدين فيه حقه ولأتصدقن؛ فلما آتاه الله ذلك فعل ما نُص عليكم، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور‏.‏ وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ‏(‏فسماه‏)‏ قال للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالا‏.‏ فقال عليه السلام ‏(‏ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه‏)‏ ثم عاود ثانيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت‏)‏ فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه‏.‏ فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، وترك ما سواهما‏.‏ ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا ويح ثعلبة‏)‏ ثلاثا‏.‏ ثم نزل ‏}‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، وقال لهما‏:‏ ‏(‏مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما‏)‏ فأتيا ثعلبة وأقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا‏.‏ الحديث، وهو مشهور‏.‏ وقيل‏:‏ سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له‏.‏ قاله ابن عبدالبر‏:‏ قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه ‏}‏ومنهم من عاهد الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية؛ إذ منع الزكاة، فالله أعلم‏.‏ وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية‏{‏فأعقبهم نفاقا في قلوبهم‏}‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار‏:‏ إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه‏.‏ فلما سلم بخل بذلك فنزلت‏.‏

قلت‏:‏ وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان؛ حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أشبه بنزول الآية فيهم؛ إلا أن قوله ‏}‏فأعقبهم نفاقا‏}‏ يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى‏:‏ زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى‏{‏إلى يوم يلقونه‏}‏ على ما يأتي‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ لما قال الله تعالى‏{‏ومنهم من عاهد الله‏}‏ احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه‏.‏ واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة؛ فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها‏.‏ و‏}‏من‏}‏ رفع بالابتداء والخبر في المجرور‏.‏ ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام، أما إنه في صيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه، وقد أتى بلامين الأولى للقسم والثانية لام الجواب، وكلاهما للتأكيد‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إنهما لا ما القسم؛ والأول أظهر، والله أعلم‏.‏

العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به؛ قاله علماؤنا‏.‏ وقال الشافعي وأبو حنيفة‏:‏ لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا‏.‏ ابن العربي‏:‏ والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك، وقد سئل‏:‏ إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال‏:‏ يلزمه؛ كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا أصل بديع، وتحريره أن يقال‏:‏ عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية‏.‏ أصله الإيمان والكفر‏.‏

قلت‏:‏ وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به‏)‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء‏.‏ هذا هو الأشهر عن مالك‏.‏ وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه؛ كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه‏.‏ والأول أصح في النظر وطريق الأثر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تجاوز الله لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعلمه يد‏)‏‏.‏

إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية‏.‏ وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق‏.‏ بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة؛ فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة، أو نية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة‏.‏ نعوذ بالله من ذلك‏.‏

قلت‏:‏ ومن هذا المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيب الله عز وجل من أمنيته‏)‏ أي من عاقبتها، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغي فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى، لأن أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها‏.‏ وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها‏.‏

قوله تعالى‏{‏لئن آتانا من فضله لنصدقن‏}‏ دليل على أن من قال‏:‏ إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه؛ وبه قال أبو حنيفة‏:‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يلزمه‏.‏ والخلاف في الطلاق مثله، وكذلك في العتق‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق؛ لأن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر؛ بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محل، وهو لا يثبت في الذمة‏.‏ احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك‏)‏ لفظ الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبدالله بن عمرو حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب‏.‏ وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم‏.‏ ابن العربي‏:‏ وسرد أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شيء فلا يعول عليها، ولم يبق إلا ظاهر الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلما آتاهم من فضله‏}‏ أي أعطاهم‏.‏ ‏}‏بخلوا به‏}‏ أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا‏.‏ وقد مضى البخل في ‏}‏آل عمران‏}‏‏.‏ ‏}‏وتولوا‏}‏ أي عن طاعة الله‏.‏ ‏}‏وهم معرضون‏}‏ أي عن الإسلام، أي مظهرون للإعراض عنه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 77 ‏:‏ 78 ‏)‏

‏{‏فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأعقبهم نفاقا‏}‏ مفعولان أي أعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم‏.‏ وقيل‏:‏ أي أعقبهم البخل نفاقا؛ ولهذا قال‏{‏بخلوا به‏}‏‏.‏ ‏}‏إلى يوم يلقونه‏}‏ في موضع خفض؛ أي يلقون بخلهم، أي جزاء بخلهم؛ كما يقال‏:‏ أنت تلقي غدا عملك‏.‏ وقيل‏{‏إلى يوم يلقونه‏}‏ أي يلقون الله‏.‏ وفي هذا دليل على أنه مات منافقا‏.‏ وهو يبعد أن يكون المنزل فيه ثعلبة أو حاطب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر‏:‏ ‏(‏وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏ وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها‏.‏ ‏}‏بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون‏}‏ كذبهم نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏نفاقا‏}‏ النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر‏.‏ فأما إذا كان في الأعمال فهو معصية‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها‏.‏ إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر‏)‏ خرجه البخاري‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ اشتقاق هذه الكلمة، فلا معنى لإعادتها‏.‏ واختلف الناس في تأويل هذا الحديث؛ فقالت طائفة‏:‏ إنما ذلك لمن يحدث بحديث يعلم أنه كذب، ويعهد عهدا لا يعتقد الوفاء به، وينتظر الأمانة للخيانة فيها‏.‏ وتعلقوا بحديث ضعيف الإسناد، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خارجين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما ثقيلان فقال علي‏:‏ مالي أراكما ثقيلين‏؟‏ قالا حديثا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنافقين ‏(‏إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف‏)‏ فقال علي‏:‏ أفلا سألتماه‏؟‏ فقالا‏:‏ هبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لكني سأسأله؛ فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، خرج أبو بكر وعمر وهما ثقيلان، ثم ذكر ما قالاه، فقال‏:‏ ‏(‏قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي وضعاه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون‏)‏ ابن العربي‏:‏ قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو تكذيب له تعالى الله وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وتعلقوا بما رواه مقاتل بن حيان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس قالا‏:‏ أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه فقلنا‏:‏ يا رسول الله، إنك قلت ‏(‏ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلي وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق‏)‏ فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولم يسلم منهن كثير من الناس؛ قال‏:‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏مالكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين كما خصهم الله في كتابه أما قولي إذا حدث كذب فذلك قوله عز وجل ‏}‏إذا جاءك المنافقون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ - الآية - ‏(‏أفأنتم كذلك‏)‏‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي ‏}‏ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله‏}‏ - الآيات الثلاث - ‏(‏أفأنتم كذلك‏)‏ ‏؟‏ قلنا لا، والله لو عاهدنا الله على شيء أوفينا به‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي وإذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي ‏}‏إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏ - الآية - ‏(‏فكل إنسان مؤتمن على دينه فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية أفأنتم كذلك‏)‏‏؟‏ قلنا لا قال‏:‏ ‏(‏لا عليكم أنتم من ذلك براء‏)‏‏.‏ وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة‏.‏ قالت طائفة‏:‏ هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال‏.‏ ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ إن إخوة يوسف عليه السلام عاهدوا أباهم فأخلفوه، وحدثوه فكذبوه، وائتمنهم على يوسف فخانوه وما كانوا منافقين‏.‏ قال عطاء بن أبي رباح‏:‏ قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن البصري‏:‏ النفاق نفاقان، نفاق الكذب ونفاق العمل؛ فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة‏.‏ وروى البخاري عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان‏.‏

