فصل: تفسير الآية رقم (21)

صباحاً 6 :2
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ تذكير إجمالي لنعمه تعالى بعد تعداد طائفة منها، وفصل ما بينهما بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏ كما قيل للمبادرة إلى إلزام الحجة والقام الحجر إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل التي هي أدلة التوحيد، ودلالتها عليه وإن لم تكن مقصورة على حيثية الخلق ضرورة ظهور دلالتها عليه من حيثية الأنعام أيضاً لكنها حيث كانت من مستتبعات الحيثية الأولى استغنى عن التصريح بها ثم بين حالها بطريق الإجمالي أي إن تعدوا نعمه تعالى الفائضة عليكم مما ذكر ومما يذكر لا تطيقوا حصرها وضبط عددها فضلاً عن القيام بشكرها، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك حسبما من الله تعالى به ‏{‏إِنَّ الله لَغَفُورٌ‏}‏ حيث يستر ما فرط منكم من كفرانها والإخلال بالقيام بحقوقها ولا يعاجلكم بالعقوبة على ذلك ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ حيث يفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بما تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان التي من جملتها المساواة بين الخالق وغيره، وكل من ذينك الستر والإفاضة نعمة وأيما نعمة، فالجملة تعليل للحكم بعدم الإحصاء، وتقديم المغفرة على الرحمة لتقدم التخلية على التحلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ‏}‏ أي تضمرونه من العقائد والأعمال ‏{‏وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ أي تظهرونه منهما، وحذف العائد لمراعاة الفواصل أي يستوي بالنسبة إلى علمه سبحانه المحيط الأمران، وفي تقديم الأول على الثاني تحقيق للمساواة على أبلغ وجه، وفي ذلك من الوعيد والدلالة على اختصاصه تعالى بصفات الإلهية ما لا يخفى، أما الأول‏:‏ فلأن علم الملك القادر بمخالفة عبده يقتضي مجازاته، وكثيراً ما ذكر علم الله تعالى وقدرته وأريد ذلك، وأما الثاني‏:‏ فبناء على ما قيل‏:‏ إن تقديم المسند إليه في مثل ذلك يفيد الحصر، ومن هنا قيل‏:‏ إنه سبحانه أبطل شركهم للأصنام أولاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏ وأبطله ثانياً بقوله تبارك اسمه‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ الخ كأنه قيل‏:‏ إنه تعالى عالم بذلك دون ما تشركون به فإنه لا يعلم ذلك بل لا يعلم شيئاً أصلاً فكيف يعد شريكاً لعالم السر والخفيات‏.‏

وفي «الكشف» أن في الجملة الأولى إشعاراً بأنه تعالى وما كلفهم حق الشكر لعدم الإمكان وتجاوز سبحانه عن الممكن إلى السهل الميسور، وفي الثانية‏:‏ ما يشعر بأنه قصروا في هذا الميسور أيضاً فاستحقوا العتاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يَدْعُونَ‏}‏ شروع في تحقيق أن آلهتهم بمعزل عن استحقاق العبادة وتوضيحه بحيث لا يبقى فيه شائبة ريب بتعداد أحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة، وكأنها إنما شرحت مع ظهورها للتنبيه على كمال حماقة المشركين وأنهم لايعرفون ذلك إلا بالتصريح أي والآلهة الذين تعبدونهم أيها الكفار ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ سبحانه ‏{‏لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا‏}‏ من الأشياء أصلاً أي ليس من شأنهم ذلك، وذكر بعض الأجلة أن ذكر هذا بعد نفي التشابه والمشاركة للاستدلال على ذلك فكأنه قيل‏:‏ هم لا يخلقون شيئاً ولا يشارك من يخلق من لا يخلق فينتج من الثالث هم لا يشاركون من يخلق ويلزمه أن من يخلق لا يشاركهم فلا تكرار، وقيل عليه‏:‏ إنه مبني على أن من يخلق ومن لا مجرى على غير معين، ويفهم من سابق كلام هذا البعض أنه بني الكلام على أن الأول هو الله تعالى والثاني الأصنام، ويقتضي تقريره هناك عدم الحاجة إلى هذه المقدمة للعلم بها وكونها مفروغاً عنها، فالوجه أن التكرار لمزاوجة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ وتعقب بأن المصرح به العموم في الموضعين وأما التخصيص فيهما بما ذكر فلأن من يخلق عندنا مخصوص به تعالى في الخارج اختصاص الكوكب النهاري بالشمس وإن عم باعتبار مفهومه، ومن لا يخلق وإن عم ذهناً وخارجاً فتفسيره بمن عبد لاقتضاء المقام له، ومقتضى التقرير ليس عدم الحاجة إلى المقدمة بل هو كونها في غاية الظهور بحيث لا يحتاج إلى إثباتها وهذا مصحح لكونها جزأ من الدليل، وإذا ظهر المراد بطل الإيراد اه، ولعل الأوجه في توجيه الذكر ما أشرنا إليه أولاً، وحيث أنه لا تلازم أصلاً بين نفي الخالقين وبين المخلوقية أثبت ذلك لهم صريحاً على معنى شأنهم أنهم يخلقون إذ المخلوقية مقتضى ذواتهم لأنها ممكنة مفتقرة في وجودها وبقائها إلى الفاعل، وبناء الفعل للمفعول كما قال بعض الأجلة لتحقيق التضاد والمقابلة بين ما أثبت لهم وما نفى عنهم من وصف الخالقية والمخلوقية وللإيذان بعدم الحاجة إلى بيان الفاعل لظهور اختصاص بفاعله جل جلاله، ولعل تقديم الضمير هنا لمجرد التقوى، والمراد بالخلق منفياً ومثيتا المعنى المتبادر منه‏.‏

وجوز أن يراد من الثاني النحت والتصوير بناء على أن المراد من الذين يدعونهم الأصنام، والتعبير عنهم بما يعبر عنه عن العقلاء لمعاملتهم والتعبير، عن ذلك بالخلق لرعاية المشاكلة، وفي ذلك من الإيماء بمزيد ركاكة عقول المشركين ما فيه حيث أشركوا بخالقهم مخلوقيهم، وإرادة هذا المعنى من الأول أيضاً ليست بشيء إذ القدرة على مثل ذلك الخلق ليست مما يدور عليه استحقاق العبادة أصلاً‏.‏ وقرأ الجمهور بالتاء المثناة من فوق في ‏{‏تُسِرُّونَ‏}‏ وهي قراءة مجاهد‏.‏ والأعرج‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبي جعفر وهبيرة عن عاصم، وفي المشهور عنه أنه قرأ بالياء آخر الحروف في الأخير وبالتاء في الأولين، وقرئت الثلاثة بالياء في رواية عن أبي عمرو، وحمزة، وقرأ الأعمش ‏{‏والله يَعْلَمُ الذى تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ والذين تَدْعُونَ‏}‏ الخ بالتاء من فوق في الأفعال الثلاث، وقرأ طلحة ‏{‏مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ بالتاء كذلك، وحملت القراءتان على التفسير لمخالفتهما لسواد المصحف، وقرأ محمد اليماني ‏{‏مَّا يَدَّعُونَ‏}‏ بضم الياء وفتح العين مبنياً للمفعول أي يدعونم الكفار ويعبدونهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْوَاتٌ‏}‏ خبر ثان للموصول أو خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات، وصرح بذلك لما أن إثبات المخلوقية لهم غير مستدع لنفي الحياة عنهم لما أن بعض المخلوقين أحياء، والمراد بالموت على أن يكون المراد من المخبر عنه الأصنام عدم الحياة بلا زيادة عما من شأنه أن يكون حياً‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أَحْيَاء‏}‏ خبر بعد خبر أيضاً أو صفة ‏{‏أَمْوَاتٌ‏}‏ وفائدة ذكره التأكيدة عند بعض، وأختير التأسيس وذلك أن بعض ما لا حياة فيه قد تعتريه الحياة كالنطفة فجيء به للاحتراز عن مثل هذا البعض فكأنه قيل‏:‏ هم أموات حالاً وغير قابلين للحياة مآلا، وجوز أن يكون المراد من المخبر عنه بما ذكر ما يتناول جميع معبوداتهم من ذوي العقول وغيرهم فيرتكب في ‏{‏أَمْوَاتٌ‏}‏ عموم المجاز ليشمل ما كان له حياة ثم مات كعزيز أو سيموت كعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام وما ليس من شأنه الحياة أصلاً كالأصنام‏.‏ و‏{‏غَيْرُ أَحْيَاء‏}‏ على هذا إذا فر بغير قابلين للحياة يكون من وصف الكل بصفة البعض ليكون تأسيساً في الجملة وإذا اعتبر التأكيد فالأمر ظاهر، وجوز أن من أولئك المعبودين الملائكة عليهم الصلاة والسلام وكان أناس من المخاطبين يعبدونهم، ومعنى كونهم أمواتاً لا بد لهم من الموت وكونهم غير أحياء غير تامة حياتهم والحياة التامة هي الحياة الذاتية التي لا يرد عليها الموت، وجوز في قراءة ‏{‏والذين يَدْعُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 20‏]‏ بالياء آخر الحروف أن يكون الأموات هم الداعين، وأخبر عنهم بذلك تشبيهاً لهم بالأموات لكونهم ضلالاً غير مهتدين، ولا يخفى ما فيه من البعد ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ الضمير الأول للآلهة والثاني لعبدتها، والشعور العلم أو مباديه، وقال الراغب‏:‏ يقال شعرت أي أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر، قي‏:‏ وسمي الشاعر شاعراً لفظنته ودقة معرفته، ثم ذكر أن المشاعر الحواس وأن معنى لا تشعرون لا تدركون بالحواس وأن لو قيل في كثير مما جاء فيه لا تشعرون لا تعقلون لم يجز إذ كثير مما لا يكون محسوساً يكون معقولاً، و‏{‏أَيَّانَ‏}‏ عبارة عن وقت الشيء ويقارب معنى متى، وأصله عنده بعضهم أي أو أن أي أي وقت فحذف الألف ثم جعل الواو ياء وأدغم وهو كما ترى‏.‏

وقرأ أبو عبد الرحمن «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة قومه سليم، والظاهر أنه معمول ليبعثون والجملة في موضع نصب بيشعرون لأنه معلق عن العمل أي ما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم، وهذا من باب التهكم بهم بناءً على إرادة الأصنام لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير‏.‏

