فصل: تفسير الآيات رقم (171- 174)

صباحاً 5 :53
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏156- 157‏]‏

‏{‏وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏156‏)‏ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏اكتب‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أَثْبتْ واقض، والكَتْب‏:‏ مستعملٌ في كلِّ ما يخلَّد، و‏{‏حَسَنَةً‏}‏‏:‏ لفظ عامٌّ في كل ما يحسن في الدنيا من عاقبة وطاعة للَّه سبحانه، وغَيْرِ ذلك، وحَسَنَةُ الآخرةِ‏:‏ الجَنَّة، لا حَسَنَةَ دونها، ولا مرمى وراءها، و‏{‏هُدْنَا‏}‏- بضم الهاء-‏:‏ معناه‏:‏ تُبْنَا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ‏}‏، يحتمل أن يريد ب «العذاب» الرجفةَ التي نزلَتْ بالقوم، ثم أخبر سبحانه عن رحمته، ويحتملُ؛ وهو الأظهر‏:‏ أن الكلام قصد به الخَبَرُ عن عذابه، وعن رحمته، وتصريف ذلك في خليقته؛ كما يشاء سبحانه، ويندرجُ في عمومِ العذابِ أصحابُ الرجفة، وقرأ الحسنُ بنُ أبي الحسن، وطَاوُسٌ، وعَمْرُو بن فائدٍ‏:‏ «مَنْ أَسَاءَ» من الإِساءة، ولا تعلُّق فيه للمعتزلة، وأطنب القُرَّاء في التحفُّظ من هذه القراءَةِ، وَحَمَلَهُمْ على ذلك شُحُّهم على الدِّين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏، قال بعض العلماء‏:‏ هو عمومٌ في الرحمة، وخصوصٌ في قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّ شَيْءٍ‏}‏، والمراد‏:‏ مَنْ قد سبق في عِلْم اللَّه أن يرحمهم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا‏}‏، أي‏:‏ أقدِّرها وأقضيها‏.‏

وقال نَوْفٌ البِكَالِيُّ‏:‏ إِن موسى عليه السلام قال‏:‏ يا رَبِّ، جعلْتَ وِفَادَتِي لأمَّة محمَّد عليه السلام، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُؤْتُونَ الزكواة‏}‏‏:‏ الظاهر‏:‏ أنها الزكاةُ المختصَّة بالمالِ، وروي عن ابن عباس؛ أن المعنى‏:‏ يؤتون الأعمالَ التي يزكُّون بها أنفسهم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الأمي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه ألفاظٌ أخرجَت اليهودَ والنصارى مِنَ الاشتراك الذي يظهر في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏، وخلُصَتْ هذه العِدَةُ لأُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس وغيره‏.‏ قلْتُ‏:‏ وهذه الآيةُ الكريمة مُعْلِمَةٌ بشَرَف هذه الأمَّة على العُمُوم في كلِّ مَنْ آمَنَ باللَّه تعالى، وأقرَّ برسَالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم هم يتفاوتون بعدُ في الشرف؛ بحَسَب تفاوتهم في حقيقة الاتباعية للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في «الإِحياء»‏:‏ وإِنما أُمَّتُه صلى الله عليه وسلم مَنِ اتبعه، وما اتبعه إِلاَّ مَنْ أعرض عن الدنيا، وأَقْبَلَ على الآخرةِ، فإِنه عليه السلام ما دَعَا إِلاَّ إِلى اللَّهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، وما صَرَفَ إِلاَّ عن الدنيا والحظوظِ العاجلةِ، فبقدْرِ ما تُعْرِضُ عن الدنيا، وتُقْبِلُ على الآخرة، تَسْلُكُ سبيله الذي سَلَكَهُ صلى الله عليه وسلم، وبقَدْرِ ما سَلَكْتَ سبيله، فقد اتبعته، وبقَدْر ما اتبعتَهُ، صِرْتَ من أمته، وبقَدْرِ ما أَقبلْتَ على الدنيا، عَدَلْتَ عن سبيله، ورغبْتَ عَنْ متابعته، والتحقت بالذين قال اللَّه تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن طغى * وَءَاثَرَ الحياة الدنيا * فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 37، 38، 39‏]‏‏.‏ انتهى، فإن أردتَّ اتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، واقتفاء أثره، فابحث عن سيرته وخُلُقه في كتب الحديث والتفسير‏.‏

قال ابنُ القَطَّان في تصنيفه الذي صنَّفه في «الآيات والمعجزات»‏:‏ والقول الوجيز في زُهْدِهِ وعبادتِهِ وَتَوَاضُعِهِ وسائرِ حُلاَه وَمعَاليه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه مَلَكَ مِنْ أقْصَى اليمن إلى صحراء عمان إِلى أقصى الحجاز، ثم تُوُفِّيَ عليه السلام، وعليه دَيْنٌ، ودِرْعُهِ مَرْهونةٌ في طَعَام لأهله، ولم يتركْ ديناراً ولا درهماً، ولا شَيَّد قَصْراً، ولا غَرَس نَخْلاً، ولا شَقَّقَ نَهْراً، وكان يأكل على الأرْضِ ويجلسُ على الأرض، ويَلْبَسُ العَبَاءة، ويجالسُ المَساكين، ويَمْشِي في الأسواق، ويتوسَّد يَدُه، ويلعقُ أصابعه، ويُرقِّع ثوبه، ويَخْصِفُ نَعْلَه، ويُصْلِح خُصَّه، ويمهنُ لأهله، ولا يأكل متْكِئاً، ويقول‏:‏ «أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْد»، ويقتصُّ من نفْسه، ولا يرى ضاحكاً مِلْء فِيهِ ولو دُعِيَ إِلى ذراعٍ، لأجاب، ولو أُهْدِيَ إِليه كُرَاعٌ لَقِبل، لا يأكلُ وحده، ولا يَضْرِبُ عبده، ولا يمنعُ رفْده ولا ضَرَبَ قطُّ بيدِهِ إِلاَّ في سَبِيل اللَّه، وقام للَّه حتَّى تَوَرَّمَتْ قدماه، فقيل له‏:‏ أتَفْعَلُ هذا وقد غَفَرَ اللَّه لك مَا تَقدَّم من ذنبك وما تأخَّرَ‏؟‏ فقال‏:‏ «أفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً»، وكان يُسْمَعُ لِجَوْفه أَزِيزٌ؛ كأزيز المِرْجَلِ من البكاءِ؛ إِذا قام بالليل صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأتباعه صلاةً دائمةً إلى يوم القيامة‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الفَخْر‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يَتَّبِعُونَ الرسول‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال بعضهم‏:‏ الإِشارة بذلك إِلى مَنْ تقدَّم ذكْرُه من بني إِسرائيل، والمعنى‏:‏ يتبعونه باعتقاد نبوَّته؛ من حيث وَجَدُوا صفتَهُ في التوراة، وسيجدونه مكتوباً في الإِنجيل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ بل المرادُ مَنْ لحق مِنْ بني إِسرائيل أيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فبيَّن تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا تكتب لهم رحمةُ الآخرة إِلاّ إذا اتبعوا النبيَّ الأُميُّ‏.‏

قال الفخْر‏:‏ وهذا القول أقربُ‏.‏ انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَجِدُونَهُ‏}‏، أي‏:‏ يجدون صفة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ونعته؛ ففي «البخاريِّ» وغيره، عن عبد اللَّه بن عمرو؛ أنَّ في التوراة مِنْ صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم «يَأيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَحِرْزاً لِلأُمِيِّيِّن، أنْتَ عَبْدِي وَرَسُولي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سخَّاب في الأَسْوَاق، وَلاَ يَجْزي بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو، وَيَصْفَحُ وَلَنْ أَقْبِضَهُ حتى أُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاء؛ بأنْ يَقُولُوا‏:‏ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، فَنُقِيمُ بِهِ قُلُوباً غُلْفاً، وأَذَاناً صُمًّا، وَأَعْيُناً عُمْياً»، وفي «البخاريِّ»‏:‏ «فَيَفْتَحُ بِهِ عُيُونَاً عُمْياً، وآذاناً صُمًّا، وقُلُوباً غُلْفاً»، ونصَّ كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إِلاَّ أنه قال‏:‏ «قُلُوباً غُلُوفاً، وآذناً صُمُوماً»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُهُم بالمعروف‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ يحتملُ أن يكون ابتداء كلامٍ وُصِفَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويحتملُ أن يكون متعلِّقاً ب «يجدونه» في موضع الحال على تجوُّزٍ، أي‏:‏ يجدونه في التوراةِ آمراً؛ بشرط وجوده، والمعروف‏:‏ ما عُرِفَ بالشرع، وكلُّ معروف من جهة المروءة، فهو معروفٌ بالشرع، فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَحَاسِنَ الأَخْلاَقِ» و‏{‏المنكر‏}‏‏:‏ مقابله، و‏{‏الطيبات‏}‏؛ عند مالك‏:‏ هي المحلَّلات، و‏{‏الخبائث‏}‏ هي المحرَّمات، وكذلك قال ابن عباس، والإِصْرُ الثَّقْل، وبه فَسَّرَ هنا قتادةُ وغيره، والإِصْر أيضاً‏:‏ العَهْد، وبه فسر ابنُ عباس وغيره، وقد جَمَعَتْ هذه الآيةُ المعنيين؛ فإِن بني إِسرائيل قد كان أخذ عليهم العَهْدُ بأن يقوموا بأعمال ثقال، فَوَضَعَ عنهم نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن جُبيْر‏:‏ الإِصْر‏:‏ شدَّة العبادة، وقرأ ابن عامر‏:‏ «آصارَهُمْ» بالجمع فمَنْ وحَّد «الإصر»؛ فإنما هو اسمُ جنْس عِنده، يراد به الجمعُ، ‏{‏والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ عبارةٌ مستعارَةٌ أيضاً لتلك الأثقال، كَقَطْعِ الجِلْدِ من أثر البَوْلِ، وأن لا ديةَ، ولا بدَّ من قَتْل القاتل، إلى غير ذلك، هذا قول جمهور المفسِّرين، وقالَ ابن زَيْدٍ‏:‏ إنما المراد هنا ب ‏{‏الأغلال‏}‏ قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ في اليهود‏:‏

‏{‏غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏، فمنْ آمن بنبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، زالَتْ عنه الدعوةُ، وتغليلها، ومعنى ‏{‏عَزَّرُوهُ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ وقَّروه، فالتعْزيرُ والنصْرُ‏:‏ مشاهدةٌ خاصَّة للصحابة، واتباع النور‏:‏ يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة، والنُّورُ‏:‏ كنايةٌ عن جُمْلة الشرع، وشَبَّه الشرعَ والهدى بالنور، إِذ القلوبُ تستضيء به؛ كما يستضيء البَصَرُ بالنُّور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 160‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏158‏)‏ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏159‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأيها الناس إِنِّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ هذا أمر من اللَّه سبحانه لنبيِّه بإشهار الدعوة العامَّة، وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم مِنْ بين سائر الرسُلِ؛ فإِنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إِلى الناس كافَّة، وإِلى الجنِّ، وكلُّ نبيٍّ إِنما بعث إِلى فرقة دون العُمُوم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ حَضٌّ على اتباع نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقوله‏:‏ ‏{‏الذي يُؤْمِنُ بالله وكلماته‏}‏، أيْ‏:‏ يصدق باللَّه وكلماته، والكلماتُ هنا‏:‏ الآياتُ المنزلة مِنْ عند اللَّه؛ كالتوراة والإنجيل، وقوله‏:‏ و‏{‏اتبعوه‏}‏ لفظ عامٌّ يدخل تحته جميعُ إلزامات الشريعة، جعلنا اللَّه مِنْ متَّبعيه على ما يلزم بمنِّه ورحمته‏.‏

قُلْتُ‏:‏ فإِن أردتَّ الفوْزَ أيُّها الأَخُ، فعَلَيْكَ باتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتعظيمِ شريعته، وتعظيم جَمِيعِ أسبابه‏.‏

قال عِيَاضٌ‏:‏ وَمِنْ إِعظامه صلى الله عليه وسلم وإِكبارهِ إِعظام جميع أَسبابه وإِكْرَامُ مشاهده وأَمْكِنَتِهِ، ومعاهِدِهِ، وما لَمَسَهُ عليه السلام أَوْ عُرِفَ به، حُدِّثْتُ أن أبا الفَضْل الجوهري، لمَّا وَرَدَ المدينةَ زائراً، وقَرُبَ من بيوتها، ترجَّل، ومشى باكياً منشداً‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَلَمَّا رَأَيْنَا رَسْمَ مَنْ لَمْ يَدَعْ لَنَا *** فُؤَاداً لِعِرْفَانِ الرُّسُومَ وَلاَ لُبَّا

نَزَلْنَا عَنِ الأَكْوَارِ نَمْشِي كَرَامَةً *** لِمَنْ بَانَ عَنْهُ أَنْ نَلُمَّ بِهِ رَكْبَا

وحُكِيَ عن بعض المريدين؛ أنه لما أشْرَفَ على مدينة الرسول عليه السلام، أنشأ يقُولُ‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

رُفِعَ الحِجَابُ لَنَا فَلاَحَ لِنَاظِرِي *** قَمَرٌ تَقَطَّعُ دُونَهُ الأَوْهَامُ

وَإِذَا المَطِيُّ بِنَا بَلَغْنَ مُحَمَّداً *** فَظُهُورُهُنَّ على الرِّجَالِ حَرَامُ