قوله تعالى‏{‏ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم‏}‏ هذا توبيخ، وإذا كان عالما فإنه سيجازيهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 79 ‏)‏

‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات‏}‏ هذا أيضا من صفات المنافقين‏.‏ قال قتادة‏{‏يلمزون‏}‏ يعيبون‏.‏ قال‏:‏ وذلك أن عبدالرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله، وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق منها بأربعة آلاف‏.‏ فقال قوم‏:‏ ما أعظم رياءه؛ فأنزل الله‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات‏}‏‏.‏ وجاء رجل من الأنصار بنصف صبرة من تمره فقالوا‏:‏ ما أغنى الله عن هذا؛ فأنزل الله عز وجل ‏}‏والذين لا يجدون إلا جهدهم‏}‏ الآية‏.‏ وخرج مسلم عن أبي مسعود قال‏:‏ أمرنا بالصدقة - قال‏:‏ كنا نحامل، في رواية‏:‏ على ظهورنا - قال‏:‏ فتصدق أبو عقيل بنصف صاع‏.‏ قال‏:‏ وجاء إنسان بشيء أكثر منه فقال المنافقون‏:‏ إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء‏:‏ فنزلت ‏}‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم‏}‏‏.‏ يعني أبا عقيل، واسمه الحبحاب‏.‏ والجهد‏:‏ شيء قليل يعيش به المقل‏.‏ والجُهد والجَهد بمعنى واحد‏.‏ وقد تقدم‏.‏ و‏}‏يلمزون‏}‏ يعيبون‏.‏ وقد تقدم‏.‏ و‏}‏المطوعين‏}‏ أصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء؛ وهم الذين يفعلون الشيء تبرعا من غير أن يجب عليهم‏.‏ ‏}‏والذين‏}‏ في موضع خفض عطف على ‏}‏المؤمنين‏}‏‏.‏ ولا يجوز أن يكون عطفا على الاسم قبل تمامه‏.‏ ‏}‏فيسخرون‏}‏ عطف على ‏}‏يلمزون‏}‏‏.‏ ‏}‏سخر الله منهم‏}‏ خبر الابتداء، وهو دعاء عليهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو خبر؛ أي سخر منهم حيث صاروا إلى النار‏.‏ ومعنى سخر الله مجازاتهم على سخريتهم‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 80 ‏)‏

‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏استغفر لهم‏}‏ يأتي بيانه عند قوله تعالى‏{‏ولاتصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏التوبة‏:‏ 84‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 81 ‏)‏

‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم‏}‏ أي بقعودهم‏.‏ قعد قعودا ومقعدا؛ أي جلس‏.‏ وأقعده غيره؛ عن الجوهري‏.‏ والمخلف المتروك؛ أي خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد؛ قولان، وكان هذا في غزوة تبوك‏.‏ ‏}‏خلاف رسول الله‏}‏ مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا‏.‏ والخلاف المخالفة‏.‏ ومن قرأ ‏}‏خلف رسول الله‏}‏ أراد التأخر عن الجهاد‏.‏ ‏}‏وقالوا لا تنفروا في الحر‏}‏ أي قال بعضهم لبعض ذلك‏.‏ ‏}‏قل نار جهنم‏}‏ قل لهم يا محمد نار جهنم‏.‏ ‏}‏أشد حرا لو كانوا يفقهون‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏}‏حرا‏}‏ نصب على البيان؛ أي من ترك أمر الله تعرض لتلك النار‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 82 ‏)‏

‏{‏فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فليضحكوا قليلا‏}‏ أمر، معناه معنى التهديد وليس أمرا والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها‏.‏ قال الحسن‏{‏فليضحكوا قليلا‏}‏ في الدنيا ‏}‏وليبكوا كثيرا‏}‏ في جهنم‏.‏ وقيل‏:‏ هو أمر بمعنى الخبر‏.‏ أي إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا‏.‏ ‏}‏جزاء‏}‏ مفعول من أجله؛ أي للجزاء‏.‏

من الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف، وإن كان عبدا صالحا‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لوددت أني كنت شجرة تعضد‏)‏ خرجه الترمذي‏.‏ وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك‏.‏ وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول‏:‏ الله أضحك وأبكى‏.‏ وكان الصحابة يضحكون؛ إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏أن كثرته تميت القلب‏)‏ وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدة عقابه فمحمود؛ قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت‏)‏ خرجه ابن المبارك من حديث أنس وابن ماجة أيضا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 83 ‏)‏

‏{‏فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن رجعك الله إلى طائفة منهم‏}‏ أي المنافقين‏.‏ وإنما قال‏{‏إلى طائفة‏}‏ لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له، ثم عفا وتاب عليهم؛ كالثلاثة الذين خلفوا‏.‏ وسيأتي‏.‏ ‏}‏فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا‏}‏ أي عاقبهم بألا تصحبهم أبدا‏.‏ وهو كما قال في ‏}‏سورة الفتح‏}‏‏{‏قل لن تتبعونا‏}‏الفتح‏:‏ 15‏]‏‏.‏ و‏}‏الخالفين‏}‏ جمع خالف؛ كأنهم خلقوا الخارجين‏.‏ قال ابن عباس‏{‏الخالفين‏}‏ من تخلف من المنافقين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ مع النساء والضعفاء من الرجال، فغلب المذكر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فأقعدوا مع الفاسدين؛ من قولهم فلان خالفة أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم؛ من خلوف فم الصائم‏.‏ ومن قولك‏:‏ خلف اللبن؛ أي فسد بطول المكث في السقاء؛ فعلى هذا يعني فاقعدوا مع الفاسدين‏.‏ وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 84 ‏)‏

‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون‏}‏

روي أن هذه الآية نزلت في شأن عبدالله بن أبي سلول وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه‏.‏ ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما‏.‏ وتظاهرت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وأن الآية نزلت بعد ذلك‏.‏ وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه ‏}‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏ الآية؛ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه‏.‏ والروايات الثابتة على خلاف هذا، ففي البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف؛ فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من ‏[‏براءة‏]‏ ‏}‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏ ونحوه عن ابن عمر؛ خرجه مسلم‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ لما توفي عبدالله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما خيرني الله تعالى فقال‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة‏}‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ وسأزيد على سبعين‏)‏ قال‏:‏ إنه منافق‏.‏ فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ‏}‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره‏}‏ فترك الصلاة عليهم‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبي بناء على الظاهر من لفظ إسلامه‏.‏ ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه‏.‏

إن قال قائل فكيف قال عمر‏:‏ أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؛ ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم‏.‏ قيل له‏:‏ يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان القرآن ينزل على مراده، كما قال‏:‏ وافقت ربي في ثلاث‏.‏ وجاء‏:‏ في أربع‏.‏ وقد تقدم في البقرة‏.‏ فيكون هذا من ذلك‏.‏ ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ الآية‏.‏ لا أنه كان تقدم نهي على ما دل عليه حديث البخاري ومسلم‏.‏ والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ لأنها نزلت بمكة‏.‏ وسيأتي القول فيها‏.‏

قوله تعالى‏{‏استغفر لهم‏}‏ الآية‏.‏ بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار‏.‏ قال القشيري‏:‏ ولم يثبت ما يروي أنه قال‏:‏ ‏(‏لأزيدن على السبعين‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا خلاف ما يثبت في حديث ابن عمر ‏(‏وسأزيد على سبعين‏)‏ وفي حديث ابن عباس ‏(‏لو أعلم أني زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها‏]‏‏.‏ قال فصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ خرجه البخاري‏.‏

واختلف العلماء في تأويل قوله‏{‏استغفر لهم‏}‏ هل هو إياس أو تخيير، فقالت طائفة‏:‏ المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى‏{‏فلن يغفر الله لهم‏}‏التوبة‏:‏ 80‏]‏‏.‏ وذكر السبعين وفاق جرى، أو هو عادتهم في العبارة عن الكثرة والإغياء فإذا قال قائلهم‏:‏ لا أكلمه سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله‏.‏ لا أكلمه أبدا‏.‏ ومثله في الإغياء قوله تعالى‏{‏في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا‏}‏الحاقة‏:‏32‏]‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا‏)‏‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ هو تخيير - منهم الحسن وقتاده وعروة - إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر‏.‏ ولهذا لما أراد أن يصلي على ابن أبي قال عمر‏:‏ أتصلي على عدو الله، القائل يوم كذا كذا وكذا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني خيرت فاخترت‏)‏‏.‏ قالوا ثم نسخ هذا لما نزل ‏}‏سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم‏}‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏ ‏}‏ذلك بأنهم كفروا‏}‏التوبة‏:‏ 80‏]‏أي لا يغفر الله لهم لكفرهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏التوبة‏:‏113‏]‏ الآية‏.‏ وهذه الآية نزلت بمكة عند موت أبي طالب، على ما يأتي بيانه‏.‏ وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا‏.‏ وهو متقدم على هذه الآية التي فهم منها التخيير بقوله‏:‏ ‏(‏إنما خيرني الله‏)‏ وهذا مشكل‏.‏ فقيل‏:‏ إن استغفاره لعمه إنما كان مقصوده استغفارا مرجو الإجابة حتى تحصل له المغفرة‏.‏ وفي هذا الاستغفار استأذن عليه السلام ربه في أن يأذن له فيه لأمه فلم يأذن له فيه‏.‏ وأما الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه فهو استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له‏.‏ والله أعلم‏.‏

واختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبدالله؛ فقيل‏:‏ إنما أعطاه لأن عبدالله كان قد أعطى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر‏.‏ وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر - على ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص عبدالله، لتقاربهما في طول القامة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها، وقيل‏:‏ إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه‏.‏ والأول أصح؛ خرجه البخاري عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب؛ فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبدالله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه؛ فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه‏.‏ وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي‏]‏ كذا في بعض الروايات ‏(‏من قومي‏)‏ يريد من منافقي العرب‏.‏ والصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏رجال من قومه‏)‏‏.‏ ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير‏:‏ فأسلم وتاب لهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج‏.‏

لما قال تعالى‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا‏}‏ قال علماؤنا‏:‏ هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين‏.‏ واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين‏.‏ يؤخذ لأنه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى‏{‏إنهم كفروا بالله ورسوله‏}‏ فإذا زال الكفر وجبت الصلاة‏.‏ ويكون هذا نحو قوله تعالى‏{‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏المطففين‏:‏ 15‏]‏ يعني الكفار؛ فدل على أن غير الكفار يرونه وهم المؤمنون؛ فذلك مثله‏.‏ والله أعلم‏.‏ أو تؤخذ الصلاة من دليل خارج عن الآية، وهي الأحاديث الواردة في الباب، والإجماع‏.‏ ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه‏.‏ روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه‏)‏ قال‏:‏ فقمنا فصففنا صفين؛ يعني النجاشي‏.‏ وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلي وكبر أربع تكبيرات‏.‏ وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وعملا‏.‏ والحمد لله‏.‏ وأتفق العلماء على ذلك إلا في الشهيد كما تقدم؛ وإلا في أهل البدع والبغاة‏.‏

والجمهور من العلماء على أن التكبير أربع‏.‏ قال ابن سيرين‏:‏ كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ يكبر خمسا؛ وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم‏.‏ وعن علي‏:‏ ست تكبيرات‏.‏ وعن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد‏:‏ ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع‏.‏ روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الملائكة صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالوا هذه سنتكم يا بني آدم‏)‏‏.‏

ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك، وكذلك أبو حنيفة والثوري؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء‏)‏ رواه أبو داود من حديث أبي هريرة‏.‏ وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من علمائنا وداود إلى أنه يقرأ بالفاتحة؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏)‏ حملا له على عمومه‏.‏ وبما خرجه البخاري عن ابن عباس وصلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال‏:‏ لتعلموا أنها سنة‏.‏ وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال‏:‏ السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثا، والتسليم عند الآخرة‏.‏ وذكر محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة أيضا قال‏:‏ السنة في الصلاة على الجنائز أن تكبر، ثم تقرأ بأم القرآن، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تخلص الدعاء للميت‏.‏ ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم‏.‏ قال شيخنا أبو العباس‏:‏ وهذان الحديثان صحيحان، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند‏.‏ والعمل على حديث أبي أمامة أولى؛ إذ فيه جمع بين قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا صلاة‏)‏ وبين إخلاص الدعاء للميت‏.‏ وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء‏.‏ والله أعلم‏.‏

وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة، لما رواه أبو داود عن أنس وصلى على جنازة فقال له العلاء بن زياد‏:‏ يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال‏:‏ صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تقم على قبره‏}‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت، على ما بيناه (1)‏ والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 85 ‏)‏

‏{‏ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون‏}‏

كرره تأكيدا‏.‏ وقد تقدم الكلام فيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 86 ‏)‏

‏{‏وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين‏}‏

انتدب المؤمنون إلى الإجابة وتعلل المنافقون‏.‏ فالأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان وللمنافقين بابتداء الإيمان‏.‏ و‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب؛ أي بأن آمنوا‏.‏ و‏}‏الطول‏}‏ الغني؛ وقد تقدم‏.‏ وخصهم بالذكر لأن من لا طول له لا يحتاج إلى إذن لأنه معذور‏.‏ ‏}‏وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين‏}‏ أي العاجزين عن الخروج‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 87 ‏:‏ 89 ‏)‏

‏{‏رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏رضوا بأن يكونوا مع الخوالف‏}‏ ‏}‏الخوالف‏}‏ جمع خالفة؛ أي مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار من الرجال‏.‏ وقد يقال للرجل‏:‏ خالفة وخالف أيضا إذا كان غير نجيب؛ على ما تقدم‏.‏ يقال‏:‏ فلان خالفة أهله إذا كان دونهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأصله من خلف اللبن يخلف إذا حمض من طول مكثه‏.‏ وخلف فم الصائم إذا تغير ريحه؛ ومنه فلان خلف سوء؛ إلا أن فواعل جمع فاعله ولا يجمع فاعل صفة على فواعل إلا في الشعر؛ إلا في حرفين، وهما فارس وهالك‏.‏ وقوله تعالى في وصف المجاهدين‏{‏وأولئك لهم الخيرات‏}‏ قيل‏:‏ النساء الحسان؛ عن الحسن‏.‏ دليله قوله عز وجل‏{‏فيهن خيرات حسان‏}‏الرحمن‏:‏ 70‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ هي خيرة النساء‏.‏ والأصل خيرة فخفف؛ مثل هينة وهينة‏.‏ وقيل‏:‏ جمع خير‏.‏ فالمعنى لهم منافع الدارين‏.‏ وقد تقدم معنى الفلاح‏.‏ والجنات‏:‏ والبساتين‏.‏ وقد تقدم أيضا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 90 ‏)‏

‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب‏}‏ قرأ الأعرج والضحاك ‏}‏المعْذِرون‏}‏ مخففا‏.‏ ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وكان ابن عباس يقرأ ‏}‏وجاء المعْذرون‏}‏ مخففة، من أعذر‏.‏ ويقول‏:‏ والله لهكذا أنزلت‏.‏ قال النحاس‏:‏ إلا أن مدارها عن الكلبي، وهي من أعذر؛ ومنه قد أعذر من أنذر؛ أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك‏.‏ وأما ‏}‏المعذرون‏}‏ بالتشديد ففيه قولان‏:‏ أحدهما أنه يكون المحق؛ فهو في المعنى المعتذر، لأن له عذرا‏.‏ فيكون ‏}‏المعذرون‏}‏ على هذه أصله المعتذرون، ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت فيها وجعلت حركتها على العين؛ كما قرئ ‏}‏يخصمون‏}‏يس‏:‏ 49‏]‏ بفتح الخاء‏.‏ ويجوز ‏}‏المعذرون‏}‏ بكسر العين لاجتماع الساكنين‏.‏ ويجوز ضمها اتباعا للميم‏.‏ ذكره الجوهري والنحاس‏.‏ إلا أن النحاس حكاه عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيد‏.‏ ويجوز أن يكون الأصل المعتذرون، ثم أدغمت التاء في الذال؛ ويكونون الذين لهم عذر‏.‏ قال لبيد‏:‏

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والقول الآخر أن المعذر قد يكون غير محق، وهو الذي يعتذر ولا عذر له‏.‏ قال الجوهري‏:‏ فهو المعذر على جهة المفعل؛ لأنه الممرض والمقصر يعتذر بغير عذر‏.‏ قال غيره‏:‏ يقال عذر فلان في أمر كذا تعذيرا؛ أي قصر ولم يبالغ فيه‏.‏ والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وكان ابن عباس يقول‏:‏ لعن الله المعذرين‏.‏ كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر‏.‏ النحاس‏:‏ قال أبو العباس محمد بن يزيد ولا يجوز أن يكون الأصل فيه المعتذرين، ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس‏.‏ ذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه، بعد أن كان سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم، قال‏:‏ لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذر‏.‏ وقول العرب‏:‏ من عذيري من فلان، معناه قد أتى أمرا عظيما يستحق أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به؛ فمن يعذرني إن عاقبته‏.‏ فعلى قراءة التخفيف قال ابن عباس‏:‏ هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ هم رهط عامر بن الطفيل قالوا‏:‏ يا رسول الله، لو غزونا معك أغارت أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا؛ فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعلى قراءة التشديد في القول الثاني، هم قوم من غفار اعتذروا فلم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أنهم غير محقين، والله أعلم‏.‏ وقعد قوم بغير عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال‏{‏وقعد الذين كذبوا الله ورسوله‏}‏ والمراد بكذبهم قولهم‏:‏ إنا مؤمنون‏.‏ و‏}‏ليؤذن‏}‏ نصب بلام كي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 91 ‏)‏