وفي «البحر» أن فيه تهكماً بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم، ولعل هذا جار على سائر الاحتمالات في الآلهة، وفيه تنبيه على أن البعث من لوازم التكليف لأنه للجزاء والجزاء للتكليف فيكون هو له وأن معرفة وقته لا بد منه في الألوهية، وقيل‏:‏ ضميرا ‏{‏يَشْعُرُونَ‏}‏ للآلهة ويلزم من نفي شعورهم بوقت بعثهم نفي شعورهم بوقت بعث عبدتهم وهو الذي يقتضيه الظاهر، ومن جوز أن يكون المراد من الأموات الكفرة الضلال جعل ضميري الجمع هنا لهم، والكلام خارج مخرج الوعيد أي وما يشعر أولئك المشركون متى يبعثون إلى التعذيب، وقيل‏:‏ الكلام تم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ و‏{‏أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ظرف لقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏إلهكم إله واحد‏}‏ على معنى أن الإله واحد يوم القيامة نظير ‏{‏مالك يَوْمِ الدين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏ قال أبو حيان‏:‏ ولا يصح هذا القول لأن ‏{‏أيان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 21‏]‏ إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفاً إما استفهاماً أو شرطاً وتتمحض للظرفية بمعنى وقت مضافاً للجملة بعده نحو وقت يقوم زيد أقوم، على أن هذا التعلق في نفسه خلاف الظاهر، والظاهر أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ألهاكم‏}‏ تصريح بالمدعي وتلخيص للنتيجة غب إقامة الحجة ‏{‏فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ وأحوالها التي من جملتها البعث وما يعقبه من الجزاء ‏{‏قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ‏}‏ للوحدانية جاحدة لها أو للآيات الدالة عليها ‏{‏وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عن الاعتراف بها أو عن الآيات الدالة عليها، والفاء للإيذان بأن إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار وقع موقع النتيجة للدلائل الظاهرة والبراهين القطعية فهي للسببية كما في قولك‏:‏ أحسنت إلى زيد فإنه أحسن إلي، والمعنى أنه قد ثبت بما قرر من الدلائل والحجج اختصاص الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار، وبناء الحكم على الموصول للإشعار بعلية ما في حيز الصلة له، فإن الكفر بالآخرة وبما فيها من البعث والجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب يؤدي إلى قصر النظر على العاجل وعدم الالتفات إلى الدلائل الموجب لإنكارها وإنكار موداها والاستكبار عن اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به، وأما الإيمان بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى الالتفات إلى الدلائل والتأمل فيها رغبة ورهبة فيورث ذلك يقيناً بالوحدانية وخضوعاً لأمر الله تعالى قاله بعض المحققين‏.‏

ومن الناس من قال‏:‏ المراد وهم مستكبرون عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه، فيكون الإنكار إشارة إلى كفرهم بالله تعالى والاستكبار إشارة إلى كفرهم برسوله صلى الله عليه وسلم والأول أظهر، وإسناد الإنكار إلى القلوب لأنها محله وهو أبلغ من إسناده إليهم، ولعله إنما لم يسلك في إسناد الاستكبار مثل ذلك لأنه أثر ظاهر كما تشير إليه الآية بعد؛ وقد قال بعض العلماء‏:‏ كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ أي حق أو حقاً ‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ‏}‏ من الإنكار ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ من الاستكبار، وقال يحيى بن سلام‏.‏ والنقاش‏:‏ المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي عليه الصلاة والسلام، وهو كما ترى، وأياً ما كان فالمراد من العلم بذلك الوعيد بالجزاء عليه، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع بلا جرم بناءً على ما ذهب إليه الخليل‏.‏ وسيبويه‏.‏ والجمهور من أنها اسم مركب مع لا تركيب خمسة عشر وبعد التركيب صار معناها معنى فعل وهو حق فهي مؤولة بفعل‏.‏ وأبو البقاء يؤولها بمصدر قائم مقامه وهو حقاً، وقيل‏:‏ مرفوع بجرم نفسها على أنها فعل ماض بمعنى ثبت ووجب و‏{‏لا‏}‏ نافية لكلام مقدر تكلم به الكفرة كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 1‏]‏ على وجه‏.‏ وذهب الزجاج إلى أنه منصوب على المفعولية لجرم على أنها فعل أيضاً لكن بمعنى كسب وفاعلها مستتر يعود إلى ما فهم من السياق ولا كما في القول السابق، وقيل‏:‏ إنه خبر ‏{‏لا‏}‏ حذف منه حرف الجر و‏{‏جَرَمَ‏}‏ اسمها، والمعنى لا صدأ ولا منع في أن الله يعلم الخ، وقد مر تمام الكلام في ذلك‏.‏

وقرأ عيسى الثقفي ‏{‏ءانٍ‏}‏ بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما قبله على ما قال أبو حيان، ونقل عن بعضهم أنه قد يغني ‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ عن القسم تقول‏:‏ لا جرم لآتينك وحينئذٍ فتكون الجملة جواب القسم ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ جل جلاله ‏{‏لاَ يُحِبُّ المستكبرين‏}‏ أي مطلقاً ويدخل فيه من استكبر عن التوحيد أو عن الآيات الدالة عليه دخولاً أولياً، وجوز أن يراد به أولئك المستكبرون والأول أولى، وأياً ما كان فالاستفعال ليس للطلب مثله فيما تقدم، وجوز كونه عاماً مع حمل الاستفعال على ظاهره من الطلب أي لا يحب من طلب الكبر فضلاً عمن اتصف به، وقد فرق الراغب بين الكبر والتكبر والاستكبار بعد القول بأنها متقاربة، والحق أنه قد يستعمل بعضها موضع بعض، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك آنفاً وأظنه قد تقدم أيضاً؛ والجملة تعليل لما تضمنه الكلام السابق من الوعيد، والمراد من نفي الحب البغض وهو عند البعض مؤول بنحو الانتقام والتعذيب، والأخبار الناطقة بسوء حال المتكبر يوم القيامة كثيرة جداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ أي لأولئك المستكبرين، وهو بيان لإضلالهم غب بيان ضلالهم، وقيل‏:‏ الضمير لكفار قريش الذين كانوا كما روي عن قتادة يقعدون بطريق من يغدو على النبي صلى الله عليه وسلم ليطلع على جلية أمره فإذا مر بهم قال لهم‏:‏ ‏{‏مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ‏}‏ على محمد عليه الصلاة والسلام ‏{‏قَالُواْ أساطير الاولين‏}‏ أي ما كتبه الأولون كما قالوا‏:‏ ‏{‏اكتتبها فَهِىَ تملى عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏ فالأساطير جمع اسطار جمع سطر فهو جمع الجمع؛ وقال المبرد‏:‏ جمع أسطورة كأرجوحة وأراجيح ومقصودهم من ذلك أنه لا تحقيق فيه، وقيل‏:‏ القائل لهم بعض المسلمين ليعلموا ما عندهم وقيل‏:‏ القائل بعضهم على سبيل التهكم وإلا فهو لا يعتقد إنزال شيء، ومثل هذا يقال في الجواب عن تسميته بالمنزل في الجواب بناءاً على تقدير المبتدأ فيه ذلك، ويجوز أن يسموه بما ذكر على الفرض والتسليم ليردوه كقوله‏:‏ ‏{‏هذا رَبّى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 77‏]‏ وقيل‏:‏ قدروه منزلاً مجاراة ومشاكلة‏.‏

وفي «الكشاف» أن ‏{‏مَاذَا‏}‏ منصوب بأنزل أي أي شيء أنزل ربكم أو مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله ربكم، فإذا نصبت فمعنى ‏{‏أساطير الاولين‏}‏ ما تدعون نزوله ذلك، وإذا رفعت فالمعنى المنزل ذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ فيمن رفع اه، وقد خفي تحقيق مرامه على بعض المحققين، فقد قال صاحب الفرائد‏:‏ الوجه أن يكون مرفوعاً بالابتداء بدليل رفع ‏{‏أساطير‏}‏ فإن جواب المرفوع مرفوع وجواب المنصوب منصوب ولم يقرأ أحد هنا بالنصب‏.‏

وقال صاحب التقريب‏:‏ إن في كلام الزمخشري نظراً وبينه بيما بينه وأجاب بما أجاب، وأطال الطيبي الكلام في ذلك، وقد أجاد صاحب الكشف في هذا المقام فقال‏:‏ إن قوله أو مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله إيضاح وإلا فالمعنى ما الذي أنزله على المصرح به في المفصل إذ لا وجه لحذف الضمير من غير استطالة مع أن اللفظ يحتمل النصب والرفع احتمالاً سواء، وعلى ذلك يلوح الفرق بين التقديرين ظهوراً بيناً، فإن المنصوب وإن دل على ثبوت أصل الفعل وأن السؤال عن المفعول متقاعد عن دلالة المرفوع فقد علم أن الجملة التي تقع صلة للموصول حقها أن تكون معلومة للمخاطب وأين الحكم المسلم المعلوم من غيره، وإذا ثبت ذلك فليعلم أنه على تقديرين لم يطابق به الجواب لقوله في ‏{‏قَالُواْ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ طوبق به الجواب بخلاف ‏{‏أساطير‏}‏ وقوله هنا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَاذَا يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ إلى آخره فيمن رفع تشبيه في العدول إلى الرفع لا وجهه فإن الجواب هنالك طبق السؤال بخلاف ما نحن فيه، وإنما قدر ما تدعون نزوله على تقدير النصب لأن السائل لم يكن معتقداً لإنزال محقق بل سئل عن تعيين ما سمع نزوله في الجملة فيكفي في رده إلى الصواب ما تدعون نزوله أساطير، وأما على تقدير الرفع فلما دل على أن الإنزال عنده محقق مسلم لا نزاع فيه وإنما السؤال عن التعيين للمنزل أجيب بأن ذلك المحقق عندك أساطير تهكماً إذ من المعلوم أن المنزل لا يكون أساطير فبولغ في رده إلى الصواب بالتهكم به وأنه بت الحكم بالتحقيق في غير موضعه فأرى السائل أنه طوبق ولم يطابق في الحقيقة بل بولغ في الرد، ويشبه أن يكون الأول جواباً للسؤال فيما بينهم أو الوافدين، والثاني جواباً عن سؤال المسلمين على ما ذكر من الاحتمالين لا العكس على ما ظن، هذا هو الأشبه في تقرير قوله الموافق لما ذكره من بعد على ما مر‏.‏ وجعل ما ذكره هنالك وجهاً ثالثاً وأنه طوبق به الجواب ههنا وتوجيه اختلاف التقديرين ادعاءً ونزولاً بما مهدناه وإن ذهب إليه الجمهور تكلف عنه غنى اه‏.‏ وقرىء ‏{‏أساطير‏}‏ بالنصب كما نص عليه أبو حيان‏.‏ وغيره فإنكار صاحب الفرائد من قلة الاطلاع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏لِيَحْمِلُواْ‏}‏ متعلق بـ ‏{‏قالوا‏}‏ كما هو الظاهر أي قالوا ذلك لأن يحملوا ‏{‏أَوْزَارَهُمْ‏}‏ أي آثامهم الخاصة بهم وهي آثام ضلالهم، وهو جمع وزر ويقال للثقل تشبيهاً بوزر الجبل، ويعبر بكل منهما عن الإثم كما في هذه الآية، وقوله تعالى ليحملوا أثقالهم‏:‏ ‏{‏كَامِلَةٌ‏}‏ لم ينقص منها شيء ولم يكفر بنحو نكبة تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين، وقال الإمام‏:‏ معنى ذلك أنه لا يخفف من عذابهم شيء بل يوصل إليه بكليته، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة، وحمل الأوزار مجاز عن العقاب عليها‏.‏ وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أن الكافر يتمثل عمله في صورة أقبح ما خلق الله تعالى وجهاً وأنتنه ريحاً فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده وكلما يخاف شيئاً زاده خوفاً فيقول‏:‏ بئس الصاحب أنت ومن أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ وما تعرفني‏؟‏ فيقول‏:‏ لا‏.‏ فيقول‏:‏ أنا عملك كان قبيحاً فلذلك تراني قبيحاً وكان منتناً فلذلك تراني منتناً طاطىء إلى أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فيركبه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً‏}‏ ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ ظرف ليحملوا ‏{‏وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ‏}‏ أي وبعض أوزار من ضل بإضلالهم على معنى ومثل بعض أوزارهم فمن تبعيضية لأن مقابلته لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَامِلَةٌ‏}‏ يعين ذلك‏.‏