قَرَّبْنَنَا مِنْ خَيْرِ مَنْ وَطِئ الحَصَى *** فَلَهَا عَلَيْنَا حُرْمَةٌ وَذِمَامُ

وحُكِيَ عن بعض المشايِخِ؛ أنه حجَّ ماشياً، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ العَبْدُ الآبِقُ يأتي إلى بيت مولاه راكباً‏؟‏ لو قَدْرَتُ أَنْ أَمْشِيَ على رأسِي، ما مَشَيْتُ على قدَمي‏.‏

قال عياضَ‏:‏ وجديرٌ لمواطَنَ عُمِرَتْ بالوحْيِ، والتنزيل؛ وتردَّد فيها جبريلُ وميكائيل، وعَرَجَتْ منها الملائكةُ والرُّوح؛ وضجَّتْ عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملَتْ تربتها على جَسَد سَيِّد البَشَر؛ وانتشر عنْهَا مِنْ دِينِ اللَّه وسنة رسُوله ما انتشر، مدارسُ وآيات؛ ومَسَاجِدُ وصَلَوَات؛ ومَشَاهِدُ الفَضَائِلِ والخَيْرَات؛ ومعاهدُ البراهين والمُعْجِزَات- أنْ تعظَّم عَرَصَاتها؛ وتُتَنَسَّمَ نفحاتها؛ وتُقَبَّلَ ربُوعُها وجدراتُها‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

يَا دَارَ خَيْر المُرْسَلِينَ ومَنْ بِه *** هَدْيُ الأَنَامُ وَخُصَّ بِالآيَاتِ

عِنْدِي لأَجْلِكَ لَوْعَةٌ وَصَبَابَةٌ *** وَتَشَوُّقٌ مُتَوَقِّدُ الجَمَرَاتِ

الأبيات‏.‏ انتهى من «الشفا»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ‏}‏، أي‏:‏ يرشدُونَ أنفسهم، وهذا الكلامُ يحتملُ أنْ يريد به وصْفَ المؤمنين منهم، على عهد موسى، وما والاَهُ مِنَ الزمَنِ، فأخبر سبحانه، أنه كان في بني إسرائيل على عتوِّهم وخلافِهِمْ مِنَ اهتدى واتقى وعَدَلَ، ويحتمل أنْ يريد الجماعةَ التي آمَنَتْ بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم، وقوله‏:‏ ‏{‏أَسْبَاطًا‏}‏‏:‏ بَدلٌ من ‏{‏اثنتى‏}‏، والتمييزُ الذي بَيْنَ العَدَدَ محذوفٌ تقديره‏:‏ اثنتي عَشْرَةَ فرقةً أو قِطْعَةً أسباطاً‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏انبجست‏}‏‏:‏ بمعنى انفجرت، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المعاني في «البقرة»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 162‏]‏

‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏161‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم سَنَزِيدُ المحسنين * فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ‏}‏‏:‏ القَرْيَةُ هي بيْتُ المَقْدِسِ‏.‏

وقيل‏:‏ أَرِيحَاء، «وبَدَّلَ»‏:‏ معناه غَيَّرَ اللَّفْظَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 166‏]‏

‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏163‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏164‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏165‏)‏ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏166‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال بعضُ المتأوِّلين‏:‏ إِن اليهودَ المعاصرينَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا‏:‏ إِنَّ بني إِسرائيل لم يَكُنْ فيهم عصْيانٌ، ولا معاندةٌ لمَا أُمرُوا به، فنزلَتْ هذه الآيةُ موبِّخة لهم، فسؤالهم إِنَّما هو على جهة التوبيخِ، والقريةُ هنا‏:‏ أَيْلَةُ، قاله ابن عباس وغيره، وقيل‏:‏ مَدْيَن، و«حاضِرة البَحْر»، أي‏:‏ البحر فيها حاضرٌ، ويحتملُ أنْ يريد معنى «الحاضرة»؛ على جهة التعظيم لها، أي‏:‏ هي الحاضرةُ في مُدُن البَحْر، و‏{‏يَعْدُونَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يخالفون الشرْعَ؛ مِنْ عَدَا يَعْدُو، و‏{‏شُرَّعاً‏}‏، أي‏:‏ مقبلة إِليهم مُصْطَفَّة، كما تقولُ‏:‏ شُرِعَتِ الرماحُ إِذا مُدَّتْ مصطَفَّة، وعبارةُ البخاري ‏{‏شُرَّعاً‏}‏ أيْ‏:‏ شوارِعَ انتهى‏.‏

والعامل في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ‏}‏ قولُهُ‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْتِيهِمْ‏}‏، وهو ظرفٌ مقدَّم، ومعنى قوله ‏{‏كذلك‏}‏ الإشارةُ إلى أمر الحُوت، وفِتنَتِهِمْ به، هذا على من وَقَفَ على ‏{‏تَأْتِيهِمْ‏}‏، ومن وقف على ‏{‏كذلك‏}‏، فالإشارة إِلى كثرة الحيتانِ شُرَّعاً، أي‏:‏ فما أتى منها يَوْمَ لا يسبتُونَ، فهو قليلٌ، و‏{‏نَبْلُوهُم‏}‏، أي‏:‏ نمتحنهم بِفِسْقهم وعِصْيانهم، وقد تقدَّم في «البقرة» قصصهم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا‏}‏‏.‏

قال جمهور المفسِّرين‏:‏ إن بني إِسرائيل افترقت ثلاثَ فرقٍ‏:‏ فرقةٌ عصَتْ، وفرقةٌ نهَتْ، وجاهَرَتْ وتكلَّمَت واعتزلت، وفرقةٌ اعتزلت، ولم تَعْصِ ولم تَنْهِ، وأن هذه الفرقة لما رأتْ مجاهرة الناهية، وطُغيانَ العاصيةِ وعَتُوَّهَا، قالَتْ للناهية‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً‏}‏، يريدونّ‏:‏ العاصيةَ ‏{‏الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ‏}‏، فقالت الناهية‏:‏ موعظتنا معذرة إِلى اللَّه، أي‏:‏ إِقامة عُذْر، ومعنى ‏{‏مُهْلِكُهُمْ‏}‏، أيُّ‏:‏ في الدنيا، ‏{‏أَوْ مُعَذِّبُهُمْ‏}‏، ‏[‏أي‏]‏‏:‏ في الآخرةِ، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏نَسُواْ‏}‏ للمَنْهِيين، وهو تَرْكٌ سُمِّيَ نِسياناً مبالغةً، و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏مَا ذُكِّرُواْ بِهِ‏}‏ بمعنى الَّذي، و‏{‏السُّوءِ‏}‏ لفظ عامٌّ في جميع المعاصي إِلاَّ أنَّ الذي يختصُّ هنا بحَسَب قصص الآيةِ هو صَيْدُ الحوتِ، و‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏‏:‏ هم العاصُونَ، وقوله‏:‏ ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ معناه‏:‏ مؤلمٌ موجِعٌ شديدٌ، واختلف في الفرقة التي لم تَعْصِ ولم تَنْهَ، فقيل‏:‏ نَجَتْ مع الناجين، وقيل‏:‏ هلَكَتْ مع العاصين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏، أي‏:‏ لأجل ذلك، وعقوبةً عليه، والعُتُوُّ الاستعصاء وقلَّة الطواعية‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ‏}‏، يحتمل أن يكون قولاً بلفظ مِنْ مَلَك أسْمَعَهم؛ فكَانَ أذْهَبَ في الإِعراب والهَوْلِ والإِصغارِ، ويحتمل أن يكون عبَارةً عن القُدْرة المكوِّنة لهم قردةً، و‏{‏خاسئين‏}‏‏:‏ معناه مبعَدِين ف«خاسئين» خبر بعد خبرٍ، فهذا اختيار أبي الفَتْح، وضعَّف الصفَة، فرُوِيَ أنَّ الشباب منهم مُسِخُوا قردةً، والرجالَ الكبارَ مُسِخَوا خنازير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏167- 168‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ العذاب‏}‏ معنى هذه الآية‏:‏ وإِذْ علم اللَّه لَيَبْعَثَنَّ، وتقتضي قوَّة الكلام؛ أنَّ ذلك العلْمَ منه سبحانه مقترِنٌ بإنفاذٍ وإمِضاء؛ كما تقول في أمر عَزَمْتَ عليه‏:‏ عَلِمَ اللَّهُ لأَفْعَلَنَّ‏.‏

وقال الطبريُّ وغيره‏:‏ ‏{‏تَأَذَّنَ‏}‏ معناهُّ‏:‏ أعْلَمَ، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏تَأَذَّنَ‏}‏ معناه‏:‏ أَمَرَ وقالت فرقة‏:‏ معنى ‏{‏تَأَذَّنَ‏}‏‏:‏ تَأَلَّى، والضمير في ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏، لبني إِسرائيل، وقوله‏:‏ ‏{‏مَن يَسُومُهُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هي إشارةٌ إِلى محمَّد صلى الله عليه وسلم وأُمَّتِهِ، يسومُونَ اليهودَ سُوءَ العذاب‏.‏

قال * ع *‏:‏ والصحيح أنَّ هذا حالهم في كل قُطْر، ومَعَ كُلِّ مِلَّة، و‏{‏يَسُومُهُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يكَلِّفهم ويحمِّلهم، و‏{‏سُوءَ العذاب‏}‏‏:‏ الظاهر منه‏:‏ أنه الجِزْيَةُ، والإذلالُ، وقد حتم اللَّه علَيْهم هذا، وحَطَّ مُلْكَهم، فليس في الأرض رايَةٌ ليهوديٍّ، ثم حَسُنَ في آخر الآية التنبيهُ على سرعة العِقَاب، والتخويفُ لجميعِ الناسِ، ثم رجى سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏؛ لطفاً منه بعباده جلَّ وعَلا، ‏{‏وقطعناهم فِي الأرض‏}‏، معناه‏:‏ فرَّقناهم في الأرض‏.‏

قال الطبريُّ عن جماعة من المفسِّرين‏:‏ ليس في الأرض بقعةً إِلاَّ وفيها مَعْشَرٌ من اليهودِ، والظاهر في المُشَارَ إِليهم بهذه الآية؛ أنهم الذين بعد سُلَيْمَانَ وَقْتَ زوالِ مُلْكهم، والظاهر أنهم قبل مُدَّة عيسى عليه السلام؛ لأنهم لم يكُنْ فيهم صالحٌ بعد كُفْرهم بعيسَى صلى الله عليه وسلم و‏{‏بلوناهم‏}‏، معناه‏:‏ امتحناهم ‏{‏بالحسنات‏}‏، أي‏:‏ بالصِّحَّة والرخاءِ، ونحو هذا ممَّا هو بَحَسَب رأي ابْن آدم ونَظَرِه، و‏{‏السيئات‏}‏‏:‏ مقابلات، هذه ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ إِلى الطاعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏169- 170‏]‏

‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ خَلَفَ معناه‏:‏ حَدَثَ خَلْفَهم وبعدهم، و‏{‏خَلْفٌ‏}‏- بإِسكان اللام- يستعمل في الأشهر‏:‏ في الذَّمِّ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى‏}‏ إشارةٌ إِلى الرُّشَاوالمكاسب الخبيثة، والعَرَضُ‏:‏ ما يَعْرِضُ وَيعنُّ، ولا يثبُتُ، والأَدنَى‏:‏ إِشارةٌ إِلَى عيشِ الدنيا، وقولهم‏:‏ ‏{‏سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ذمٌّ لهم باغترارهم، وقولهِمْ ‏{‏سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏، مع علمهم بما في كتاب اللَّهِ، مِنَ الوعيد على المعاصي، وإِصرارِهِم، وأنَّهم بحالٍ إِذا أمكنَتْهم ثانيةً ارتكبوها، فهؤلاء عَجَزَةٌ؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وتمنى عَلَى اللَّهِ ‏"‏، فهؤلاءِ قطعوا بالمغفرة وهم مُصِرُّون، وإِنما يقول‏:‏ ‏{‏سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ مَنْ أقلع ونَدِمَ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ تشديدٌ في لزوم قول الحقِّ على اللَّه في الشَّرْع والأحكام، وقوله‏:‏ ‏{‏وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‏}‏ معطوفٌ على قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ‏}‏؛ لأنه بمعنى المُضِيِّ، والتقديرُ‏:‏ أَلَيْسَ قد أُخِذَ عليهم ميثاقُ الكتابِ، ودَرَسُوا ما فيه، وبهذَيْنِ الفعْلَيْنِ تقومُ الحجَّة عليهم في قولهم الباطَل، وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ‏:‏ «وادارسوا مَا فِيه»‏.‏

