الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
فإن كان المقضى الذي في الذمة مؤجلا فقد توقف أحمد فيه وقال القاضي: يحتمل وجهين أحدهما المنع وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه, فكان القبض ناجزا في أحدهما والناجز يأخذ قسطا من الثمن والآخر الجواز وهو قول أبي حنيفة لأنه ثابت في الذمة بمنزلة المقبوض, فكأنه رضي بتعجيل المؤجل والصحيح الجواز إذا قضاه بسعر يومها ولم يجعل للمقضي فضلا لأجل تأجيل ما في الذمة لأنه إذا لم ينقصه عن سعرها شيئا, فقد رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض فأشبه ما لو قضاه من جنس الدين ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر حين سأله, ولو افترق الحال لسأل واستفصل. قال أحمد: ولو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فدفع إليه دينارا فقال: استوف حقك منه فاستوفاه بعد يومين, جاز ولو كان عليه دنانير فوكل غريمه في بيع داره واستيفاء حقه من ثمنها, فباعها بدراهم لم يجز أن يأخذ منها قدر حقه لأنه لم يأذن له في مصارفة نفسه ولأنه متهم ولو باع جارية بدنانير, فأخذ بها دراهم فردت الجارية بعيب أو إقالة لم يكن للمشتري إلا الدنانير لأنه الثمن الذي وقع عليه العقد, وإنما أخذ الدراهم بعقد صرف مستأنف نص أحمد على هذه المسائل. إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته لم يجز كرهه زيد بن ثابت, وابن عمر والمقداد وسعيد بن المسيب, وسالم والحسن وحماد, والحكم والشافعي ومالك, والثوري وهشيم وابن علية, وإسحاق وأبو حنيفة وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك: كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله وروى عن ابن عباس: أنه لم ير به بأسا وروى ذلك عن النخعي وأبي ثور لأنه آخذ لبعض حقه, تارك لبعضه فجاز كما لو كان الدين حالا وقال الخرقي: لا بأس أن يعجل المكاتب لسيده, ويضع عنه بعض كتابته ولنا أنه بيع الحلول فلم يجز كما لو زاده الذي له الدين, فقال له: أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك فأما المكاتب فإن معاملته مع سيده وهو يبيع بعض ماله ببعض فدخلت المسامحة فيه ولأنه سبب للعتق, فسومح فيه بخلاف غيره.
قال [فإن كان العيب دخيلا عليه من غير جنسه كان الصرف فيه فاسدا] يعني إذا وجد أحدهما ما قبضه مغشوشا بغش من غير جنسه, فينظر فيه فإن كان الصرف عينا بعين فهو فاسد لما أسلفناه وإن كان بغير عين وعلم ذلك في المجلس, فرده وأخذ بدله فالصرف صحيح لأنه عين المعقود عليه, وإن افترقا قبل رده فالصرف فيه فاسد أيضا لأنهما تفرقا قبل قبض المعقود عليه ولم يقبض ما يصلح عوضا عن المعقود عليه وهذا ظاهر كلام الخرقي وقيل عن أحمد: إنه إذا أخذ البدل في مجلس الرد, لم يبطل كما لو كان العيب من جنسه وهذا فيما إذا لم يكن مشترى المعيب عالما بعيبه فأما إن علم بعيبه, فاشتراه على ذلك والعيب من جنسه جاز, ولا خيار له ولا بدل وإن كان من غير جنسه وكان الصرف ذهبا بذهب, أو فضة بمثلها فالصرف فيه فاسد لأنه يخل بالتماثل إلا أن يبيع ذهبا أو فضة مغشوشا بمثل غشه, كبيعه دينارا صوريا بمثله مع علمه بتساوي غشهما وقد ذكرنا أن الظاهر جوازه وإن باع مغشوشا بغير مغشوش, لم يجز إلا أن يكون للغش قيمة فيخرج على مسألة مد عجوة وإن كان الصرف في جنسين, كذهب بفضة انبنى على إنفاق المغشوشة. وفي إنفاق المغشوش من النقود روايتان أظهرهما الجواز, نقل صالح عنه في دراهم يقال لها المسيبية عامتها نحاس إلا شيئا فيها فضة فقال: إذا كان شيئا اصطلحوا عليه مثل الفلوس, اصطلحوا عليها فأرجو ألا يكون بها بأس والثانية التحريم نقل حنبل في دراهم يخلط فيها مش ونحاس يشتري بها ويباع, فلا يجوز أن يبتاع بها أحد كل ما وقع عليه اسم الغش فالشراء به والبيع حرام وقال