والمراد بهذا البعض حصة التسبب فالمضل والضال شريكان هذا يضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر وللضال أوزار غير ذلك وليست تلك محمولة، وقال الأخفش‏:‏ إن ‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة أي وأوزار الذين يضلونهم على معنى أنهم يعاقبون عقاباً يكون مساوياً لعقاب كل من اقتدى بهم، وإلى الزيادة ذهب أبو البقاء واعترض على التبعيض بأنه يقتضي أن المضل غير حامل كل أوزار الضال وهو مخالف للمأثور «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً» وفيه أن المأثور يدل على التبعيض لا أن بينهما مخالفة كما لا يخفى، ولتوهم هذه المخالفة قال الواحدي‏:‏ إن من للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الاتباع، وتعقبه أبو حيان بأن من التي لبيان الجنس لا تقدر بما ذكر وإنما تقدر بقولنا الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم فيؤل من حيث المعنى إلى قول الأخفش وإن اختلفا في التقدير، ولام ‏{‏لِيَحْمِلُواْ‏}‏ للعاقبة لأن الحمل مترتب على فعلهم وليس باعثاً ولا غرضاً لهم، وعن ابن عطية أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا أي قدر صدور ذلك ليحملوا، ويجىء حديث تعليل أفعال الله تعالى بالإغراض وأنت تدري أن فيه خلافاً‏.‏

وجوز في «البحر» كونها لام الأمر الجازمة على معنى أن ذلك الحمل متحتم عليهم فيتم الكلام عند قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أساطير الاولين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 24‏]‏ والظاهر العاقبة، وصيغة الاستقبال في ‏{‏يُضِلُّونَهُمْ‏}‏ للدلالة على استمرار الإضلال أو باعتبار حال قولهم لا حال الحمل‏.‏

‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ حال من المفعول كأنه قيل‏:‏ يضلون من لا يعلم أنهم ضلال على الباطل، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على ذي لب وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء وفيه زيادة تعيير لهم وذم إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم، وقيل‏:‏ إنه حال من الفاعل أي يضلون غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال، وقيل‏:‏ المعنى حينئذٍ يضلون جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال، ونقل القول بالحالية عن الفاعل بنحو هذا المعنى عن الواحدي، وزعم بعضهم أنه الوجه لا الحالية من المفعول، وأيد بأن التذييل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ سَآء مَا يَرَوْنَ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏ يقويه، وليس بذاك، وما ذكر ظن من هذا المؤيد أنه إذا جعل حالاً من المفعول لم يكن له تعلق بما سيق له الكلام من حال المضلين وقد هديت إلى وجهه‏.‏

ورجحه أبو حيان بأن المحدث عنه هو المسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية فاعتباره ذا الحال أولى، ويرد عليه مع ما يعلم مما ذكر أن القرب يعارضه فلا يصلح مرجحاً، وقيل‏:‏ هو حال من ضمير الفاعل في ‏{‏قَالُواْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 24‏]‏ على معنى قالوا ذلك غير عالمين بأنهم يحملون يوم القيامة أوزار الضلال والإضلال؛ وأيد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏ من حيث أن حمل ما ذكر من أوزار الضلال والإضلال من قبيل إتيان العذاب من حيث لا يشعرن، ويرده أن الحمل المذكور كما هو صريح الآية إنما هو يوم القيامة والعذاب المذكور إنما هو العذاب الدنيوي كما ستسمعه إن شاء الله تعالى وجوز أن يكون حالاً من الفاعل والمفعول كما قال ذلك ابن جني في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 27‏]‏ وهو خلاف الظاهر، واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث ويميز بين المحق والمبطل ولا يعذر بالجهل، وهو ظاهر على ما قدمناه من الوجه الأوجه ‏{‏أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ‏}‏ أي بئس شياً يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ وعيد لهم برجوع غائلة مكرهم عليهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجل، والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وهو ههنا على ما قيل مجاز عن مباشرة أسبابه وترتيب مقدماته لأن ما بعد يدل على أنه لم يحصل الصرف، وجوز أن يرتكب فيه التجريد أي سووا منصوبات وحيلا ليخدعوا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام ‏{‏فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد‏}‏ أي من جهة الدعائم والعمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت فمن ابتدائية والبنيان اسم مفرد مذكر، ونقل الراغب عن بعض اللغويين أنه جمع بنيانة مثل شعير وشعيرة وتمر وتمرة ونخل ونخلة وأن هذا النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه، وأصل الإتيان كما قال المجىء بسهولة وهو مستحيل بظاهره في حقه سبحانه ولذلك احتاج بعضهم إلى تقدير مضاف أي أمر الله تعالى وروي ذلك عن قتادة، وجعل ذلك في «الكشاف» من قبيل أتى عليه الدهر بمعنى أهلكه وأفناه، وحينئذٍ لا حاجة إلى تقدير المضاف‏.‏ وقرىء ‏{‏بنيتهم‏}‏ وهو بمعنى بنائهم يقال بنيت أبنى أبناء وبنية وبنى نعم كثيراً ما يعبر بالبنية عن الكعبة وقرأ جعفر بيتهم والضحاك ‏{‏يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ‏}‏ ‏{‏فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف فَوْقَهُمُ‏}‏ أي سقط عليهم سقف بنيانهم إذ لا يتصور له القيام بعد تهدم قواعده، ‏{‏وَمِنْ‏}‏ متعلق بخر وهي لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف على أنه حال من السقف مؤكدة، وقال ابن عطية وابن الأعرابي أن ‏{‏مّن فَوْقِهِمْ‏}‏ ليس بتأكيد لأن العرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا انهدم في ملك القائل وإن لم يقع عليه حقيقة فهو لبيان أنهم كانوا تحته حين هدم‏.‏ ومن الناس من زعم أن ‏{‏على‏}‏ بمعنى عن وهي للتعليل والكلام على تقدير مضاف أي خر من أجل كفرهم السقف وجىء بقوله تعالى ‏{‏مّن فَوْقِهِمْ‏}‏ مع ‏{‏خَرَّ‏}‏ لدفع توهم أن يكون قد خروهم ليسوا تحته، ولا يخفى أنه تطويل من غير طائل بل كلام لا ينبغي أن يتفوه به فاضل؛ والكلام تمثيل يعني أن حالهم في تسويتهم المنصوبات والحيل ليمكروا بها رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وإبطال الله تعالى إياها وجعلها سبباً لهلاكهم كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا تحته، ووجه الشبه أن ما نصبوه وخيلوه سبب التحصن والاستيلاء صار سبب البوار والفناء فالأساطين بمنزلة المنصوبات وانقلابها عليهم مهلكة كانقلاب تلك الحيل على أصحابها والبنيان ما كان زوروه وروجوا فيه تلك المنصوبات وتطواطئوا عليه من الرأي المدعم بالمكائد، ويشبه ذلك قولهم، من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً‏.‏

ويقرب من هذا ما قيل إن المراد أحبط الله تعالى أعمالهم، وقيل‏:‏ الأمر مبني على الحقيقة، وذلك أن نمرود بن كنعان بنى صرحاً ببابل ليصعد بزعمه إلى السماء ويعرف أمرها ويقاتل أهلها وأفرط في علوه فكان طوله في السماء على ما حكى النقاش وروي عن كعب فرسخين، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب، كان ارتفاعه خمسة آلاف ذراع وعرضه ثلاثة آلاف ذراع فبعث الله تعالى عليه ريحاً فهدمته وخر سقفه عليه وعلى أتباعه فهلكوا، وقيل‏:‏ هدمه جبريل عليه السلام بجناحه لوما سقط تبلبلت الناس من الفزع فتكلموا يومئذٍ بثلاث وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية، ولا يخفى ما في هذا الخبر من المخالفة للمشهور لأن موجبه أن هلاك نمرود كان بما ذكر والمشهور أنه عاش بعد قصة الصرح وأهلكه الله تعالى ببعوضة وصلت لدماغه إظهاراً لكمال خسته وعجزه وجازاه سبحانه من جنس عمله لأنه صعد إلى جهة السماء بالنسور فأهلكه الله تعالى بأخس الطيور، وما ذكر في وجه تسمية المكان المعروف ببابل هو المشهور، وفي «معجم البلدان» أن مدينة بابل يوراسف الجبار واشتق اسمها من المشتري لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري وأخر بها الإسكندر، وما ذكر من أن اللسان كان قبل ذلك السريانية ذكره البغوي ونظر فيه الخازن بأن صالحاً عليه السلام وقومه كانوا قبل وكانوا يتكلمون بالعربية وكان قبائل قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس يتكلمون بالعربية أيضاً وقد يدفع بالعناية‏.‏