‏{‏ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليس على الضعفاء‏}‏ الآية‏.‏ أصل في سقوط التكليف عن العاجز؛ فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى‏{‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏}‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ وقوله‏{‏ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج‏}‏النور‏:‏ 61‏]‏‏.‏ وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏حبسهم العذر‏)‏‏.‏ فبينت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون؛ فقال‏:‏ ليس على هؤلاء حرج‏.‏ ‏}‏إذا نصحوا لله ورسوله‏}‏ إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه قال العلماء‏:‏ فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار، وما صبرت القلوب؛ فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره وقرأ ‏}‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏}‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏ هذه عزائم القوم‏.‏ والحق يقول‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏النور‏:‏ 61‏]‏ وهو في الأول‏.‏ ‏}‏ولا على الأعرج حرج‏}‏النور‏:‏61‏]‏ وعمرو بن الجموح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش‏.‏ قال له الرسول عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الله قد عذرك‏)‏ فقال‏:‏ والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة؛ إلى أمثالهم حسب ما تقدم في هذه السورة من ذكرهم رضي الله عنهم‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذا نصحوا‏}‏ النصح إخلاص العمل من الغش‏.‏ ومنه التوبة النصوح‏.‏ قال نفطويه‏:‏ نصح الشيء إذا خلص‏.‏ ونصح له القول أي أخلصه له‏.‏ وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الدين النصيحة‏)‏ ثلاثا‏.‏ قلنا لمن‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم‏)‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في محابّه والبعد من مساخطه‏.‏ والنصيحة لرسوله‏:‏ التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذا النصح لكتاب الله‏:‏ قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به‏.‏ والنصح لأئمة المسلمين‏:‏ ترك الخروج عليهم، إرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم‏.‏ والنصح للعامة‏:‏ ترك معاداتهم، وإرشادهم وحب الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم‏.‏ وفي الحديث الصحيح ‏(‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ ‏}‏من سبيل‏}‏ في موضع رفع اسم ‏}‏ما‏}‏ أي من طريق إلى العقوبة‏.‏ وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن‏.‏ ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه‏:‏ إنه لا دية له؛ لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تلزمه الدية‏.‏ وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه؛ وبه قال الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تلزمه لمالكه القيمة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 92 ‏)‏

‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم‏}‏ روي أن الآية نزلت في عرباض بن سارية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في عائذ بن عمرو‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في بني مقرن - وعلى هذا جمهور المفسرين - وكانوا سبعة إخوة، كلهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم، وهم النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وسابع لم يسم‏.‏ بنو مقرن المزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم - فيما ذكره ابن عبدالبر وجماعة - في هذه المكرمة غيرهم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنهم شهدوا الخندق كلهم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، وهم البكاؤون أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم، فلم يجد ما يحملهم عليه؛ فـ ‏}‏تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون‏}‏ فسموا البكائين‏.‏ وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف وعلبة بن زيد أخو بني حارثة‏.‏ وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار‏.‏ وعمرو بن الحمام من بني سلمة‏.‏ وعبدالله بن المغفل المزني، وقيل‏:‏ بل هو عبدالله بن عمرو المزني‏.‏ وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري، هكذا سماهم أبو عمر في كتاب الدرر له‏.‏ وفيهم اختلاف‏.‏ قال القشيري‏:‏ معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبدالله بن كعب الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبدالله بن مغفل وآخر‏.‏ قالوا‏:‏ يا نبي الله، قد ندبتنا للخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة نغز معك‏.‏ فقال‏{‏لا أجد ما أحملكم عليه‏}‏ فتولوا وهم يبكون‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ سألوه أن يحملهم على الدواب، وكان الرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل ماءه وزاده لبعد الطريق‏.‏ وقال الحسن‏:‏ نزلت في أبي موسى وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه، ووافق ذلك منه غضبا فقال‏{‏والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا يبكون؛ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذودا‏.‏ فقال أبو موسى‏:‏ ألست حلفت يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم بلفظه ومعناه‏.‏ وفي مسلم‏:‏ فدعا بنا فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ وفي آخره‏:‏ ‏(‏فانطلقوا فإنما حملكم الله‏)‏‏.‏ وقال الحسن أيضا وبكر بن عبدالله‏:‏ نزلت في عبدالله بن مغفل المزني، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله‏.‏ قال الجرجاني‏:‏ التقدير أي ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وقلت لا أجد‏.‏ فهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو، والجواب ‏}‏تولوا‏}‏‏.‏ ‏}‏وأعينهم تفيض من الدمع‏}‏ الجملة في موضع نصب على الحال‏.‏ ‏}‏حزنا‏}‏ مصدر‏.‏ ‏}‏ألا يجدوا‏}‏ نصب بأن‏.‏ وقال النحاس‏:‏ قال الفراء يجوز أن لا يجدون؛ يجعل لا بمعنى ليس‏.‏ وهو عند البصريين بمعنى أنهم لا يجدون‏.‏

والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوه أنه لا يجب عليه‏.‏ وقال علماؤنا‏:‏ إذا كانت عادته المسألة لزمه كالحج وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأعينهم تفيض من الدمع‏}‏ ما يستدل به على قرائن الأحوال‏.‏ ثم منها ما يفيد العلم الضروري، ومنها ما يحتمل الترديد‏.‏ فالأول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت الخدود وحلقت الشعور وسلقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور؛ فيعلم أنه قد مات‏.‏ وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحكام؛ قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف عليه السلام‏{‏وجاؤوا أباهم عشاء يبكون‏}‏يوسف‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وهم الكاذبون؛ قال الله تعالى مخبرا عنهم‏{‏وجاؤوا على قميصه بدم كذب‏}‏يوسف‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب فتبني عليها الشهادات بناء على ظواهر الأحوال وغالبها‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكي

وسيأتي هذا المعنى في ‏}‏يوسف‏}‏ مستوفى إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 93 ‏)‏

‏{‏إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما السبيل‏}‏ أي العقوبة والمأثم‏.‏ ‏}‏على الذين يستأذنونك وهم أغنياء‏}‏ والمراد المنافقون‏.‏ كرر ذكرهم للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 94 ‏)‏

‏{‏يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يعتذرون إليكم‏}‏ يعني المنافقين‏.‏ ‏}‏لن نؤمن لكم‏}‏ أي لن نصدقكم‏.‏ ‏}‏قد نبأنا الله من أخباركم‏}‏ أي أخبرنا بسرائركم‏.‏ ‏}‏وسيرى الله عملكم‏}‏ فيما تستأنفون‏.‏ ‏}‏ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ أي يجازيكم بعملكم‏.‏ وقد مضى هذا كله مستوفى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 95 ‏)‏