ثم وعظ وذكَّر تبارَكَ وتعالى بقوله‏:‏ ‏{‏والدار الأخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏، وقرأ أبو عمرو‏:‏ «أَفَلاَ يَعْقِلُونَ»- بالياء- من أسْفَلُ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب‏}‏ عطْفٌ على قوله‏:‏ ‏{‏لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏، وقرأ عاصمٌ وحْده؛ في رواية أبي بَكْرٍ «يُمْسِكُونَ»- بسكون الميم، وتخفيف السين، وقرأ الأعمش‏:‏ «والَّذينَ استمسكوا»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 174‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ‏(‏172‏)‏ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏}‏، ‏{‏نَتَقْنَا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ اقتلعنا ورفَعْنا، وقد تقدَّم قصص الآية في «البقرة»، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واذكروا مَا فِيهِ‏}‏، أي‏:‏ تدبَّروه واحفظوا أوامره ونواهيه، فما وَفَّوْا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قوله‏:‏ ‏{‏مِن ظُهُورِهِمْ‏}‏ قال النُّحاة‏:‏ هو بدلُ اشتمال من قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَنِي آدَمَ‏}‏، وتواترتِ الأحاديثُ في تفسير هذه الآية عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طُرُقٍ‏:‏ ‏"‏ أن اللَّه عزَّ وجلَّ استخرج مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عليه السلام نَسَمَ بنيه، ففي بعض الروايات كالذَّرِّ، وفي بعضها‏:‏ كالخَرْدَلِ ‏"‏‏.‏ وقال محمد بن كَعْب‏:‏ إِنها الأرواحُ جُعلَتْ لها مِثَالاَتٌ، وروي عن عبد اللَّه بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ‏:‏ ‏"‏ أُخِذُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ؛ كَمَا يُؤْخَذُ بالمُشْطِ مِنَ الرَّأْس، وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَقُولاً كَنَمْلَةِ سُلَيْمَانَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَأَنْ لاَ إله غَيْرُهُ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، والتزموه؛ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهْ سَيَبْعَثُ الرُّسْلَ إِلَيْهِمْ مُذَكِّرَةً وداعيةً، فشهد بعضُهم على بعض، وشهد اللَّه عليهم وملائكته ‏"‏ قال الضحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ‏:‏ من مات صَغيراً، فهو على العَهْدِ الأول، ومَنْ بَلَغَ، فقد أخذه العهدُ الثَّاني، يعني الذِي في هذه الحياة المعقولة الآنَ‏.‏

وقوله ‏{‏شَهِدْنَا‏}‏ يحتملُ أن يكون مِنْ قَوْلَ بَعْضِ النَّسمِ لبعضٍ، فلا يَحْسِنُ الوقْفُ على قوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏، ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏شَهِدْنَا‏}‏ من قول الملائكة، فيحسن الوقْفُ على قوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏‏.‏

قال السديُّ‏:‏ المعنى‏:‏ قال اللَّه وملائكته‏:‏ شَهِدْنَا ورواه عبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى‏:‏ لِئَلاَّ تقولُوا، أَوْ مخافَةَ أنْ تقولوا، والمعنى في هذه الآية‏:‏ أنَّ الكَفَرَة لو لم يؤخذ عليهم عَهْدٌ، ولا جاءَهُمْ رسولٌ مذكِّر بما تضمَّنه العَهْد من توحيد اللَّه وعبادته، لكانَتْ لهم حُجَّتَان‏:‏

إحداهما‏:‏ أنّ يقُولُوا كُنَّا عن هذا غافلين‏.‏

والأخرى‏:‏ كنا تباعاً لأسلافنا، فكَيْفَ نَهْلِكُ، والذنْبُ إنما هو لِمَنْ طَرَّق لنا وأضلَّنا، فوقَعَ شهادَةُ بعضهم على بعضُ، وشهادةُ الملائكة عَلَيْهمِ، لتنقطع لهم هذة الحجةُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 177‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏175‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏176‏)‏ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتيناه آياتنا‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هو رجُلٌ من الكَنْعَانِيِّينَ الجَبَّارِين، اسمه بَلْعَمُ بْنُ باعُوراء، وقيل‏:‏ بَلْعَامُ بْنُ باعِر‏.‏

وقيل‏:‏ غير هذا، وكان في جملة الجَبَّارِين الذي غَزَاهُمْ موسى عليه السلام، فَلَما قَرُبَ منهم موسى، لجؤوا إِلى بَلْعَام، وكانَ صالِحاً مستجابَ الدَّعْوة، وقيل‏:‏ كان عنْدَهُ علْم مِنْ صُحُف إِبراهيم ونحوها‏.‏

وقيل‏:‏ كان يعلم اسم اللَّه الأَعظمَ، قاله ابنُ عبَّاس أيضاً، وهذا الخلافُ هو في المراد بقوله‏:‏ ‏{‏آتيناه آياتنا‏}‏، فقال له قومُه‏:‏ ادع اللَّه على موسى وعَسْكَره، فقالَ لَهُمْ‏:‏ وَكَيْفَ أدعو عَلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فما زالوا به حتى فَتَنُوهُ، فخَرَجَ حتى أشْرَفَ عَلَى جَبَلٍ يرى منه عَسْكَرَ موسى، وكان قد قال لِقَوْمِهِ‏:‏ لا أفعَلُ حتى أستأْمِرَ رَبِّي، فَفَعَلَ، فنُهِيَ عن ذلك، فقال لهم‏:‏ قد نُهِيتُ، فما زالوا به حتَّى قال‏:‏ سأَسْتَأْمِرُ ثانيةً، ففعل، فسكَتَ عنه، فأخبرهم، فقالوا له‏:‏ إِن اللَّه لَمْ يَدَعْ نَهْيَكَ إِلا وقدْ أَراد ذلك، فخَرَجَ، فلما أشْرَفَ على العَسْكَر، جَعَلَ يدْعُو على موسَى، فتحوَّل لسانُهُ بالدعاءِ لموسى، والدعاءِ على قومه، فقالوا له‏:‏ ما تقولُ‏؟‏ فقال‏:‏ إِني لا أمْلِكُ هذا، وعَلِمَ أنه قد أخطأ، فَرُوِيَ أنه قد خرج لِسَانُه على صدره، فقال لقومه‏:‏ إِني قَدْ هَلَكْتُ، ولكِنْ لَمْ يَبْقَ لكم إِلا الحِيلَة، فأخرجوا النِّسَاء إِلى عَسْكَرِ موسى عَلَى جهة التَّجْرِ وغيره، ومُرُوهُنَّ أَلا تَمْتَنِع امرأة مِنْ رجل، فإِنهم إِذا زَنَوْا هلَكُوا، ففعلُوا، فخرج النِّسَاء، فزنى بهِنَّ رجالٌ ‏[‏مَنْ‏]‏ بني إِسرائيل، وجاء فِنْحَاصُ بْنُ العِيزَارِ بْنِ هَارُونَ، فانتظم بُرمْحه امرأة ورجُلاً من بني إِسرائيل، ورفعهما على الرَمْحِ، فوقع في بني إِسرائيل الطاعونُ، فمات منهم في ساعةٍ ‏[‏واحدةٍ‏]‏ سبْعُونَ ألْفاً، ثم ذَكَرَ المعتمِرُ عن أبيه‏:‏ أنَّ موسى عليه السلام قَتَلَ بعد ذلك الرَّجُلَ المُنْسَلِخَ مِنْ آيات اللَّه‏.‏

قال المَهْدَوِيُّ‏:‏ رُوِيَ أنه دعا على مُوَسَى أَلاَّ يَدْخُلَ مدينةَ الجَبَّارين؛ فأجيب، ودعا عليه موسى أَنْ ينسى اسم اللَّهِ الأعْظَمَ؛ فأجيبَ، وفي هذه القصَّة رواياتٌ كثيرةً تحتاجُ إِلى صحَّة إِسناد، و‏{‏انسلخ‏}‏‏:‏ عبارةٌ عن البراءةِ منها، والإنفصال والْبُعْدِ، كالمُنْسَلِخ من الثياب والجِلْد، و«أَتْبَعَهُ الشيطانُ»، أيْ‏:‏ صيَّره تابِعاً؛ كذا قال الطبريُّ‏:‏ أَما لضلالةٍ رَسَمَها له، وإِما لنفسه، و‏{‏مِنَ الغاوين‏}‏، أي‏:‏ ‏{‏مِنَ الضالين‏}‏، ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا‏}‏، قال ابن عباس وجماعة‏:‏ معنى «لرفعناه» لشرَّفنا ذكْرَه، ورفَعْنَا منزلته لدينا؛ بهذه الآيات الَّتي آتيناه، ولكنه أخلد إِلى الأرْضِ، أي‏:‏ تقاعَسَ إلى الحضيض الأسفَلِ الأخسِّ من شهوات الدنيا ولذَّاتها؛ وذلك أنَّ الأرض وما ارتكن فيها‏:‏ هي الدنيا وكلُّ ما عليها فانٍ، ومَنْ أخلد إِلى الفاني، فقد حرم حظَّ الآخرة الباقية‏.‏

* ت *‏:‏ قال الهَرَوِيُّ‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَخْلَدَ إِلَى الأرض‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ سكَنَ إِلى لَذَّاتها، واتبع هواه، يقال‏:‏ أخلد إِلى كَذَا، أي‏:‏ رَكَنَ إِليه واطمأَنَّ به‏.‏

انتهى‏.‏

قال عَبْدُ الحَقِّ الإِشْبِيليُّ رحمه اللَّه في «العاقبة»‏:‏ واعلم رحمك اللَّه؛ أَنَّ لسوء الخاتمة أعاذنا اللَّه منْها أسباباً، ولها طرقٌ وأبوابٌ، أعظمها‏:‏ الإِكبابُ على الدنيا، والإِعراضُ عن الآخرة، وقد سَمِعْتَ بقصَّة بَلْعَام بْنِ بَاعُورَاءَ، وما كان آتاه اللَّه تعالى من آياته؛ وأطلعه عليه من بيِّناته؛ وما أراه من عجائب مَلَكُوته، أخْلَدَ إِلى الأرض، واتبع هواه؛ فسَلَبَه اللَّه سبحانه جَمِيعَ ما كان أَعطاه؛ وتَرَكَه مع مَنِ استماله وأغواه‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب‏}‏، شُبِّه به في أنه كان ضالاًّ قبل أن يُؤتى الآياتِ، ثم أُوتِيَها، فكان أيضاً ضالاًّ لَم تنفَعْه، فهو كالكَلْب في أنَّه لا يفارِقُ اللَّهَثَ في كلِّ حال؛ هذا قول الجمهور‏.‏

وقال السدِّيُّ وغيره‏:‏ إِنَّ هذا الرجل عُوقِبَ في الدنيا، فإِنه كان يَلْهَثُ كما يَلْهَثُ الكَلْبُ، فشُبِّه به صورةً وهيئةً، وذكر الطبريُّ، عن ابن عباس؛ أنَّ معنى‏:‏ ‏{‏إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ‏}‏‏:‏ إنْ تَطْرَدهُ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتنا‏}‏، أي‏:‏ هذا المَثَلُ، يا محمد، مثَلُ هؤلاء الذين كانوا ضالِّين قَبْلَ أن تأتيهم بالهدى والرِّسالة، ثم جئتهم بها، فَبَقُوا على ضلالتهم، ولم ينتفِعُوا بذلك، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الكَلْبِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاقصص القصص‏}‏، أي‏:‏ اسرد عليهم ما يعلمون أنَّه من الغيوب الَّتي لا يعلمها إِلا أهْل الكتب الماضية ولَسْتَ منهم؛ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ في ذلك؛ فيؤمنوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 180‏]‏

‏{‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏178‏)‏ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون‏}‏، القول فيه‏:‏ أن ذلك كلَّه من عند اللَّه‏:‏ الهدايةُ منه وبخَلْقه واختراعه؛ وكذلك الإِضلال، وفي الآيةِ تعجيبٌ مِنْ حال المذْكُورين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس‏}‏، هذا خبرٌ من اللَّه تعالى أنه خَلَق لسكنى جهنم والاحتراق فيها كثير، وفي ضِمْنه وعيدٌ للكفَّار، «وذرأ»‏:‏ معناه‏:‏ خَلَق وأوْجَدَ، مع بَثٍّ ونَشْرٍ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ لما كانَتْ هذه الطائفةُ الكافرةُ المُعْرِضَةُ عن النَّظَر في آيات اللَّه، لم ينفعْهم النظَرُ بالقَلْب، ولا بالعَيْن، ولا ما سَمِعُوه من الآيات والمواعظ، استوجبوا الوصْفَ بأنهم لا يفقهون، ولا يُبْصرون، ولا يَسْمعون، والفِقْه‏:‏ الفَهْم، ‏{‏أولئك كالأنعام‏}‏ في أنَّ الأنعام لا تَفْقَهُ الأشياء، ولا تعقلُ المقاييسِ، ثم حَكَم سبحانه عَلَيْهم بأنهم أضَلُّ؛ لأن الأنعام تلك هِيَ بِنْيَتُها وخِلْقَتُها، وهؤلاءِ مُعَدُّونَ للفَهْم والنظر، ثم بَيَّنَ سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك هُمُ الغافلون‏}‏ الطريق الذي به صاروا أضَلَّ من الأنعام، وهو الغَفْلة والتقصير‏.‏

قال الفَخْر‏:‏ أمَّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏، فتقريره‏:‏ أن الإِنسان وسائر الحيوانات مُتشَاركةٌ في قُوَى الطَّبيعة؛ الغَاذِيَةِ، والنامية، والمُوَلِّدةِ، ومتشاركَةٌ أيضاً في منافع الحواسِّ الخَمْسِ؛ الباطنةِ والظاهرةِ، وفي أحوالِ التخيُّل، والتفكُّر، والتذكُّر، وإِنما حَصَل الامتياز بيْنَ الإِنسان، وسائِرِ الحيواناتِ؛ في القوَّة العقليَّة والفكْريَّة التي تهديه إِلى معرفة الحقِّ، فلما أعرضَ الكُفَّار عن أحْوالِ العَقْلِ والفكْرِ، ومعرفةِ الحقِّ، كانوا كالأنعام، بل هم أضلُّ؛ لأن الحيواناتِ لا قدرةَ لها على تحْصيلِ هذهِ الفضائل، وقد قال حَكِيمُ الشُّعَراء‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

الرُّوحُ مِنْ عِنْدَ رَبِّ العَرْشِ مَبْدَؤُه *** وَتُرْبَةُ الأَرْضِ أَصْلُ الجِسْمِ والبَدَنِ