أصحاب الشافعي: إن كان الغش مما لا قيمة له جاز الشراء بها وإن كان مما له قيمة, ففي جواز إنفاقها وجهان واحتج من منع إنفاق المغشوشة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من غشنا فليس منا) وبأن عمر رضي الله عنه نهى عن بيع نفاية بيت المال ولأن المقصود فيه مجهول أشبه تراب الصاغة, والأولى أن يحمل كلام أحمد في الجواز على الخصوص فيما ظهر غشه واصطلح عليه فإن المعاملة به جائزة, إذ ليس فيه أكثر من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما فلا يمنع من بيعهما كما لو كانا متميزين ولأن هذا مستفيض في الأعصار, جار بينهم من غير نكير وفي تحريمه مشقة وضرر وليس شراؤه بها غشا للمسلمين, ولا تغريرا لهم والمقصود منها ظاهر مرئي معلوم بخلاف تراب الصاغة ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه, ويقع اللبس به فإن ذلك يفضي إلى التغرير بالمسلمين وقد أشار أحمد إلى هذا في رجل اجتمعت عنده دراهم زيوف, ما يصنع بها؟ قال: يسبكها قيل له: فيبيعها بدنانير؟ قال: لا قيل: يبيعها بفلوس؟ قال: لا قيل فبسلعة؟ قال: لا إني أخاف أن يغر بها مسلما قيل لأبي عبد الله: أيتصدق بها؟ قال: إني أخاف أن يغر بها مسلما وقال: ما ينبغي له لأنه يغر بها المسلمين ولا أقول إنه حرام لأنه على تأويل, وذلك إنما كرهته لأنه يغر بها مسلما فقد صرح بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين وعلى هذا يحمل منع عمر نفاية بيت المال لما فيه من التغرير بالمسلمين فإن مشتريها ربما خلطها بدراهم جيدة, واشترى بها ممن لا يعرف حالها ولو كانت مما اصطلح على إنفاقه لم يكن نفاية فإن قيل: فقد روى عن عمر أنه قال: من زافت عليه دراهمه فليخرج بها إلى البقيع, فليشتر بها سحق الثياب وهذا دليل على جواز إنفاق المغشوشة التي لم يصطلح عليها قلنا: قد قال أحمد: معنى زافت عليه دراهمه أي نفيت ليس أنها زيوف فيتعين حمله على هذا جمعا بين الروايتين عنه ويحتمل أنه أراد ما ظهر غشه وبان زيفه, بحيث لا يخفى على أحد ولا يحصل بها تغرير وإن تعذر تأويلها تعارضت الروايتان عنه, ويرجع إلى ما ذكرنا من المعنى ولا فرق بين ما كان غشه ذا بقاء وثبات كالرصاص, والنحاس وما لا ثبات له كالزرنيخية, والأندرانية وهو زرنيخ ونورة يطلى عليه فضة فإذا دخل النار استهلك الغش, وذهب.
قال: [ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما] الصرف: بيع الأثمان بعضها ببعض والقبض في المجلس شرط لصحته بغير خلاف قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد والأصل فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء) وقوله عليه السلام (بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد) (ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن بيع الذهب بالورق دينا, ونهى أن يباع غائب منها بناجز) كلها أحاديث صحاح ويجزئ القبض في المجلس وإن طال, ولو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما أو إلى الصراف فتقابضا عنده, جاز وبهذا قال الشافعي وقال مالك: لا خير في ذلك لأنهما فارقا مجلسهما ولنا أنهما لم يفترقا قبل التقابض فأشبه ما لو كانا في سفينة تسير بهما أو راكبين على دابة واحدة تمشي بهما وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلمي في قوله للذين مشيا إليه من جانب العسكر: وما أراكما افترقتما وإن تفرقا قبل التقابض بطل الصرف لفوات شرطه وإن قبض البعض, ثم افترقا بطل فيما لم يقبض وفيما يقابله من العوض وهل يصح في المقبوض؟ على وجهين, بناء على تفريق الصفقة ولو وكل أحدهما وكيلا في القبض فقبض الوكيل قبل تفرقهما جاز, وقام قبض وكيله مقام قبضه سواء فارق الوكيل المجلس قبل القبض أو لم يفارقه وإن افترقا قبل قبض الوكيل, بطل لأن القبض في المجلس شرط وقد فات وإن تخايرا قبل القبض في المجلس لم يبطل العقد بذلك لأنهما لم يفترقا قبل القبض ويحتمل أن يبطل إذا قلنا بلزوم العقد, وهو مذهب الشافعي لأن العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض أشبه ما لو افترقا والصحيح الأول فإن الشرط التقابض في المجلس, وقد وجد واشتراط التقابض قبل اللزوم تحكم بغير دليل ثم يبطل بما إذا تخايرا قبل الصرف ثم اصطرفا, فإن الصرف يقع لازما صحيحا قبل القبض ثم يشترط القبض في المجلس. ولو صارف رجلا دينارا بعشرة دراهم وليس معه إلا خمسة دراهم, لم يجز أن يتفرقا قبل قبض العشرة كلها فإن قبض الخمسة وافترقا بطل الصرف في نصف الدينار وهل يبطل فيما يقابل الخمسة المقبوضة؟ على وجهين, بناء على تفريق الصفقة وإن أراد التخلص فسخا الصرف في النصف الذي ليس معه عوضه أو يفسخان العقد كله, ثم يشتري منه نصف الدينار بخمسة ويدفعها إليه ثم يأخذ الدينار كله, فيكون ما اشتراه منه له وما بقي أمانة في يده ثم يفترقان, ثم إذا صارفه بعد ذلك بالباقي له من الدينار أو اشترى به منه شيئا أو جعله سلما في شيء أو وهبه له, جاز وكذلك إن وكله فيه ولو اشترى فضة بدينار ونصف ودفع إلى البائع دينارين, وقال: أنت وكيلي في نصف الدينار الزائد صح ولو صارفه عشرة دراهم بدينار فأعطاه أكثر من دينار ليزن له حقه في وقت آخر, جاز وإن طال ويكون الزائد أمانة في يده, لا شيء عليه في تلفه نص أحمد على أكثر هذه المسائل فإن لم يكن مع أحدهما إلا خمسة دراهم فاشترى بها نصف دينار وقبض دينارا كاملا, ودفع إليه الدراهم ثم اقترضها منه فاشترى بها النصف الباقي, أو اشترى الدينار منه بعشرة ابتداء ودفع إليه الخمسة ثم اقترضها منه, ودفعها إليه عوضا عن النصف الآخر على غير وجه الحيلة فلا بأس. وإذا باع مدي تمر رديء بدرهم ثم اشترى بالدرهم تمرا جنيبا, أو اشترى من رجل دينارا صحيحا بدراهم وتقابضاها ثم اشترى منه بالدراهم قراضة من غير مواطأة, ولا حيلة فلا بأس به وقال ابن أبي موسى: لا يجوز إلا أن يمضي إلى غيره ليبتاع منه, فلا يستقيم له فيجوز أن يرجع إلى البائع فيبتاع منه وقال أحمد في رواية الأثرم: يبيعها من غيره أحب إلى قلت له: قال لم يعلمه أنه يريد أن يبيعها منه؟ فقال: يبيعها من غيره, فهو أطيب لنفسه وأحرى أن يستوفي الذهب منه فإنه إذا ردها إليه لعله أن لا يوفيه الذهب ولا يحكم الوزن, ولا يستقصى يقول: هي ترجع إليه قيل لأبي عبد الله: فذهب ليشتري الدراهم بالذهب الذي أخذها منه من غيره فلم يجدها, فرجع إليه؟ فقال: إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم فظاهر أن هذا على وجه الاستحباب لا الإيجاب ولعل أحمد إنما أراد اجتناب المواطأة على هذا, ولهذا قال: إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم وقال مالك: إن فعل ذلك مرة جاز, وإن فعله أكثر من مرة لم يجز لأنه يضارع الربا ولنا ما روى أبو سعيد قال: (جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر برني, فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أوه عين الربا, لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر, ثم اشتر به) وروى أيضا أبو سعيد وأبو هريرة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب, فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعل بع التمر بالدراهم, ثم اشتر بالدراهم جنيبا) متفق عليهما ولم يأمره أن يبيعه من غير من يشتري منه ولو كان ذلك محرما لبينه له وعرفه إياه ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط, ولا مواطأة فجاز كما لو باعه من غيره ولأن ما جاز من البياعات مرة, جاز على الإطلاق كسائر البياعات فأما إن تواطآ على ذلك لم يجز وكان حيلة محرمة, وبه قال مالك وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز ما لم يكن مشروطا في العقد ولنا أنه إذا كان عن مواطأة كان حيلة, والحيل محرمة على ما سنذكره. والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين وهو أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما, مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب, أو دفع حق ونحو ذلك قال أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كأنما يخادعون صبيا, لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل على فمن ذلك ما لو كان مع رجل عشرة صحاح ومع الآخر خمسة عشر مكسرة فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه, ثم تباريا توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلا أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة, ثم وهبه الخمسة الزائدة أو اشترى منه بها أوقية صابون أو نحوها ما يأخذه بأقل من قيمته, أو اشترى منه بعشرة إلا حبة من الصحيح مثلها من المكسرة ثم اشترى منه بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير وهكذا لو أقرضه شيئا أو باعه سلعة بأكثر من قيمتها, أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلا إلى أخذ عوض عن القرض فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة والشافعي: ذلك كله وأشباهه جائز, إذا لم يكن مشروطا في العقد وقال بعض أصحاب الشافعي: يكره أن يدخلا في البيع على ذلك لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه ولنا أن الله تعالى عذب أمة بحيلة احتالوها فمسخهم قردة, وسماهم معتدين وجعل ذلك نكالا وموعظة للمتقين ليتعظوا بهم ويمتنعوا من مثل أفعالهم وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وموعظة للمتقين} [البقرة: 66]. أي لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم- فروى أنهم كانوا ينصبون شباكهم للحيتان يوم الجمعة, ويتركونها إلى يوم الأحد ومنهم من كان يحفر حفائر ويجعل إليها مجاري, فيفتحها يوم الجمعة فإذا جاء السمك يوم السبت جرى مع الماء في المجاري, فيقع في الحفائر فيدعها إلى يوم الأحد ثم يأخذها, ويقول: ما اصطدت يوم السبت ولا اعتديت فيه فهذه حيلة وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق, فهو قمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق, فليس بقمار) رواه أبو داود وغيره فجعله قمارا مع إدخاله الفرس الثالث لكونه لا يمنع معنى القمار وهو كون كل واحد من المتسابقين لا ينفك عن كونه آخذا, أو مأخوذا منه وإنما دخل صورة تحيلا على إباحة المحرم, وسائر الحيل مثل ذلك ولأن الله تعالى إنما حرم هذه المحرمات لمفسدتها والضرر الحاصل منها ولا تزول مفسدتها مع إبقاء معناها بإظهارهما صورة غير صورتها, فوجب أن لا يزول التحريم كما لو سمى الخمر بغير اسمها لم يبح ذلك شربها, وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ليستحلن قوم من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها) ومن الحيل في غير الربا أنهم يتوصلون إلى بيع الشيء المنهي عنه أن يستأجر بياض أرض البستان بأمثال أجرته, ثم يساقيه على ثمر شجره بجزء من ألف جزء للمالك وتسعمائة وتسعة وتسعون للعامل ولا يأخذ منه المالك شيئا, ولا يريد ذلك وإنما قصد بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بما سماه أجرة والعامل لا يقصد أيضا سوى ذلك, وربما لا ينتفع بالأرض التي سمى الأجرة في مقابلتها ومتى لم يخرج الثمر أو أصابته جائحة, جاء المستأجر يطلب الجائحة ويعتقد أنه إنما بذل ماله في مقابلة الثمرة لا غير ورب الأرض يعلم ذلك. ولو اشترى شيئا بمكسرة, لم يجز أن يعطيه صحيحا أقل منها قال أحمد: هذا هو الربا المحض وذلك لأنه يأخذ عوض الفضة أقل منها فيحصل التفاضل بينهما ولو اشتراه بصحيح لم يجز أن يعطيه