وقال الضحاك الآية إشارة إلى قوم لوط عليه السلام وما فعل بهم وبقراهم، والكلام أيضاً مبني على الحقيقة واختار جماعة بناءه على التمثيل حسبما سمعت وعليه فالمراد على المختار من الذين كفروا من قبل ما يشمل جميع الماكرين الذين هدم عليهم بنيانهم وسقط في أيديهم وقرأ الأعرج السقف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ومجاهد ‏{‏السقف‏}‏ بضم السين فقط وكلاهما جمع سقف وفعل وفعل على ما قال أبو حيان محفوظان في جمع فعل وليسا مقيسين فيه ويجمع على سقوف وهو القياس‏.‏ وقرأت فرقة ‏{‏السقف‏}‏ بفتح السين وضم القاف وهي لغة في السقف، وذكر أن الأصل مضموم القاف وساكنه مخففه وكثر استعماله على عكس قولهم رجل بفتح فضم ورجل بفتح فسكون وهي لغة تميمية ‏{‏وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون، والمراد به العذاب العاجل، وفي عطف هذه الجملة على ما تقدم تهويل لأمر هلاكهم ويدل على أن المراد به العاجل قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ‏}‏ أي يذلهم، والظاهر أن ضمائر الجمع للذين مكروا من قبل كأنه قيل‏:‏ قد مكر الذين من قبلهم فعذبهم الله تعالى في الدنيا ثم يعذبهم في العقبى، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما تدل عليه من التراخي الزماني، وتقديم الظرف على الفعل قيل لقصر الإخزاء على يوم القيامة، والمراد به ما بين بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ‏}‏ أي لهم تفضيحاً وتوبيخاً ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِىَ‏}‏ إلى آخره، ولا شك أن ذلك لا يكون إلا في ذلك اليوم، وقال بعض المحققين‏.‏ ليس التقديم لذلك بل لأن الإخبار بجزائهم في الدنيا مؤذن بأن لهم جزاءً أخروياً فتبقى النفس مترقبة إلى وروده سائلة عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلام على وجه يؤذن بأن المقصود بالذكر جزاؤهم لا كونه في الآخرة، وذكر أيضاً أن الجملة المذكورة عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي هذا الذي فهم من التمثيل من عذاب هؤلاء الماكرين القائلين في القرآن العظيم أساطير الأولين أو ما هو أعم منه، ومما ذكر من عذاب أولئك الماكرين من قبل جزاؤهم في الدنيا ويوم القيامة يخزيهم إلى آخرهم، ثم قال‏:‏ والضمير إما للمغترين في حق القرآن الكريم أو لهم ولمن مثلوا بهم من الماكرين، وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق اه‏.‏

وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه فليتأمل، وفسر بعضهم الإخزاء بما هو من روادف التعذيب بالنار لأنه الفرد الكامل وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 192‏]‏ وقيل عليه‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِىَ‏}‏ إلى آخره يأباه لأنه قبل دخولهم النار‏.‏ وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأنت تعلم أن الأولى مع هذا حمله على مطلق الإذلال، وإضافة الشركاء إلى نفسه عز وجل لأدنى ملابسة بناءً على زعمهم أنهم شركاء لله سبحانه عما يشركون فتكون الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وجوز أن يكون ما ذكر حكاية منه تعالى لإضافتهم فإنهم كانوا يضيفون ويقولون‏:‏ شركاء الله تعالى، وفي ذلك زيادة في توبيخهم ليست في أين أصنامكم مثلاً لو قيل، ولا يخفى أن هذا خزي وإهانة بالقول فإذا فسر الإخزاء فيما تقدم بالتعذيب بالنار كانت الآية مشيرة إلى خزيين فعلي وقولي، وأشير إلى الأول أولاً لأنه أنسب بسابقه‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏شُرَكَائِىَ‏}‏ ممدوداً مهموزاً مفتوح الياء، وفرقة كذلك إلا أنهم سكنوا الياء فتسقط في الدرج لالتقاء الساكنين، والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه بالقصر وفتح الياء، وأنكر ذلك جماعة وزعموا أن هذه القراءة غير مأخوذ لأن قصر الممدود لا يجوز إلا ضرورة، وليس كما قالوا فإنه يجوز في السعة، وقد وجه أيضاً بأن الهمزة المكسورة قبل الياء حذفت للتخفيف وليس كقصر الممدود مطلقاً، مع أنه قد روي عن ابن كثير قصر التي في القصص ‏(‏62‏)‏ و‏{‏وَرَائِى‏}‏ في مريم ‏(‏5‏)‏‏}‏، وعن قنبل قصر

‏{‏أَن رَّءاهُ استغنى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 7‏]‏ في العلق فكيف يعد ذلك ضرورة‏.‏

نعم قال أبو حيان‏:‏ إن وقوعه في الكلام قليل فاعرف ذلك فقد غفل عنه كثير من الناس‏.‏

‏{‏الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ‏}‏ أي تخاصمون وتنازعون الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم في شأنهم وتزعمون أنهم رشركاء حقاً حين بينوا لكم ضد ذلك، وفسر بعضهم المشاقة بالمعاداة، وتفسيرها بالمخاصمة ليظهر تعلق ‏{‏فِيهِمْ‏}‏ به ولا يحتاج إلى جعل في للسببية أولى، وقيل‏:‏ للمخاصمة مشاقة أخذاً من شق العصا أو لكون كل من المتخاصمين في شق؛ والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة على طريق الاستهزاء والتبكيت، فإنهم كانوا يقولون‏:‏ إن صح ما تقولون فالأصنام تشفع لنا، والاستفسار عن مكانتهم لا يوجب غيبتهم حقيقة بل يكفي في ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون به فليس هناك شركاء ولا أماكنها‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذلك يوجب الغيبة، ويقال‏:‏ إنه يحال بينهم وبين شركائهم حينئذٍ ليتفقدوهم في ساعة علقوا الرجاء بها فيهم أو أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب‏.‏ ولا يحتاج إلى هذا بعدما علمت على أنه أورد على قوله‏.‏ ليتفقدوهم إلى آخره أنه ليس بسديد، فإنه قد تبين للمشكرين حقيقة الأمر فرجعوا عن ذلك الزعم الباطل فكيف يتصور منهم التفقد‏.‏ وأجيب بأنه يجوز أن يغفلوا لعظم الهول عن ذلك فيتفقدوهم، ثم إن ما ذكر يقتضي حشر الأصنام وهو الذي يدل عليه كثير من الآيات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ على قول، ولا أرى مانعاً من حمل الشركاء على معبوداتهم الباطلة بحيث تشمل ذوي العقول أيضاً‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏تشاقون‏}‏ بفتح النون، ونافع بكسرها ورويت عن الحسن، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم‏.‏ وقرأت فرقة بتشديدها على أنه أدغم نون الرفع في نون الوقاية‏.‏ والكسر على حذف ياء المتكلم والاكتفاء به أي تشاقونني‏.‏ على أن مشاقة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم كمشاقة الله تعالى شأنه ولولا ذلك لم يصح تعليق المشاقة به سبحانه‏.‏ أما إذا كانت بمعنى المخاصمة فظاهر أنهم لم يخاصموا الله تعالى، وأما إذا كانت بمعنى العداوة فلأنهم لا يعتقدون أنهم أعداء لله تعالى‏:‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ يعني المشركين فمؤول أيضاً بغير شبهة ‏{‏قَالَ الذين أُوتُواْ العلم‏}‏ من أهل الموقف وهم الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون الذين أوتوا علماً بدلائل التوحيد وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم، واقتصر يحيى بن سلام على المؤمنين والأمر فيه سهل‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم الملائكة عليهم السلام‏.‏ ولم نقف على تقييده إياهم‏.‏ وعن مقاتل أنهم الحفظة منهم‏.‏ ويشعر كلام بعضهم بأنهم ملائكة الموت حيث أورد على القول بأنهم الملائكة أن الواجب حينئذٍ يتوفونهم مكان ‏{‏تتوفاهم الملائكة‏}‏ 8‏]‏ وأنه يلزم منه الإبهام في موضع التعيين والتعيين في موضع الإبهام‏.‏ وهو كما الشهاب في غاية السقوط، وقيل‏:‏ المراد كل من اتصف بهذا العنوان من ملك وأنسي وغير ذلك‏.‏ والذي يميل إليه القلب السليم القول الأول أي يقول أولئك توبيخاً للمشركين وإظهاراً للشماتة بهم وتقريراً لما كانوا يعظونهم وتحقيقاً لما أوعدوهم به‏.‏ وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه وتحتمه حسبما هو المعهود في أخباره تعالى كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنَادَى أصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الخزى‏}‏ الذال والهوان‏.‏ وفسره الراغب بالذال الذي يستحي منه ‏{‏اليوم‏}‏ منصوب بالخزي على رأي من يرى أعمال المصدر باللام كقوله‏:‏ ضعيف النكاية أعداءه‏.‏

أو بالاستقرار في الظرف الواقع خبراً لإن، وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا أنه مغتفر في الظرف‏.‏ وأل للحضور أي اليوم الحاضر، وإيراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق ‏{‏والسوء‏}‏ العذاب ومن الخزي به جعل ذكر هذا للتأكيد ‏{‏عَلَى الكافرين‏}‏ بالله تعالى وآياته ورسله عليهم السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ بتأنيث الفعل، وقرأ حمزة‏.‏ والأعمش ‏{‏يتوفاهم‏}‏ بالتذكير هنا وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والوجهان شائعان في أمثال ذلك‏.‏

