الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي
.تفسير الآية رقم (55): يعني: أيليق بهم بعد أنْ أوضحنا لهم كلَّ هذه الآيات أنْ يلتفتوا إلى غير الله، ويقصدوه بالعبادة؟ وقوله تعالى: {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} [الفرقان: 55] البعض يرى أن هذه الآلهة نعم لا تنفع لكنها تضر، نقول لهم: هي لا تنفع، ولا تضر، أمَّا الذي يضر فهو الإله الحق الذي انصرفوا عنه إلى عبادة غيره، والمعنى هنا: {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ} [الفرقان: 55] إنْ عبدوه {وَلاَ يَضُرُّهُمْ} [الفرقان: 55] إنْ كفروا به وتركوه. والقرآن يُسمِّي فعلهم من هذه الآلهة عبادة، وهم أنفسهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3]. إذن: أثبتوا لهم عبادة، والعبادة طاعة العابد للمعبود فيما يأمر به، وفيما ينهي عنه، فما الذي أمرتْهم به الأصنام؟ وما الذي نهتْهم عنه؟ فكلمة عبادة هنا خطأ، وهم ما عبدوا هذه الآلهة إلا لأنها لا أوامر لها ولا التزام معها، فتديّنهم تديّن(فنطزية). وما أسهل أن تعبد إلهاً لا يأمرك ولا ينهاك، والذي يكرهونه في التديُّن الحقيقي أنه التزام وتكليف: افعل كذا، ولا تفعل كذا. لذلك ترى المسرفين على أنفسهم من خَلْق الله يتمنى كلٌّ منهم أن يكون هذا الدين كذباً، لماذا؟ ليسيروا على هواهم، ويعملوا ما يحلو لهم. كذلك رأينا الدجالين الذين ادَّعَوْا النبوة بداية من مسيلمة وسجاح، كيف كانوا يجذبون الناسَ إليهم؟ كانوا يجذبونهم بتخفيف الأوامر وتبسيط الدين، ولما شقَّتْ الزكاة على البعض أسقطوها من حسابهم، وأعفَوْ الناس منها.. إلخ. ولكل زمان دجالون يناسبون العصر الذي يعيشون فيه، وفي عصرنا الحاضر دجالون يُخفِّفون عنك الدين ويُطوِّعونه لأهواء الناس ورغباتهم، فلا مانع عندهم من الاختلاط، ولا بأس في أن ترتدي المرأة من اللباس ما تشاء.. إلى آخر هذه المسائل. ثم يقول سبحانه: {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً} [الفرقان: 55]. الظهير: هو المعين: كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. وكانوا في الماضي يحملون الأحمال على الظّهْر قبل اختراع آلات الحمل، وحتى الآن نرى(الشيالين) يحملون الأثقال على ظهروهم، ويخيطون لهم(ظهرية) يرتدونها على ظهورهم؛ لتحميهم ساعة حَمْل الأثقال، وإذا أراد أحدهم معاونة الآخر يقول له: أعطني ظهرك، فكان الظهر إذن بهذا المعنى. والظهر أيضاً يقتضي العلو، ومنه قوله تعالى عن السد الذي بناه ذو القرنين: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} [الكهف: 97] يعني: ما استطاعوا اعتلاءه. لكن، كيف يكون الكافر ظهرياً على الله؟ قالوا: لأنه يفعل المعصية، ويتخذ أُسْوة فيها يُقلده الناس، ولو كان طائعاً لكان أُسْوة خير ونموذجَ صلاحٍ، فالكافر أسوة شر، وأسوة فساد، وهو شيطان الإنس الذي يوازي شيطان الجن الذي عصى ربه، ورفض السجود لآدم. وتوعَّد ذريته حين قال: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]. وكلٌّ من شياطين الجن وشياطين الإنس يستعين بالنفس فيُسلِّطها على صاحبها حتى تُوقعه، فالإنسان حينما يستمع لنداء الشيطان، سواء شيطان الإنس أو شيطان الجن ويطيعه بعمل المخالفة، فإنه يُعينه على الله، والمعنى