فصل: باب الآنية

مساءً 1 :15
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


باب الآنية

مسألة‏:‏

قال أبو القاسم -رحمه الله-‏:‏ ‏[‏ وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس‏]‏ لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ ولا نعلم أحدا خالف فيه‏,‏ وأما بعد الدبغ فالمشهور في المذهب أنه نجس أيضا وهو إحدى الروايتين عن مالك ويروى ذلك عن عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعمران بن حصين‏,‏ وعائشة رضي الله عنهم وعن أحمد رواية أخرى‏:‏ أنه يطهر منها جلد ما كان طاهرا في حال الحياة وروي نحو هذا عن عطاء والحسن والشعبي‏,‏ والنخعي وقتادة ويحيى الأنصاري‏,‏ وسعيد بن جبير والأوزاعي والليث‏,‏ والثوري وابن المبارك وإسحاق‏,‏ وروي ذلك عن عمر وابن عباس وابن مسعود‏,‏ وعائشة رضي الله عنهم مع اختلافهم فيما هو طاهر في الحياة وهو مذهب الشافعي‏,‏ وهو يرى طهارة الحيوانات كلها إلا الكلب والخنزير فيطهر عنده كل جلد إلا جلدهما وله في جلد الآدمي وجهان وقال أبو حنيفة‏:‏ يطهر كل جلد بالدبغ إلا جلد الخنزير وحكي عن أبي يوسف‏:‏ أنه يطهر كل جلد وهو رواية عن مالك‏,‏ ومذهب من حكم بطهارة الحيوانات كلها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏إذا دبغ الإهاب فقد طهر‏)‏ متفق عليه ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هلا انتفعتم بجلدها‏؟‏ قالوا‏:‏ إنها ميتة قال‏:‏ إنما حرم أكلها‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به‏)‏ متفق عليه ولأنه إنما نجس باتصال الدماء والرطوبات به بالموت والدبغ يزيل ذلك فيرتد الجلد إلى ما كان عليه في حال الحياة ولنا ما روى عبد الله بن عكيم ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى جهينة إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة‏,‏ فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏)‏ رواه أبو داود في ‏"‏ سننه ‏"‏ والإمام أحمد‏,‏ في ‏"‏ مسنده ‏"‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ إسناد جيد يرويه يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم‏,‏ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم وفي لفظ‏:‏ ‏(‏أتانا كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته بشهر أو شهرين‏)‏ وهو ناسخ لما قبله لأنه في آخر عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولفظه دال على سبق الترخيص وأنه متأخر عنه‏,‏ لقوله ‏"‏ كنت رخصت لكم ‏"‏ وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن قيل‏:‏ هذا مرسل لأنه من كتاب لا يعرف حامله قلنا‏:‏ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلفظه ولولا ذلك لم يكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد وقد كتب إلى ملوك الأطراف وإلى غيرهم فلزمتهم الحجة به‏,‏ وحصل له البلاغ ولو لم يكن حجة لم تلزمهم الإجابة ولا حصل به بلاغ‏,‏ ولكان لهم عذر في ترك الإجابة لجهلهم بحامل الكتاب وعدالته وروى أبو بكر الشافعي بإسناده عن أبي الزبير عن جابر‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا تنتفعوا من الميتة بشيء‏)‏ وإسناده حسن ولأنه جزء من الميتة فكان محرما لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ فلم يطهر بالدبغ كاللحم ولأنه حرم بالموت‏,‏ فكان نجسا كما قبل الدبغ وقولهم‏:‏ إنه إنما نجس لاتصال الدماء والرطوبات به غير صحيح لأنه لو كان نجسا لذلك لم ينجس ظاهر الجلد ولا ما ذكاه المجوسي والوثني‏,‏ ولا ما قد نصفين ولا متروك التسمية لعدم علة التنجيس ولوجب الحكم بنجاسة الصيد الذي لم تنسفح دماؤه ورطوباته ثم كيف يصح هذا عند الشافعي‏,‏ وهو يحكم بنجاسة الشعر والصوف والعظم‏؟‏ وأبو حنيفة يطهر جلد الكلب وهو نجس في الحياة‏.‏

فصل‏:‏

هل يجوز الانتفاع به في اليابسات‏؟‏ فيه روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ لا يجوز لقوله‏:‏ -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏لا تنتفعوا من الميتة بشيء‏)‏ وقوله‏:‏ -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب‏)‏ والثانية‏:‏ يجوز الانتفاع به لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ألا أخذوا إهابها فانتفعوا به‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به‏)‏ ولأن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا فارس‏,‏ انتفعوا بسروجهم وأسلحتهم وذبائحهم ميتة ولأنه انتفاع من غير ضرر أشبه الاصطياد بالكلب وركوب البغل والحمار‏.‏

فصل‏:‏

فأما جلود السباع فقال القاضي‏:‏ لا يجوز الانتفاع بها قبل الدبغ‏,‏ ولا بعده وبذلك قال الأوزاعي ويزيد بن هارون وابن المبارك‏,‏ وإسحاق وأبو ثور وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما كراهية الصلاة في جلود الثعالب وكرهه سعيد بن جبير‏,‏ والحكم ومكحول وإسحاق وكره الانتفاع بجلود السنانير عطاء‏,‏ وطاوس ومجاهد وعبيدة السلماني ورخص في جلود السباع جابر‏,‏ وروي عن ابن سيرين وعروة أنهم رخصوا في الركوب على جلود النمور ورخص فيها الزهري وأباح الحسن‏,‏ والشعبي وأصحاب الرأي الصلاة في جلود الثعالب‏:‏ لأن الثعالب تفدى في الإحرام‏,‏ فكانت مباحة ولما ثبت من الدليل على طهارة جلود الميتة بالدباغ ولنا‏:‏ ما روى أبو ريحانة قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ركوب النمور‏)‏ أخرجه أبو داود‏,‏ وابن ماجه وعن معاوية والمقدام بن معد يكرب ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لبس جلود السباع‏,‏ والركوب عليها‏)‏ رواه أبو داود وروي ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن افتراش جلود السباع‏)‏ رواه الترمذي ورواه أبو داود ولفظه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏نهى عن جلود السباع‏)‏ مع ما سبق من نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الانتفاع بشيء من الميتة وأما الثعالب فيبني حكمها على حلها‏,‏ وفيها روايتان كذلك يخرج في جلودها فإن قلنا بتحريمها فحكم جلودها حكم جلود بقية السباع وكذلك السنانير البرية‏,‏ فأما الأهلية فمحرمة وهل تطهر جلودها بالدباغ‏؟‏ يخرج على روايتين‏.‏

فصل‏:‏

إذا قلنا بطهارة الجلود بالدباغ لم يطهر منها جلد ما لم يكن طاهرا في الحياة نص أحمد على أنه يطهر وقال بعض أصحابنا‏:‏ لا يطهر إلا ما كان مأكول اللحم وهو مذهب الأوزاعي‏,‏ وأبي ثور وإسحاق لأنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏دباغ الأديم ذكاته‏)‏ فشبه الدبغ بالذكاة والذكاة إنما تعمل في مأكول اللحم ولأنه أحد المطهرين للجلد فلم يؤثر في غير مأكول كالذبح وظاهر كلام أحمد أن كل طاهر في الحياة يطهر بالدبغ لعموم لفظه في ذلك ولأن قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أيما إهاب دبغ فقد طهر‏)‏ يتناول المأكول وغيره وخرج منه ما كان نجسا في الحياة لكون الدبغ إنما يؤثر في دفع نجاسة حادثة بالموت‏,‏ فيبقى فيما عداه على قضية العموم وحديثهم يحتمل أنه أراد بالذكاة التطييب من قولهم‏:‏ رائحة ذكية أي‏:‏ طيبة وهذا يطيب الجميع‏,‏ ويدل على هذا‏:‏ أنه أضاف الذكاة إلى الجلد خاصة والذي يختص به الجلد هو تطييبه وطهارته أما الذكاة التي هي الذبح‏,‏ فلا تضاف إلا إلى الحيوان كله ويحتمل أنه أراد بالذكاة الطهارة فسمى الطهارة ذكاة‏,‏ فيكون اللفظ عاما في كل جلد فيتناول ما اختلفنا فيه‏.‏

فصل‏:‏

ولا يحل أكله بعد الدبغ في قول أكثر أهل العلم‏,‏ وحكي عن ابن حامد‏:‏ أنه يحل وهو وجه لأصحاب الشافعي لقوله‏:‏ -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏دباغ الأديم ذكاته‏)‏ ولأنه معنى يفيد الطهارة في الجلد فأباح الأكل كالذبح ولنا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ والجلد منها‏,‏ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏إنما حرم من الميتة أكلها‏)‏ متفق عليه ولأنه جزء من الميتة فحرم أكله كسائر أجزائها ولا يلزم من الطهارة إباحة الأكل‏,‏ بدليل الخبائث مما لا ينجس بالموت ثم لا يسمع قياسهم في ترك كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ‏.‏

فصل‏:‏

ويجوز بيعه وإجارته‏,‏ والانتفاع به في كل ما يمكن الانتفاع به فيه سوى الأكل لأنه صار بمنزلة المذكى في غير الأكل ولا يجوز بيعه قبل دبغه لأنه نجس متفق على نجاسة عينه‏,‏ فأشبه الخنزير‏.‏

فصل‏:‏

ويفتقر ما يدبغ به إلى أن يكون منشفا للرطوبة منقيا للخبث كالشب والقرظ‏,‏ قال ابن عقيل‏:‏ ويشترط كونه طاهرا فإن كان نجسا لم يطهر الجلد لأنها طهارة من نجاسة فلم تحصل بنجس‏,‏ كالاستجمار والغسل وهل يطهر الجلد بمجرد الدبغ قبل غسله بالماء‏؟‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما لا تحصل لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في جلد الشاة الميتة‏:‏ ‏(‏يطهرها الماء والقرظ‏)‏ رواه أبو داود ولأن ما يدبغ به نجس بملاقاة الجلد‏,‏ فإذا اندبغ الجلد بقيت الآلة نجسة فتبقى نجاسة الجلد لملاقاتها له فلا يزول إلا بالغسل والثاني‏:‏ يطهر لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أيما إهاب دبغ فقد طهر‏)‏ ولأنه طهر بانقلابه فلم يفتقر إلى استعمال الماء‏,‏ كالخمرة إذا انقلبت خلا والأول أولى والخبر والمعنى يدلان على طهارة عينه ولا يمنع ذلك من وجوب غسله من نجاسة تلاقيه‏,‏ كما لو أصابته نجاسة سوى آلة الدبغ أو أصابته آلة الدبغ بعد فصله عنها‏.‏

فصل‏:‏

ولا يفتقر الدبغ إلى فعل لأنها إزالة نجاسة فأشبهت غسل الأرض‏,‏ فلو وقع جلد ميتة في مدبغة بغير فعل فاندبغ‏,‏ طهر كما لو نزل ماء السماء على أرض نجسة طهرها‏.‏