مكسرة أكثر منها كذلك فإن تفاسخا البيع, ثم عقدا بالصحاح أو بالمكسرة جاز ولو اشترى ثوبا بنصف دينار لزمه نصف دينار شق, فإن عاد فاشترى شيئا آخر بنصف آخر لزمه نصف شق أيضا فإن وفاه دينارا صحيحا بطل العقد الثاني لأنه تضمن اشتراط زيادة ثمن العقد الأول, وإن كان ذلك قبل لزوم العقد الأول بطل أيضا لأنه وجد ما يفسده قبل انبرامه وإن كان بعد تفرقهما فلزومه لم يؤثر ذلك فيه, ولا يلزمه أكثر من ثمنه الذي عقد البيع به ومذهب الشافعي في هذا كما ذكرنا. إذا كان له عند رجل دينار وديعة فصارفه به وهو معلوم بقاؤه, أو مظنون صح الصرف وإن ظن أنه غير موجود لم يصح الصرف لأن حكمه حكم المعدوم وإن شك فيه فقال ابن عقيل: يصح وهو قول بعض الشافعية وقال القاضي: لا يصح لأنه غير معلوم البقاء وهو منصوص الشافعي ووجه الأول, أن الأصل بقاؤه فصح البناء عليه عند الشك فإن الشك لا يزيل اليقين ولذلك صح بيع الحيوان الغائب المشكوك في حياته, فإن تبين أنه كان تالفا حين العقد تبينا أن العقد وقع باطلا. ولا يجوز بيع تراب الصاغة والمعدن بشيء من جنسه لأنه مال ربا بيع بجنسه على وجه لا تعلم المماثلة بينهما فلم يصح, كبيع الصبرة بالصبرة وإن بيع بغير جنسه فحكى ابن المنذر عن أحمد كراهة بيع تراب المعادن وهو قول عطاء, والشافعي والشعبي والثوري, والأوزاعي وإسحاق لأنه مجهول وقال ابن أبي موسى في [الإرشاد] : يجوز ذلك وهو قول مالك وروى ذلك عن الحسن والنخعي, وربيعة والليث قالوا: فإن اختلط, أو أشكل فليبعه بعرض ولا يبعه بعين ولا ورق لأنه باعه بما لا ربا فيه فجاز كما لو اشترى ثوبا بدينار ودرهم. ولا يجوز أن يشتري أكثر من خمسة أوسق, فيما زاد على صفقة سواء اشتراها من واحد أو من جماعة وقال الشافعي: يجوز للإنسان بيع جميع ثمر حائطه عرايا من رجل واحد, ومن رجال في عقود متكررة لعموم حديث زيد وسهل ولأن كل عقد جاز مرة, جاز أن يتكرر كسائر البيوع ولنا عموم النهي عن المزابنة, استثنى منه العرية فيما دون خمسة أوسق فما زاد يبقى على العموم في التحريم ولأن ما لا يجوز عليه العقد مرة إذا كان نوعا واحدا لا يجوز في عقدين, كالذي على وجه الأرض وكالجمع بين الأختين فأما حديث سهل فإنه مقيد بالنخلة والنخلتين بدليل ما روينا, فيدل على تحريم الزيادة عليهما ثم إن المطلق يحمل على المقيد كما في العقد الواحد فأما إن باع رجل عريتين من رجلين فيهما أكثر من خمسة أوسق جاز وقال أبو بكر والقاضي: لا يجوز لما ذكرنا في المشتري ولنا أن المغلب في التجويز حاجة المشتري بدليل ما روى محمود بن لبيد قال: (قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه, وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونه رطبا) وإذا كان سبب الرخصة حاجة المشتري لم تعتبر حاجة البائع إلى البيع, فلا يتقيد في حقه بخمسة أوسق ولأننا لو اعتبرنا الحاجة من المشتري وحاجة البائع إلى البيع أفضى إلى أن لا يحصل الإرفاق إذ لا يكاد يتفق وجود الحاجتين, فتسقط الرخصة فإن قلنا: لا يجوز ذلك بطل العقد الثاني فإن اشترى عريتين أو باعهما وفيهما أقل من خمسة أوسق, جاز وجها واحدا أنه لا يشترط في بيع العرية أن تكون موهوبة لبائعها هذا ظاهر كلام أصحابنا وبه قال الشافعي وظاهر قول الخرقي أنه شرط وقد روى الأثرم, قال: سمعت أحمد سئل عن تفسير العرايا فقال: العرايا أن يعري الرجل الجار أو القرابة للحاجة أو المسكنة فللمعري أن يبيعها ممن شاء وقال مالك: بيع العرايا الجائز هو أن يعري الرجل الرجل نخلات من حائطه ثم يكره صاحب الحائط دخول الرجل المعري لأنه ربما كان مع أهله في الحائط, فيؤذيه دخول صاحبه عليه فيجوز أن يشتريها منه واحتجوا بأن العرية في اللغة هبة ثمرة النخيل عاما قال أبو عبيد: الإعراء أن يجعل الرجل للرجل ثمرة نخله عامها ذلك قال الشاعر الأنصاري