‏{‏سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم‏}‏ أي من تبوك‏.‏ والمحلوف عليه محذوف؛ أي يحلفون أنهم ما قدروا على الخروج‏.‏ ‏}‏لتعرضوا عنهم‏}‏ أي لتصفحوا عن لومهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي لا تكلموهم‏.‏ وفي الخبر أنه قال عليه السلام لما قدم من تبوك‏:‏ ‏(‏ولا تجالسوهم ولا تكلموهم‏)‏‏.‏ ‏}‏إنهم رجس‏}‏ أي عملهم رجس؛ والتقدير‏:‏ إنهم ذوو رجس؛ أي عملهم قبيح‏.‏ ‏}‏ومأواهم جهنم‏}‏ أي منزلهم ومكانهم‏.‏ قال الجوهري‏:‏ المأوى كل مكان يأوي إليه شيء ليلا أو نهارا‏.‏ وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا، على فعول، وإواء‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏سآوي إلى جبل يعصمني من الماء‏}‏هود‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وآويته أنا إيواء‏.‏ وأويته إذا أنزلته بك؛ فعلت وأفعلت، بمعنى؛ عن أبى زيد‏.‏ ومأوي الإبل ‏}‏بكسر الواو‏}‏ لغة في مأوى الإبل خاصة، وهو شاذ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 96 ‏)‏

‏{‏يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين‏}‏

حلف عبدالله بن أبي ألا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وطلب أن يرضى عنه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 97 ‏)‏

‏{‏الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم‏}‏

لما ذكر جل وعز أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجا منها ونائيا من الأعراب؛ فقال كفرهم أشد‏.‏ قال قتادة‏:‏ لأنهم أبعد عن معرفة السنن‏.‏ وقيل‏:‏ لأنهم أقسى قلبا وأجفى قولا وأغلظ طبعا وأبعد عن سماع التنزيل؛ ولذلك قال الله تعالى في حقهم‏{‏وأجدر‏}‏ أي أخلق‏.‏ ‏}‏ألا يعلموا‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع نصب بحذف الباء؛ تقول‏:‏ أنت جدير بأن تفعل وأن تفعل؛ فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا بـ ‏}‏أن‏}‏ وإن أتيت بالباء صلح بـ ‏}‏أن‏}‏ وغيره؛ تقول‏:‏ أنت جدير أن تقوم، وجدير بالقيام‏.‏ ولو قلت‏:‏ أنت جدير القيام كان خطأ‏.‏ وإنما صلح مع ‏}‏أن‏}‏ لأن أن يدل على الاستقبال فكأنها عوض من المحذوف‏.‏ ‏}‏حدود ما أنزل الله‏}‏ أي فرائض الشرع‏.‏ وقيل‏:‏ حجج الله في الربوبية وبعثة الرسل لقلة نظرهم‏.‏

ولما كان ذلك ودل على نقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة عن سواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة‏:‏

أولها‏:‏ لا حق لهم في الفيء والغنيمة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث بريدة، وفيه‏:‏ ‏(‏ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين‏)‏‏.‏

وثانيها‏:‏ إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة؛ لما في ذلك من تحقق التهمة‏.‏ وأجازها أبو حنيفة قال‏:‏ لأنها لا تراعي كل تهمة، والمسلمون كلهم عنده على العدالة‏.‏ وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا؛ وهو الصحيح لما بيناه في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وقد وصف الله تعالى الأعراب هنا أوصافا ثلاثة‏:‏ أحدها‏:‏ بالكفر والنفاق‏.‏ والثاني‏:‏ بأنه يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر‏.‏ والثالث‏:‏ بالإيمان بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول؛ فمن كانت هذه صفته فبعيد ألا تقبل شهادته فيلحق بالثاني والأول، وذلك باطل‏.‏ وقد مضى الكلام في هذا في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏

وثالثها‏:‏ أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم الجمعة‏.‏ وكره أبو مجلز إمامة الأعرابي‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا يؤم وإن كان أقرأهم‏.‏ وقال سفيان الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي‏:‏ الصلاة خلف الأعرابي جائزة‏.‏ واختاره ابن المنذر إذا أقام حدود الصلاة‏.‏

قوله تعالى‏{‏أشد‏}‏ أصله أشدد؛ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏كفرا‏}‏ نصب على البيان‏.‏ ‏}‏ونفاقا‏}‏ عطف عليه‏.‏ ‏}‏وأجدر‏}‏ عطف على أشد، ومعناه أخلق؛ يقال‏:‏ فلان جدير بكذا أي خليق به، وأنت جدير أن تفعل كذا، والجمع جدراء وجديرون‏.‏ وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء‏.‏ فقوله‏:‏ هو أجدر بكذا أي أقرب إليه وأحق به‏.‏ ‏}‏ألا يعلموا‏}‏ أي بألا يعلموا‏.‏ والعرب‏:‏ جيل من الناس، والنسبة إليهم عربي بين العروبة، وهم أهل الأمصار‏.‏ والأعراب منهم سكان البادية خاصة‏.‏ وجاء في الشعر الفصيح أعاريب‏.‏ والنسبة إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له، وليس الأعراب جمعا للعرب كما كان الأنباط جمعا لنبط؛ وإنما العرب اسم جنس‏.‏ والعرب العاربة هم الخلص منهم، وأخذ من لفظه وأكد به؛ كقولك‏:‏ ليل لائل‏.‏ وربما قالوا‏:‏ العرب العرباء‏.‏ وتعرب أي تشبه بالعرب‏.‏ وتعرب بعد هجرته أي صار أعرابيا‏.‏ والعرب المستعربة هم الذين ليسوا بخلص، وكذلك المتعربة، والعربية هي هذه اللغة‏.‏ ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية، وهو أبو اليمن كلهم‏.‏ والعُرب والعَرب واحد؛ مثل العجم والعجم‏.‏ والعريب تصغير العرب؛ قال الشاعر‏:‏