قَدْ أَلَّفَ المَلِكُ الجَبَّارُ بَيْنَهُمَا *** لِيَصْلُحَا لِقَبُولِ الأَمْرِ والْمِحَنِ

فَالرُّوحُ فِي غُرْبةٍ وَالجِسْمُ في وَطَن *** فَلْتَعْرِفَنَّ ذِمَامَ النَّازِحِ الوَطنِ

انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ الأسماء الحسنى فادعوه بِهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ السببُ في هذه الآية على ما روي، أن أبَا جهلٍ سمع بعْضَ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقرأ، فيذكُر اللَّه تعالَى في قراءته، وَمَرَّةَ يَذْكُر الرحمن، ونَحْوَ ذلك، فقال‏:‏ محمَّدٌ يَزعم أنَّ إلإله واحِدٌ، وهو إِنما يعبدُ آلهةً كثيرةً، فنزلَتْ هذه الآية، ومِنْ أسماء اللَّه تعالى ما ورد في القُرآن، ومنها ما ورد في الحديث وتواتَرَ، وهذا هو الذي ينبغي أَنْ يُعْتَمدَ عليه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِي أسمائه‏}‏، قال ابن زيد‏:‏ معناه‏:‏ اتركوهم، فالآية على هذا منسوخةٌ، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ الوعيدُ؛ كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ و‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 3‏]‏ يقال‏:‏ أَلْحَد وَلَحَدَ بمعنى جَارَ، ومَالَ، وانحرف، و«ألْحَدَ»‏:‏ أشهرُ؛ ومنه لَحْدُ القَبْرِ، ومعنى الإِلحاد في أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ‏:‏ أنْ يسمُّوا اللاَّتَ نظيرَ اسم اللَّه تعالى؛ قاله ابن عباس، والعُزَّى نظيرَ العزيزِ؛ قاله مجاهد، ويسمُّون اللَّه أباً، ويسمُّون أوثانهم أرْباباً‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏‏:‏ وعيدٌ محضٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 183‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏181‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏182‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏183‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ * والذين كَذَّبُواْ بآياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏، الآية تتضمَّن الإِخبار عن قَوْمٍ أهْلِ إِيمانٍ واستقامةٍ وهدايةٍ، وظاهُرها، يقتضي كُلَّ مُؤْمِنٍ كان مِنْ لَدُنْ آدم عليه السلام إِلى قيام الساعة، ورُوِيَ عن كثيرٍ من المفسِّرين‏:‏ أنها في أمَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، ورُوِيَ في ذلك حديثٌ أنَّ‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ «هَذِهِ الآيَةُ لَكُمْ»‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين كَذَّبُواْ بآياتنا‏}‏ الآية وعيد، والإِشارة إِلى الكُفَّار، و‏{‏سَنَسْتَدْرِجُهُم‏}‏ معناه‏:‏ سنُسوقهم شيئاً بعد شَيْءٍ ودرجةً بعد درجةٍ؛ بالنِّعم عليهم والإِمهال لهم؛ حتى يغترُّوا ويظنُّوا أنهم لا ينالُهم عقابٌ، وقوله‏:‏ ‏{‏مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏، أيْ‏:‏ من حيث لا يَعْلَمُون أنه استدراج لهم، وهذه عقوبةٌ لهم مِنَ اللَّه سبحانه عَلَى التَّكْذِيبِ لِمَا حَتمَ عليهم بالعذاب، أملَى لهم ليزدادوا إثماً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأُمْلِي‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أُؤخِّرُ ملاَوَةً من الدهر، أي‏:‏ مُدَّةً و‏{‏مَتِينٌ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ قويٌّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏184- 186‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏184‏)‏ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏185‏)‏ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ تقريرٌ يقارنه توبيخٌ للكُفَّار، والوَقْف على قوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ‏}‏، ثم ابتدأ القولَ بنَفْي ما ذكروه، فقال‏:‏ ‏{‏مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ بمحمَّد صلى الله عليه وسلم، ويحتملُ أنْ يكون المعنى‏:‏ أو لم يتفكَّروا أنه ما بصاحبهم مِنْ جِنَّةٍ، ويظهر مِنْ رصف الآية أنها باعثةٌ لهم على الفِكْرة في أَمره صلى الله عليه وسلم وأنه ليس به جنَّةٌ كما أحالهم بعد هذه الآية على النَّظَرْ‏.‏

وقال الفَخْر‏:‏ قوله تعالَى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ‏}‏ أمر بالفِكْرِ والتأمُّل والتدُّبر، وفي اللفظ محذوفٌ، والتقدير‏:‏ أو لم يتفكروا فيعلَمُوا مَا بِصَاحِبهمْ منْ جِنَّة، والجِنَّة‏:‏ حالَةٌ مِنَ الجُنُون، كَالجِلْسَةِ، ودخولُ «مِنْ» في قوله‏:‏ ‏{‏مِّن جِنَّةٍ‏}‏ ينفي أنواع الجنون‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السموات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الاية‏:‏ النَّظَرُ هنا بالقَلْب عِبْرَة وفكراً، و‏{‏مَلَكُوتِ‏}‏‏:‏ بناءُ عظمةٍ ومبالغةٍ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ‏}‏‏:‏ لفظٌ يعمُّ جميع ما ينظر فيه، ويستدلُّ به من الصنعة الدالَّة على الصانع، ومِنْ نَفْس الإِنسان وحواسَّه ومواضِعِ رزْقه، والشَّيْءُ‏:‏ واقعٌ على الموجودات، ‏{‏وَأَنْ عَسَى‏}‏‏:‏ عطْفٌ على قوله‏:‏ ‏{‏فِي مَلَكُوتِ‏}‏، والمعنى‏:‏ توقيفُهُمْ علَى أنْ لم يَقَعْ لهم نَظَرٌ في شيء من هذا، ولا في أنهم قَرُبَتْ آجالُهُمْ، فماتُوا فَفَاتَ أوانُ التدَارُكِ، ووجَبَ عليهم المحذورُ، ثم وقفهم «بِأَيِّ حديثٍ» أو أمْرٍ يقعُ إيمانُهم وتَصْدِيقُهم؛ إِذا لم يقع بأمْرٍ فيه نجاتُهم، ودخولُهم الجَنَّةَ؛ ونحو هذا المعنى قولُ الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** وَعنْ أَيّ نَفْسٍ دُونَ نَفْسِي أُقَاتِلُ

والضمير في ‏{‏بَعْدَهُ‏}‏ يراد به القُرْآن‏.‏

وقيل‏:‏ المراد به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقصَّتُهُ وأمْرُهُ أجْمَعَ، وقيل‏:‏ هو عائد على الأجَلِ، أي‏:‏ بعد الأجل، إِذ لا عَمَلَ بعد الموت‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا شرطٌ وجوابٌ، مضمَّنه اليأْسُ منهم، والمَقْتُ لهم؛ لأن المراد أَنَّ هذا قد نزل بهم، والطغيان‏:‏ الإفراطُ في الشيء، وكأنه مستعملٌ في غير الصَّلاح، والعَمَهُ‏:‏ الحَيْرَةُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 188‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏187‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

وقوله سبحانك‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة‏}‏، قال قتادة‏:‏ السائِلُونَ‏:‏ هم قريش‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ هم أحبار اليهود‏.‏

* ت *‏:‏ وفي «السِّيرَة» لابنِ هشامٍ‏:‏ أَن السائلين من أحبار اليهود‏:‏ حَمَلُ بْنُ أبي قُشَيْرٍ، وَسَمَوْءلُ بْنُ زَيْدٍ‏.‏ انتهى‏.‏

والساعة‏:‏ القيامة مُوِّتَ كُلّ من كان حَيًّا حينئذٍ، وبُعِث الجميع، و‏{‏أَيَّانَ‏}‏‏:‏ معناه مَتَى، وهي مبنيَّةٌ على الفتْحِ، قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أَيَّانَ تَقْضِيَ حَاجَتِي أَيَّانَا *** أَمَا ترى لِفعْلِهَا أَبَانَا

و ‏{‏مرساها‏}‏ معناه‏:‏ مُثْبَتُها ومُنْتَهَاها؛ مأخوذٌ من‏:‏ أرسى يُرْسِي، ف «مُرْسَاهَا»‏:‏ رَفْعٌ بالابتداء، والخبرُ «أَيَّانَ»، وعبارة البخاريِّ‏:‏ ‏{‏أَيَّانَ مرساها‏}‏‏:‏ مَتَى خروجُها‏.‏ انتهى، و‏{‏يُجَلِّيهَا‏}‏‏:‏ معناه يُظْهرها‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثَقُلَتْ فِي السموات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، قيل‏:‏ معناه‏:‏ ثَقُلَ أنْ تُعْلَم ويُوقَفَ عَلى حقيقةٍ وَقْتها، وقال الحسنُ بن أبي الحَسَن‏:‏ معناه‏:‏ ثَقُلَتْ هيئتها والفزعُ عَلَى أَهْل السموات والأرض، ‏{‏لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً‏}‏، أي‏:‏ فجأةً‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا‏}‏، قالَ ابن عبَّاس وغيره‏:‏ المعنى يسألونك كأنكَ حَفِيٌّ، أي‏:‏ مُتْحَفٌ ومُهْتَبِلٌ بهم، وهذا ينحُو إلى ما قالَتْ قريشٌ‏:‏ يا محمَّدُ، إِنا قرابَتُكَ، فأخبرْنا بوَقْت السَّاعة‏.‏

وقال ابن زَيْد وغيره‏:‏ معناه‏:‏ كأنك حفيٌّ في المسألة عَنْها، والاشتغالِ بها، حتى حصَّلَتْ علمها‏.‏

وقرأ ابن عبَّاس فيما ذكر أبو حاتم‏:‏ «كأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهَا»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ قال الطَّبريُّ‏:‏ معناه‏:‏ لا يعلمُونَ أنَّ هذا الأَمْرَ لا يعلمه إِلا اللَّهُ، بل يظنُّ أكثرهم أنه ممَّا يعلمه البَشَرُ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا أمر بأنْ يبالِغَ في الاستسلام، ويتجَّردَ من المشاركةِ في قُدْرة اللَّه، وغَيْبِه، وأنَّ يصفَ نفسه لهؤلاءِ السائلين؛ بأنه لا يملكُ من منافع نفسه ومضارِّها إِلا مَا سَنَّى اللَّه وشاءَ ويَسَّر، وهذا الاستثناءُ منقطعٌ، وأخبر أنه لو كان يَعْلَمُ الغَيْبَ، لعمل بحَسَب ما يأتي، واستعد لكلِّ شيءٍ استعداد مَنْ يعلم قَدْرَ ما يَسْتَعِدُّ له، وهذا لفظٌ عامٌّ في كل شيء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مَسَّنِيَ السوء‏}‏ يحتمل وجْهين، وبكليهما قيل‏.‏

أحدهما‏:‏ أن «ما» معطوفةٌ على قوله‏:‏ ‏{‏لاَسْتَكْثَرْتُ‏}‏ أي‏:‏ وَلَمَا مسني السوءُ‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون الكلامُ مقطوعاً تَمَّ في قوله‏:‏ ‏{‏لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير‏}‏ وابتدأ يخبرُ بنَفْي السوءِ عنه، وهو الجُنُون الذي رَمَوْهُ به‏.‏

قال مؤرِّجٌ السَّدُوسيُّ‏:‏ ‏{‏السوء‏}‏ الجنون؛ بلغة هُذَيْلٍ‏.‏

* ت *‏:‏ وأما على التأويل الأول، فلا يريد ب «السوء» الجنونَ، ويترجَّح الثاني بنحو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا بصاحبكم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏، و‏{‏لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏:‏ يحتملُ معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنْ يريد‏:‏ لقومٍ يُطْلَبُ منهم الإِيمانُ، وهؤلاء الناسُ أجمع‏.‏

والثاني‏:‏ أن يخبر أنه نذير، ويتمُّ الكلام، ثم يبتدئ يخبر أنه بشيرٌ للمؤمنين به، ففي هذا وعْدٌ لمن حصل إِيمانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 193‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏189‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏190‏)‏ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏191‏)‏ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏192‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ‏(‏193‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ جلَّت عظمته‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قال جمهورُ المفسِّرين‏:‏ المراد بالنَّفْسِ الواحدة‏:‏ آدم عليه السلام، وبقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ حَوَّاء، وقولُه‏:‏ ‏{‏مِنْهَا‏}‏ هو ما تقدَّمَ ذكْره مِنْ أنَّ آدمَ نام، فاستخرجت قصرى أضلاعِهِ، وخُلِقَتْ منها حَوَّاءُ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا‏}‏، أي‏:‏ ليأنسَ، ويطمئنَّ، وكان هذا كلُّه في الجنة‏.‏