الصحيح: على معصية الله. كما أن الظهير يُطلق على مَنْ جعلْتَه وراء ظهرك، لا تأبه به، ولا تلتفت إليه، ومنه قول العرب:(لا تجعلنَّ حاجتي منك بظهر) يعني: اجعلها أمام عينيك لا تطوِها وراء ظهرك. إذن: فكِلاَ المعنيين جائز: ظهيراً أي: مُعِيناً، كأن الحق تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: اعلم يا محمد أن الكافر ظهير على الله، فقِفْ بالمرصاد، وجاهده ما استعطتَ، فكأنه تعالى يُحمِّس رسوله ليقف هذا الموقف، ويُشجِّعه ليكون من عدوه على حَذَر وعلى يقظة. أو: ظهيراً لا يُؤبه له، وهذا طمأنه لرسول الله، فالكافر هَيِّن على الله، فلا يهمك كيدهم. ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} .تفسير الآية رقم (56): صحيح أن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] لكن لا يعني هذا أن يهلك رسول الله نفسه في دعوتهم، ويألم أشد الألم لعدم إيمانهم؛ لأن مهمة الرسول البلاغ، وقد أسف رسول الله لحال قومه حتى خاطبه ربه بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6]. وما أمره الله بجهاد الكفار والمنافقين إلا ليحفزه، فلا يترك جُهْداً إلا بذله معهم، وإلاّ فأنت عندي مُبشِّر ومُنذِر {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً} [الفرقان: 56] أي: بالخير قبل أوانه ليتلفت الناس إلى وسائله {وَنَذِيراً} [الفرقان: 56] أي: بالشر قبل أوانه ليحذره الناس، ويجتنبوا أسبابه ووسائله. ثم يوجه رب العزة نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ ما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} .تفسير الآية رقم (57): في آية أخرى: يقول تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40]. يعني: غير قادرين على دَفْع الثمن؛ لأنهم بخلاء وعندهم كزازة؟ أو لا يريدون أنْ يُخرِجوا من جيوبهم شيئاً تنتفع أنت به؟ مع أنك لم تسألهم أجراً، فهل يعني ذلك أن النبي كان من المفروض أن يسألهم أجراً؟ قالوا: نعم؛ لأنه إذا قدَّم إنسانٌ لإنسان شيئاً نافعاً، فعليه أن يدفع له أجراً بمقتضى التبادل والمعاوضة، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لهم: لقد قدَّمتُ إليكم جميلاً يفترض أن لي عليه أجراً، لكني لا أريد منكم أجراً، والمسألة من عندي تفضُّل. وما هو الأجر؟ الأجر: جُعْلٌ يقابل عملاً، والثمن: جعل يقابل تملُّكاً، وقيمة هذا الجُعْل تختلف باختلاف مشقة العمل، وطُول زمنه، ومهارة العامل فيما يقتضيه العمل ومخاطر ما يقتضيه العمل. فكل مسألة من هذه ترفع من قيمة الأجر، فحين تسافر مثلاً تحتاج إلى(شيَّال) يحمل لك الحقائب، فتعطيه الأجر الذي يتناسب ومجهوده، فإن استأجرت سيارة وسِرْتَ بها مسافة فلابد أن الأجر سيزيد؛ لأنه أخَذ مجهوداً ووقتاً أكثر، فإن احتجتَ مثلاً سباكاً ليصلح لك شيئاً فسوف ترى ما في هذا العمل من المشقة، ولا تبخل عليه بأكثر من سابقيه. وربما كان العمل في نظرك بسيطاً لا يستغرق وقتاً، لكنه يحتاج إلى مهارة. هذه المهارة ليست وليدة اللحظة، ولكنها مجهود ونتيجة عوامل من التعلُّم والخبرة حتى وصل صاحبها إلى هذه المهارة. فالمهندس مثلاً الذي يُصمِّم لك منزلك في ساعة أو ساعتين، ومع ذلك يطلب مبلغاً كبيراً، لماذا؟ لأنه لا يتقاضى أجراً على هذا الوقت، إنما على سنواتٍ طويلة من الدراسة والمجهود والتحصيل، حتى وصل إلى هذه المهارة. إذن: كل أجر يُقدَّر بما يقابله من عمل، ويتناسب مع ما يقتضيه العمل من وقت ومجهود ومشقة ومخاطرة ومهارة.. ألخ. وإذا كان الأمر كذلك فانظروا إلىعمل الرسول وإلى مدى إفادتكم من رسالته، انظروا إلى المنهج الذي جاءكم به، وكيف أنه يريحكم مع أنفسكم، ويريحكم مع المجتمع، ويريحكم مع ربكم عز وجل، ويريحكم من شرور أنفسكم، ومن شرور الناس جميعاً. إذن: للرسول عمل كبير ومجهود عظيم، لو قدَّرْتَ له أجراً لكان كذلك عظيماً. إن الإنسان إذا أَجَّر مثلاً حارساً يحرسه بالليل، كم يدفع له؟ فالنبي يأتيك بمنهج يحرسك ويحميك في نفسك وفي مالك وفي عِرْضك وفي كل ما تملك، ولا يحميك من فئة معينة إنما يحميك من الناس أجمعين. بل إن حماية منهج الله لك لا تقتصر على الدنيا، إنما تتعدَّى إلى الآخرة، فتحميك فيها حماية ممتدة لا نهايةَ لها، فإنْ قدَّرْت لهذه الحماية أجراً، فكم يكون؟ إنما أنا أقول لك: لا أريد أجراً، لا كراهيةً في الأجر، بل لأنك أنت أيها الإنسان لا تستطيع تقدير هذا العمل أو تقييم الأجر عليه، أمَّا الذي يُقدِّر ذلك فهو ربِّي الذي بعثني، وأنت أيها العبد مهما قدَّمْتَ لي من أجر على ذلك فهو قليل. وحكينا قصة الرجل الطيب الذي قابلناه في الجزائر، يقف على الطريق يُلوِّح لسيارة تحمله، فوقفنا وفتحنا له الباب ليركب معنا، وقبل أن يركب قال: بكَمْ؟ يعني: الأجرة. فقال له صاحبي: لله، فقال الرجل: إذن فهي غالية جداً. هذا هو المعنى في قوله تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [هود: 29]. وفي موضع آخر يقول سبحانه: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72] فما العلاقة بين الأجر وبين {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72]؟ كأن المسلم ينبغي عليه أن يعمل العمل، لا لمن يعمل له، ولكن يعمله لله ليأخذ عليه الأجر الذي يناسب هذا العمل من يده تعالى، إنما إنْ أخذه من صاحبه فهو كالذي (فعل ليقال وقد قيل) وانتهتْ المسألة، وربما حتى لا يُشكر على عمله. لذلك وردتْ هذه العبارة على ألسنة كل الرسل: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109] وليس هناك آية طلب فيها الأجر الظاهر إلا هذه الآية التي نحن بصددها: {قُلْ ما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57]. وقوله تعالى: {إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23]. ومعنى: {إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57] أي: سبيلاً للمثوبة، وسبيلاً للأجر من جهاد في سبيل الله، أو صدقة على الفقراء.. إلخ. وقوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ} [الفرقان: 57] تدل على التخيير في دَفْع الأجر، فالرسول لا يأخذ إلا طواعية، والأجر: {أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57] من الجهاد والعمل الصالح، فكأن أجر الرسول العمل للغير، لتأخذ أنت الأجر من الله، فالرسول لا يأخذ شيئاً لنفسه. ونلحظ في آيات الأَجْر أنها جاءت مرة {أَجْراً} [الأنعام: 90] ومرة {مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] والبعض يرى أن(من) هنا زائدة، وهذا لا يُقال في كلام الله، عَيْب أن نتهم كلام الله بأن فيه زيادة، فكلُّ حرف فيه له معناه. وسبق أن ضربنا لمِنْ هذه مثلاً بقولنا: ما عندي مال، وما عندي من مال. فالأولى نفَتْ أنْ يكون عندك مالٌ يُعتدُّ به، لكن قد يكون عندك القليل منه، أما القول الثاني فيعني نَفْي المال مطلقاً بدايةً مِمَّا يقال له مال، إذن: فأيّهما أبلغ في النفي؟ فمِنْ هنا تفيد العموم. لذلك يقول تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] لماذا؟ لأنه سيعطيك ويُكافئك على قَدْره هو، وبما يناسب جُودَه تعالى وكرمه الذي لا ينفد، أما الإنسان فسيعطيك على قَدْره وفي حدود إمكاناته المحدودة. مَلْحظ آخر في هذه المسألة في سورة الشعراء، وهي أحفَلُ السُّور بذِكْر مسألة الأجر، حيث تعرَّضَتْ لموكب الرسل، فذكرت ثمانية هم: موسى وهارون وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب. تلحظ أن كل هؤلاء الرسل قالوا: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 109] عدا إبراهيم وموسى عليهما السلام لم يقولا هذه الكلمة، لماذا؟ قالوا: لأنك حين تطلب أجراً على عمل قمتَ به لا يكون هناك ما يُوجب عليك أنْ تعمل له مجاناً، فأنت لا تتقاضى أجراً إنْ عملتَ مثلاً مجاملةً لصديق، وكذلك إبراهيم عليه السلام أول ما دعا إلى الإيمان دعا عمه آزر، ومثل هذا لا يطلب منه أجراً، وموسى عليه السلام أول ما دعا دعا فرعون الذي احتضنه وربَّاه في بيته، ولو طلب منه أجراً لقال له: أيّ أجر وقد ربَّيتك وو.. إلخ. الآية الأخرى في الاستثناء هي قوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] فكأن المودة في القربى أجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رسالته، لكن أيُّ قُرْبى: قُرْبى النبي أم قُرْباكم؟ لا شكَّ أن النبي الذي يجعل حُبَّ القريب للقريب ورعايته له هو أجره، يعني بالقُرْبى قُرْبى المسلمين جميعاً، كما قال عنه ربُّه عَزَّ وجَلَّ: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. .تفسير الآية رقم (58): الحق تبارك وتعالى يُطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم يا محمد لا تهتم بكثرة الكفار ومكرهم بك وتعاونهم مع شياطين الإنس والجن؛ لأن هؤلاء سيتساقطون ويموتون، إما بأيديكم، أو بعذاب من عند الله، وعلى فَرْض أنهم عاشوا فلن تغلب قوتهم وحِيلُهم قوة الله تعالى ومكره، وإنْ توكلوا على أصنام لا تضر ولا تنفعَ، فتوكل أنت على الله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58]. والعاقل لا يتوكل إلا عل مَنْ يثق به ويضمن معانوته، وأنه سيوافقك في كل ما تريد، لكن ما جدوى أنْ تتوكل على أحد ليقضي لك مصلحة، وفي الصباح تسمع خبر موته؟ وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن ينصِّح خَلْقه: إنْ أردتَ أنْ تتوكل فتوكل على مَنْ ينفعك ولا يتركك، على مَنْ يظل على العهد معك لا يتخلى عنك، على مَنْ لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. هذه هي الفِطْنة. لكن ما جدوى أن تتوكل على مَنْ ليس فيه حياة؟ وعلى فرض أن فيه حياةً دائمة فلا تضمن ألا يتغير قلبه عليك؟ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] سبِّح يعني: نزِّه، والتنزيه تضعه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فلله وجود، ولك وجود، لكن وجوده تعالى ليس كوجودك، ولله صفة ولك نفس الصفة، لكن صفته تعالى ليست كصفتك، ولله تعالى فعل، ولك فعل، لكن فعله تعالى ليس كفعلك. إذن: نزَّه الله في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله عن مشابهة الخَلْق، وما دام الحق سبحانه مُنزَّهاً في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، فأنت تتوكّل على إله لا تطرأ عليه عوامل التغيير أبداً. وهذا التنزيه لله تعالى، وهذه العظمة والكبرياء له سبحانه في صالحك أنت أيها الإنسان، من صالحك ألاَّ يوجد لله شبيه، لا في وجوده، ولا في بقائه، ولا في تصرُّفه، من صالحك أن يعرف كل إنسان أن هناك مَنْ هو أعلى منه، وأن الخَلْق جميعاً محكومون بقانون الله، فهذا يضمن لك أن تعيش معهم آمناً، إذن: من الخير لنا أن يكون الإله ليس كمثله شيء، وأن يكون سبحانه عالياً فوق كل شيء. ويجب عليك حين تُنزه الله تعالى ألاَّ تُنزِّهه تنزيهاً مُجرّداً، إنما تنزيهاً مقرونا بالحمد {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] فتحمده على أنه واحد لا شريك له، ولا مثيلَ له، وليس كمثله شيء، ففي ظل هذه العقيدة لا يستطيع القويُّ أن يطغى على الضعيف، ولا الغني على الفقير.. إلخ. ثم يقول سبحانه: {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 58] نقول: كفاك فلان. يعني: لا تحتاج لغيره. كقولنا: حَسْبُك الله يعني: كافيك عن الاحتياج لغيره؛ لأنه يعطيك كُلَّ ما تحتاج إليه، ويمنع عنك الشر، وإنْ كنت تظنه خيراً لك. وكأن الحق تبارك وتعالى يقيم لك(كنترولاً) يضبط حياتك ويضمن لك السلامة، لذلك حين تدعو الله فلا يستجيب لك، لا تظن أن الله تعالى موظفٌ عندك، لابد أن يُجيبك لما تريد، إنما هو ربك ومتولٍّ أمرَك، فيختار لك ما يصلح لك، ويُقدِّم لك الجميل وإن كنت تراه غير ذلك. وقد ضربنا لهذه المسألة مثلاً بالأم التي تكثِر الدعاء على ولدها، فكيف بها إذا استجابَ الله لها؟ إذن: من رحمة الله بها أنْ يردَّ دعاءها، ويمنع إجابتها، فمنع الإجابة هنا إجابة. {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 58] المعنى: إذا توكلتَ على الحيِّ الذي لا يموت، فآثار هذا التوكل أنْ يحميك من ذنوب العباد، فهو وحده الذي يعلم ذنوبهم، ويعلم حتى ما يدور في أنفسهم. ألم يقُل الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} [المجادلة: 8]. فما زال القَوْلُ في أنفسهم لم يخرج، ومع ذلك أخبره الله به، وكأن الحق سبحانه يُطمئن رسوله: مهما تآمروا عليك، ومهما دبّروا لك، ومهما تكاتف ضدك جنودُ الإنس والجن، فاطمئِنْ لأن ربك عليم بالذنوب التي قد لا تدركها أنت، ولا حيلة عندك لردِّها، فيكفيك أن يعلم اللهُ ذنوبَ أعدائك. {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30]. والخبير: الذي يعلم خبايا الأمور، حتى في مسائل الدنيا الهامة نقول: نستدعي لها الخبير؛ لأن المختص العادي لا يقدر عليها. وفي موضع آخر يقول تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14]. ثم ينقلنا الحق تبارك وتعالى إلى آية كونية، تنضاف إلى الآيات السابقة، والهدف من ذكر المزيد من الآيات الكونية أنه لعلَّها تصادف رقَّة قلبٍ واستمالة مواجيد، فتعطف الخَلْق إلى الخالق، وتُلفِت الأنظار إليه سبحانه.
|