فصل‏:‏

وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه كان جلده نجسا وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك‏:‏ يطهر لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏دباغ الأديم ذكاته‏)‏ أي‏:‏ كذكاته‏,‏ فشبه الدبغ بالذكاة والمشبه به أقوى من المشبه فإذا طهر الدبغ مع ضعفه فالذكاة أولى ولأن الدبغ يرفع العلة بعد وجودها‏,‏ والذكاة تمنعها والمنع أقوى من الرفع ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏نهى عن افتراش جلود السباع وركوب النمور‏,‏‏)‏ وهو عام في المذكى وغيره ولأنه ذبح لا يطهر اللحم فلم يطهر الجلد كذبح المجوسي أو ذبح غير مشروع‏,‏ فأشبه الأصل والخبر قد أجبنا عنه فيما مضى ثم نقول‏:‏ إن الدبغ إنما يؤثر في مأكول اللحم‏,‏ فكذلك ما شبه به ولو سلمنا أنه يؤثر في تطهير غيره فلا يلزم حصول التطهير بالذكاة‏,‏ لكون الدبغ مزيلا للخبث والرطوبات كلها مطيبا للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير والذكاة لا يحصل بها ذلك‏,‏ فلا يستغنى بها عن الدبغ وقولهم‏:‏ المشبه أضعف من المشبه به غير لازم فإن الله تعالى قال في صفة الحور‏:‏ ‏{‏كأنهن بيض مكنون‏}‏ وهن أحسن من البيض والمرأة الحسناء تشبه بالظبية وبقرة الوحش وهي أحسن منهما وقولهم‏:‏ إن الدبغ يرفع العلة ممنوع فإننا قد بينا أن الجلد لم ينجس لما ذكرناه‏,‏ وإن سلمنا فإن الذبح لا يمنع منها ثم يبطل ما ذكروه بذبح المجوسي والوثني والمحرم وبترك التسمية وما شق بنصفين‏.‏

فصل‏:‏

ظاهر المذهب‏,‏ أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا‏,‏ وما عداه لا يطهر كالنجاسات إذا احترقت وصارت رمادا والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحا والدخان المترقي من وقود النجاسة‏,‏ والبخار المتصاعد من الماء النجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل ثم قطر فهو نجس ويتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالاستحالة قياسا على الخمرة إذا انقلبت وجلود الميتة إذا دبغت‏,‏ والجلالة إذا حبست والأول ظاهر المذهب وقد نهى إمامنا -رحمه الله- عن الخبز في تنور شوي فيه خنزير‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وكذلك آنية عظام الميتة‏]‏ يعني‏:‏ أنها نجسة وجملة ذلك‏,‏ أن عظام الميتة نجسة سواء كانت ميتة ما يؤكل لحمه أو ما لا يؤكل لحمه‏,‏ كالفيلة ولا يطهر بحال وهذا مذهب مالك‏,‏ والشافعي وإسحاق وكره عطاء‏,‏ وطاوس والحسن وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم عظام الفيلة‏,‏ ورخص في الانتفاع بها محمد بن سيرين وغيره وابن جريج لما روى أبو داود بإسناده عن ثوبان‏,‏ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏اشتر لفاطمة رضي الله عنها قلادة من عصب وسوارين من عاج‏)‏ ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ والعظم من جملتها فيكون محرما والفيل لا يؤكل لحمه فهو نجس على كل حال‏,‏ وأما الحديث فقال الخطابي‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ العاج الذبل ويقال‏:‏ هو عظم ظهر السلحفاة البحرية وذهب مالك إلى أن الفيل إن ذكي فعظمه طاهر‏,‏ وإلا فهو نجس لأن الفيل مأكول عنده وهو غير صحيح لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع‏)‏ رواه مسلم والفيل أعظمها نابا فأما عظام بقية الميتات فذهب الثوري‏,‏ وأبو حنيفة إلى طهارتها لأن الموت لا يحلها فلا تنجس به كالشعر ولأن علة التنجيس في اللحم والجلد اتصال الدماء والرطوبات به‏,‏ ولا يوجد ذلك في العظام ولنا قول الله تعالى ‏{‏قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم‏}‏ وما يحيا فهو يموت ولأن دليل الحياة الإحساس والألم والألم في العظم أشد من الألم في اللحم والجلد والضرس يألم‏,‏ ويلحقه الضرس ويحس ببرد الماء وحرارته وما تحله الحياة يحله الموت إذ كان الموت مفارقة الحياة‏,‏ وما يحله الموت ينجس به كاللحم قال الحسن لبعض أصحابه لما سقط ضرسه‏:‏ أشعرت أن بعضي مات اليوم وقولهم‏:‏ إن سبب التنجيس اتصال الدماء والرطوبات‏,‏ قد أجبنا عنه فيما مضى‏.‏

فصل‏:‏

والقرن والظفر والحافر كالعظم إن أخذ من مذكى فهو طاهر وإن أخذ من حي فهو نجس لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة‏)‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن غريب‏,‏ وكذلك ما يتساقط من قرون الوعول في حياتها ويحتمل أن هذا طاهر لأنه طاهر متصل مع عدم الحياة فيه‏,‏ فلم ينجس بفصله من الحيوان ولا بموت الحيوان كالشعر والخبر أريد به ما يقطع من البهيمة مما فيه حياة لأنه بفصله يموت‏,‏ وتفارقه الحياة بخلاف هذا فإنه لا يموت بفصله‏,‏ فهو أشبه بالشعر وما لا ينجس بالموت لا بأس بعظامه كالسمك لأن موته كتذكية الحيوانات المأكولة‏.‏

فصل‏:‏

ولبن الميتة وإنفحتها نجس في ظاهر المذهب وهو قول مالك والشافعي‏,‏ وروي أنها طاهرة وهو قول أبي حنيفة وداود لأن الصحابة رضي الله عنهم أكلوا الجبن لما دخلوا المدائن‏,‏ وهو يعمل بالإنفحة وهي تؤخذ من صغار المعز فهو بمنزلة اللبن‏,‏ وذبائحهم ميتة ولنا أنه مائع في وعاء نجس فكان نجسا كما لو حلب في وعاء نجس ولأنه لو أصاب الميتة بعد فصله عنها لكان نجسا‏,‏ فكذلك قبل فصله وأما المجوس فقد قيل‏:‏ إنهم ما كانوا يتولون الذبح بأنفسهم وكان جزاروهم اليهود والنصارى‏,‏ ولو لم ينقل ذلك عنهم لكان الاحتمال موجودا فقد كان فيهم اليهود والنصارى والأصل الحل‏,‏ فلا يزول بالشك وقد روي أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين قدموا العراق مع خالد كسروا جيشا من أهل فارس‏,‏ بعد أن نصبوا الموائد ووضعوا طعامهم ليأكلوا فلما فرغ المسلمون منهم جلسوا فأكلوا ذلك الطعام والظاهر أنه كان لحما‏,‏ فلو حكم بنجاسة ما ذبح ببلدهم لما أكلوا من لحمهم شيئا وإذا حكموا بحل اللحم فالجبن أولى وعلى هذا لو دخل أرضا فيها مجوس وأهل كتاب‏,‏ كان له أكل جبنهم ولحمهم احتجاجا بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته‏.‏

فصل‏:‏

وإن ماتت الدجاجة وفي بطنها بيضة قد صلب قشرها‏,‏ فهي طاهرة وهذا قول أبي حنيفة وبعض الشافعية وابن المنذر وكرهها علي بن أبي طالب وابن عمر وربيعة‏,‏ ومالك والليث وبعض الشافعية لأنها جزء من الدجاجة ولنا أنها بيضة صلبة القشر‏,‏ طرأت النجاسة عليها فأشبه ما لو وقعت في ماء نجس وقولهم‏:‏ إنها جزء منها غير صحيح وإنما هي مودعة فيها‏,‏ غير متصلة بها فأشبهت الولد إذا خرج حيا من الميتة ولأنها خارجة من حيوان يخلق منها مثل أصلها أشبهت الولد الحي‏,‏ وكراهة الصحابة لها محمولة على كراهة التنزيه استقذارا لها ولو وضعت البيضة تحت طائر‏,‏ فصارت فرخا كان طاهرا بكل حال فإن لم تكمل البيضة فقال بعض أصحابنا‏:‏ ما كان قشره أبيض‏,‏ فهو طاهر وما لم يبيض قشره فهو نجس لأنه ليس عليه حائل حصين واختار ابن عقيل أنه لا ينجس لأن البيضة عليها غاشية رقيقة كالجلد وهو القشر قبل أن يقوى فلا ينجس منها إلا ما كان لاقى النجاسة‏,‏ كالسمن الجامد إذا ماتت فيه فأرة إلا أن هذه تطهر إذا غسلها لأن لها من القوة ما يمنع تداخل أجزاء النجاسة فيها بخلاف السمن‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة‏]‏ فإن فعل كره أراد بالكراهة التحريم‏,‏ ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام وهو مذهب أبي حنيفة ومالك‏,‏ والشافعي ولا أعلم فيه خلافا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة‏)‏ ونهى عن الشرب في آنية الفضة‏,‏ وقال‏:‏ ‏(‏من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة‏)‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم‏)‏ متفق عليهن فنهى والنهي يقتضي التحريم وذكر في ذلك وعيدا شديدا يقتضي التحريم ويروى ‏"‏ نار جهنم ‏"‏ برفع الراء ونصبها فمن رفعها نسب الفعل إلى النار‏,‏ ومن نصبها أضمر الفاعل في الفعل وجعل النار مفعولا تقديره‏:‏ يجرجر الشارب في بطنه نار جهنم والعلة في تحريم الشرب فيها ما يتضمنه ذلك من الفخر والخيلاء‏,‏ وكسر قلوب الفقراء وهو موجود في الطهارة منها واستعمالها كيفما كان بل إذا حرم في غير العبادة ففيها أولى‏,‏ فإن توضأ منها أو اغتسل فعلى وجهين‏:‏ أحدهما تصح طهارته وهو قول الشافعي‏,‏ وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي لأن فعل الطهارة وماءها لا يتعلق بشيء من ذلك‏,‏ أشبه الطهارة في الدار المغصوبة والثاني‏:‏ لا يصح اختاره أبو بكر لأنه استعمل المحرم في العبادة فلم يصح كالصلاة في الدار المغصوبة والأول أصح‏,‏ ويفارق هذا الصلاة في الدار المغصوبة لأن أفعال الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود في الدار المغصوبة محرم لكونه تصرفا في ملك غيره بغير إذنه وشغلا له‏,‏ وأفعال الوضوء من الغسل والمسح ليس بمحرم‏,‏ إذ ليس هو استعمالا للإناء ولا تصرفا فيه وإنما يقع ذلك بعد رفع الماء من الإناء‏,‏ وفصله عنه فأشبه ما لو غرف بآنية الفضة في إناء غيره ثم توضأ به ولأن المكان شرط للصلاة‏,‏ إذ لا يمكن وجودها في غير مكان والإناء ليس بشرط فأشبه ما لو صلى وفي يده خاتم ذهب‏.‏

مسألة‏:‏

فإن جعل آنية الذهب والفضة مصبا لماء الوضوء‏,‏ ينفصل الماء عن أعضائه إليه صح الوضوء لأن المنفصل الذي يقع في الآنية قد رفع الحدث فلم يزل ذلك بوقوعه في الإناء‏,‏ ويحتمل أن تكون كالتي قبلها لأن الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء يحصل باستعماله ها هنا كحصوله في التي قبلها وفعل الطهارة يحصل ها هنا قبل وصول الماء إلى الإناء وفي التي قبلها بعد فصله عنه‏,‏ فهي مثلها في المعنى وإن افترقا في الصورة‏.‏