ثم ابتدأ بحالةٍ أخرَى، وهي في الدنيا بعد هبوطهما، فقال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَغَشَّاهَا‏}‏، أي‏:‏ غَشِيَها، وهي كناية عن الجِمَاع، والحَمْلُ الحفيف‏:‏ هو المنيُّ الذي تحمله المرأة في رَحِمِهَا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَرَّتْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ استمرت به، وقرأَ ابنُ عبَّاس‏:‏ «فاستمرت بِهِ»، وقرأ ابن مسعود‏:‏ «فاستمرت بِحَمْلِهَا» وقرأ عبد اللَّه بن عمرو بن العاص‏:‏ «فَمَارَتْ بِهِ»، أي جاءَتْ به، وذهَبَتْ، وتصرَّفَت؛ كما تقولُ‏:‏ مَارَتِ الرِّيحُ مَوْراً، و‏{‏أَثْقَلَت‏}‏‏:‏ دخلَتْ في الثِّقل، كما تقول‏:‏ أصْبَحَ وأمْسَى، والضمير في قوله ‏{‏دَّعَوَا‏}‏، على هذا التأويل‏:‏ عائدٌ على آدم وحوَّاء، وروي في قصص ذلك؛ أن الشيطانَ أشار عَلَى حواء، أن تُسَمِّيَ هذا المولودَ «عَبْدَ الحَارث»، وهو اسْمُ إبليسَ، وقال لها‏:‏ إِن لم تفعلي قَتَلْتُهُ، فزعموا أنهما أطاعاه؛ حرْصاً علَى حياة المولود، فهذا هو الشِّرك الذي جَعَلاَ لِلَّهِ، في التسمية فَقَطْ‏.‏

وقال الطبريُّ والسديُّ في قوله‏:‏ ‏{‏فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ كلامٌ منفصلٌ من خَبَرِ آدم وحَوَّاء، يراد به مشركُو العرب‏.‏

* ت *‏:‏ وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس، ولم أقِفْ بَعْدُ على صحَّة ما رُوِيَ في هذه القِصَصِ، ولو صَحَّ، لوجب تأويله، نَعَمْ؛ روى الترمذيُّ عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ، طَافَ بِهَا إبْلِيسُ، وكانَ لا يَعيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ سَمِّيهِ عَبْدَ الحَارِثِ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الحَارِثِ، فَعَاشَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَان، وأَمْرِهِ، قال الترمذيُّ‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، انفرد به عُمَرُ بنُ إبراهيم، عن قَتَادَةَ، وعمرُ شَيْخٌ بصريٌّ‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا الحديثُ ليس فيه أنهما أطاعاه، وعلى كلِّ حالٍ‏:‏ الواجبُ التوقُّفْ، والتنزيهُ لِمَنْ اجتباه اللَّه، وحُسْنُ التأويل ما أمكن، وقد قال ابنُ العربيِّ في توهينِ هذا القَوْل وتزييفِهِ‏:‏ وهذا القولُ ونحوه مذكُورٌ في ضعيف الحديثِ في الترمذيِّ وغيره، وفي الإِسرائيليات التي لَيْسَ لها ثباتٌ، ولا يعوِّل عليها مَنْ له قَلْبٌ، فإِنَّ آدم وحواء- وإِن كانا غرَّهما باللَّهِ الغَرُورُ- فلا يُلْدَغُ المؤْمِنُ مِنْ حُجْرٍ مرّتين، وما كانا بعْدَ ذلك لِيقْبَلاَ له نُصْحاً، ولا يسمعا له قَوْلاً، والقولْ الأشبه بالحَقِّ‏:‏ أن المراد بهذا جنْسُ الآدميين‏.‏ انتهى من «الأحكام»‏.‏

قال * ع *‏:‏ وقوله ‏{‏صالحا‏}‏‏:‏ قال الحَسَن‏:‏ معناه‏:‏ غُلاَماً، وقال ابن عباس؛ وهو الأظهر‏:‏ بَشَراً سَوِّياً سليماً‏.‏

وقال قومٌ‏:‏ إنما الغَرَضُ من هذه الآية تعديدُ النعمة في الأزواج، وفي تسهيل النَّسْل والولادةِ، ثم ذكر سُوءَ فعْلِ المشركينَ المُوجبِ للعقابِ، فقال مخاطباً لجميع الناس‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ يريد‏:‏ آدم وحواء، أي‏:‏ استمرت حالُكم واحداً واحداً كذلك، فهذه نعمةٌ يختصُّ كلُّ واحد بجزء منْها، ثم جاء قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَغَشَّاهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر الآية، وصفاً لحالِ الناس واحداً واحداً، أي‏:‏ هكذا يفعلون، فإِذا آتاهم اللَّه ولداً صالحاً سليماً كما أرادوه، صرفوه عن الفِطْرة إِلى الشرك، فهذا فِعْلُ المشركين‏.‏

قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» وهذا القول هو الأشبه بالحقِّ وأقربُ للصدق، وهو ظاهر الآية، وعمومها الذي يشملُ جميعَ متناولاتها، ويسلم فيها الأنبياءُ عن النّقصِ الذي لا يليقُ بجهَّال البَشَرُ، فكيف بسادَاتِهِمْ، وأنبيائهم‏؟‏‏!‏ انتهى، وهو كلامٌ حسنٌ؛ وباللَّه التوفيق‏.‏

وقرأ نافعٌ، وعاصم؛ في رواية أبي بَكْر‏:‏ «شركاً»- بكسر الشين، وسكون الراء-؛ على المصدر، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيُّ، وحفصٌ عن عاصم‏:‏ «شُرَكَاء» على الجمع، وهي بينة؛ على هذا التأويل الأخير، وقلقةٌ على قول من قال‏:‏ إن الآية الأولى في آدم وحواء، وفي مُصْحَف أَبيٍّ بن كَعْب‏:‏ «فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً أَشْرَكَا فِيهِ»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الآية‏:‏ ذهب بعضُ من قال بالقول الأول إلى أنَّ هذه الآية في آدم وحواء على ما تقدَّم، وفيه قَلقٌ وتعسُّفٌ من التأويل في المعنى وإِنما تنسق هذه الآياتُ، ويَرُوقُ نَظْمها، ويتناصَرُ معناها على التأويل الأخير، فإِنهم قالوا‏:‏ إن الآية في مُشْركي الكُفَّار الذي يُشْركُون الأصنام في العبادة، وإِياها يراد في قوله‏:‏ ‏{‏مَا لاَ يَخْلُقُ‏}‏، وعبَّر عن الأصنام ب ‏{‏هُمْ‏}‏؛ كأنها تَعْقِلُ على اعتقاد الكُفَّار فيها؛ وبحسب أسمائها، ‏{‏ويُخْلَقُونَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يُنْحَتُونَ ويُصْنَعُونَ، يعني‏:‏ الأصنام، ويحتملُ أن يكونَ المعنى، وهؤلاء المشركُونَ يُخْلَقُونَ؛ أي‏:‏ فكان حقُّهم أن يعبدوا خالِقَهُمْ، لا مَنْ لا يخلق شيئاً، وقرأ أبو عبد الرحمن‏:‏ «عَمَّا تُشْرِكُونَ» بالتاء مِنْ فوقُ «أَتُشْركُونَ»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون‏}‏، من قال‏:‏ إن الآياتِ في آدم عليه السلام، قال‏:‏ هذه مخاطبة مستأنفة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأمته في أمْر الكُفَّار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ قال بالقولِ الآخَر، قال‏:‏ إِن هذه مخاطبةٌ للمؤمنين والكُفَّار؛ على قراءة مَنْ قرأ‏:‏ «أَيُشْرِكُونَ»- بالياء من تَحت-، وللكفَّار فقطْ على قراءة مَنْ قرأ بالتاء من فوق على جهة التوقيفِ، أيْ‏:‏ هذا حالُ الأصنام معكم؛ إنْ دعوتموهم، لم يجيبُوكُمْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏194- 198‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏194‏)‏ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏197‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية مخاطبةٌ للكفَّار في تحقير شأْن أصنامهم، وقوله‏:‏ ‏{‏فادعوهم‏}‏ أي‏:‏ فاختبروا، فإن لم يستجيبوا، فهم كما وصفنا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ الغرض من هذه الآية ‏{‏أَلَهُمْ‏}‏ حواس الحَيِّ وأوصافه، فإِذا قالوا‏:‏ «لا»، حكموا بأنها جماداتٌ من غير شكٍّ، لا خَيْرَ عندها‏.‏

قال الزّهْراوِيُّ‏:‏ المعنى‏:‏ أنتم أفضلُ منهم بهذه الجوارح النافعة؛ فكيف تعبدونهم،، ثُمَّ أمر سبحانه نبيَّه عليه السلام أنْ يعجزهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ‏}‏، أي‏:‏ استنجدوهم واستنفروهم إِلى إِضْرَارِي وكَيْدي، ولا تؤخِّروني، المَعْنَى‏:‏ فإِن كانوا آلهةً، فسيظهر فعلكم، وَلَمَّا أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضَرَره، وأراهم أنَّ اللَّه سبحانه هو القَادِرُ عَلَى كُلِّ شيء لاَ تلك، عقَّب ذلك بالإِستناد إِلى اللَّه سبحانه، والتوكُّلِ عليه، والإِعلام بأنه وليُّه وناصره، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ‏}‏؛ إِنما تكرَّر القولُ في هذا، وترَّددت الآياتُ فيه؛ لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكِّناً من نفوس العرب في ذلك الزَمانِ، ومستولياً علَى عقولها، فأوعب القولَ في ذلك؛ لُطْفاً منه سبحانه بهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قالت فرقةٌ‏:‏ هذا خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأمته في أمر الكُفَّار، والهاءُ والميمُ في قوله‏:‏ «تدعوهم» للكفَّار، ووصفهم بأنهم لا يَسْمَعُونَ، ولا يبصرون؛ إِذ لم يتحصَّل لهم عن النَّظَر والاستماع فائدةٌ؛ قاله مجاهدٌ والسدِّي‏.‏

وقال الطبريُّ‏:‏ المرادُ بالضمير المذكور‏:‏ الأصنامُ، ووصْفُهم بالنظر كنايةً عن المحاذاة والمقابلة؛ ولِمَا فيها من تخييلِ النَّظَر؛ كما تقول‏:‏ دَارُ فُلاَنٍ تَنْظُر إِلى دار فلان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏199- 200‏]‏

‏{‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ‏(‏199‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏200‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ وصيَّةٌ من اللَّه سبحانه لنبيِّه عليه السلام تعمُّ جميع أمته، وأَخْذٌ بجميع مكَارِم الأخلاقِ‏.‏

قال الجمهور‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو‏}‏ اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عَفْواً، دون تكلُّف، فالعَفْوُ هنا‏:‏ الفَضْل والصفو، قال مكِّيٌّ؛ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قال بعض أهْل المعاني، في هذه الآية بيانُ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلَمِ»؛ فهذه الآية قد جَمَعَتْ مَعَانِ كثيرةً، وفوائدَ عظيمةً، وجمعتْ كلَّ خُلُقٍ حَسَن؛ لأَنَّ في أخذ العَفْوِ صلَةُ القاطعينِ، والصفْحَ عن الظالِمينَ، وإِعطاءَ المانعين، وفي الأَمر بالمعروف تَقْوَى اللَّه وطاعته، وصِلة الرحِمِ، وصَوْن الجوارحِ عن المحرِّمات، وسمَّي هذا ونحوه عُرْفاً؛ لأن كلَّ نَفْس تعرفه، وتركَنُ إِليه، وفي الإِعراض عن الجاهلين‏:‏ الصبرُ، والحِلْم، وتنزيهُ النفْس عن مخاطبةِ السفيه، ومنازعةِ اللَّجوج، وغيرُ ذلك من الأفعال المرضية‏.‏ انتهى من «الهداية»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ بالعرف‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ بكلِّ ما عرفَتْه النفوسُ ممَّا لا تردُّه الشريعة؛ ومِنْ ذلك‏:‏ «أَنْ تُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وتَعْفُوَ عَمَّنَ ظَلَمَكَ‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث، فالعُرْفُ بمعنى المعروف‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏، هذه الآية وصِيَّة من اللَّه سبحانه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم تعمُّ أمته رجُلاً رجلاً، والنَّزْغ‏:‏ حركةٌ فيها فسادٌ قلَّما تستعملُ إِلا في فَعْلِ الشيطان؛ لأن حركته مسرِعَةٌ مفسدة؛ ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لاَ يُشِرْ أَحَدُكُمْ عَلَى أخِيهِ بالسِّلاَح؛ لاَ يَنْزَغِ الشَّيْطَانُ في يَدِهِ ‏"‏، فالمعنى في هذه الآية‏:‏ فإِمَّا تَلُمَّنَّ بك لَمَّةٌ من الشيطان، فاستعذ باللَّه، وعبارة البخاريِّ‏:‏ يَنْزَغَنَّكَ‏:‏ يستَخِفَنَّكَ‏.‏ انتهى‏.‏

وَنَزْغُ الشيطان عامٌّ في الغَضَبِ، وتحسينِ المعاصِي، واكتساب الغوائل، وغير ذلك وفي «جامع الترمذيِّ» عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ ‏"‏ إِن لِلْمَلَكِ لَمَّةً، وللشَّيْطَانِ لَمَّةً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديث‏.‏

قال * ع *‏:‏ عن هاتين اللَّمّتَيْنِ‏:‏ هي الخواطِرُ من الخير والشر، فالآخِذُ بالواجبِ يلقى لَمَّةَ المَلَك بالامتثال والاستدامة، وَلَمَّةَ الشيطانِ بالرفْضِ والاستعاذة، واستعاذ‏:‏ معناه‏:‏ طَلَب أَنْ يُعَاذَ، وعَاذَ‏:‏ معناه‏:‏ لاذ، وانضوى، واستجار‏.‏