وقرىء بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها ويجتلب في مثله حينئذٍ همزة وصل في الابتداء وتسقط في الدرج وإن لم يعهد همزة وصل في أول فعل مضارع‏.‏ وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين، وفي الموصول أوجه الإعراب الثلاثة‏.‏ الجر على أنه صفة ‏{‏الكافرين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 27‏]‏ أو بدل منه أو بيان له، والنصب والرفع على القطع للذم؛ وجوز ابن عطية كونه مرتفعاً بالابتداء وجملة ‏{‏فَأَلْقَوُاْ‏}‏ خبره‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأن زيادة الفاء في الخبر لا تجوز هنا إلا على مذهب الأخفش في إجازته وزيادتها في الخبر مطلقاً نحو زيد فقام أي قام، ثم قال‏:‏ ولا يتوهم أن هذه الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولاً وضمن معنى الشرط لأنها لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح أداة الشرط فلا يجوز مع ما ضمن معناه اه بلفظه‏.‏ ونقل شهاب عنه أنه قال‏:‏ إن المنع مع ما ضمن معناه أولى‏.‏ وتعقبه بأن كونه أولى غير مسلم لأن امتناع الفاء معه لأنه لقوته لا يحتاج إلى رابط إذا صح مباشرته للفعل وما تضمن معناه ليس كذلك، وكلامه الذي نقلناه لا يشعر بالأولوية فلعله وجد له كلاماً آخر يشعر بها‏.‏

واستظهر هو الجر على الوصفية ثم قال‏:‏ فيكون ذلك داخلاً في المقول، فإن كان القول يوم القيامة يكون ‏{‏تتوفاهم‏}‏ بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية، وإن كان في الدنيا أي لما أخبر سبحانه أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول جل وعلا لهم ما يقول قال أهل العلم‏:‏ إن الخزي اليوم الذي أخبر الله تعالى أنه يخزيهم فيه والسوء على الكافرين يكون ‏{‏تتوفاهم‏}‏ على بابه، ويشمل من حيث المعنى من توفته ومن تتوفاه، وعلى ما ذكره ابن عطية يحتمل أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ إلى آخره من كلام الذين أوتوا العلم وأن يكون إخباراً منه تعالى، والظاهر أن القول يوم القيامة فصيغة المضارع لاستحضار صورة توفى الملائكة إياهم كما قيل آنفاً لما فيها من الهول، وفي تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره، وفيه تنديم لهم لا يخفى أي الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن تتوفاهم الملائكة ‏{‏ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي حال كونهم مستمرين على الشرك الذي هو ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المقيم ‏{‏فَأَلْقَوُاْ السلم‏}‏ أي الاستسلام كما قاله الأخفش وقال قتادة‏:‏ الخضوع، ولا بعد بين القولين‏.‏

والمراد عليهما أنهم أظهروا الانقياد والخضوع، وأصل الالقاء في الأجسام فاستعمل في إظهارهم الانقياد وإشعاراً بغاية خضوعهم وانقيادهم وجعل ذلك اكلشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب‏.‏ والجملة قيل عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 27‏]‏ وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقاً لما حاق بهم من الخزى على رؤوس الاشهاد‏.‏ وكان الظاهر فيلقون إلى آخره إلا أنه عبر بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي يقول لهم سبحانه ذلك فيستسلمون وينقادون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدينا من الكبر وشدة الشكيمة، ولعله مراد من قال‏:‏ إن الكلام قد تم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنفُسِهِمْ‏}‏ ثم عاد إلى حكاية حالهم يوم القيامة، وقيل‏:‏ عطف على ‏{‏قَالَ الذين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 27‏]‏ وجوز أبو البقاء‏.‏ وغيره العطف على ‏{‏تتوفاهم‏}‏ واستظهره أبو حيان، لكن قال الشهاب‏:‏ إنه إنما يتمشى على كون ‏{‏تتوفاهم‏}‏ بمعنى الماضي، وقد تقدم لك القول بأن الجملة خبر ‏{‏الذين‏}‏ مع ما فيه‏.‏ واعترض الأول بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء‏}‏ إما أن يكون منصوباً بقول مضمر وذلك القول حال من ضمير ‏{‏أَلْقَوْاْ‏}‏ أي ألقوا السلم قائلين ما كنا إلى آخره أو تفسيراً للسلم الذي ألقوه بناء على أن المراد به القول الدال عليه بدليل الآية الأخرى ‏{‏فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 86‏]‏ وأياماً كان فذلك العطف يقتضي وقوع هذا القول منهم يوم القيامة وهو كذب صريح ولا يجوز وقوعه يومئذ‏.‏

وأجيب بأن المراد ما كنا عاملين السوء في اعتقادنا أي كان اعتقادنا أن عملنا غير سيء، وهذا نظير ما قيل في تأويل قولهم ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ وقد تعقب بأنه لا يلائمه الرد عليهم ‏{‏حَكِيمٌ إِنَّ الله‏}‏ إلى آخره لظهور أنه لإبطال النفي ولا يقال‏:‏ الرد على من جحد واستيقنت نفسه لأنه يكون كذباً أيضاً فلا يفيد التأويل‏.‏ ومن الناس من قال بجواز وقوع الكذب يوم القيامة، وعليه فلا اشكال، ولا يخفى أن هذا البحث جار على تقدير كون العطف على ‏{‏قَالَ الذين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 27‏]‏ أيضاً إذ يقتضي كالأول وقوع القول يوم القيامة وهو مدار البحث‏.‏

واختار شيخ الإسلام عليه الرحمة العطف السابق وقال‏:‏ إنه جواب عن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِىَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 27‏]‏ وأرادوا بالسوء الشرك منكرين صدوره عنهم، ونفى أن يكون جواباً عن قول أولى العلم ادعاء لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزى والسوء، ولعله متعين على تقدير العطف على ‏{‏قَالَ الذين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 27‏]‏ إلى آخره، وإذا كان العطف على ‏{‏تتوفاهم الملائكة‏}‏ كان الغرض من قولهم هذا الصادر منهم عند معاينتهم الموت استعطاف الملائكة عليهم السلام بنفي صدور ما يوجب استحقاق ما يعانونه عند ذلك، وقيل‏:‏ المراد بالسوء الفعل السيء أعم من الشرك وغيره ويدخل فيه الشرك دخولاً أولياً أي ما كنا نعمل سوأ ما فضلا عن الشرك، و‏{‏مِنْ‏}‏ على كل حال زائدة و‏{‏سُوء‏}‏ مفعول لنعمل ‏{‏بلى‏}‏ رد عليهم من قبل الله تعالى أو من قبل أولى العلم أو من قبل الملائكة عليهم السلام، ويتعين الأخير على كون القول عند معاينة الموت ومعاناته أي بلى كنتم تعلمون ما تعملون‏.‏

إنَّ اللَّهَ عَليمٌ بمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ فهو يجازيكم عليه وهذا أوانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ‏}‏ خطاب لكل صنف منهم أن يدخل باباً من أبواب جهنم، والمراد بها اما المنفذ أو الطبقة، ولا يجوز أن يكون خطاباً لكل فرد لئلا يلزم دخول الفرد من الكفار من أبواب متعددة أو يكون لجهنم أبواب بعدد الأفراد، وجوز أن يراد بالأبواب أصناف العذاب، فقد جاء إطلاق الباب على الصنف كما يقال‏:‏ فلان ينظر في باب من العلم أي صنف منه وحينئذ لا مانع في كون الخطاب لكل فرد، وأبعد من قال‏:‏ المراد بتلك الأبواب قبور الكفرة المملوءة عذاباً مستدلاً بما جاء «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ حال مقدرة أن أريد بالدخول حدوثه، ومقارنة ان أريد به مطلق الكون، وضمير ‏{‏فِيهَا‏}‏ قيل‏:‏ للأبواب بمعنى الطبقات، وقيل‏:‏ لجهنم، والتزم هذا وكون الحال مقدرة من أبعد، وحمل الخلود على المكث الطويل للاستغناء عن هذا الالتزام وان كان واقعاً في كلامهم خلاف المعهود في القرآن الكريم ‏{‏فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏ أي عن التوحيد، وذكرهم بعنوان التكبر للاشعار بعليته لثوائهم فيها، وقد وصف سبحانه الكفار فيما تقدم بالاستكبار وهنا بالتكبر، وذكر الراغب أنهما والكبر تتقارب فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من اعجابه بنفسه، والاستكبار على وجهين‏:‏ أحدهما أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيراً، وذلك متى كان على ما يحب وفي المكان الذي يحب وفي الوقت الذي يحب وهو محمود‏.‏ والثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له وهو مذموم، والتكبر على وجهين أيضاً‏.‏ الأول أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره، وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر‏.‏ والثاني أن يكون متكلفاً لذلك متشبعاً وذلك في وصف عامة الناس، والتكبر على الوجه الأول محمود وعلى الثاني مذموم، والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم أو أبوابها أن فسرت بالطبقات؛ والفاء عاطفة، واللام جيء بها للتأكيد اعتناء بالذم لما أن القوم ضالون مضلون كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏ وللتأكيد اعتناء بالمدح جيء باللام أيضاً فيما بعد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَدَارُ الاخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ لأن أولئك القوم على ضد هؤلاء هادون مهديون، وكأنه لعدم هذا المقتضى في آيتي الزمر والمؤمن لم يؤت باللام، وقيل‏:‏ ‏{‏فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 72‏]‏ وقيل‏:‏ التأكيد متوجه لما يفهم من الجملة من أن جهنم مثواهم، وحيث أنه لم يفهم من الآيات قبل هنا فهمه منها قبل آيتي تينك السورتين جيء بالتأكيد هناك ولم يجىء به هنا اكتفاء بما هو كالصريح في إفادة أنها مثواهم مما ستسمعه إن شاء الله تعالى هناك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا‏}‏ أي المؤمنين، وصفوا بذلك اشعاراً بأن ما صدر عنهم من الجواب ناشىءمن التقوى‏.‏

‏{‏مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا‏}‏ أي أنزل خيراً ‏{‏فَمَاذَا‏}‏ اسم واحد مركب للاسفهام بمعنى أي شيء محله النصب ‏{‏بأنزل‏}‏ و‏{‏الله خَيْرًا‏}‏ مفعول لفعل محذوف، وفي اختيار ذلك دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة حيث عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا‏:‏ هو ‏{‏أساطير الاولين‏}‏ وليس من الإنزال في شيء‏.‏ نعم قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ بالرفع فما اسم استفهام و‏{‏ذَا‏}‏ اسم موصول بمعنى الذي أي أي شيء الذي أنزله ربكم، و‏{‏خَيْرٌ شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا‏}‏ منصوباً على المفعولية كما مر ورفع ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ على الخبرية لمبتدأ جائز إلا أنه خلاف الأول، وفي الكشف أنه يظهر من الوقوف على مراد صاحب الكشاف في هذا المقام إن فائدة النصب مع أن الرفع أقوى دفع الالتباس ليكون نصاً في المطلوب كما أوثر النصب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 49‏]‏ لذلك، وينحل مراده من ذلك بالرجوع إلى ما نقلناه عنه سابقاً والتأمل فيه فتأمل فإنه دقيق‏.‏