فصل‏:‏

ويحرم اتخاذ آنية الذهب والفضة وحكي عن الشافعي أن ذلك لا يحرم لأن الخبر إنما ورد بتحريم الاستعمال فلا يحرم الاتخاذ‏,‏ كما لو اتخذ الرجل ثياب الحرير ولنا أن ما حرم استعماله مطلقا حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور‏,‏ وأما ثياب الحرير فإنها لا تحرم مطلقا فإنها تباح للنساء وتباح التجارة فيها‏,‏ ويحرم استعمال الآنية مطلقا في الشرب والأكل وغيرهما لأن النص ورد بتحريم الشرب والأكل وغيرهما في معناهما ويحرم ذلك على الرجال والنساء لعموم النص فيهما ووجود معنى التحريم في حقهما‏,‏ وإنما أبيح التحلي في حق المرأة لحاجتها إلى التزين للزوج والتجمل عنده وهذا يختص الحلي‏,‏ فتختص الإباحة به

فصل‏:‏

فأما المضبب بالذهب أو الفضة فإن كان كثيرا فهو محرم بكل حال ذهبا كان أو فضة لحاجة أو لغيرها وبهذا قال الشافعي وأباح أبو حنيفة المضبب‏,‏ وإن كان كثيرا لأنه صار تابعا للمباح فأشبه المضبب باليسير ولنا أن هذا فيه سرف وخيلاء فأشبه الخالص‏,‏ ويبطل ما قاله بما إذا اتخذ أبوابا من فضة أو ذهب أو رفوفا فإنه يحرم‏,‏ وإن كان تابعا وفارق اليسير فإنه لا يوجد فيه المعنى المحرم إذا ثبت هذا‏,‏ فاختلف أصحابنا فقال أبو بكر يباح اليسير من الذهب والفضة لما ذكرنا وأكثر أصحابنا على أنه لا يباح اليسير من الذهب ولا يباح منه إلا ما دعت الضرورة إليه‏,‏ كأنف الذهب وما ربط به أسنانه وأما الفضة فيباح منها اليسير لما روى أنس ‏(‏أن قدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة‏)‏ رواه البخاري ولأن الحاجة تدعو إليه‏,‏ وليس فيه سرف ولا خيلاء فأشبه الضبة من الصفر قال القاضي‏:‏ ويباح ذلك مع الحاجة وعدمها لما ذكرنا إلا أن ما يستعمل من ذلك لا يباح كالحلقة‏,‏ وما لا يستعمل كالضبة يباح وقال أبو الخطاب لا يباح اليسير إلا لحاجة لأن الخبر إنما ورد في تشعيب القدح في موضع الكسر وهو لحاجة ومعنى الحاجة أن تدعو الحاجة إلى ما فعله به‏,‏ وإن كان غيره يقوم مقامه وتكره مباشرة موضع الفضة بالاستعمال كي لا يكون مستعملا لها وسنذكر ذلك في غير هذا الموضع بأبسط من هذا‏,‏ -إن شاء الله تعالى-‏.‏

فصل‏:‏

فأما سائر الآنية فمباح اتخاذها واستعمالها سواء كانت ثمينة كالياقوت والبلور والعقيق والصفر والمخروط من الزجاج‏,‏ أو غير ثمينة كالخشب والخزف والجلود ولا يكره استعمال شيء منها في قول عامة أهل العلم إلا أنه روي عن ابن عمر أنه كره الوضوء في الصفر والنحاس والرصاص وما أشبه ذلك واختار ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي لأن الماء يتغير فيها‏,‏ وروي أن الملائكة تكره ريح النحاس وقال الشافعي في أحد قوليه‏:‏ ما كان ثمينا لنفاسة جوهره فهو محرم لأن تحريم الأثمان تنبيه على تحريم ما هو أعلى منه ولأن فيه سرفا وخيلاء وكسر قلوب الفقراء فكان محرما كالأثمان ولنا ما روي عن عبد الله بن زيد‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ‏)‏ متفق عليه وروى أبو داود في ‏"‏ سننه ‏"‏‏,‏ عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تور من شبه‏)‏ ولأن الأصل الحل فيبقى عليه ولا يصح قياسه على الأثمان لوجهين‏:‏ أحدهما أن هذا لا يعرفه إلا خواص الناس‏,‏ فلا تنكسر قلوب الفقراء باستعماله بخلاف الأثمان والثاني أن هذه الجواهر لقلتها لا يحصل اتخاذ الآنية منها إلا نادرا فلا تفضي إباحتها إلى اتخاذها واستعمالها‏,‏ وتعلق التحريم بالأثمان التي هي واقعة في مظنة الكثرة فلم يتجاوزه كما تعلق حكم التحريم في اللباس بالحرير‏,‏ وجاز استعمال القصب من الثياب وإن زادت قيمته على قيمة الحرير ولأنه لو جعل فص خاتمه جوهرة ثمينة جاز وخاتم الذهب حرام‏,‏ ولو جعل فصه ذهبا كان حراما وإن قلت قيمته‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وصوف الميتة وشعرها طاهر‏]‏ يعني شعر ما كان طاهرا في حياته وصوفه وروي ذلك عن الحسن‏,‏ وابن سيرين وأصحاب عبد الله قالوا‏:‏ إذا غسل‏,‏ وبه قال مالك والليث بن سعد والأوزاعي‏,‏ وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي وروي عن أحمد ما يدل على أنه نجس وهو قول الشافعي لأنه ينمو من الحيوان‏,‏ فينجس بموته كأعضائه ولنا‏:‏ ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل‏)‏ رواه الدارقطني‏,‏ وقال‏:‏ لم يأت به إلا يوسف بن السفر وهو ضعيف ولأنه لا تفتقر طهارة منفصلة إلى ذكاة أصله فلم ينجس بموته‏,‏ كأجزاء السمك والجراد ولأنه لا يحله الموت فلم ينجس بموت الحيوان كبيضه والدليل على أنه لا حياة فيه‏,‏ أنه لا يحس ولا يألم وهما دليلا الحياة ولو انفصل في الحياة كان طاهرا‏,‏ ولو كانت فيه حياة لنجس بفصله لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ما أبين من حي فهو ميت‏)‏ رواه أبو داود بمعناه وما ذكروه ينتقض بالبيض ويفارق الأعضاء‏,‏ فإن فيها حياة وتنجس بفصلها في حياة الحيوان والنمو بمجرده ليس بدليل الحياة‏,‏ فإن الحشيش ينمو ولا ينجس‏.‏

فصل‏:‏

والريش كالشعر فيما ذكرنا لأنه في معناه فأما أصول الريش‏,‏ والشعر إذا كان رطبا إذا نتف من الميتة فهو نجس لأنه رطب في محل نجس‏,‏ وهل يكون طاهرا بعد غسله‏؟‏ على وجهين‏:‏ أحدهما أنه طاهر كرءوس الشعر إذا تنجس والثاني أنه نجس لأنه جزء من اللحم لم يستكمل شعرا ولا ريشا‏.‏

فصل‏:‏

وشعر الآدمي طاهر متصله ومنفصله في حياة الآدمي وبعد موته وقال الشافعي‏,‏ في أحد قوليه‏:‏ إذا انفصل فهو نجس لأنه جزء من الآدمي انفصل في حياته فكان نجسا كعضوه ولنا‏:‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرق شعره بين أصحابه قال أنس‏:‏ ‏(‏لما رمى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحر نسكه‏,‏ ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه‏,‏ ثم ناوله الشق الأيسر فقال‏:‏ احلقه فحلقه وأعطاه أبا طلحة‏,‏ فقال‏:‏ اقسمه بين الناس‏)‏ رواه مسلم وأبو داود وروي أن معاوية أوصى أن يجعل نصيبه منه في فيه إذا مات وكانت في قلنسوة خالد شعرات من شعر النبي -صلى الله عليه وسلم-‏,‏ ولو كان نجسا لما ساغ هذا ولما فرقه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد علم أنهم يأخذونه يتبركون به ويحملونه معهم تبركا به وما كان طاهرا من النبي -صلى الله عليه وسلم- كان طاهرا ممن سواه كسائره ولأنه شعر متصله طاهر‏,‏ فمنفصله طاهر كشعر الحيوانات كلها وكذلك نقول في أعضاء الآدمي‏,‏ ولئن سلمنا نجاستها فإنها تنجس من سائر الحيوانات بفصلها في حياته بخلاف الشعر‏.‏

فصل‏:‏

وكل حيوان فشعره مثل بقية أجزائه ما كان طاهرا فشعره طاهر‏,‏ وما كان نجسا فشعره كذلك ولا فرق بين حالة الحياة وحالة الموت إلا أن الحيوانات التي حكمنا بطهارتها لمشقة الاحتراز منها كالسنور‏,‏ وما دونها في الخلقة فيها بعد الموت وجهان‏:‏ أحدهما أنها نجسة لأنها كانت طاهرة مع وجود علة التنجيس لمعارض وهو الحاجة إلى العفو عنها للمشقة وقد انتفت الحاجة فتنتفي الطهارة والثاني هي طاهرة وهذا أصح لأنها كانت طاهرة في الحياة‏,‏ والموت لا يقتضي تنجيسها فتبقى الطهارة وما ذكرناه للوجه الأول لا يصح لأننا لا نسلم وجود علة التنجيس ولئن سلمناه غير أن الشرع ألغاه‏,‏ ولم يثبت اعتباره في موضع فليس لنا إثبات حكمه بالتحكم‏.‏

فصل‏:‏

واختلفت الرواية عن أحمد في الخرز بشعر الخنزير فروي عنه كراهته‏,‏ وحكي ذلك عن ابن سيرين والحكم وحماد وإسحاق‏,‏ والشافعي لأنه استعمال للعين النجسة ولا يسلم من التنجس بها فحرم الانتفاع بها‏,‏ كجلده والثانية يجوز الخرز به قال‏:‏ وبالليف أحب إلينا ورخص فيه الحسن ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة لأن الحاجة تدعو إليه وإذا خرز به شيئا رطبا‏,‏ أو كانت الشعرة رطبة نجس ولم يطهر إلا بالغسل قال ابن عقيل‏:‏ وقد روي عن أحمد أنه لا بأس به ولعله قال ذلك لأنه لا يسلم الناس منه‏,‏ وفي تكليف غسله إتلاف أموال الناس فالظاهر أن أحمد إنما عنى لا بأس بالخرز فأما الطهارة فلا بد منها والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