قال الفَخْر‏:‏ قال ابنُ زيد‏:‏ ‏"‏ لما نَزَل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين‏}‏ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كَيْفَ يَا رَبِّ، والغَضَبُ‏؟‏ فَنَزَل قولُه‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ‏}‏» ‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ يدلُّ علَى أن الاستعاذة لا تفيدُ إِلاَّ إِذا حضر في القَلْبِ العِلْمُ بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالَى قال‏:‏ اذكر لَفْظَ الاستعاذة بلسانك؛ فإن سميعٌ، واستحضر معاني الاستعاذة بِعَقْلِكَ وقَلْبِك؛ فإِني عَليمٌ بما في ضَمِيركَ، وفي الحقيقة‏:‏ القوْلُ اللسانيُّ دون المعارفِ العقليَّة، عديمُ الفائدة والأثر‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏201- 202‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ‏(‏201‏)‏ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ‏(‏202‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية خرَجَتْ مَخْرَجَ المَدْحِ للمتقين، والتقوى ههنا عامَّة في اتقاء الشِّرْك والمعاصِي، وقرأ ابن كثير وغيره‏:‏ «طَيْفٌ»‏.‏

قال أبو عليٍّ الطائفُ كالخَاطِرِ، والطَّيْف كالحَطْرة، وقوله‏:‏ ‏{‏تَذَكَّرُواْ‏}‏‏:‏ إشارة إِلى الاستعاذة المأمور بها، وإِلى ما للَّه عزَّ وجلَّ من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرُّض الشيطانِ فيها، وقرأ ابنُ الزُّبَيْر‏:‏ «مِن الشَّيْطَان تَأَمَّلُوا فإِذَا هُمْ»، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ «إِذَا طَافَ مِنَ الشَّيْطَانِ طَائِفٌ تَأَمَّلُوا»، وقوله‏:‏ ‏{‏مُّبْصِرُونَ‏}‏‏:‏ من البصيرة، أي‏:‏ فإِذا هم قد تبيَّنوا الحقَّ، ومالوا إليه، والضميرُ في ‏{‏إخوانهم‏}‏، عائدٌ على الشياطين، وفي ‏{‏يَمُدُّونَهُمْ‏}‏ عائدٌ على الكُفَّار، وهم المرادُ ب «الإِخوان»، هذا قول الجمهور‏.‏

قال * ع *‏:‏ وقرأ جميعُ السبعة غير نافع‏:‏ «يَمُدُّونَهُمْ»؛ من مَدَدتُّ، وقرأ نافعٌ‏:‏ «يَمِدُّونَهُمْ»، من أَمْدَدتْ‏.‏

قال الجمهور‏:‏ هما بمعنًى واحدٍ، إلا أن المستعمَلَ في المحبوب «أَمَدَّ»، والمستعملَ في المكروه «مَدَّ»، فقراءة الجماعةِ جارِيَةٌ على المنهَاج المستعمل، وقراءةُ نافع هي مقيَّدة بقوله‏:‏ ‏{‏فِي الغي‏}‏؛ كما يجوز أَنّ تقيِّد البِشَارَةَ، فتقول‏:‏ بَشَّرْتُهُ بشرٍّ وَمَدُّ الشياطينِ للكَفَرَةَ، أيْ‏:‏ ومَنْ نَحا نحوهم‏:‏ هو بالتزيين لهم، والإِغواءِ المتتابعِ، وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏؛ من أَقْصَرَ، والضميرُ عائدٌ على الجميع، أي‏:‏ هؤلاء لا يقصرون عن الإغواء، وهؤلاء لا يُقْصِرُونَ في الطاعة للشياطين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏203- 204‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏203‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏204‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها‏}‏، سببها فيما رُوِيَ أن الوَحْيَ كان يتأخَّر أحياناً، فكان الكُفَّار يقولون‏:‏ هَلاَّ اجتبيتها، أي‏:‏ اخترتها، فأمره اللَّه عزَّ وجلَّ؛ أنْ يجيب بالتسْلِيمِ للَّه، وأَنَّ الأمر في الوحْي إِليه ينزِّله متى شاء، ثم أشار بقوله‏:‏ ‏{‏هذا بَصَائِرُ‏}‏ إلى القرآن، أي‏:‏ علاماتُ هُدًى، وأنوارٌ تستضيء القلوبُ به‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِئ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏، ذكر الطبريُّ وغيره؛ أَن أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا بمكَّةَ يتكلَّمون في المكتوبةِ بحوائجهم، فنزلتِ الآية أمْراً لهم بالاستماع والإنصات في الصَّلاة، وأما قولُ من قال‏:‏ إِنها في الخُطْبة، فضعيفٌ، لأن الآية مكِّيَّة، والخُطْبَة لم تُكنْ إِلا بعد الهِجْرة، وألفاظ الآية على الجملة تتضمَّن تعظيم القُرْآن وتوقيرَهُ، وذلك واجبٌ في كل حالة، والإِنصاتُ‏:‏ السكوتُ‏.‏

قال الزجَّاج‏:‏ ويجوز أن يكون‏:‏ ‏{‏فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ‏}‏، أي‏:‏ اعملوا بما فيه، ولا تجاوزوه‏.‏

قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ روى الترمذيُّ، وأبو داود، عن عُبَادَة بْنِ الصَّامِتِ، قال‏:‏ ‏"‏ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الصُّبْحِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ القِرَاءَةُ، فَلَمَّا انصرف، قَالَ‏:‏ «إِنَّي لأَرَاكُمْ تَقْرَؤونَ وَرَاءَ إمامكم، قُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيْ وَاللَّهِ، فَقَالَ‏:‏ لاَ تَفْعَلُوا إِلاَّ بِأُمِّ القُرْآنِ؛ فإِنَّه لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» ‏"‏ وقد رَوَى الناسُ في قراءة المأمومين خَلْفَ الإِمام بفاتحةِ الكِتَاب أحاديثَ كثيرةً، وأعظمهم في ذلك اهتبالا الدارقطنيُّ، وقد جمع البخاريُّ في ذلك جزءًا، وكان رَأْيُهُ قراءةَ الفَاتحَةِ خلْفَ الإِمامِ في الصلاة الجهريَّة، وهي إِحدى روايات مالكٍ، وهو اختيارُ الشافعيِّ‏.‏ انتهى، وقد تقدَّم أول الكتابِ ما اختاره ابنُ العَرَبِيّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏205- 206‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ مخاطَبةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتعمُّ جميعَ أمته، وهو أمر من اللَّه تعالَى بذكْره وتسبيحِهِ وتقديسِهِ، والثناءِ عليه بمحامدِهِ، والجمهورُ على أن الذِّكْر لا يكون في النفْسِ، ولا يراعَى إِلا بحركه اللسَانِ، ويُدلُّ على ذلك من هذه الآية قوله‏:‏ ‏{‏وَدُونَ الجهر مِنَ القول‏}‏، وهذه مرتبةُ السرِّ، والمخافتة‏.‏

وقال الفَخْر‏:‏ المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ‏}‏، كونُه عارفاً بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه، مستحضراً لصفاتِ الجلالِ والعظمة، وذلك أن الذكْرَ باللِّسَان، إِذَا كان عارياً عن الذكْر بالقلْب، كان عدِيمَ الفائدة، ألاَ تَرَى أن الفقهاء أجمَعُوا على أنَّ الرجُلَ، إِذا قال‏:‏ بِعْتُ واشتريت مع أنَّه لاَ يَعْرفُ معانِي هذه الألفاظ، ولا يفهم منها شيئاً، فإِنه لا ينعقد البَيْعُ والشراءُ، فكذلك هنا، قال المتكلِّمون‏:‏ وهذه الآية تدُلُّ على إثبات كلامِ النفْس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُن مِّنَ الغافلين‏}‏، يدُلُّ على أن الذكْرَ القلبيَّ يجبُ أن يكون دائماً، وألاَّ يغفُلَ الإنسان لحظةً عن استحضار جلالِ اللَّهِ وكبريائِهِ بقَدْر الطاقةِ البشريَّة، وتحقيقُ القول في هذا أنَّ بَيْنَ الرُّوحِ والبدنِ عَلاَقةً عجيبةً؛ لأَن كلَّ أثر يحصُلُ في البدَنَ يصْعَدُ منه نتائجُ إِلى الرّوحِ؛ أَلاَ تَرَى أنَّ الإِنسان إِذا تخيَّل الشيء الحامِضَ، ضَرَسَ منه، وإِذا تخيل حالَةً مكروهةً، أو غَضِبَ، سَخِنَ بدنه‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏تَضَرُّعًا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ تذُّلَلاً وخُضُوعاً، البخاريُّ‏:‏ ‏{‏وَخِيفَةً‏}‏، أي‏:‏ خوفاً انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالغدو والأصال‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ دَأَباً، وفي كلِّ يوم، وفي أطرافِ النهارِ، ‏{‏وَلاَ تَكُن مِّنَ الغافلين‏}‏ تنبيهٌ منه عزَّ وجلَّ، ولما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُن مِّنَ الغافلين‏}‏‏:‏ جَعَل بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائِكَةِ؛ لِيَبْعَثَ على الجِدِّ في طاعة اللَّهِ سبحانه‏.‏

* ت *‏:‏ قال صاحبُ «الكلم الفارقية»‏:‏ غفلةُ ساعةٍ عَنْ ربِّك مَكْدَرَة لمرآةِ قَلْبِكَ؛ فكَيْفَ بِغَفْلَة جميعِ عُمْرك‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن عطاء اللَّهِ رحمه اللَّه‏:‏ لا تتركُ الذِّكْر، لِعَدَمِ حُضُورك مع اللَّه فيه؛ لأن غفلتك عن وُجودِ ذكْرِهِ أشدَّ مِنْ غفلتك في وجودِ ذكْرِهِ فعسى أن يرفعك مِنْ ذكْرٍ مع وجود غفلة، إِلى ذكْرٍ مع وجودِ يَقَظَةٍ، ومن ذِكْرٍ مع وجود يقظةٍ إِلى ذكْرٍ مع وجودِ حُضُورٍ، ومِنْ ذكْرٍ مع وجود حضور، إِلى ذكْرٍ مع وجود غيبة عمَّا سوى المذْكُور، وما ذلك على اللَّه بعزيز‏.‏ انتهى، قال ابن العَرَبِيِّ في «أحكامه»‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُن مِّنَ الغافلين‏}‏‏:‏ أي‏:‏ فيما أُمِرْتَ به، وكُلِّفْتَه، وهذا خطابٌ له عليه السلام، والمراد به جميعُ أمته‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏، يريد به الملائكةَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عِندَ‏}‏، إِنما يريد به المنزلةَ، والتشريف، والقُرْبَ في المكانة، لا في المكان، فَهُمْ بذلك عنده، ثم وصف سبحانه حَالَهُمْ؛ مِنْ تواضعهم، وإِدمانهم العبادة، والتَسبيحَ والسُّجودَ»، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَها أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ، أَوْ رَاكعٌ، أَوْ سَاجِدٌ ‏"‏ وهذا موضع سجدة‏.‏

قال عَبْدُ الرحمن بْنُ محمَّدٍ عفا اللَّه عنه‏:‏ كَمُلَ ما انتخبناه في تفسير السورة، والحمد اللَّه على ما به أنعم، وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّد وآله وسلَّمَ تَسْليماً كثيراً‏.‏

سورة الأنفال

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنفال‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، النَّفَلُ والنَّافلة، في كلام العرب‏:‏ الزِّيَادَةُ على الواجب، والأكثرُ في هذه الآيةِ أنَّ السؤال إِنما هو عَنْ حُكْمِ الأَنفال، وقالَتْ فرقةٌ‏:‏ إنما سألوه الأَنْفَالَ نفْسَها؛ محتجِّين بقراءة سعد بن أبي وقَّاص وغيره‏:‏ «يَسْئَلُونَكَ الأَنْفَالَ» وعن أبي أمامة الباهليِّ، قال‏:‏ سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الأَنْفَال، فَقَالَ‏:‏ فِينَا- أَهْلَ بَدْر- نَزَلَتْ، حِينَ اختلفنا، وَسَاءَتْ أَخْلاَقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِيَنَا، وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُوله صلى الله عليه وسلم وقَسَمَهُ عليه السلام- بَيْنَ المُسْلِمينَ عَلَى بَوَاءٍ- يريد‏:‏ على سَوَاءٍ- فكان في ذَلِكَ تَقْوَى اللَّه وطَاعَةُ رسوله، وصلاحُ ذات البين‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويجيء مِنْ مجموع الآثار المذكُورة هنا؛ أن نفوسَ أهْلَ بدر تنافَرَتْ، ووقع فيها ما يَقَعُ في نفوس البَشَرَ؛ مِنْ إِرادة الأثرة، لا سيَّمَا مَنْ أَبْلَى، فأنزل اللَّه عزَّ وجَلَّ الآيةَ، فَرضِيَ المسلمون، وسَلَّموا، فأصْلَح ذاتَ بينهم، ورَدَّ عليهم غنائمهم‏.‏

قال بعضُ أهل التأويل؛ عكرمة، ومجاهد‏:‏ كان هذا الحُكْمُ من اللَّه سبحانه لِرَفْعِ الشَّغَبِ ثم نُسِخَ بقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وهذا أولَى الأقوال وأصحُّها‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ‏}‏‏:‏ تصريحٌ بأنه شَجَرَ بينهم اخْتِلاَفٌ، ومالت النفوس إِلى التَّشَاحِّ، و‏{‏ذَاتَ‏}‏ في هذا المَوْضِعِ يُرَادُ بها نَفْسُ الشيء وحقيقته، والذي يُفْهَمُ من ‏{‏بَيْنِكُمْ‏}‏ هو معنى يعم جَمِيعَ الوُصَلِ، والالْتِحَامَات، والمَوَدَّات، وذات ذلك هو المَأْمُور بإِصلاحها، أي‏:‏ نفسه وعينه، وباقي الآية بَيِّنٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ لفظ لا تُفَارِقُهُ المُبَالَغَةُ والتأكيد؛ حيث وقع، ويصلح مع ذلك لِلْحَصْرِ، بحسب القرينة، فقوله هنا‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون‏}‏ ظاهرها أنَّها للمبالغة والتأكيد فقط، أي الكاملون‏.‏