هذا ولم نجد في السائل هنا خلافاً كما في السائل فيما تقدم، والذي رأيناه في كثير مما وقفنا عليه من التفاسير أن السائل الوفد الذي كان سائلاً أو لا في بعض الأقوال المحكية هناك، وذكر أنه السائل في الموضعين كثير منهم ابن أبي حاتم، فقد أخرج عن السدى قال اجتمعت قريش فقالوا‏:‏ إن محمداً صلى الله عليه وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناساً من أشرافكم المعدودين المعروفة انسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافد لقومه ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بهم قالوا له‏:‏ يا فلان ابن فلان فيعرفه بنسبه ويقول‏:‏ أنا أخبرك عن محمد صلى الله عليه وسلم هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أساطير الاولين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 24‏]‏ فإذا كان الوافد ممن عزم الله تعالى له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك قال‏:‏ بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وانظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون‏:‏ خيراً الخ، نعم يجوز عقلا أن يكون السائل بعضهم لبعض ليقوى ما عنده بجوابه أو لنحو ذلك كالاستلذاذ بسماع الجواب وكثيراً ما يسأل المحب عما يعلمه من أحوال محبوبه استلذاذاً بمدامة ذكره وتشنيفا لسمعه بسني دره‏:‏

الا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر *** ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر

بل يجوز أيضاً أن يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ‏}‏ أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة ‏{‏فِى هذه‏}‏ الدار ‏{‏الدنيا حَسَنَةٌ‏}‏ مثوبة حسنة جزاء إحسانهم، والجار والمجرور متعلق بما بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا، والمراد بها على ما روي عن الضحاك النصر والفتح، وقيل‏:‏ المدح والثناء منه تعالى، وقال الإمام‏:‏ يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات والمشاهدات والالطاف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏ وقيل‏:‏ متعلق بما قبله، وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير مثله متعلقاً بما بعد أولا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة لاحسانهم في الدنيا في الآخرة، واقتصر بعضهم على هذا الاحتمال، والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا، واختير كونه متعلقاً بما بعد لأنه الأوفق بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَدَارُ الاخرة خَيْرٌ‏}‏ والكلام كما يشعر به كلام غبر واحد على حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب‏.‏

وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة ‏{‏وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين‏}‏ أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية‏.‏ والزجاج‏.‏ وابن الأنباري‏.‏ وغيرهم، وهذا كلام مبتدأ عدة منه تعالى الذين اتقوا على قولهم، وهو في الوعد ههنا نظير ‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏ في الوعيد فيما مر، وجوز أن يكون ‏{‏خَيْرًا‏}‏ مفعول ‏{‏قَالُواْ‏}‏ وعمل فيه لأنه في معنى الجملة كمقال قصيده أو صفة مصدر أي قولاً خيراً، وهذه الجملة بدل منه فمحلها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من الأعراب، وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ‏}‏ الخ إلا أن الله سبحانه سماه خيراً ثم حكاه كما تقول‏:‏ قال فلان جميلاً من قصدنا وجب حقه علينا، وعلى ما ذكر لا يكون دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث شهادة اللهتعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما الكشف مفعول ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ ويكون تسميته خيراً من الله تعالى كما قوله سبحانه‏:‏

‏{‏لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 9‏]‏ ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى فهم معناه؛ وأما قولهم‏:‏ «للذين أحسنوا» أي قالوا أنزل هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى، وزعم بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوباً بأنزل لأن هذا القول ليس منزلاً من الله تعالى، وفيه تفوت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشىء من قلة التدبر‏.‏ وفي البحر الظاهر أن ‏{‏لِلَّذِينَ‏}‏ الخ مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله تعالى في الوحي، وظاهره أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضاً، ولعل اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب للسائل، والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه الوجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف كما اختاره الزجاج وابن الأنباري أي هي جنات، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي لهم جنات أو هو المخصوص بالمدح ‏{‏يَدْخُلُونَهَا‏}‏ نعت لجنات عند الحوفي بناء على أن ‏{‏عَدْنٍ‏}‏ نكرة وكذلك دتَجْري منْ تَحْتَها الأنْهَارُ‏}‏ وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم‏.‏ وجوزوا أن يكون ‏{‏‏}‏ وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم‏.‏ وجوزوا أن يكون ‏{‏جنات‏}‏ مبتدأ وجملة «يدخلونها» خبره وجملة تجري الخ حال، وقرأ زيد بن ثابت‏.‏ وأبو عبد الرحمن جنات بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها، قال أبو حيان‏:‏ وهذه القراءة تقوى كون «جنات» مرفوعاً مبتدأ والجملة بعده خبره، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏ولنعمة دار المتقين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ بتاء مضمومة ودار مخفوضة فيكون «نعمة» مبتدأ مضافاً إلى دار وجنات خبره‏.‏ وقرأ اسمعيل بن جعفر عن نافع «يدخلونها» بالياء على الغيبة والفعل مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر، وشيبة ‏{‏لَّهُمْ فِيهَا‏}‏ أي في تلك الجنات ‏{‏مَا يَشَآءونَ‏}‏ الظرف الأول خبر لما والثاني حال منه، والعامل ما في الأول من معنى الحصول والاستقرار أو متعلق به لذلك أي حاصل لهم فيها ما يشاؤون من أنواع المشتهيات وتقديمه للاحتراز عن توهم تعلقه بالمشيئة أو لما مر غير مرة من أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده فضل تمكن‏.‏ وذكر بعضهم أن تقديم فيها للحصر وما للعموم بقرينة المقام فيفيد أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة فتأمله‏.‏ والجملة في موضع الحال نظير ما تقدم، وزعم أن لهم متعلق بتجري أي تجري من تحتها الأنهار لنفعهم ‏{‏وفيها ما يشاؤون‏}‏ مبتدأ وخبر في موضع الحال لا يخفى حاله عند ذوي التمييز ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الجزاء إلا وفي ‏{‏يَجْزِى الله المتقين‏}‏ أي جنسهم فيشمل كل من يقتي من الشرك والمعاصي وقيل من الشرك ويدخل فيه المتقون المذكورون دخولاً أولياً ويكون فيه بعث لغيرهم على التقوى أو المذكورين فيكون فيه تحسير للكفرة، قيل‏:‏ وهذه الجملة تؤيد كون قوله سبحانه ‏{‏للذين أحسنوا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ عدة فإن جعل ذلك جزاء لهم ينظر إلى الوعد به من الله تعالى وإذا كان مقول القول لا يكون من كلامه تعالى حتى يكون وعداً منه سبحانه، وقيل‏:‏ إنها تؤيد كون «جنات» خبر مبتدأ محذوف لا مخصوصاً بالمدح لأنه إذا كان مخصوصاً بالمدح يكون كالصريح في أن «جنات عدن» جزاء للمتقين فيكون «كذلك» الخ تأكيداً بخلاف ما إذا كان خبر مبتدأ محذوف فإنه لم يعلم صريحاً أن جنات عدن جزاء للمتقين وفيه نظر وكذا في سابقه إلا أن في التعبير بالتأبيد ما يهون الأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ نعت للمتقين وجوز قطعه، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏طَيّبِينَ‏}‏ حال من ضميرهم، ومعناه على ما روي عن أبي معاذ طاهرين من دنس الشرك وهو المناسب لجعله في مقابلة ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 28‏]‏ في وصف الكفرة بناء على أن المراد بالظلم أعظم أنواعه وهو الشرك لكن قيل عليه‏:‏ إن ذكر الطهارة عن الشرك وحده لا فائدة فيه بعد وصفهم بالتقوى‏.‏

وأجيب بأن فائدة ذلك الإشارة إلى أن الطهارة عن الشرك هي الأصل الأصيل‏.‏ وفي إرشاد العقل السليم بعد تفسير الظلم بالكفر وتفسير طيبين بطاهرين عن دنس الظلم وجعله حالاً قال‏:‏ وفائدته الايذان بأن ملاك الأمر في التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم، ففيه حث للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ المراد بطيبين زاكية أقوالهم وأفعالهم، وهو مراد من قال‏:‏ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وإلى هذا ذهب الراغب حيث قال‏:‏ الطيب من الإنسان من تعرى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال وتحلي بالعلم والإيمان ومجاسن الأعمال وإياهم قصد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة طَيّبِينَ‏}‏‏.‏

وانتصر لذلك بأن وصفهم بأنهم متقون موعودون بالجنة في مقابلة الأعمال يقتضي ما ذكر، وحملوا الظلم فيما مر على ما يعم الكفر والمعاصي لأن ذلك مجاب بقولهم‏:‏ ‏{‏ما كنا نعمل من سوء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 28‏]‏ فلا تفوت المناسبة في جعل هذا مقابلاً لذاك لكن في الاستدلال بما ذكر في الجواب على إرادة العام ما لا يخفى، والكثير على تفسير الطيب بالطاهر عن قاذورات الذنوب مطابق الذي لا خبث فيه، وقيل‏:‏ المعنى فرحين ببشارة الملائكة عليهم السلام إياهم أو بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس، فالمراد بالطيب طيب النفس وطيبها عبارة عن القبول مع انشراح الصدر ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ حال من الملائكة، وجوز أن يكون «الذين» مبتدأ خبره هذه الجملة أي قائلين أو قائلون لهم‏:‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ لا يحيقكم بعد مكروه‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وروى نحوه البيهقي عن محمد بن كعب القرظي إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت عليه السلام فقال‏:‏ السلام عليك يا ولي الله إن الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة ‏{‏ادخلوا الجنة‏}‏ التي أعدها الله تعالى لكم ووعدكم إياها وكأنها إنما لم توصف لشهرة أمرها‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم اللام للعهد أي ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 31‏]‏ الخ ولذلك جردت عن النعت وهو كما ترى، والمراد دخولهم فيها بعد البعث بناء على أن المتبارد الدخول بالأرواح والأبدان والمقصود من الأمر بذلك قبل مجيء وقته البشارة بالجنة على أتم وجه ويجوز أن يراد الدخول حين التوفي بناء على حمل الدخول على الدخول بالأرواح كما يشير إليه خبر «القبر روضة من رياض الجنة» وكون البشار بذلك دون البشارة بدخول الجنة على المعنى الأول لا يمنع عن ذلك على أن لقائل أن يقول‏:‏ إن البشارة بدخول الجنة بالأرواح متضمنة للبشارة بدخولها بالأرواح والأبدان عند وقته؛ وكون هذا القول كسابقه عند قبض الأرواح هو المروي عن ابن مسعود‏.‏