والمشركون على ضربين‏:‏ أهل كتاب وغيرهم فأهل الكتاب يباح أكل طعامهم وشرابهم‏,‏ والأكل في آنيتهم ما لم يتحقق نجاستها قال ابن عقيل‏:‏ لا تختلف الرواية في أنه لا يحرم استعمال أوانيهم وذلك لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم‏}‏ وروي عن عبد الله بن المغفل قال‏:‏ ‏(‏دلي جراب من شحم يوم خيبر‏,‏ فالتزمته وقلت‏:‏ والله لا أعطي أحدا منه شيئا فالتفت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبتسم‏)‏ رواه مسلم‏,‏ وأخرجه البخاري بمعناه وروي أن ‏(‏النبي -صلى الله عليه وسلم- أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة‏)‏ رواه الإمام أحمد في ‏"‏ المسند ‏"‏ وكتاب ‏"‏ الزهد ‏"‏ وتوضأ عمر من جرة نصرانية وهل يكره له استعمال أوانيهم‏؟‏ على روايتين‏:‏ إحداهما‏:‏ لا يكره لما ذكرناه والثانية يكره لما روى أبو ثعلبة الخشني‏,‏ قال‏:‏ قلت ‏(‏يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم‏؟‏ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها‏,‏ وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها‏)‏ متفق عليه وأقل أحوال النهي الكراهة ولأنهم لا يتورعون عن النجاسة ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم‏,‏ وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة وأما ثيابهم فما لم يستعملوه أو علا منها كالعمامة والطيلسان والثوب الفوقاني‏,‏ فهو طاهر لا بأس بلبسه وما لاقى عوراتهم كالسراويل والثوب السفلاني والإزار‏,‏ فقال أحمد‏:‏ أحب إلى أن يعيد يعني‏:‏ من صلى فيه فيحتمل وجهين‏:‏ أحدهما وجوب الإعادة وهو قول القاضي وكره أبو حنيفة والشافعي الإزار والسراويلات لأنهم يتعبدون بترك النجاسة‏,‏ ولا يتحرزون منها فالظاهر نجاسة ما ولي مخرجها والثاني لا يجب وهو قول أبي الخطاب لأن الأصل الطهارة‏,‏ فلا تزول بالشك الضرب الثاني‏:‏ غير أهل الكتاب وهم المجوس وعبدة الأوثان‏,‏ ونحوهم فحكم ثيابهم حكم ثياب أهل الذمة وأما أوانيهم‏,‏ فقال القاضي‏:‏ لا يستعمل ما استعملوه من آنيتهم لأن أوانيهم لا تخلو من أطعمتهم وذبائحهم ميتة فلا تخلو أوانيهم من وضعها فيها وقال أبو الخطاب حكمهم حكم أهل الكتاب‏,‏ وثيابهم وأوانيهم طاهرة مباحة الاستعمال ما لم يتيقن نجاستها‏,‏ وهو مذهب الشافعي ‏(‏لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه توضئوا من مزادة مشركة‏)‏ متفق عليه ولأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك وظاهر كلام أحمد‏,‏ -رحمه الله- مثل قول القاضي فإنه قال في المجوس‏:‏ لا يؤكل من طعامهم إلا الفاكهة لأن الظاهر نجاسة آنيتهم المستعملة في أطعمتهم‏,‏ فأشبهت السراويلات من ثيابهم ومن يأكل الخنزير من النصارى في موضع يمكنهم أكله أو يأكل الميتة‏,‏ أو يذبح بالسن والظفر ونحوه فحكمه حكم غير أهل الكتاب لاتفاقهم في نجاسة أطعمتهم ومتى شك في الإناء هل استعملوه في أطعمتهم أو لم يستعملوه‏,‏ فهو طاهر لأن الأصل طهارته ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في إباحة الصلاة في الثوب الذي ينسجه الكفار فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إنما كان لباسهم من نسج الكفار فأما ثيابهم التي يلبسونها‏,‏ فأباح الصلاة فيها الثوري وأصحاب الرأي وقال مالك في ثوب الكفار‏:‏ يلبسه على كل حال‏,‏ وإن صلى فيه يعيد ما دام في الوقت ولنا أن الأصل الطهارة ولم تترجح جهة التنجيس فيه‏,‏ فأشبه ما نسجه الكفار‏.‏

فصل‏:‏

وتباح الصلاة في ثياب الصبيان ما لم تتيقن نجاستها وبذلك قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأن أبا قتادة روى‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع‏)‏ متفق عليه ‏(‏وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره‏)‏ وتكره الصلاة فيه لما فيه من احتمال غلبة النجاسة له وتصح الصلاة في ثوب المرأة الذي تحيض فيه إذا لم تتحقق إصابة النجاسة له لأن الأصل الطهارة والتوقي لذلك أولى لأنه يحتمل إصابة النجاسة إياه وقد روى أبو داود‏,‏ عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يصلي في شعرنا ولحفنا‏)‏ ولعاب الصبيان طاهر وقد روى أبو هريرة قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حامل الحسين على عاتقه‏,‏ ولعابه يسيل عليه‏)‏ وحمل أبو بكر الحسن بن علي على عاتقه ولعابه يسيل وعلي إلى جانبه وجعل أبو بكر يقول‏:‏ وا بأبي شبه النبي لا شبيها بعلي وعلي يضحك‏.‏

فصل‏:‏

وإذا صبغ في حب صباغ لم يجب غسل الثوب المصبوغ‏,‏ سواء كان الصباغ مسلما أو كافرا نص عليه أحمد لأن الأصل الطهارة فإن تحققت نجاسته طهر بالغسل وإن بقي اللون‏,‏ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في الدم‏:‏ ‏(‏لا يضرك أثره‏)‏‏.‏

فصول في الفطرة

روى أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏الفطرة خمس‏:‏ الختان والاستحداد وقص الشارب‏,‏ وتقليم الأظفار ونتف الإبط‏)‏ متفق عليه وروى عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏عشر من الفطرة‏:‏ قص الشارب‏,‏ وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء‏,‏ وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط‏,‏ وحلق العانة وانتقاص الماء‏)‏ قال بعض الرواة‏:‏ ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة الاستحداد‏:‏ حلق العانة‏,‏ استفعال من الحديد وانتقاص الماء‏:‏ الاستنجاء به لأن الماء يقطع البول ويرده قال أبو داود‏:‏ وقد روي عن ابن عباس نحو حديث عائشة قال‏:‏ خمس كلها في الرأس ذكر منها الفرق ولم يذكر إعفاء اللحية‏,‏ قال أحمد‏:‏ الفرق سنة قيل‏:‏ يا أبا عبد الله يشهر نفسه قال‏:‏ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد فرق وأمر بالفرق‏.‏

فصل‏:‏

فأما الختان فواجب على الرجال ومكرمة في حق النساء‏,‏ وليس بواجب عليهن هذا قول كثير من أهل العلم قال أحمد‏:‏ الرجل أشد وذلك أن الرجل إذا لم يختتن فتلك الجلدة مدلاة على الكمرة‏,‏ ولا ينقى ما ثم والمرأة أهون قال أبو عبد الله‏:‏ وكان ابن عباس يشدد في أمره وروي عنه أنه لا حج له ولا صلاة‏,‏ يعني‏:‏ إذا لم يختتن والحسن يرخص فيه يقول‏:‏ إذا أسلم لا يبالي أن لا يختتن ويقول‏:‏ أسلم الناس الأسود والأبيض‏,‏ لم يفتش أحد منهم ولم يختتنوا والدليل على وجوبه‏:‏ أن ستر العورة واجب فلولا أن الختان واجب لم يجز هتك حرمة المختون بالنظر إلى عورته من أجله ولأنه من شعار المسلمين‏,‏ فكان واجبا كسائر شعارهم وإن أسلم رجل كبير فخاف على نفسه من الختان سقط عنه لأن الغسل والوضوء وغيرهما يسقط إذا خاف على نفسه منه‏,‏ فهذا أولى وإن أمن على نفسه لزمه فعله قال حنبل‏:‏ سألت أبا عبد الله عن الذمي إذا أسلم ترى له أن يطهر بالختانة‏؟‏ قال‏:‏ لا بد له من ذاك قلت‏:‏ وإن كان كبيرا أو كبيرة‏؟‏ قال‏:‏ أحب إلى أن يتطهر لأن الحديث‏:‏ ‏(‏اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة‏)‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ملة أبيكم إبراهيم‏}‏ ويشرع الختان في حق النساء أيضا‏,‏ قال أبو عبد الله حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا التقى الختانان وجب الغسل‏)‏ فيه بيان أن النساء كن يختتن وحديث عمر‏:‏ إن ختانة ختنت فقال‏:‏ ‏"‏ أبقي منه شيئا إذا خفضت ‏"‏ وروى الخلال‏,‏ بإسناده عن شداد بن أوس قال‏:‏ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء‏)‏ وعن جابر بن زيد مثل ذلك موقوفا عليه‏,‏ وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أنه قال للخافضة‏:‏ أشمي ولا تنهكي فإنه أحظى للزوج وأسرى للوجه‏)‏ والخفض‏:‏ ختانة المرأة‏.‏

فصل‏:‏

والاستحداد‏:‏ حلق العانة وهو مستحب لأنه من الفطرة‏,‏ ويفحش بتركه فاستحبت إزالته وبأي شيء أزاله صاحبه فلا بأس لأن المقصود إزالته‏,‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ ترى أن يأخذ الرجل سفلته بالمقراض وإن لم يستقص‏؟‏ قال‏:‏ أرجو أن يجزئ إن شاء الله قيل‏:‏ يا أبا عبد الله‏,‏ ما تقول في الرجل إذا نتف عانته‏؟‏ قال‏:‏ وهل يقوى على هذا أحد وإن اطلى بنورة فلا بأس إلا أنه لا يدع أحدا يلي عورته إلا من يحل له الاطلاع عليها من زوجة‏,‏ أو أمة قال أبو العباس النسائي‏:‏ ضربت لأبي عبد الله نورة ونورته بها فلما بلغ إلى عانته نورها هو وروى الخلال‏,‏ بإسناده عن نافع قال‏:‏ كنت أطلي ابن عمر فإذا بلغ عانته نورها هو بيده وقد روي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-‏,‏ قال المروذي‏:‏ كان أبو عبد الله لا يدخل الحمام وإذا احتاج إلى النورة تنور في البيت وأصلحت له غير مرة نورة تنور بها‏,‏ واشتريت له جلدا ليديه فكان يدخل يديه فيه وينور نفسه والحلق أفضل لموافقته الخبر‏,‏ وقد قال ابن عمر هو مما أحدثوا من النعيم يعني‏:‏ النورة‏.‏

فصل‏:‏

ونتف الإبط سنة لأنه من الفطرة ويفحش بتركه وإن أزال الشعر بالحلق أو النورة جاز‏,‏ ونتفه أفضل لموافقته الخبر قال حرب‏:‏ قلت لإسحاق‏:‏ نتف الإبط أحب إليك أو بنورة‏؟‏ قال‏:‏ نتفه إن قدر‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب تقليم الأظفار لأنه من الفطرة ويتفاحش إذا تركها‏,‏ وربما حك به الوسخ فيجتمع تحتها من المواضع المنتنة فتصير رائحة ذلك في رءوس الأصابع وربما منع وصول الطهارة إلى ما تحته‏,‏ وقد روينا في خبر‏:‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏مالي لا أسهو وأنتم تدخلون علي قلحا ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته‏)‏ ومعناه‏:‏ أن أحدكم يطيل أظفاره ثم يحك بها رفغه ومواضع النتن فتصير رائحة ذلك تحت أظفاره وروي في حديث مسلسل قد سمعناه أن عليا قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقلم أظفاره يوم الخميس‏,‏ ثم قال‏:‏ يا علي قص الظفر ونتف الإبط وحلق العانة يوم الخميس والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة‏)‏ وروي في حديث ‏(‏من قص أظفاره مخالفا لم ير في عينيه رمدا‏)‏ وفسره أبو عبد الله بن بطة بأن يبدأ بخنصر اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة ثم بإبهام اليسرى ثم الوسطى ثم الخنصر ثم السبابة ثم البنصر‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب غسل رءوس الأصابع بعد قص الأظفار‏,‏ وقد قيل‏:‏ إن الحك بالأظفار قبل غسلها يضر بالجسد وفي حديث عائشة ‏"‏ غسل البراجم ‏"‏ في تفسير الفطرة فيحتمل أنه أراد ذلك وقال الخطابي‏:‏ البراجم‏:‏ العقد التي في ظهور الأصابع‏,‏ والرواجب‏:‏ ما بين البراجم ومعناه قال‏:‏ تنظيف المواضع التي تتشنج ويجتمع فيها الوسخ ويستحب دفن ما قلم من أظفاره أو أزال من شعره لما روى الخلال بإسناده ‏(‏عن ميل بنت مشرح الأشعرية قالت‏:‏ رأيت أبي يقلم أظفاره ويدفنها ويقول‏:‏ رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك‏)‏ وعن ابن جريج ‏(‏عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ كان يعجبه دفن الدم‏)‏ وقال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه‏؟‏ قال‏:‏ يدفنه‏,‏ قلت‏:‏ بلغك فيه شيء‏؟‏ قال‏:‏ كان ابن عمر يدفنه وروينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أنه أمر بدفن الشعر والأظفار وقال‏:‏ لا يتلاعب به سحرة بني آدم‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