قال الشَّيْخُ أبو عَبْدُ اللَّه محمد بن محمد بن أحمد الأَنْصَارِيّ الساحلي المالقي في كتابه الذي ألَّفَهُ في «السلوك»‏:‏ واعلم أن الإنْسَانَ مطلوب بطَهَارَة نفسه، وتزكيتها، وطُرُقُ التزكية وإن كَثُرَتْ، فطريق الذِّكْرِ أسرع نفعاً، وأقرب مَرَاماً، وعليه دَرَجَ أكثر مشائخ التربية، ثم قال‏:‏ والذِّكْرُ ضد النسيان، والمطلوب منه عِمَارَةُ الباطن باللَّهِ تعالى في كل زمان، ومع كل حال؛ لأن الذِّكْرَ يَدُلُّ على المذكور لا محالة، فذكره ديدنا يوجب المَحَبَّةَ له، والمعرفة به، والذكر وإن اختلف ألفاظه ومعانيه، فلكل معنًى ‏[‏من‏]‏ معانيه اختصاص بنوعٍ من التَّحْلِيَةِ والتخلية، والتزكية، ثم قال‏:‏ والذِّكْرُ على قسمين‏:‏ ذكر العامة، وذِكْرُ الخاصة‏.‏ أما ذِكْرُ العامة، وهو ذِكْرُ الأجور، فهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بما شاء من ذِكْرِهِ لا يقصد غير الأجور والثواب، وأما ذكر الخَاصَّة، فهو ذِكْرُ الحضور، وهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بأذكار مَعْلُومَةٍ، على صفة مَخْصُوصَةٍ؛ لِينال بذلك المَعْرِفَةَ باللَّهِ سبحانه بطهارة نَفْسِهِ من كل خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وتحليتها بكل خُلُق كريم‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏وَجِلَتْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ فَزِعَتْ، وَرَقَّتْ، وخافت، وبهذه المعاني فسرتها العُلَمَاءُ‏.‏

و ‏{‏تُلِيَتْ‏}‏ معناه‏:‏ سُرِدَتْ، وقرئت، والآيات هنا‏:‏ القرآن المَتْلُوُّ‏.‏

ومن كلام صاحب «الكلم الفارقية»‏:‏ إن تَيَقَّظْتَ يقظة قلبية، وانْتَبَهْتَ انتباهة حقيقية لم تر في وَقْتِكَ سَعَةً لغير ذِكْرِ ربك، واستشعار عظمته، ومهابته، والإِقبال على طاعته، ما في وَقْتِ العاقل فَضْلَةٌ في غير ما خُلِقَ له من عبادة خالقه، والاهتمام بمَصَالِحِ آخرته، والاستعداد لمَعَادِهِ، أعرف العبيد بجلالِ مَوْلاَهُ أَخْلاَهُمْ عما سواه، وأكثرهم لَهَجاً بذكره، وتعظيماً لأمره، وأحسنهم تَأَمُّلاً لآثار صنعته، وبدائع حِكْمته، وأشدهم شَوْقاً إلى لقائه، ومشاهدته انتهى‏.‏

وزيادة الإيمان على وجوه كلها خَارِجٌ، عن نَفْسِ التصديق‏:‏ منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حُكْماً من أحكام اللَّه عز وجل في القرآن، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه، فآمن به، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به؛ إذ لكل حُكْم تَصْدِيقٌ خاص، وهذا يَتَرتَّبُ فيمن بَلَغَهُ ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القِيَامَةِ، وترتب زيادة الإِيمان بزيادة الدَّلاَئِلِ، ولهذا قال مالك‏:‏ الإِيمان يَزِيدُ ولا ينقص، ويترتب بِزِيَادَةِ الأعمال البَرَّةِ على قول من يَرَى أنَّ لَفْظَةَ الإيمان واقعة على التَّصْدِيقِ والطاعات، وهؤلاء يقولون‏:‏ يزيد وينقص‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ عبارة جامعة لِمَصَالِحِ الدنيا والآخرة إذا اعتبرت، وعمل بحسبها في أن يَمْتَثِلَ الإنسان ما أمر به، ويبلغ في ذلك أَقْصَى جهده دون عجز، وينتظر بعدما وعد به من نَصْرٍ، أو رزق، أو غيره، وهذه أَوْصَافٌ جَمِيلَةٌ وَصَفَ اللَّه بها فُضَلاَءَ المؤمنين، فجعلها غاية للأُمَّةِ يَسْتَبِقُ إِليها الأَفَاضِلُ، ثم أَتْبَعَ ذلك وَعْدَهُمْ وَوَسْمَهُمْ بإِقامة الصلاة، ومَدَحَهُمْ بها حَضَّا على ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏‏.‏ قال جَمَاعَةٌ من المفسرين‏:‏ هي الزَّكَاةُ وإِنما حملهم على ذلك اقْترَانُ الكلام بإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وإِلا فهو لفظ عام في الزكاة، ونوافل الخَيْرِ، وَصِلاَتِ المستحقين، ولفظ ابنَ عَبَّاسٍ في هذا المعنى محتمل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّهُمْ درجات‏}‏ ظَاهِرُهُ، وهو قَوْلُ الجمهور أن المراد مَرَاتِبُ الجنة، ومنازلها، ودرجاتها على قَدْرِ أعمالهم، ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ يريد مَآكِلَ الجنة، ومَشَارِبَهَا، و‏{‏كَرِيمٌ‏}‏ صفة تقتضي رَفْعَ المَذَامِّ، كقوله‏:‏ ثوب كَرِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ‏(‏5‏)‏ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ اختلف في معنى هذه الآية، فقال الفَرَّاءَ‏:‏ التقدير امْضِ لأمرك في الغَنَائِمِ، وإن كرهوا كما أخرجك رَبُّكَ‏.‏

قال * ع *‏:‏ وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال‏:‏ هذه الكاف شَبَّهَتْ هذه القِصَّةَ التي هي إِخْرَاجُهُ من بيته بالقِصَّةِ المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأَنْفَال، كأنهم سألوا عن النَّفَلِ، وتشاجروا، فأَخرج اللَّه ذلك عنهم، فكانت فيه الخِيَرَةُ، كما كَرِهُوا في هذه القصة انْبِعَاثَ النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجه اللَّه من بَيْتِهِ، فكانت في ذلك الخِيَرَةُ، وعلى هذا التأويل يُمْكِنُ أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏يجادلونك‏}‏ كلاماً مُسْتَأْنَفاً يراد به الكفار، أي‏:‏ يجادلونك في شريعة الإسلام من بَعْد ما تَبَيَّنَ الحَقُّ فيها، كأنما يساقون إلى المَوْتِ في الدُّعَاءِ إلى الإيمان، وهذا الذي ذكرت من أن ‏{‏يجادلونك‏}‏ في الكُفَّار منصوص‏.‏

وقال مجاهد وغيره‏:‏ المعنى في الآية‏:‏ كما أخرج ربك من بَيْتِكَ على كَرَاهِيَةٍ من فريق منهم، كذلك يُجَادِلُونَكَ في قتال كفار «مكة»، ويوَدُّونَ غير ذَاتِ الشَّوْكَة من بعد ما تَبَيَّنَ لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يُريدُون هم، وقائل هذه المَقَالَةِ يقول‏:‏ إن المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول‏:‏ إن المُجَادِلِينَ هم المشركون، وهذان القولان يتم بها المَعْنَى، ويحسن رَصْفُ اللفظ‏.‏

وقيل غير هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَيْتِكَ‏}‏ يريد من «المدينة» «يثرب» قاله الجُمْهُور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ‏(‏7‏)‏ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏8‏)‏ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ‏(‏9‏)‏ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ في هذه الآية قَصَصٌ حَسَنٌ، محل استيعابه «كتاب سيرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم» لابن هِشَامٍ، واختصاره‏:‏ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما بلغه، وقيل‏:‏ أوحي إليه أن أبا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، قد أَقبل من «الشام» بالعِيرِ التي فيها تجارة قُرَيْشٍ وأموالها قال لأصحابه‏:‏ إن عِيرَ قريش قد عَنّتْ لكم، فاخرجوا إليها، لعل اللَّه أن يَنْفُلَكُمُوها‏.‏ قال‏:‏ فانبعث معه من خَفَّ، وثَقُلَ قوم، وكرهوا الخروح، وأسرع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يَلْوِي على من تَعَذَّرَ، ولا ينظر من غاب ظهره، فسار في ثلاث مائة وثلاثة عشر، أو نحو ذلك من أصحابه بين مُهَاجِرِيٍّ وأَنْصَارِيٍّ، وقد ظَنَّ الناس بأجمعهم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يلقى حَرْباً، فلم يكثر اسْتِعْدَادُهُمْ، وكان أبو سُفْيَانَ في خلال ذلك يَسْتَقْصِي، ويحذر، فلما بلغه خُرُوجُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث ضَمْضَمَ بْنَ عَمْروٍ الغفاري إلى «مكة» يَسْتَنْفِرُ أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل «مكة» في ألف رَجُل، أو نحو ذلك، فلما بلغ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خروجهم أوحى اللَّه إِليه وَحْياً غير مَتْلُو يَعِدُهُ إِحدى الطَّائِفَتَيْنِ، فَعَرَّفَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فَسرُّوا، وَوَدُّوا أن تكون لهم العِيرُ التي لا قِتَالَ معها، فلما علم أبو سفيان بِقُرْبِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منه أخذ طَرِيقَ الساحل، وأبعد وفات، ولم يبق إلا لقاء أهل «مكة»، وأشار بعض الكُفَّارِ على بَعْضِ بالانصراف، وقالوا‏:‏ هذه عِيرُنَا قد نَجَتْ، فلننصرف فحرش أبو جهل وَلَجَّ، حتى كانَ أَمْرُ الواقعة‏.‏ وقال بعضٍ المؤمنين‏:‏ نحن لم نخرج لِقِتَالٍ، ولم نَسْتَعِدَّ له، فجمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، وهو بِوَادٍ يسمى «دَقران» وقال‏:‏ أشيروا علي أيها النَّاسُ، فقام أبو بَكْرٍ، فتكلم، وأحسن، وحَرَّضَ الناس على لقاء العدو، فأعاد رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الاسْتِشَارَةَ، فَقَامَ عمر بِمِثْلِ ذلك، فأعاد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الاسْتِشَارَةَ، فتكلم المِقْدَادُ بْنُ الأسود الكندي، فقال‏:‏ لا نقول لك يَا رَسُولَ اللَّه كما قالت بَنُو إِسرائيل‏:‏ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن نَقُولُ‏:‏ إِنا معكما مقاتلون، واللَّه لو أردت بنا برك الغماد يعني مدينة «الحبشة» لَقَاتَلْنَا معك من دُونِهَا، فسر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكلامه، ودعا له بخير، ثم قال‏:‏ أشيروا علي أيها النَّاسُ، فكلمه سعد بنُ مُعَاذٍ، وقيل‏:‏ سعد بن عبادة، ويحتمل هما معاً؛ فقال‏:‏ يا رسول اللَّه، كأنك إيانا تُريدُ مَعْشَرَ الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أجل، فقال‏:‏ إنا قد آمَنَّا بك، واتبعناك، وبَايَعْنَاكَ، فامضِ لأَمْرِ اللَّه، فواللَّه لو خُضْتَ بنا هذا البَحْرَ لَخُضْنَاهُ معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «امضوا على بَرَكَةِ اللَّه، فكأني أنظر إلى مَصَارِعِ القوم» فالتقوا وكانت وقعة بدر‏.‏

* ت *‏:‏ وفي «صحيح البخاري» من حَدِيثِ عائشة، في خروج أبي بكر من «مكة» فلقيه ابن الدّغنة عند برك الغمَادِ الحديث، وليست بمدينة «الحبشة» من غير شَكٍّ‏.‏ فاللَّه أعلم، ولعلهما مَوْضِعَان‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏الشوكة‏}‏ عبارة عن السِّلاَحِ والحِدَّةِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بكلماته وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافري نَ‏}‏ المعنى‏:‏ ويريد اللَّه أن يُظْهِرَ الإِسلام، ويعلي دعوة الشَّرْعِ بكلماته التي سَبَقَتْ في الأَزَلِ، والدابر الذي يدبر القَوْمَ، أي يأتي آخرهم، وإِذا قطع فقد أتى على آخرهم بشَرْطِ أَن يبدأ الإهلاك من أولهم، وهي عبارة في كل من أتى الهَلاَكُ عليه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيُحِقَّ الحق‏}‏ أي‏:‏ ليظهر الحق الذي هو دِينُ الإسلام، و‏{‏وَيُبْطِلَ الباطل‏}‏، أي الكفر، و‏{‏تَسْتَغِيثُونَ‏}‏ معناه‏:‏ تَطْلُبُونَ الغَوْثَ، و‏{‏مُمِدُّكُم‏}‏ أي‏:‏ مكثركم، ومقويكم من‏:‏ أَمْدَدْتُ، و‏{‏مُرْدِفِينَ‏}‏ معناه‏:‏ متبعين‏.‏