ومكن الضباب طعام العريب ولا تشتهيه نفوس العجم

إنما صغرهم تعظيما؛ كما قال‏:‏ أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب كله عن الجوهري‏.‏ وحكى القشيري وجمع العربي العرب، وجمع الأعرابي أعراب وأعاريب‏.‏ والأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب‏.‏ والمهاجرون والأنصار عرب لا أعراب‏.‏ وسميت العرب عربا لأن ولد إسماعيل نشؤوا من عربة وهي من تهامة فنسبوا إليها‏.‏ وأقامت قريش بعربة وهي مكة، وانتشر سائر العرب في جزيرتها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 98 ‏)‏

‏{‏ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الأعراب من يتخذ‏}‏ ‏}‏من‏}‏ في موضع رفع بالابتداء‏.‏ ‏}‏ما ينفق مغرما‏}‏ مفعولان؛ والتقدير ينفقه، فحذفت الهاء لطول الاسم‏.‏ ‏}‏مغرما‏}‏ معناه غرما وخسرانا؛ وأصله لزوم الشيء؛ ومنه‏{‏إن عذابها كان غراما‏}‏الفرقان‏:‏ 65‏]‏ أي لازما، أي يرون ما ينفقونه في جهاد وصدقة غرما ولا يرجون عليه ثوابا‏.‏ ‏}‏ويتربص بكم الدوائر‏}‏ التربص الانتظار؛ وقد تقدم‏.‏ والدوائر جمع دائرة، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية، أي يجمعون إلى الجهل بالإنفاق سوء الدخلة وخبث القلب‏.‏ ‏}‏عليهم دائرة السوء‏}‏ قرأه ابن كثير وأبو عمرو بضم السين هنا وفي الفتح، وفتحها الباقون‏.‏ وأجمعوا على فتح السين في قوله‏{‏ما كان أبوك امرأ سوء‏}‏مريم‏:‏ 28‏]‏‏.‏ والفرق بينهما أن السُوء بالضم المكروه‏.‏ قال الأخفش‏:‏ أي عليهم دائرة الهزيمة والشر‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أي عليهم دائرة العذاب والبلاء‏.‏ قالا‏:‏ ولا يجوز امرأ سُوء بالضم؛ كما لا يقال‏:‏ هو امرؤ عذاب ولا شر‏.‏ وحكي عن محمد بن يزيد قال‏:‏ السَوء بالفتح الرداءة‏.‏ قال سيبوبه‏:‏ مررت برجل صدق، ومعناه برجل صلاح‏.‏ وليس من صدق اللسان، ولو كان من صدق اللسان لما قلت‏:‏ مررت بثوب صدق‏.‏ ومررت برجل سوء ليس هو من سُؤته، وإنما معناه مررت برجل فساد‏.‏ وقال الفراء‏:‏ السوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية‏.‏ قال غيره‏:‏ والفعل منه ساء يسوء‏.‏ والسوء بالضم اسم لا مصدر؛ وهو كقولك‏:‏ عليهم دائرة البلاء والمكروه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 99 ‏)‏

‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله‏}‏ أي صدق‏.‏ والمراد بنو مقرن من مزينة؛ ذكره المهدوي‏.‏ ‏}‏قربات‏}‏ جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى؛ والجمع قرب وقربات وقربات وقربات؛ حكاه النحاس‏.‏ والقربات بالضم ما تقرب به إلى الله تعالى؛ تقول منه‏:‏ قربت لله قربانا‏.‏ والقربة بكسر القاف ما يستقي فيه الماء؛ والجمع في أدنى العدد قِرْبات وقِرِبات وقِرَبات، وللكثير قرب‏.‏ وكذلك جمع كل ما كان على فعلة؛ مثل سدرة وفقرة، لك أن تفتح العين وتكسر وتسكن؛ حكاه الجوهري‏.‏ وقرأ نافع في رواية ورش ‏}‏قربة‏}‏ بضم الراء وهي الأصل‏.‏ والباقون بسكونها تخفيفا؛ مثل كتب ورسل، ولا خلاف في قربات‏.‏ وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ ‏}‏ألا إنها قربة لهم‏}‏‏.‏ ومعنى ‏}‏وصلوات الرسول‏}‏ استغفاره ودعاؤه‏.‏ والصلاة تقع على ضروب؛ فالصلاة من الله جل وعز الرحمة والخير والبركة؛ قال الله تعالى‏{‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏}‏الأحزاب‏:‏43‏]‏ والصلاة من الملائكة الدعاء، وكذلك هي من النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال‏{‏وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏}‏التوبة‏:‏103‏]‏ أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة‏.‏ ‏}‏ألا إنها قربة لهم‏}‏ أي تقربهم من رحمة الله، يعني نفقاتهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 100 ‏)‏

‏{‏والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم‏}‏

لما ذكر جل وعز أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين، وأثنى عليهم‏.‏ وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم‏.‏ ونحن نذكر من ذلك طرفا نبين الغرض فيه إن شاء الله تعالى‏.‏ وروى عمر بن الخطاب أنه قرأ ‏}‏والأنصار‏}‏ رفعا عطفا على السابقين‏.‏ قال الأخفش‏:‏ الخفض في الأنصار الوجه؛ لأن السابقين منهما‏.‏ والأنصار اسم إسلامي‏.‏ قيل لأنس بن مالك‏:‏ أرأيت قول الناس لكم‏:‏ الأنصار، اسم سماكم الله به أم كنتم تدعون به في الجاهلية‏؟‏ قال‏:‏ بل اسم سمانا الله به في القرآن؛ ذكره أبو عمر في الاستذكار‏.‏

نص القرآن على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين؛ في قول سعيد بن المسيب وطائفة‏.‏ وفي قول أصحاب الشافعي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، وقال الشعبي‏.‏ وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار‏:‏ هم أهل بدر‏.‏ واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم‏.‏

وأما أفضلهم فقال أبو منصور البغدادي التميمي‏:‏ أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية‏.‏

وأما أولهم إسلاما فروى مجالد عن الشعبي قال‏:‏ سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما‏؟‏ قال أبو بكر، أو ما سمعت قول حسان‏:‏

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها بعد النبي وأوفاها بما حملا