واتخاذ الشعر أفضل من إزالته قال أبو إسحاق‏:‏ سئل أبو عبد الله عن الرجل يتخذ الشعر‏؟‏ فقال‏:‏ سنة حسنة لو أمكننا اتخذناه وقال‏:‏ ‏(‏كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- جمة‏)‏ وقال‏:‏ تسعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم شعر وقال‏:‏ عشرة لهم جمم وقال‏:‏ في بعض الحديث ‏(‏إن شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إلى شحمة أذنيه وفي بعض الحديث‏:‏ إلى منكبيه‏)‏ وروى البراء بن عازب‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له شعر يضرب منكبيه‏)‏ متفق عليه وروى ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏رأيت ابن مريم له لمة‏)‏ قال الخلال سألت أحمد بن يحيى - يعني ثعلبا - عن اللمة‏؟‏ فقال‏:‏ ما ألمت بالأذن والجمة‏:‏ ما طالت وقد ذكر البراء بن عازب في حديثه‏:‏ ‏(‏أن شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- يضرب منكبيه‏)‏ وقد سماه لمة ويستحب أن يكون شعر الإنسان على صفة شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا طال فإلى منكبيه وإن قصر فإلى شحمة أذنيه وإن طوله فلا بأس‏,‏ نص عليه أحمد وقال‏:‏ أبو عبيدة كانت له عقيصتان وعثمان كانت له عقيصتان وقال وائل بن حجر‏:‏ ‏(‏أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولي شعر طويل فلما رآني قال‏:‏ ذباب ذباب فرجعت فجززته ثم أتيته من الغد‏,‏ فقال‏:‏ لم أعنك‏)‏ وهذا حسن رواه ابن ماجه ويستحب ترجيل الشعر وإكرامه لما روى أبو هريرة يرفعه ‏(‏من كان له شعر فليكرمه‏)‏ رواه أبو داود ويستحب فرق الشعر ‏(‏لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرق شعره وذكره من الفطرة‏)‏ في حديث ابن عباس‏,‏ وفي شروط عمر على أهل الذمة‏:‏ أن لا يفرقوا شعورهم لئلا يتشبهوا بالمسلمين‏.‏

فصل‏:‏

واختلفت الرواية عن أحمد في حلق الرأس فعنه أنه مكروه لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أنه قال في الخوارج‏:‏ سيماهم التحليق‏)‏ فجعله علامة لهم وقال عمر لصبيغ‏:‏ لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة‏)‏ رواه الدارقطني‏,‏ في الأفراد وروى أبو موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ليس منا من حلق‏)‏ رواه أحمد وقال ابن عباس الذي يحلق رأسه في المصر شيطان قال أحمد كانوا يكرهون ذلك وروي عنه‏:‏ لا يكره ذلك لكن تركه أفضل قال حنبل‏:‏ كنت أنا وأبي نحلق رءوسنا في حياة أبي عبد الله فيرانا ونحن نحلق فلا ينهانا وكان هو يأخذ رأسه بالجلمين ولا يحفيه ويأخذه وسطا وقد روى ابن عمر ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى غلاما قد حلق بعض رأسه وترك بعضه‏,‏ فنهاهم عن ذلك‏)‏ رواه مسلم وفي لفظ قال‏:‏ ‏(‏احلقه كله أو دعه كله‏)‏ وروي عن عبد الله بن جعفر ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء نعي جعفر أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ثم أتاهم‏,‏ فقال‏:‏ لا تبكوا على أخي بعد اليوم ثم قال‏:‏ ادعوا بني أخي فجيء بنا‏,‏ قال‏:‏ ادعوا لي الحالق فأمر بنا فحلق رءوسنا‏)‏ رواه أبو داود والطيالسي ولأنه لا يكره استئصال الشعر بالمقراض وهذا في معناه وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ليس منا من حلق‏)‏ يعني في المصيبة لأن فيه ‏"‏ أو صلق ‏"‏ أو خرق قال ابن عبد البر‏:‏ وقد أجمع العلماء على إباحة الحلق‏,‏ وكفى بهذا حجة وأما استئصال الشعر بالمقراض فغير مكروه رواية واحدة قال أحمد‏:‏ إنما كرهوا الحلق بالموسى وأما بالمقراض فليس به بأس لأن أدلة الكراهة تختص بالحلق‏.‏

فصل‏:‏

فأما حلق بعض الرأس فمكروه ويسمى القزع لما ذكرنا من حديث ابن عمر ورواه أبو داود‏,‏ ولفظه ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن القزع وقال‏:‏ احلقه كله أو دعه كله‏)‏ وفي شروط عمر على أهل الذمة‏:‏ أن يحلقوا مقادم رءوسهم ليتميزوا بذلك عن المسلمين فمن فعله من المسلمين كان متشبها بهم‏.‏

فصل‏:‏

ولا تختلف الرواية في كراهة حلق المرأة رأسها من غير ضرورة قال أبو موسى‏:‏ ‏(‏برئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصالقة والحالقة‏)‏ متفق عليه وروى الخلال بإسناده عن قتادة عن عكرمة قال‏:‏ ‏(‏نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تحلق المرأة رأسها‏)‏ قال الحسن‏:‏ هي مثلة قال الأثرم‏:‏ سمعت أبا عبد الله يسأل عن المرأة تعجز عن شعرها وعن معالجته أتأخذه على حديث ميمونة‏؟‏ قال‏:‏ لأي شيء تأخذه‏؟‏ قيل له‏:‏ لا تقدر على الدهن وما يصلحه وتقع فيه الدواب قال‏:‏ إذا كان لضرورة‏,‏ فأرجو أن لا يكون به بأس‏.‏

فصل‏:‏

ويكره نتف الشيب لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه‏,‏ عن جده قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نتف الشيب وقال‏:‏ إنه نور الإسلام‏)‏ وعن طارق بن حبيب ‏(‏أن حجاما أخذ من شارب النبي -صلى الله عليه وسلم- فرأى شيبة في لحيته فأهوى إليها ليأخذها‏,‏ فأمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- يده وقال‏:‏ من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة‏)‏ رواهما الخلال في جامعه‏.‏

فصل‏:‏

ويكره حلق القفا لمن لم يحلق رأسه ولم يحتج إليه قال المروذي‏:‏ سألت أبا عبد الله عن حلق القفا فقال‏:‏ هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال لا بأس أن يحلق قفاه وقت الحجامة وأما حف الوجه‏,‏ فقال مهنا‏:‏ سألت أبا عبد الله عن الحف‏؟‏ فقال‏:‏ ليس به بأس للنساء وأكرهه للرجال‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب خضاب الشيب بغير السواد قال أحمد إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به وذاكر رجلا‏,‏ فقال‏:‏ لم لا تختضب‏؟‏ فقال‏:‏ أستحي قال‏:‏ سبحان الله سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال المروذي‏:‏ قلت‏:‏ يحكى عن بشر بن الحارث أنه قال‏:‏ قال لي ابن داود‏:‏ خضبت‏؟‏ قلت‏:‏ أنا لا أتفرغ لغسلها فكيف أتفرغ لخضابها‏,‏ فقال‏:‏ أنا أنكر أن يكون بشر كشف عمله لابن داود ثم قال‏:‏ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏غيروا الشيب‏)‏ وأبو بكر وعمر خضبا والمهاجرون‏,‏ فهؤلاء لم يتفرغوا لغسلها والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمر بالخضاب فمن لم يكن على ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس من الدين في شيء‏,‏ وحديث أبي ذر وحديث أبي هريرة وحديث أبي رمثة‏,‏ وحديث أم سلمة ويستحب الخضاب بالحناء والكتم لما روى الخلال وابن ماجه بإسنادهما عن تميم بن عبد الله بن موهب‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏دخلت على أم سلمة فأخرجت إلينا شعرا من شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخضوبا بالحناء والكتم‏)‏ وخضب أبو بكر بالحناء والكتم ولا بأس بالورس والزعفران لأن أبا مالك الأشجعي قال‏:‏ ‏(‏كان خضابنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الورس والزعفران‏)‏ وعن الحكم بن عمرو الغفاري قال‏:‏ دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر وأنا مخضوب بالحناء‏,‏ وأخي مخضوب بالصفرة فقال عمر بن الخطاب هذا خضاب الإسلام وقال لأخي رافع‏:‏ هذا خضاب الإيمان ويكره الخضاب بالسواد قيل لأبي عبد الله‏:‏ تكره الخضاب بالسواد‏؟‏ قال‏:‏ أي والله قال‏:‏ ‏(‏وجاء أبو بكر بأبيه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا‏,‏ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غيروهما وجنبوه السواد‏)‏ وروى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن عباس مرفوعا ‏(‏يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة‏)‏ ورخص فيه إسحاق بن راهويه للمرأة تتزين به لزوجها‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب أن يكتحل وترا‏,‏ ويدهن غبا وينظر في المرآة ويتطيب قال حنبل‏:‏ رأيت أبا عبد الله وكانت له صينية فيها مرآة ومكحلة ومشط فإذا فرغ من حزبه نظر في المرآة واكتحل وامتشط‏,‏ وقد روى جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر‏)‏ قيل لأبي عبد الله كيف يكتحل الرجل‏؟‏ قال‏:‏ وترا وليس له إسناد وروى أبو داود بإسناده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن‏,‏ ومن لا فلا حرج‏)‏ والوتر ثلاث في كل عين وقيل‏:‏ ثلاث في اليمنى واثنتان في اليسرى ليكون الوتر حاصلا في العينين معا وروى الخلال بإسناده عن عبد الله بن المغفل قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الترجل إلا غبا‏)‏ قال أحمد معناه يدهن يوما ويوما لا وكان أحمد يعجبه الطيب لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏كان يحب الطيب ويتطيب كثيرا‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ‏(‏لعن الواصلة والمستوصلة‏,‏ والنامصة والمتنمصة والواشرة والمستوشرة‏)‏ فهذه الخصال محرمة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن فاعلها ولا يجوز لعن فاعل المباح والواصلة‏:‏ هي التي تصل شعرها بغيره أو شعر غيرها والمستوصلة‏:‏ الموصول شعرها بأمرها‏,‏ فهذا لا يجوز للخبر لما روت عائشة رضي الله عنها ‏(‏أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت‏:‏ إن ابنتي عرس وقد تمزق شعرها أفأصله‏؟‏ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ لعنت الواصلة‏,‏ والمستوصلة‏)‏ فلا يجوز وصل شعر المرأة بشعر آخر‏؟‏ لهذه الأحاديث ولما روي عن معاوية أنه ‏(‏أخرج كبة من شعر‏,‏ فقال‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن مثل هذا وقال‏:‏ إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذا نساؤهم‏)‏ وأما وصله بغير الشعر فإن كان بقدر ما تشد به رأسها فلا بأس به لأن الحاجة داعية إليه‏,‏ ولا يمكن التحرز منه وإن كان أكثر من ذلك ففيه روايتان‏:‏ إحداهما أنه مكروه غير محرم لحديث معاوية في تخصيص التي تصله بالشعر‏,‏ فيمكن جعل ذلك تفسيرا للفظ العام وبقيت الكراهة لعموم اللفظ في سائر الأحاديث وروي عنه أنه قال‏:‏ لا تصل المرأة برأسها الشعر ولا القرامل ولا الصوف‏,‏ نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال فكل شيء يصل فهو وصال وروي عن جابر‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تصل المرأة برأسها شيئا‏)‏ وقال المروذي‏:‏ جاءت امرأة من هؤلاء الذين يمشطون إلى أبي عبد الله فقالت‏:‏ إني أصل رأس المرأة بقرامل وأمشطها فترى لي أن أحج مما اكتسبت‏؟‏ قال‏:‏ لا وكره كسبها وقال لها‏:‏ يكون من مال أطيب من هذا والظاهر‏:‏ أن المحرم إنما هو وصل الشعر بالشعر‏,‏ لما فيه من التدليس واستعمال الشعر المختلف في نجاسته وغير ذلك لا يحرم لعدم هذه المعاني فيها‏,‏ وحصول المصلحة من تحسين المرأة لزوجها من غير مضرة والله تعالى أعلم‏.‏