وقرأ سائر السبعة غير نافع‏:‏ «مردفين»- بكسر الدال-، ونافع بفتحها، وروي عن ابن عَبَّاسٍ‏:‏ خَلْفَ كل مَلَكٍ مَلَكٌ، وهذا معنى التتابع، يقال‏:‏ رَدِفَ وأَرْدَفَ؛ إِذا اتبع، وجاء بعد الشَّيْءِ، ويحتمل أن يُرَادُ مُرْدِفِينَ للمؤمنين، ويحتمل أن يُرَادَ مردفين بعضهم بَعْضَاً، وأنشد الطبري شَاهِداً على أن أرْدَفَ بمعنى جاء تَابِعاً قَوْلَ الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

> *** إِذَا الجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا

ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا *** والثرَيَّا تطلع قبل الجَوْزَاءِ‏.‏

وروي في «الصحيح»‏:‏ الأشهر أن المَلاَئِكَةَ قاتلت يَوْمَ بَدْرٍ‏.‏

واختلف في غيره؛ قال ابن إسحاق‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّه بن أبي بكر؛ أنه حُدِّثَ عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ حدثني رَجُلٌ من بني غِفَارٍ، قال‏:‏ أقبلت أنا وابن عَمٍّ لي حتى صَعَدْنَا في جَبَل يُشْرِفُ بنا على بَدْرٍ، ونحن مشركان ننتظر الوَقْعَةَ على من تكون، فَنَنْتَهِبُ مع من يَنْتَهِبُ‏.‏ قال‏:‏ فبينما نحن في الجَبَلِ، إذ دنت منا سَحَابَةٌ، فسمعنا فيها حَمْحَمَةَ الخَيْلِ، فسمعت قائلاً يقول‏:‏ أقدمَ حَيْزُوْم، فأما ابن عمي، فانكشف قِنَاعُ قَلْبِهِ، فمات مكانه، وأما أنا فَكِدْتُ أَهْلَكُ، ثم تَمَاسَكْتُ‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عَبْدُ اللَّه بن أبي بَكْرٍ عن بعض بني سَاعِدَةَ عن أبي سعيد مالك بن رَبِيعَةَ، وكان شهد بَدْراً، قال بعد أن ذهب بَصَرُهُ‏:‏ لو كنت اليوم ببدر، ومعى بَصَرِي لأريتكم الشِّعْبَ الذي خَرَجَتْ منه المَلاَئِكَةُ لا أَشَكُّ ولا أَتَمَارَى‏.‏ انتهى من «سيرة ابن هِشَامٍ»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ‏}‏ الضمير في «جعله» عائد على الوَعْدِ، وهذا عندي أَمْكَنُ الأقوال من جهة المَعْنَى‏.‏

وقيل‏:‏ عائد على المَدَدِ، والإِمداد‏.‏

وقيل‏:‏ عائد على الإرداف‏.‏

وقيل‏:‏ عائد على الأَلْف، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ توقيف على أن الأَمْرَ كُلَّهُ للَّه وأن تَكَسُّبَ المَرْءِ لا يغني، إذا لم يساعده القَدَرُ، وإن كان مَطْلُوباً بالجِدِّ، كما ظاهر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين درعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ‏(‏11‏)‏ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ‏(‏12‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ‏}‏‏.‏ القَصْدُ تعديد نِعَمِهِ سبحانه على المؤمنين في يوم بَدْرٍ، والتقدير‏:‏ اذكروا إذ فعلنا بكم كذا، وإذ فعلنا كذا، والعامل في «إذا» «اذكروا» وقرأ نافع‏:‏ «يُغْشِيكُم»- بضم الياء، وسكون الغين- وقرأ حمزة وغيره‏:‏ ‏{‏يُغَشِّيكم‏}‏- بفتح الغين وَشَدِّ الشين المكسورة، وقرأ ابن كثير وغيره‏:‏ «يَغْشَاكم»- بفتح الياء وألف بعد الشين- «النُّعَاسُ» بالرفع، ومعنى ‏{‏يُغَشِّيكُمُ‏}‏‏:‏ يغطيكم، والنُّعَاسُ أَخَفُّ النوم، وهو الذي يصيب الإِنْسَانَ، وهو واقف أو مَاشٍ، وينص على ذلك قَصَصُ هذه الآية؛ أنهم إنما كان بهم خَفْقٌ بالرُّؤُوس، وقوله‏:‏ ‏{‏أَمَنَةً‏}‏ مصدر من أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنَاً وأَمَنَةً وأَمَاناً، والهاء فيه لتأنيث المصدر، كما هي في المَسَاءَةِ والحَمَاقَةِ والمَشَقَّةِ‏.‏

وروي عن ابن مَسْعُودٍ أنه قال‏:‏ النُّعَاسُ عند حضور القِتَالِ عَلاَمَةُ أمن، وهو من اللَّه، وهو في الصَّلاَةِ من الشيطان‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا إنما طريقه الوَحْيُ، فهو لا مَحَالَةَ يسنده وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السماء مَاءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ‏}‏‏.‏ وذلك أن قَوْماً من المؤمنين لحقتهم جَنَابَاتٌ في سفرهم، وعدموا المَاءَ قَرِيبَ بَدْرٍ، فصلوا كذلك، فَوَسْوَسَ الشيطان في نفوس بعضهم مع تخويفه لهم من كثرة العَدُوِّ وقلتهم، وأيضاً فكانت بينهم وبين مَاءِ بَدْرٍ مَسَافَةٌ، من رمل دَهْسٍ تَسُوخُ فيها الأَرْجُلُ، فكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكُفَّارُ إلى ماء بدر، فأنزل اللَّه تلك المَطَرَةَ فَسَالَتِ الأودية، فاغتسلوا، وطهرهم اللَّه تعالى فذهب رِجْزُ الشيطان، وَتَدَمَّثَ الطريق، وتَلَبَّدَتْ تلك الرِّمَالُ، فسهل اللَّه عليهم السير، وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى ماءَ بَدْرٍ، وأصاب المشركين من ذلك المَطَرَ ما صَعَّبَ عليهم طريقهم، فسر المؤمنون، وتبينوا من فِعْلِ اللَّه بهم ذلك قَصْدَ المعونة لهم، فطابت نفوسهم، واجتمعت، وتَشَجَّعَتْ، فذلك الرَّبْطُ على قلوبهم، وتثبيت أقدامهم على الرملة اللَّيِّنَةِ‏.‏

والضمير في «به» على هذا الاحتمال عَائِدٌ على الماء، ويحتمل عَوْدُهُ على رَبْطِ القلوب، ويكون تثبيت الأقدام عِبَارَةً عن النصر والمعونة في مَوْطِنِ الحَرْبِ، ونزول الماء كان في الزمن قبل تَغْشِيَةِ النعاس، ولم يترتب كذلك في الآية، إذ القَصْدُ فيها تَعْدِيدُ النعم فقط‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ‏}‏ وتثبيتهم يكون بقتالهم، وبحضورهم، وبأقوالهم المُؤْنِسَةِ، ويحتمل أن يكون التَّثْبِيتُ بما يلقيه المَلَكُ في القلب بِلَمَّتِهِ من تَوَهُّمِ الظَّفَرِ، واحتقار الكفار، وبخواطر تشجعه‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب‏}‏ وعلى هذا التأويل يجيء قوله‏:‏ ‏{‏سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب‏}‏ مخاطبة للملائكة، ويحتمل أن يكون مخاطبة للمؤمنين‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاضربوا فَوْقَ الأعناق‏}‏ قال عكرمة‏:‏ هي على بابها، وأراد الرؤوس، وهذا أنبل الأقوال‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويحتمل عندي أن يريد وَصْفَ أبْلَغِ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فَوْقَ عَظْمِ العنق دون عَظْمِ الرأس في المفصل، كما وصف دريد بن الصِّمَّة، فيجيء على هذا فوق الأَعْنَاقِ متمكناً‏.‏

والبَنَان‏:‏ قالت فرقة‏:‏ هي المَفَاصِلُ؛ حيث كانت من الأعضاء‏.‏

وقال فرقة‏:‏ البنان الأصابع، وهذا هو الصحيح؛ لأنه إذا قطع البنان لم ينتفع صَاحِبُهُ بشيء من أعضائه واستأسر‏.‏

و ‏{‏شَاقُّواْ‏}‏‏:‏ معناه خالفوا ونَابَذُوا، وقطعوا، وهو مأخوذ من الشَّقِّ، وهو القَطْعُ والفَصْلُ بين شيئين، وعبر المفسرون عن قوله‏:‏ ‏{‏شَاقُّواْ‏}‏ أي‏:‏ صاروا في شق غير شقه‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا وإن كان معناه صَحِيحاً، فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذَكَرْنَاهُ، وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ جَوَابٌ، للشرط تضمن وَعِيداً وَتَهْدِيداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ‏(‏14‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ‏(‏15‏)‏ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلكم فَذُوقُوهُ‏}‏ المُخَاطَبَةُ للكفار، أي ذلكم الضَّرْبُ والقَتْلُ، وما أوقع اللَّه بهم يوم بَدْرٍ، فكأنه قال‏:‏ الأمر ذلكم فذوقوه، وكذا قرره سيبويه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يحتمل أن يكون «ذلكم» في موضع نَصْبٍ، كقوله‏:‏ زيداً فاضربه، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏زَحْفاً‏}‏ يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص، أي‏:‏ يزحف بعضهم إِلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع على الأَلْيَةِ، ثم سمي كل مَاشٍ إلى آخر في الحرب رُوَيْداً زاحفاً، إذ في مشيته من التَّمَاهُلِ والتَّبَاطُؤِ ما في مشي الزاحف، وفي هذا المعنى شواهد من كلام العرب، ونهى اللَّه سبحانه في هذه الآية عن تَوَلِّي الأَدْبَارِ، وهذا مقيد بالشَّريطَةَ المنصوصة في مثلي المؤمنين، والفرار هنالك كَبِيرَةٌ موبقة بظاهر القرآن، والحديث، وإجماع الأكثر من الأمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قال جمهور الأمة‏:‏ الإشارة ب ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا لَقِيتُمُ‏}‏ وحكم الآية باقٍ إِلى يوم القيامة، بشرط الضعف الذي بَيَّنَهُ اللَّه سبحانه‏.‏

* ت *‏:‏ قال ابن رشد‏:‏ وهذا ما لم يبلغ عَدَدُ المسلمين اثني عشر أَلْفاً، فإِن بلغ حرم الفِرَارُ، وإن زاد المشركون على الضعف «لن تغلب اثنا عشر ألفاً من قِلَّةٍ»، فإن أكثر أهل العِلْمِ خَصَّصُوا بهذا الحديث عُمُومَ الآية‏.‏

وعن مالك مثله‏.‏ انتهى‏.‏

وفهم * ع *‏:‏ الحديث على التَّعَجُّبِ، ذكره عند قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25‏]‏، وما قاله ابنُ رشْدٍ هو الصواب‏.‏ واللَّه أعلم‏.‏

و ‏{‏مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ‏}‏ يراد به الذي يَرَى‏:‏ أن فعله ذلك أنْكَى للعدو، ونصبه على الحال، وكذلك نصب ‏{‏مُتَحَيِّزاً‏}‏، وأما الاسْتِثْنَاءُ، فهو من المولين الذين تضمنهم «من»‏.‏

والفِئَةُ هنا الجَمَاعَةُ الحاضرة لِلْحَرْبِ، هذا قول الجمهور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ‏(‏18‏)‏ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى‏}‏ هذه الآية تَرِدُ على من يزعم أن أَفْعَالَ العباد خَلْقٌ لهم، ومذهب أهل السنة أنها خلق للرب سبحانه كسْبٌ للعبد؛ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يومئذٍ ثلاث قَبَضَاتٍ من حَصًى وتُرَابٍ، فرمى بها في وجوه القوم، فانهزموا عند آخر رمْيَةِ، ويروى أنه قال يوم بدر‏:‏ «شَاهَتِ الوُجُوهُ» وهذه الفعلة أيضاً كانت يوم «حُنَيْن» بلا خلاف‏.‏

و ‏{‏لِيُبْلِيَ المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ ليصيبهم ببلاء حَسَنٍ، وظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة، والظفر، والغزة‏.‏

‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لاستغاثتكم، ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بوجوه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى ما تقدم من قَتْلِ اللَّه لهم، ورميه إياهم، وموضع ‏{‏ذلكم‏}‏ من الإعراب رفع‏.‏

قال سيبويه‏:‏ التقدير‏:‏ الأمر ذلكم، و‏{‏مُوهِنُ‏}‏ معناه مضعف مبطل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الفتح‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏، قال أكثر المتأولين‏:‏ هذه الآية مخاطبة لكفار «مكة»؛ روي أن قريشاً لما عَزَمُوا على الخروج إلى حِمَايَةِ العِيرِ، تعلقوا بأستار الكعبة، واستفتحوا، وروي أن أبا جَهْلٍ قال صبيحة يوم بدر‏:‏ اللهم انصر أَحَبَّ الفئتين إليك، وأظهر خَيْرَ الدِّينَيْنِ عندك، اللهم أَقْطَعُنَا للرحم فَأَحْنِهِ الغَدَاةَ، ونحو هذا فقال اللَّه لهم‏:‏ إن تطلبوا الفَتْحَ فقد جاءكم، أي‏:‏ كما ترونه عليكم لاَ لَكُمْ، وفي هذا توبيخ لهم، وإن تنتهوا عن كفركم وغيكم فهو خَيْرٌ لكم، وإن تعودوا للاستفتاح نَعُدْ بمثل وَقْعَةِ بدر، وباقي الآية بَيِّنٌ‏.‏