وجماعة من المفسرين، وقال مقاتل‏.‏ والحسن‏:‏ إن ذلك يوم القيامة، والمراد من التوفي وفاة الحشر أعني تسليم أجسادهم وإيصالها إلى موقف الحشر من توفى الشيء إذا أخذه وافياً، وجوز حمل التوفيس على المعنى المتعارف مع كون القول يوم القيامة إما بجعل ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 28‏]‏ يقولون مبتدأ وخبراً أو بجعل يقولون حالاً مقدرة من الملائكة ‏{‏والذين‏}‏ على حاله أولا وحال ذلك لا يخفى ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة بالذي كنتم تعملونه من ذلك، والباء للسببية العادية، وهي فيما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لن يدخل الجنة أحدكم بعمله» الحديث للسببية الحقيقية فلا تعارض بين الآية والحديث وبعضهم جعل الباء للمقابلة دفعاً للتعارض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ أي ما ينتظر كفار مكة المار ذكرهم ‏{‏إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة‏}‏ لقبض أرواحهم كما روي عن قتادة‏.‏ ومجاهد، وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وابن وثاب وطلحة‏.‏ والأعمش ‏{‏يَأْتِيهِمُ‏}‏ بالياء آخر الحروف ‏{‏أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ أي القيامة كما روي عمن تقدم أيضاً، وقال بعضهم‏:‏ المراد به العذاب الدنيوي دونها لا لأن انتظارها يجامع انتظار اتيان الملائكة فلا يلائمه العطف بأو لا لأنها ليست نصاً في العناد إذ يجوز أن يعتبر منع الخلو ويراد بإيرادها كفاية كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي إن شاء الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ‏{‏فأصابهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 34‏]‏ الآية صريح في أن المراد به ما أصابهم من العذاب الدنيوي وفيه منع ظاهر، ويؤيد إرادة الأول التعبير بيأتي دون يأتيهم، وقيل‏:‏ المراد باتيان الملائكة اتيانهم للشهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم أي ما ينتظرون في تصديقك إلا أن تنزل الملائكة تشهد بنبوتك فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ علَيْهِ ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ والجمهور على الأول، وجعلوا منتظرين لذلك مجازاً لأنه يلحقهم لحوق الأمر المنتظر كما قيل‏.‏

واختير ان ذلك لمباشرتهم أسباب العذاب الموجبة له المؤدية إليه فكأنهم يقصدون ايتاءه ويتصدون لوروده، ولا يخفى ما في التعبير بالرب وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطف به عليه الصلاة والسلام، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى وجه ربط الآيات ‏{‏قَالَ كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب ‏{‏فَعَلَ الذين‏}‏ خلوا ‏{‏مِن قَبْلِهِمُ‏}‏ من الأمم ‏{‏وَمَا عَبْدُ الله‏}‏ إذ أصابهم جزاء فعلهم ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بالاستمرار على فعل القبائح المؤدى لذلك، قيل‏:‏ وكان الظاهر أن يقال‏:‏ ‏{‏ولكن كانوا هم الظالمين‏}‏ كما في سورة الزخرف ‏(‏76‏)‏‏}‏ لكنه أوثر ما عليه النظم الكريم لإفادة أن غائلة ظلمهم آيلة إليهم وعاقبته مقصورة عليهم مع استلزام اقتصار ظلم كل أحد على نفسه من حيث الوقوع اقتصاره عليه من حيث الصدور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ‏}‏ أي أجزية أعمالهم السيئة على طريقة اطلاق اسم السبب على المسبب إيذاناً بفظاعته، وقيل‏:‏ الكلام على حذف المضاف‏.‏

وتعقب بأنه يوهم أن لهم أعمالاً غير سيئة والتزم ومثل ذلك بنحو صلة الأرحام، ولا يخفى أن المعنى ليس على التخصيص، والداعي إلى ارتكاب أحد الأمرين أن الكلام بظاهره يدل على أن ما أصابهم سيئة، وليس بها‏.‏

وقد يستغني عن ارتكاب ذلك لما ذكر بأن ما يدل عليه الظاهر من باب المشاكلة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ كما في الكشاف ‏{‏وَحَاقَ بِهِم‏}‏ أي أحاط بهم، وأصل معنى الحيق الإحاطة مطلقاً ثم خص في الاستعمال باحاطة الشر، فلا يقال‏:‏ أحاطت به النعمة بل النقمة‏.‏ وهذا أبلغ وأفظع من أصابهم ‏{‏مَّا كَانُوا بِهِ‏}‏ أي من العذاب كام قيل على أن دما‏}‏ موصولة عبارة عن العذاب، وليس في الكلام حذف ولا ارتكاب مجاز على نحو ما مر آنفاً، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ للرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يذكر، والمراد أحاط بهم جزاء استهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم أو موصولة عامة للرسول عليه الصلاة والسلام وغيره وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ عائد عليها والمعنى على الجزاء أيضاً، ولا يخفى ما فيه، وإياماً كان ‏{‏فبه‏}‏ متعلق بيستهزؤون قدم للقاصلة، هذا ثم ان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 33‏]‏ الخ على ما في الكشف رجوع إلى عد ما هم فيه من العناد والاستشراء في الفساد وأنهم لا يقلعون عن ذلك كأسلافهم الغابرين إلى يوم التناد، وما وقع من أحوال اضدادهم في البين كان لزيادة التحسير والتبكيت والتخسير، وفيه دلالة على أن الحجة قد تمت وأنه صلى الله عليه وسلم أدى ما عليه من البلاغ المبين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصَابَهُمْ‏}‏ عطف على ‏{‏فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 33‏]‏ مترتب إذ المعنى كذلك التكذيب والشرك فعل أسلافهم وأصابهم ما أصابهم، وفيه تحذير مما فعله هؤلاء وتذكير لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏ ولا يخفى حسن الترتب على ذلك لأن التكذيب والشرك تسبباً لإصابة السيئات لمن قبلهم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمْ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 33‏]‏ اعتراض واقع حاق موقعه، وجعل ذلك راجعاً إلى المفهوم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 33‏]‏ أي كذلك كان من قبلهم مكذبين لزمتهم الحجة منتظرين فاصابهم ما كانوا منتظرين سديد حسن إلا أن معتمد الكلام الأول وهو أقرب مأخذاً، ودلالة ‏{‏فِعْلَ‏}‏ عليه أظهر، فهذه فذلكة ضمنت محصل ما قابلوا به تلك النعم والبصائر وأدمج فيها تسليته صلى الله عليه وسلم والبشرى بقلب الدائرة على من تربص به وبأصحابه عليه الصلاة والسلام الدوائر وختمت بما يدل على أنهم انقطعوا فاحتجوا بآخر ما يحتج به المحجوج يتقلب عليه فلا يبصر إلا وهو مثلوج مشجوج وهو ما تضمنه قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء‏}‏ فهو من تتمة قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 33‏]‏ ألا ترى كيف ختم بنحوه آخر مجادلاتهم في سورة الأنعام في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ وكذلك في سورة الزخرف ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخزال الحجة ‏{‏وَقَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ ملائكة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏ ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 149‏]‏ وفي إرشاد العقل السليم أن هذه الآية بيان لفن آخر من كفر أهل مكة فهم المراد بالموصول، والعدول عن الضمير إليه لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر، والمعنى لو شاء الله تعالى عدم عبادتنا لشيء غيره سبحانه كما تقول ما عبدنا ذلك ‏{‏نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا‏}‏ الذين نهتدي بهم في دينا ‏{‏وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء‏}‏ من السوائب والبحائر وغيرها فمن الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق وكذا الثالثة ‏{‏وَنَحْنُ‏}‏ لتأكيد ضمير ‏{‏عَبْدَنَا‏}‏ لا لتصحيح العطف لوجود الفاصل وإن كان محسناً له، وتقدير مفعول ‏{‏شَاء‏}‏ عدم العبادة مما صرح به بعضهم، وكان الظاهر أن يضم إليه عدم التحريم‏.‏ واعترض تقدير ذلك بأن العدم لا يحتاج إلى المشيئة كما ينبىء عنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن» حيث لم يقل عليه الصلاة والسلام ما شاء الله تعالى كان وما شاء عدم كونه لم يكن بل يكفي فيه عدم مشيئة الوجود، وهو معنى قولهم‏:‏ علة العدم عدم علة الوجود، فالأولى أن يقدر المفعول وجودياً كالتوحيد والتحليل وكامتثال ما جئت به والأمر في ذلك سهل‏.‏

وفي تخصيص الاشراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك كما قال بعض المحققين تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأساً، فإن حاصله إن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فلو أنه سبحانه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئاً ونحلل ما أحله ولا نحرم شيئاً مما حرمنا كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الاشراك وتحليل ما أحله وعدم تحريم شيء من ذلك وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئاً من ذلك بل شاء ما نحن عليه وتحقق أن ما تقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم ورد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه عز وجل‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الفعل الشنيع ‏{‏فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من الأمم أي أشركوا بالله تعالى وحرموا من دونه ما حرموا وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق ‏{‏فَهَلْ عَلَى الرسل‏}‏ الذين أمروا بتبليغ رسالات الله تعالى وعزائم أمره ونهيه‏.‏

‏{‏إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ أي ليست وظيفتهم إلا الابلاغ للرسالة الموضح طريق الحق والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏‏.‏

واما الجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاؤوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي يدور عليها فلك التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقية الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئة الله تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لا بد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطررايين؛ والفاء على هذا للتعليل كانه قيل كذلك فعل اسلافهم وذلك باطل فان الرسل عليهم السلام ليس شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي لا تحقيق مضمونها قسرا والجاءر اه، وكأني بك لا تبريه من تكلف‏.‏