فصل‏:‏

فأما النامصة‏:‏ فهي التي تنتف الشعر من الوجه والمتنمصة‏:‏ المنتوف شعرها بأمرها فلا يجوز للخبر وإن حلق الشعر فلا بأس لأن الخبر إنما ورد في النتف نص على هذا أحمد وأما الواشرة‏:‏ فهي التي تبرد الأسنان بمبرد ونحوه لتحددها وتفلجها وتحسنها‏,‏ والمستوشرة‏:‏ المفعول بها ذلك بإذنها وفي خبر آخر‏:‏ ‏(‏لعن الله الواشمة والمستوشمة‏)‏ والواشمة‏:‏ التي تغرز جلدها بإبرة‏,‏ ثم تحشوه كحلا والمستوشمة‏:‏ التي يفعل بها ذلك‏.‏

باب السواك وسنة الوضوء

مسألة‏:‏

قال أبو القاسم والسواك سنة يستحب عند كل صلاة أكثر أهل العلم يرون السواك سنة غير واجب ولا نعلم أحدا قال بوجوبه إلا إسحاق وداود لأنه مأمور به‏,‏ والأمر يقتضي الوجوب وقد روى أبو داود بإسناده ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا وغير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة‏)‏ ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة‏)‏ متفق عليه يعني لأمرتهم أمر إيجاب لأن المشقة إنما تلحق بالإيجاب لا بالندب‏,‏ وهذا يدل على أن الأمر في حديثهم أمر ندب واستحباب ويحتمل أن يكون ذلك واجبا في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- على الخصوص جمعا بين الخبرين‏,‏ واتفق أهل العلم على أنه سنة مؤكدة لحث النبي -صلى الله عليه وسلم- ومواظبته عليه وترغيبه فيه وندبه إليه‏,‏ وتسميته إياه من الفطرة فيما روينا من الحديث وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏السواك مطهرة للفم مرضاة للرب‏)‏ رواه الإمام أحمد في مسنده وعن عائشة‏,‏ رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل بيته بدأ بالسواك‏)‏ رواه مسلم وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏إني لأستاك حتى لقد خشيت أن أحفي مقادم فمي‏)‏ رواه ابن ماجه ويتأكد استحبابه في مواضع ثلاثة‏:‏ عند الصلاة للخبر الأول وعند القيام من النوم لما روى حذيفة‏,‏ قال‏:‏ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك متفق عليه يعني‏:‏ يغسله يقال‏:‏ شاصه‏,‏ يشوصه وماصه‏:‏ إذا غسله وعن عائشة‏,‏ رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرقد من ليل أو نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ‏)‏ رواه أبو داود ولأنه إذا نام ينطبق فوه فتتغير رائحته وعند تغير رائحة فيه بمأكول أو غيره ولأن السواك مشروع لإزالة رائحته وتطييبه‏.‏

فصل‏:‏

ويستاك على أسنانه ولسانه قال أبو موسى‏:‏ ‏(‏أتينا رسول الله فرأيته يستاك على لسانه‏)‏ متفق عليه وقال عليه السلام ‏(‏إني لأستاك حتى لقد خشيت أن أحفي مقادم فمي‏)‏ ويستاك عرضا‏,‏ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏استاكوا عرضا وادهنوا غبا واكتحلوا وترا‏)‏ ولأن السواك طولا من أطراف الأسنان إلى عمودها ربما آدمي اللثة وأفسد العمود ويستحب التيامن في سواكه لأن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه التيمن في تنعله‏,‏ وترجله وطهوره وفي شأنه كله‏)‏ متفق عليه ويغسله بالماء ليزيل ما عليه‏,‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك‏,‏ ثم أغسله ثم أدفعه إليه‏)‏ رواه أبو داود وروي عنها قالت‏:‏ ‏(‏كنا نعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة آنية مخمرة من الليل‏:‏ إناء لطهوره‏,‏ وإناء لسواكه وإناء لشرابه‏)‏ أخرجه ابن ماجه‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب أن يكون السواك عودا لينا ينقي الفم ولا يجرحه‏,‏ ولا يضره ولا يتفتت فيه كالأراك والعرجون‏,‏ ولا يستاك بعود الرمان ولا الآس ولا الأعواد الذكية لأنه روي عن قبيصة بن ذؤيب قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا تخللوا بعود الريحان ولا الرمان‏,‏ فإنهما يحركان عرق الجذام‏)‏ رواه محمد بن الحسين الأزدي الحافظ بإسناده وقيل‏:‏ السواك بعود الريحان يضر بلحم الفم وإن استاك بأصبعه أو خرقة فقد قيل‏:‏ لا يصيب السنة لأن الشرع لم يرد به‏,‏ ولا يحصل الإنقاء به حصوله بالعود والصحيح أنه يصيب بقدر ما يحصل من الإنقاء ولا يترك القليل من السنة للعجز عن كثيرها والله أعلم وقد أخبرنا محمد بن عبد الباقي‏,‏ أخبرنا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا ابن البختري‏,‏ حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح حدثنا خالد بن خداش حدثنا محمد بن المثنى‏,‏ حدثني بعض أهلي عن أنس بن مالك ‏(‏أن رجلا من بني عمرو بن عوف قال‏:‏ يا رسول الله‏,‏ إنك رغبتنا في السواك فهل دون ذلك من شيء‏؟‏ قال‏:‏ أصبعيك سواك عند وضوئك‏,‏ أمرهما على أسنانك إنه لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لا حسنة له‏)‏‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ إلا أن يكون صائما‏,‏ فيمسك من وقت صلاة الظهر إلى أن تغرب الشمس قال ابن عقيل لا يختلف المذهب أنه لا يستحب للصائم السواك بعد الزوال وهل يكره‏؟‏ على روايتين‏:‏ إحداهما يكره وهو قول الشافعي‏,‏ وإسحاق وأبي ثور وروي ذلك عن عمر وعطاء ومجاهد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ يستاك ما بينه وبين الظهر ولا يستاك بعد ذلك ولأن السواك إنما استحب لإزالة رائحة الفم وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن وإزالة المستطاب مكروه‏,‏ كدم الشهداء وشعث الإحرام والثانية لا يكره ورخص فيه غدوة وعشيا النخعي وابن سيرين وعروة ومالك وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عمر وابن عباس‏,‏ وعائشة رضي الله عنهم لعموم الأحاديث المروية في السواك‏,‏ وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏من خير خصال الصائم السواك‏)‏ رواه ابن ماجه وقال عامر بن ربيعة‏:‏ ‏(‏رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لا أحصي يتسوك وهو صائم‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا غسل اليدين في أول الوضوء مسنون في الجملة سواء قام من النوم أو لم يقم لأنها التي تغمس في الإناء وتنقل الوضوء إلى الأعضاء ففي غسلهما إحراز لجميع الوضوء ‏(‏وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله‏,‏ فإن عثمان رضي الله عنه وصف وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ دعا بالماء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يده في الإناء‏)‏ متفق عليه وكذلك وصف علي وعبد الله بن زيد‏,‏ وغيرهما وليس ذلك بواجب عند غير القيام من النوم بغير خلاف نعلمه‏,‏ فأما عند القيام من نوم الليل فاختلفت الرواية في وجوبه فروي عن أحمد وجوبه وهو الظاهر عنه‏,‏ واختيار أبي بكر وهو مذهب ابن عمر وأبي هريرة والحسن البصري لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده‏)‏ متفق عليه وفي لفظ لمسلم‏:‏ ‏"‏ فلا يغمس يده في وضوء حتى يغسلها ثلاثا ‏"‏ وأمره يقتضي الوجوب ونهيه يقتضي التحريم وروي أن ذلك مستحب وليس بواجب وبه قال عطاء ومالك والأوزاعي‏,‏ والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي‏,‏ وابن المنذر لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ الآية قال زيد بن أسلم في تفسيرها‏:‏ إذا قمتم من نوم ولأن القيام من النوم داخل في عموم الآية وقد أمره بالوضوء من غير غسل الكفين في أوله والأمر بالشيء يقتضي حصول الإجزاء به ولأنه قائم من نوم‏,‏ فأشبه القائم من نوم النهار والحديث محمول على الاستحباب لتعليله بما يقتضي ذلك‏,‏ وهو قوله‏:‏ ‏(‏فإنه لا يدري أين باتت يده‏)‏ وطريان الشك على يقين الطهارة لا يؤثر فيها كما لو تيقن الطهارة وشك في الحدث فيدل ذلك على أنه أراد الندب‏.‏

فصل‏:‏

ولا تختلف الرواية في أنه لا يجب غسلهما من نوم النهار‏,‏ وسوى الحسن بين نوم الليل ونوم النهار في الوجوب لعموم قوله‏:‏ ‏[‏ إذا قام أحدكم من نومه‏]‏ ولنا أن في الخبر ما يدل على إرادة نوم الليل لقوله‏:‏ ‏[‏ فإنه لا يدري أين باتت يده‏]‏ والمبيت يكون بالليل خاصة ولا يصح قياس غيره عليه لوجهين‏:‏ أحدهما أن الحكم ثبت تعبدا‏,‏ فلا يصح تعديته الثاني أن الليل مظنة النوم والاستغراق فيه وطول مدته فاحتمال إصابة يده لنجاسة لا يشعر بها أكثر من احتمال ذلك في نوم النهار قال أحمد في رواية الأثرم‏:‏ الحديث في المبيت بالليل فأما النهار فلا بأس به‏.‏