الثاني التالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدق الرسلا

وذكر أبو الفرج الجوزي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون أنه قال‏:‏ أدركت أبي وشيخنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبدالرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر؛ وهو قول ابن عباس وحسان وأسماء بنت أبي بكر، وبه قال إبراهيم النخعي‏.‏ وقيل‏:‏ أول من أسلم علي؛ روي ذلك عن زيد بن أرقم وأبي ذر والمقداد وغيرهم‏.‏ قال الحاكم أبو عبدالله‏:‏ لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليا أولهم إسلاما‏.‏ وقيل‏:‏ أول من أسلم زيد بن حارثة‏.‏ وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري‏.‏ وهو قول سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس‏.‏ وقيل‏:‏ أول من أسلم خديجة أم المؤمنين؛ روي ذلك من وجوه عن الزهري، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار وجماعة، وروي أيضا عن ابن عباس‏.‏ وأدعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها‏.‏ وكان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي يجمع بين هذه الأخبار، فكان يقول‏:‏ أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال‏.‏ والله أعلم‏.‏ وذكر محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الأسود محمد بن عبدالرحمن بن نوفل قال‏:‏ كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعا أو خامسا‏.‏ قال الليث بن سعد وحدثني أبو الأسود قال‏:‏ أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين‏.‏ وروي إن عليا أسلم ابن سبع سنين‏.‏ وقيل‏:‏ ابن عشر‏.‏

والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه‏.‏ قال البخاري في صحيحه‏:‏ من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه‏.‏ وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين‏.‏ وهذا القول إن صح عن سعيد بن المسيب يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبدالله البجلي أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة‏.‏

لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ السبق يكون بثلاثة أشياء‏:‏ الصفة وهو الإيمان، والزمان، والمكان‏.‏ وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات؛ والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون الأولون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غدا والنصارى بعد غد‏)‏‏.‏ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبقنا من الأمم بالزمان سبقناهم بالإيمان والامتثال لأمر الله تعالى والانقياد إليه، والاستسلام لأمره والرضا بتكليفه والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه ولا نختار معه، ولا نبدل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب؛ وذلك بتوفيق الله لما قضاه، وبتيسيره لما يرضاه؛ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام‏.‏ وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏ واختلف العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم؛ فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضهم على بعض بحسب السابقة‏.‏ وكان عمر يقول له‏:‏ أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له‏؟‏ فقال أبو بكر‏:‏ إنما عملوا لله وأجرهم عليه‏.‏ وكان عمر يفضل في خلافته؛ ثم قال عند وفاته‏:‏ لئن عشت إلى غد لألحقن أسفل الناس بأعلاهم؛ فمات من ليلته‏.‏ والخلافة إلى يومنا هذا على هذا الخلاف‏.‏

قرأ عمر ‏}‏والأنصارُ‏}‏ رفعا‏.‏ ‏}‏الذين‏}‏ بإسقاط الواو نعتا للأنصار؛ فراجعه زيد بن ثابت، فسأل عمر أبي بن كعب فصدق زيدا؛ فرجع إليه عمر وقال‏:‏ ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد‏.‏ فقال أبي‏:‏ إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله في أول سورة الجمعة‏{‏وآخرين منهم لما يلحقوا بهم‏}‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏ وفي سورة الحشر‏{‏والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان‏}‏الحشر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وفي سورة الأنفال بقوله‏{‏والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم‏}‏الأنفال‏:‏ 74‏]‏‏.‏ فثبتت القراءة بالواو‏.‏ وبين تعالى بقوله‏{‏بإحسان‏}‏ ما يتبعون فيه من أفعالهم وأقوالهم، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات؛ إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم‏.‏

واختلف العلماء في التابعين ومراتبهم؛ فقال الخطيب الحافظ‏:‏ التابعي من صحب الصحابي؛ ويقال للواحد منهم‏:‏ تابع وتابعي‏.‏ وكلام الحاكم أبي عبدالله وغيره مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن اسم التابعين ينطلق على من أسلم بعد الحديبية؛ كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مسلمة الفتح؛ لما ثبت أن عبدالرحمن بن عوف شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد‏:‏ ‏(‏دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه‏)‏‏.‏ ومن العجب عد الحاكم أبو عبدالله النعمان وسويدا ابني مقرن المزني في التابعين عندما ذكر الإخوة من التابعين، وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة، وقد شهدا الخندق كما تقدم‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأكبر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وهم سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد؛ وعروة بن الزبير، وخارجه بن زيد، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وعبدالله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار‏.‏ وقد نظمهم بعض الأجلة في بيت واحد فقال‏:‏

فخذهم عبيدالله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ أفضل التابعين سعيد بن المسيب؛ فقيل له‏:‏ فعلقمة والأسود‏.‏ فقال‏:‏ سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود‏.‏ وعنه أيضا أنه قال‏:‏ أفضل التابعين قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق؛ هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين‏.‏ وقال أيضا‏:‏ كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة فهذان أكثر الناس عنهم؛ وأبهم‏.‏ وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال‏:‏ سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبدالرحمن، وثالثهما - وليست كهما - أم الدرداء‏.‏ وروي عن الحاكم أبي عبدالله قال‏:‏ طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة؛ منهم إبراهيم بن سويد النخعي وليس بإبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه‏.‏ وبكير بن أبي السميط، وبكير بن عبدالله الأشج‏.‏ وذكر غيرهم قال‏:‏ وطبقة عدادهم عند الناس في أتباع التابعين‏.‏ وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبدالله بن ذكوان، لقي عبدالله بن عمر وأنسا‏.‏ وهشام بن عروة، وقد أدخل على عبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله وموسى بن عقبة، وقد أدرك أنس بن مالك‏.‏ وأم خالد بنت خالد بن سعيد‏.‏ وفي التابعين طبقة تسمى بالمخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم‏.‏ واحدهم مخضرم بفتح الراء كأنه خضرم، أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها‏.‏ وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا، منهم أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبو عثمان النهدي وعبد خير بن يزيد الخيراني بفتح الخاء، بطن من همدان، وعبدالرحمن بن مل‏.‏ وأبو الحلال العتكي ربيعة بن زرارة‏.‏ وممن لم يذكره مسلم؛ منهم أبو مسلم الخولاني عبدالله بن ثوب، والأحنف بن قيس‏.‏ فهذه نبذة من معرفة الصحابة والتابعين الذين نطق بفضلهم القرآن الكريم، رضوان الله عليهم أجمعين‏.‏ وكفانا نحن قوله جل وعز‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ على ما تقدم، وقوله عز وجل‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ الآية‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وددت أنا لو رأينا إخواننا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏ فجعلنا إخوانه؛ إن اتقينا الله واقتفينا آثاره حشرنا الله في زمرته ولا حاد بنا عن طريقته وملته بحق محمد وآله‏.‏