وهو متضمن للرد على الزمخشري فقد سلك في هذا المقام الغلو في المقال وعدل عن سنن الهدى إلى مهواة الضلال فذكر أن هؤلاء المشركين فعلوا ما فعلوا من القبائح ثم نسبوا فعلهم إلى الله تعالى وقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء الله‏}‏ إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل اسلافهم فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوه على ربهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق وأن الله سبحانه لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال، ولعمري أنه فسر الآيات على وفق هواه وهي عليه لا له لو تدبر ما فيها وحواه، وقد رد عليه غير واحد من المحققين وأجله المدققين وبينوا أن الآية بمعزل عن أن تكون دليلاً لأهل الاعتزال كما أن الشرطية لا تنتج مطلوب أولئك الضلال، وقد تقدم نبذه من الكلام في ذلك ثم إن كون غرض المشركين من الشرطية تكذيب الرسل عليهم السلام هو أحد احتمالين في ذلك، قال المدقق في الكشف في نظير الآية‏:‏ إن قولهم هذا إما لدعوى مشروعية ما هم عليه رداً للرسل عليهم السلام أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذاراً بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعاً وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك، ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية، وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى‏.‏

والثاني على ما فيه حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضاً إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختياراً منهم والعلم تعلق كذلك ومثله في التحريم فهو يؤكد دفع العذر لا أنه يحققه، وذكر أن معنى ‏{‏فهل على الرسل‏}‏ أن الذي على الرسل أن يبلغوا ويبينوا معالم الهدى بالإرشاد إلى تمهيد قواعد النظر والإمداد بأدلة السمع والبصر ولا عليهم من مجادلة من يريد أن يدحض بباطله الحق الأبلج إذ بعد ذلك التبيين يتضح الحق للناظرين ولا تجدي نفعاً مجادلة المعاندين، وجوز أن يكون قولهم هذا منعاً للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيهما أو إنكاراً لقبح ما أنكر عليهم من الشكر والتحريم محتجين بأن ذلك لو كان مستقبحاً لما شاء الله تعالى صدوره عنا أو لشاء خلافه ملجأ إليه، وأشير إلى جواب الشبهة الأولى بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَلَى الرسل‏}‏ إلى آخره كأنه قيل‏:‏ إن فائدة البعثة البلاغ الموضح للحق فإن ما شاء الله تعالى وجوده أو عدمه لا يجب ولا يمتنع مطلقاً كما زعمتم بل قد يجب أو يمتنع بتوسط أسباب أخر قدرها سبحانه ومن ذلك البعثة فإنا تؤدي إلى هدى من شاء الله تعالى على سبيل التوسط، وأما الشبهة الثانية فقد أشير إلى جوابها في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ‏}‏ من الأمم الخالية ‏{‏رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله‏}‏ وحده ‏{‏واجتنبوا الطاغوت‏}‏ هو كل ما يدعو إلى الضلالة، وقال الحسن‏:‏ هو الشيطان، والمراد من اجتنابه اجتناب ما يدعو إليه‏.‏

‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏ أي من أولئك الأمم ‏{‏مَّنْ هَدَى الله‏}‏ إلى الحق من عبادته أو اجتناب الطاغوت بأن وقفهم لذلك ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة‏}‏ ثبتت ووجبت إذ لم يوفقهم ولم يرد هدايتهم، ووجه الإشارة أن تحقق الضلال وثباته من حيث إنه وقع قسيماً للهداية التي هي بإرادته تعالى ومشيئته كان هو أيضاً كذلك‏.‏

وأما أن إرادة القبيح قبيحة فلا يجوز اتصاف الله سبحانه بها فظاهر الفساد لأن القبيح كسب القبيح والاتصاف به لا إرادته وخلقه على ما تقرر في الكلام‏.‏ وأنت تعلم أن كلتا الإشارتين في غاية الخفاء، ولينظر أي حاجة إلى الحص وما المراد به على جعل ‏{‏فَهَلْ عَلَى الرسل‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏ إلى آخره مشيراً إلى جواب الشبهة الأولى‏.‏

وقال الإمام‏:‏ إن المشركين أرادوا من قولهم ذلك أنه لما كان الكل من الله تعالى كان بعثه الأنبياء عليهم السلام عبثاً فنقول‏.‏ هذا اعتراض على الله تعالى وجار مجرى طلب العلة في أحكامه تعالى وأفعاله وذلك باطل إذ لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذاك‏.‏

والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا‏}‏ إلى آخره حيث بين فيه أن سنته سبحانه في عباده إرسال الرسل إليهم وأمرهم بعبادته ونهيهم عن عبادة غيره، وأفاد أنه تعالى وإن أمر الكل ونهاهم إلا أنه جل جلاله هدى البعض وأضل البعض، ولا شك أنه إنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلهاً منزهاً عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، فكان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجباً للجهل والضلال والبعد عن الله المتعال، فثبت أن الله تعالى أنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك، وهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب، ومعنى ‏{‏فَهَلْ عَلَى الرسل‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏ إلى آخره أنه تعالى أمر الرسل عليهم السلام بالتبليغ فهو الواجب عليهم، وإما أن الإيمان هل يحصل أولاً يحصل فذاك لا تعلق للرسل به ولكن الله تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه اه وهو كما ترى‏.‏

ونقل الواحدي في الوسيط عن الزجاج أنهم قالوا ذلك على الهزو ولم يرتضه كثير من المحققين، وذكر بعضهم أن حمله على ذاك لا يلائم الجواب‏.‏

نعم قال في «الكشف» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ إنهم دفعوا قول الرسل عليهم السلام بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة وهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم إلى العباد وشاء جحودهم وشاء دخولهم النار، فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة، وقال في موضع آخر عند نظير الآية أيضاً‏:‏ إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقاً فضلاً عن العلم، وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله تعالى فرع العلم بذاته والإيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون، وأطال الكلام في هذا المقام في سورة الزخرف‏.‏

وذكر أن في كلامهم تعجيز الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا أمر به ولا ينهى إلا وهو لا يريده، وهذا تعجيز من وجهين إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم القدرية اه ويجوز أن يقال‏:‏ إن المشركين إنما قالوا ذلك إلزاماً بزعمهم حيث سمعوا من المرسلين وأتباعهم أن ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإلا فهم أجهل الخلق بربهم جل شأنه وصفاته ‏{‏إِنْ هُمْ إِلاَّ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏ ومرادهم إسكان المرسلين وقطعهم عن دعوتهم إلى ما يخالف ما هم عليه والاستراحة عن معارضتهم فكأنهم قالوا‏:‏ إنكم تقولون ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فما نحن عليه مما شاءه الله تعالى وما تدعونا إليه مما لم يشأه وإلا لكان، واللائق بكم عدم التعرض لخلاف مشيئة الله تعالى، فإن وظيفة الرسول الجري على إرادة المرسل لأن الإرسال إنما هو لتنفيذ تلك الإرادة وتحصيل المراد بها، وهذا جهل منهم بحقيقة الأمر وكيفية تعلق المشيئة وفائدة البعثة، وذلك لأن مشيئته تعالى إنما تتعلق وفق علمه وعلمه إنما يتعلق وفق ما عليه الشيء في نفسه، فالله تعالى ما شاء شركهم مثلاً إلا بعد أن علم ذلك وما علمه إلا وفق ما هو عليه في نفس الأمر فهم مشركون في الأزل ونفس الأمر ألا أنه سبحانه حين أبرزهم على وفق ما علم فيهم لو تركهم وحالهم كان لهم الحجة عليه سبحانه إذا عذبهم يوم القيامة إذ يقولون حينئذ‏:‏ ما جاءنا من نذير فأرسل جل شأنه الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فليس على الرسل إلا تبليغ الأوامر والنواهي لتقوم الحجة البالغة لله تعالى، فالتبليغ مراد الله تعالى من الرسل عليهم السلام لإقامة حجته تعالى على خلقه به، وليس مراده من خلقه إلا ما هم عليه في نفس الأمر خيراً كان أو شراً‏.‏

وفي الخبر يقول الله تعالى‏:‏ «يا عبادى إنما أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ولا منافاة بين الأمر بشيء وإرادة غيره منه تعالى لأن الأمر بذلك حسبما يليق بجلاله وجماله، والإرادة حسبما يستدعيه في الآخرة الشيء في نفسه، وقد قرر الجماعة إنفكاك الأمر عن الإرادة في الشاهد أيضاً وذكر بعض الحنابلة الانفكاك أيضاً لكن عن الإرادة التكوينية لا مطلقاً، والبحث مفصل في موضعه، وإذا علم ذلك فاعلم أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏ يتضمن الإشارة إلى ردهم كأنه قيل‏:‏ ما أشرتم إليه من أن اللائق بالرسل ترك الدعوة إلى خلاف ما شاءه الله تعالى منا والجري على وفق المشيئة والسكوت عنا باطل لأن وظيفتهم والواجب عليهم هو التبليغ وهو مراد الله تعالى منهم لتقوم به حجة الله تعالى عليكم لا السكوت وترك الدعوة، وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا‏}‏ الخ إشارة يتفطن لها من له قلب إلى أن المشيئة حسب الاستعداد الذي عليه الشخص في نفس الأمر فتأمل فإن هذا الوجه لا يخلو عن بعد ودغدغة‏.‏ والذي ذكره القاضي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا‏}‏ الخ أنه بين فيه أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سبباً لهدي من أراد سبحانه اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم أنه تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه فلك الثواب والعقاب من الأفعال الاختيارية، والمعنى إنا بعثنا في كل أمة رسولاً يأمرهم بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت فأمروهم فتفرقوا فمنهم من هداه الله تعالى بعد صرف قدرته واختياره الجزئي إلى تحصيل ما هدى إليه ومنهم من ثبت على الضلالة لعناده وعدم صرف قدرته إلى تحصيل الحق، والفاء في ‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏ نصيحة كما أشار إليه، وكان الظاهر في القسم الثاني ومنهم من أضل الله إلا أنه غير الأسلوب إلى ما في النظم الكريم للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏ و‏{‏ءانٍ‏}‏ يحتمل أن تكون مفسرة لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر أي بأن اعبدوا الله ‏{‏فَسِيرُواْ‏}‏ أيها المشركون المكذبون القائلون‏:‏ لو شاء الله ما عبدنا من دونه ‏{‏فِى الارض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ من عاد وثمود ومن سار سيرهم ممن حقت عليه الضلالة وقال كما قلتم لعلكم تعتبرون، وترتيب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأن ذلك غني عن البيان، وفي عطف الأمر الثاني بالفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المنقذين من الضلال‏.‏