فصل‏:‏

فإن غمس يده في الإناء قبل غسلها‏,‏ فعلى قول من لم يوجب غسلها لا يؤثر غمسها شيئا ومن أوجبه قال‏:‏ إن كان الماء كثيرا يدفع النجاسة عن نفسه‏,‏ لم يؤثر أيضا لأنه يدفع الخبث عن نفسه وإن كان يسيرا فقال أحمد‏:‏ أعجب إلى أن يهريق الماء‏,‏ فيحتمل أن تجب إراقته وهو قول الحسن لأن النهي عن غمس اليد فيه يدل على تأثيره فيه وقد روى أبو حفص عمر بن المسلم العكبري في الخبر زيادة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏فإن أدخلها قبل الغسل أراق الماء‏)‏ ويحتمل أن لا تزول طهوريته ولا تجب إراقته لأن طهورية الماء كانت ثابتة بيقين‏,‏ والغمس المحرم لا يقتضي إبطال طهورية الماء لأنه إن كان لوهم النجاسة فالوهم لا يزول به يقين الطهورية لأنه لم يزل يقين الطهارة فكذلك لا يزيل الطهورية‏,‏ فإننا لم نحكم بنجاسة اليد ولا الماء ولأن اليقين لا يزول بالشك فبالوهم أولى وإن كان تعبدا فنقتصر على مقتضى الأمر والنهي وهو وجوب الغسل وتحريم الغمس‏,‏ ولا يعدى إلى غير ذلك ولا يصح قياسه على رفع الحدث لأن هذا ليس بحدث ولأن من شرط تأثير غمس المحدث أن ينوي رفع الحدث ولا فرق ها هنا بين أن ينوي أو لا ينوي وقال أبو الخطاب‏:‏ إن غمس يده في الماء قبل غسلها‏,‏ فهل تبطل طهوريته‏؟‏ على روايتين‏.‏

فصل‏:‏

وحد اليد المأمور بغسلها من الكوع لأن اليد المطلقة في الشرع تتناول ذلك بدليل قوله تعالى ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ وإنما تقطع يد السارق من مفصل الكوع‏,‏ وكذلك في التيمم يكون في اليدين إلى الكوع والدية الواجبة في اليد تجب على من قطعها من مفصل الكوع وغمس بعضها ولو أصبع أو ظفر منها‏,‏ كغمس جميعها في أحد الوجهين لأن ما تعلق المنع بجميعه تعلق ببعضه كالحدث والنجاسة والثاني لا يمنع وهو قول الحسن لأن النهي تناول غمس جميعها‏,‏ ولا يلزم من كون الشيء مانعا كون بعضه مانعا كما لا يلزم من كون الشيء سببا كون بعضه سببا وغمسها بعد غسلها دون الثلاث كغمسها قبل غسلها لأن النهي لا يزول حتى يغسلها ثلاثا‏.‏

فصل‏:‏

ولا فرق بين كون يد النائم مطلقة أو مشدودة بشيء‏,‏ أو في جراب أو كون النائم عليه سراويله أو لم يكن قال أبو داود‏:‏ سئل أحمد إذا نام الرجل وعليه سراويله‏؟‏ قال‏:‏ السراويل وغيره واحد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا انتبه أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا‏)‏ يعني أن الحديث عام‏,‏ فيجب الأخذ بعمومه ولأن الحكم إذا تعلق على المظنة لم يعتبر حقيقة الحكمة كالعدة الواجبة لاستبراء الرحم تجب في حق الآيسة والصغيرة‏,‏ وكذاك الاستبراء مع أن احتمال النجاسة لا ينحصر في مس الفرج فإنه قد يكون في البدن بثرة أو دمل‏,‏ وقد يحك جسده فيخرج منه دم بين أظفاره أو يخرج من أنفه دم وقد تكون نجسة قبل نومه فينسى نجاستها لطول نومه‏,‏ على أن الظاهر عند من أوجب الغسل أنه تعبد لا لعلة التنجيس ولهذا لم يحكم بنجاسة اليد ولا الماء فيعم الوجوب كل من تناوله الخبر‏.‏

فصل‏:‏

فإن كان القائم من نوم الليل صبيا أو مجنونا أو كافرا‏,‏ ففيه وجهان‏:‏ أحدهما أنه كالمسلم البالغ العاقل لأنه لا يدري أين باتت يده والثاني أنه لا يؤثر غمسه شيئا لأن المنع من الغمس إنما يثبت بالخطاب ولا خطاب في حق هؤلاء ولأن وجوب الغسل ها هنا تعبد‏,‏ ولا تعبد في حق هؤلاء ولأن غمسهم لو أثر في الماء لأثر في جميع زمانهم لأن الغسل المزيل من حكم المنع من شرطه النية وما هم من أهلها ولا نعلم قائلا بذلك‏.‏

فصل‏:‏

والنوم الذي يتعلق به الأمر بغسل اليد ما نقض الوضوء ذكره القاضي لعموم الخبر في النوم وقال ابن عقيل‏:‏ هو ما زاد على نصف الليل لأنه لا يكون بائتا إلا بذلك‏,‏ بدليل أن من دفع من مزدلفة قبل نصف الليل لا يكون بائتا بها ولهذا يلزمه دم بخلاف من دفع بعد نصف الليل والأول أصح‏,‏ وما ذكره يبطل بما إذا جاء مزدلفة بعد نصف الليل فإنه يكون بائتا بها ولا دم عليه‏,‏ وإنما بات بها دون النصف‏.‏

فصل‏:‏

وغسل اليدين يفتقر إلى النية عند من أوجبه في أحد الوجهين لأنه طهارة تعبدية فأشبه الوضوء والغسل والثاني‏:‏ لا يفتقر إلى النية لأنه معلل بوهم النجاسة ولا تعتبر في غسلها النية ولأن المأمور به الغسل‏,‏ وقد أتى به والأمر بالشيء يقتضي حصول الإجزاء به ولا يفتقر الغسل إلى تسمية وقال أبو الخطاب يفتقر إليها قياسا على الوضوء وهذا بعيد فإن التسمية في الوضوء غير واجبة في الصحيح ومن أوجبها فإنما أوجبها تعبدا‏,‏ فيجب قصرها على محلها فإن التعبد به فرع التعليل ومن شرطه كون المعنى معقولا‏,‏ ولا يمكن إلحاقه به لعدم الفرق فإن الوضوء آكد وهو في أربعة أعضاء‏,‏ وسببه غير سبب غسل اليد‏.‏

فصل‏:‏

ولو انغمس الجنب في ماء كثير أو توضأ في ماء كثير يغمس فيه أعضاءه‏,‏ ولم ينو غسل اليدين من نوم الليل صح غسله ووضوءه ولم يجزه عن غسل اليد من نوم الليل عند من أوجب النية في غسلها لأن بقاء النجاسة على العضو لا يمنع رفع الحدث‏,‏ فلو غسل أنفه أو يده في الوضوء وهو نجس لارتفع حدثه‏,‏ وبقاء الحدث على الوضوء لا يمنع رفع حدث آخر بدليل ما لو توضأ الجنب ينوي رفع الحدث الأصغر أو اغتسل ولم ينو الطهارة الصغرى صحت المنوية دون غيرها‏,‏ وهذا لا يخرج عن شبهه بأحد الأمرين‏.‏

فصل‏:‏

إذا وجد ماء قليلا ليس معه ما يغترف به ويداه نجستان فقال أحمد‏:‏ لا بأس أن يأخذ بفيه ويصب على يده وهكذا لو أمكنه غمس خرقة أو غيرها وصبه على يديه فعل ذلك فإن لم يمكنه شيء من ذلك تيمم وتركه لئلا ينجس الماء ويتنجس به فإن كان لم يغسل يديه من نوم الليل توضأ منه عند من يجعل الماء باقيا على إطلاقه ومن جعله مستعملا‏,‏ قال‏:‏ يتوضأ به ويتيمم معه ولو استيقظ المحبوس من نومه فلم يدر أهو من نوم النهار أو الليل‏؟‏ لم يلزمه غسل يديه لأن الأصل عدم الوجوب فلا نوجبه بالشك‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ والتسمية عند الوضوء ظاهر مذهب أحمد رضي الله عنه‏:‏ أن التسمية مسنونة في طهارة الأحداث كلها رواه عنه جماعة من أصحابه وقال الخلال الذي استقرت الروايات عنه أنه لا بأس به يعني إذا ترك التسمية وهذا قول الثوري ومالك والشافعي وأبي عبيدة وابن المنذر وأصحاب الرأي وعنه أنها واجبة فيها كلها الوضوء‏,‏ والغسل والتيمم وهو اختيار أبي بكر ومذهب الحسن وإسحاق لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه‏)‏ رواه أبو داود والترمذي‏,‏ رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جماعة من أصحابه قال الإمام أحمد‏:‏ حديث أبي سعيد أحسن حديث في هذا الباب وقال الترمذي‏:‏ حديث سعيد بن زيد أحسن وهذا نفي في نكرة يقتضي أن لا يصح وضوءه بدون التسمية ووجه الرواية الأولى‏:‏ أنها طهارة فلا تفتقر إلى التسمية كالطهارة من النجاسة‏,‏ أو عبادة فلا تجب فيها التسمية كسائر العبادات ولأن الأصل عدم الوجوب وإنما ثبت بالشرع والأحاديث‏,‏ قال أحمد‏:‏ ليس يثبت في هذا حديث ولا أعلم فيها حديثا له إسناد جيد وقال الحسن بن محمد‏:‏ ضعف أبو عبد الله الحديث في التسمية وقال‏:‏ أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد‏,‏ عن ربيح - يعني حديث أبي سعيد - ثم ذكر ربيحا أي من هو‏؟‏ ومن أبوه‏؟‏ فقال‏:‏ يعني الذي يروي حديث سعيد بن زيد يعني أنهم مجهولون وضعف إسناده وإن صح ذلك فيحمل على تأكيد الاستحباب ونفي الكمال بدونها‏,‏ كقوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد‏)‏‏.‏

فصل‏:‏

وإن قلنا بوجوبها فتركها عمدا لم تصح طهارته لأنه ترك واجبا في الطهارة أشبه ما لو ترك النية وإن تركها سهوا صحت طهارته نص عليه أحمد في رواية أبي داود فإنه قال سألت أحمد بن حنبل‏:‏ إذا نسي التسمية في الوضوء‏؟‏ قال‏:‏ أرجو أن لا يكون عليه شيء وهذا قول إسحاق فعلى هذا إذا ذكر في أثناء طهارته أتى بها حيث ذكرها لأنه لما عفي عنها مع السهو في جملة الوضوء ففي بعضه أولى‏,‏ وإن تركها عمدا حتى غسل عضوا لم يعتد بغسله لأنه لم يذكر اسم الله عليه مع العمد وقال الشيخ أبو الفرج‏:‏ إذا سمى في أثناء الوضوء أجزأه يعني على كل حال لأنه قد ذكر اسم الله على وضوئه وقال بعض أصحابنا‏:‏ لا تسقط بالسهو لعموم الخبر وقياسا لها على سائر الواجبات والأول أولى لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان‏)‏ ولأن الوضوء عبادة تتغاير أفعالها فكان في واجباتها ما يسقط بالسهو كالصلاة‏,‏ ولا يصح قياسها على سائر واجبات الطهارة لأن تلك تأكد وجوبها بخلاف التسمية إذا ثبت هذا فإن التسمية هي قول بسم الله لا يقوم غيرها مقامها كالتسمية المشروعة على الذبيحة‏,‏ وعند أكل الطعام وشرب الشراب وموضعها بعد النية قبل أفعال الطهارة كلها لأن التسمية قول واجب في الطهارة فيكون بعد النية‏,‏ لتشمل النية جميع واجباتها وقبل أفعال الطهارة ليكون مسميا على جميعها‏,‏ كما يسمي على الذبيحة وقت ذبحها‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ والمبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائما معنى المبالغة في الاستنشاق‏:‏ اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف ولا يجعله سعوطا وذلك سنة مستحبة في الوضوء‏,‏ إلا أن يكون صائما فلا يستحب لا نعلم في ذلك خلافا والأصل في ذلك ما روى عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏قلت‏:‏ يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع‏,‏ وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما‏)‏ رواه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح ولأنه من أعضاء الطهارة‏,‏ فاستحبت المبالغة فيه كسائر أعضائها‏.‏

فصل‏:‏

المبالغة مستحبة في سائر أعضاء الوضوء لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أسبغ الوضوء‏)‏ والمبالغة في المضمضة إدارة الماء في أعماق الفم وأقاصيه وأشداقه ولا يجعله وجورا لم يمجه وإن ابتلعه جاز لأن الغسل قد حصل والمبالغة في سائر الأعضاء بالتخليل‏,‏ وبتتبع المواضع التي ينبو عنها الماء بالدلك والعرك ومجاوزة موضع الوجوب بالغسل وقد روى نعيم بن عبد الله ‏(‏أنه رأى أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد أن يبلغ المنكبين ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين‏,‏ ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل‏)‏ متفق عليه وروى أبو حازم عنه قريبا من هذا وقال‏:‏ سمعت خليلي يقول‏:‏ ‏(‏تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء‏)‏ متفق عليه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وتخليل اللحية وجملة ذلك‏:‏ أن اللحية إن كانت خفيفة تصف البشرة وجب غسل باطنها وإن كانت كثيفة لم يجب غسل ما تحتها‏,‏ ويستحب تخليلها وممن روى عنه أنه كان يخلل لحيته‏:‏ ابن عمر وابن عباس والحسن‏,‏ وأنس وابن أبي ليلى وعطاء بن السائب وقال إسحاق‏:‏ إذا ترك تخليل لحيته عامدا أعاد لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏كان يخلل لحيته‏)‏ رواه عنه عثمان بن عفان قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح وقال البخاري‏:‏ هذا أصح حديث في الباب وروى أبو داود عن أنس ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه وقال‏:‏ هكذا أمرني ربي عز وجل‏)‏ وعن ابن عمر‏,‏ قال ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها‏)‏ رواه ابن ماجه وقال عطاء وأبو ثور‏:‏ يجب غسل باطن شعور الوجه وإن كان كثيفا كما يجب في الجنابة ولأنه مأمور بغسل الوجه في الوضوء كما أمر بغسله في الجنابة فما وجب في أحدهما وجب في الآخر مثله ومذهب أكثر أهل العلم أن ذلك لا يجب‏,‏ ولا يجب التخليل وممن رخص في ترك التخليل ابن عمر والحسن بن علي وطاوس‏,‏ والنخعي والشعبي وأبو العالية‏,‏ ومجاهد وأبو القاسم ومحمد بن علي‏,‏ وسعيد بن عبد العزيز وابن المنذر لأن الله تعالى أمر بالغسل ولم يذكر التخليل وأكثر من حكى وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحكه ولو كان واجبا لما أخل به في وضوء‏,‏ ولو فعله في كل وضوء لنقله كل من حكى وضوءه أو أكثرهم وتركه لذلك يدل على أن غسل ما تحت الشعر الكثيف ليس بواجب لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كثيف اللحية فلا يبلغ الماء ما تحت شعرها بدون التخليل والمبالغة وفعله للتخليل في بعض أحيانه يدل على استحباب ذلك‏,‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

قال يعقوب‏:‏ سألت أحمد عن التخليل‏؟‏ فأراني من تحت لحيته فخلل بالأصابع وقال حنبل‏:‏ من تحت ذقنه من أسفل الذقن يخلل جانبي لحيته جميعا بالماء‏,‏ ويمسح جانبيها وباطنها وقال أبو الحارث‏:‏ قال أحمد إن شاء خللها مع وجهه وإن شاء إذا مسح رأسه ويستحب أن يتعهد بقية شعور وجهه ويمسح مآقيه ليزول ما بهما من كحل أو غمص وقد روى أبو داود بإسناده عن أبي أمامة أنه ‏(‏ذكر وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ كان يمسح المأقين‏)‏‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وأخذ ماء جديد للأذنين ظاهرهما وباطنهما المستحب‏:‏ أن يأخذ لأذنيه ماء جديدا قال أحمد‏:‏ أنا أستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديدا كان ابن عمر يأخذ لأذنيه ماء جديدا وبهذا قال مالك والشافعي وقال ابن المنذر هذا الذي قالوه غير موجود في الأخبار‏,‏ وقد روى أبو أمامة وأبو هريرة وعبد الله بن زيد ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ الأذنان من الرأس‏)‏ رواهن ابن ماجه‏,‏ وروى ابن عباس والربيع بنت معوذ والمقدام بن معدي كرب ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة‏)‏ رواهن أبو داود ولنا أن إفرادهما بماء جديد قد روي عن ابن عمر وقد ذهب الزهري إلى أنهما من الوجه وقال الشعبي‏:‏ ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس وقال الشافعي وأبو ثور‏:‏ ليسا من الوجه ولا من الرأس ففي إفرادهما بماء جديد خروج من بعض الخلاف‏,‏ فكان أولى وإن مسحهما بماء الرأس أجزأه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله‏.‏

فصل‏:‏

قال المروذي‏:‏ رأيت أبا عبد الله مسح رأسه ولم أره يمسح على عنقه فقلت له‏:‏ ألا تمسح على عنقك‏؟‏ قال‏:‏ إنه لم يرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت‏:‏ أليس قد روي عن أبي هريرة‏,‏ قال‏:‏ هو موضع الغل‏؟‏ قال‏:‏ نعم ولكن هكذا يمسح النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يفعله وقال أيضا‏:‏ هو زيادة وذكر القاضي وغيره أن فيه رواية أخرى‏:‏ أنه مستحب واحتج بعضهم أن في خبر ابن عباس‏:‏ ‏(‏امسحوا أعناقكم مخافة الغل‏)‏ والذي وقفت عليه عن أحمد في هذا أن عبد الله قال‏:‏ رأيت أبي إذا مسح رأسه وأذنيه في الوضوء مسح قفاه ووهن الخلال هذه الرواية‏,‏ وقال‏:‏ هي وهم وقد أنكر أحمد حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده‏:‏ ‏(‏رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح رأسه حتى بلغ القذال‏)‏ وهو أول القفا وذكر أن سفيان كان ينكره‏,‏ وأنكره يحيى أيضا وخبر ابن عباس لا نعرفه ولم يروه أصحاب السنن‏.‏

فصل‏:‏

وذكر بعض أصحابنا من سنن الوضوء غسل داخل العينين‏,‏ وروي عن ابن عمر أنه عمي من كثرة إدخال الماء في عينيه‏.‏ وقال القاضي‏:‏ إنما يستحب ذلك في الغسل نص عليه أحمد في مواضع وذلك لأن غسل الجنابة أبلغ فإنه يعم جميع البدن‏,‏ وتغسل فيه بواطن الشعور الكثيفة وما تحت الجفنين ونحوهما وداخل العينين من جملة البدن الممكن غسله فإذا لم تجب فلا أقل من أن يكون مستحبا‏.‏ والصحيح أن هذا ليس بمسنون في وضوء ولا غسل لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله‏,‏ ولا أمر به وفيه ضرر وما ذكر عن ابن عمر فهو دليل على كراهته لأنه ذهب ببصره‏,‏ وفعل ما يخاف منه ذهاب البصر أو نقصه من غير ورود الشرع به إذا لم يكن محرما فلا أقل من أن يكون مكروها‏.‏

مسألة‏:‏

قال وتخليل ما بين الأصابع تخليل أصابع اليدين والرجلين في الوضوء مسنون وهو في الرجلين آكد ‏(‏لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للقيط بن صبرة‏:‏ أسبغ الوضوء وخلل الأصابع‏)‏ وهو حديث صحيح‏,‏ وقال المستورد وقال المستورد بن شداد‏:‏ ‏(‏رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره‏)‏ رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي‏,‏ وقال‏:‏ لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة ويستحب أن يخلل أصابع رجليه بخنصره لهذا الحديث ويبدأ في تخليل اليمنى من خنصرها إلى إبهامها وفي اليسرى من إبهامها إلى خنصرها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب التيمن في وضوئه وفي هذا تيمن

فصل‏:‏

ويستحب أن يعرك رجله بيده‏,‏ ويتعهد عقبيه والمواضع التي يزلق عنها الماء قال أبو داود‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ إذا توضأ فأدخل رجله في الماء‏,‏ فأخرجها‏؟‏ قال‏:‏ ينبغي أن يمر يده على رجله ويخلل أصابعه قلت‏:‏ فإن لم يفعل يجزئه‏؟‏ قال‏:‏ أرجو أن يجزئه من التخليل أن يحرك رجله في الماء‏,‏ فإنه ربما زلق الماء عن الجسد في الشتاء قيل له‏:‏ من توضأ يحرك خاتمه‏؟‏ قال‏:‏ إن كان ضيقا لا بد أن يحركه وإن كان واسعا يدخل فيه الماء أجزأه وقد روى أبو رافع‏,‏ رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏كان إذا توضأ حرك خاتمه‏)‏ وإذا شك في وصول الماء إلى ما تحته وجب تحريكه ليتيقن وصول الماء إليه لأن الأصل عدم وصوله وإن التف بعض أصابعه على بعض وكان متصلا لم يجب فصل إحداهما من الأخرى لأنهما صارتا كأصبع واحدة وإن لم يكن ملتصقا وجب إيصال الماء إلى ما بينهما‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ وغسل الميامن قبل المياسر لا خلاف بين أهل العلم - فيما علمنا - في استحباب البداءة باليمنى وممن روى ذلك عنه أهل المدينة‏,‏ وأهل العراق وأهل الشام وأصحاب الرأي‏,‏ وأجمعوا على أنه لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه وأصل الاستحباب في ذلك ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعجبه ذلك ويفعله فروت عائشة ‏(‏أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله‏)‏ متفق عليه وعن أبي هريرة‏,‏ رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم‏)‏ رواهما ابن ماجه وحكى عثمان وعلي رضي الله عنهما ‏(‏وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ فبدأ باليمنى قبل اليسرى‏)‏ رواهما أبو داود ولا يجب ذلك لأن اليدين بمنزلة العضو الواحد وكذا الرجلان فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وأيديكم‏.‏‏.‏‏.‏‏,‏ وأرجلكم‏}‏ ولم يفصل والفقهاء يسمون أعضاء الوضوء أربعة يجعلون اليدين عضوا‏,‏ والرجلين عضوا ولا يجب الترتيب في العضو الواحد‏.‏