يصف النخل: ليست بسنهاء ولا رجبية ** ولكن عرايا في السنين الجوائح يقول: إنا نعريها الناس فتعين صرف اللفظ إلى موضوعه لغة ومقتضاه في العربية, ما لم يوجد ما يصرفه عن ذلك ولنا حديث زيد بن ثابت وهو حجة على مالك, في تصريحه بجواز بيعها من غير الواهب ولأنه لو كان لحاجة الواهب لما اختص بخمسة أوسق لعدم اختصاص الحاجة بها ولم يجز بيعها بالتمر لأن الظاهر من حال صاحب الحائط الذي له النخيل الكثير يعريه الناس, أنه لا يعجز عن أداء ثمن العرية وفيه حجة على من اشترط كونها موهوبة لبائعها لأن علة الرخصة حاجة المشتري إلى أكل الرطب ولا ثمن معه سوى التمر, فمتى وجد ذلك جاز البيع ولأن اشتراط كونها موهوبة مع اشتراط حاجة المشتري إلى أكلها رطبا ولا ثمن معه, يفضي إلى سقوط الرخصة إذ لا يكاد يتفق ذلك ولأن ما جاز بيعه إذا كان موهوبا جاز وإن لم يكن موهوبا, كسائر الأموال وما جاز بيعه لواهبه جاز لغيره, كسائر الأموال وإنما سمى عرية لتعريه عن غيره وإفراده بالبيع. أنه إنما يجوز بيعها بخرصها من التمر, لا أقل منه ولا أكثر ويجب أن يكون التمر الذي يشتري به معلوما بالكيل ولا يجوز جزافا لا نعلم في هذا عند من أباح بيع العرايا اختلافا لما روى زيد بن ثابت (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أرخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا) متفق عليه ولمسلم أن تؤخذ بمثل خرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا ولأن الأصل اعتبار الكيل من الطرفين, سقط في أحدهما للتعذر فيجب في الآخر بقضية الأصل ولأن ترك الكيل من الطرفين يكثر الغرر وفي تركه من أحدهما يقلل الغرر, ولا يلزم من صحته مع قلة الغرر صحته مع كثرته ومعنى خرصها بمثلها من التمر أن يطيف الخارص بالعرية, فينظر كم يجيء منها تمرا فيشتريها المشتري بمثلها تمرا وبهذا قال الشافعي ونقل حنبل عن أحمد أنه قال: يخرصها رطبا, ويعطي تمرا رخصة وهذا يحتمل الأول ويحتمل أنه يشتريها بتمر مثل الرطب الذي عليها لأنه بيع اشترطت المماثلة فيه فاعتبرت حال البيع كسائر البيوع ولأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال, وأن لا يباع الرطب بالتمر خولف الأصل في بيع الرطب بالتمر فيبقى فيما عداه على قضية الدليل وقال القاضي: الأول أصح لأنه يبني على خرص الثمار في العشر والصحيح ثم خرصه تمرا ولأن المماثلة في بيع التمر بالتمر معتبرة حالة الادخار, وبيع الرطب بمثله تمرا يفضي إلى فوات ذلك فأما إن اشتراها بخرصها رطبا لم يجز وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي والثاني يجوز والثالث لا يجوز مع اتفاق النوع, ويجوز مع اختلافه ووجه جوازه ما روى الجوزجاني عن أبي صالح, عن الليث عن ابن شهاب عن سالم, عن ابن عمر عن زيد بن ثابت (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو التمر, ولم يرخص في غير ذلك) ولأنه إذا جاز بيع الرطب بالتمر مع اختصاص أحدهما بالنقص في ثاني الحال فلأن يجوز مع عدم ذلك أولى ولنا ما روى مسلم بإسناده عن زيد بن ثابت (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص في العرايا أن تؤخذ بمثل خرصها تمرا) وعن سهل بن أبي حثمة (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر بالتمر, وقال: ذلك الربا تلك المزابنة إلا أنه رخص في العرية النخلة والنخلتين, يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا) ولأنه مبيع يجب فيه مثله تمرا فلم يجز بيعه بمثله رطبا, كالتمر الجاف ولأن من له رطب فهو مستغن عن شراء الرطب بأكل ما عنده وبيع العرايا يشترط فيه حاجة المشتري على ما أسلفناه وحديث ابن عمر شك في الرطب والتمر, فلا يجوز العمل به مع الشك سيما وهذه الأحاديث تبينه وتزيل الشك. ويشترط في بيع العرايا التقابض في المجلس وهذا قول الشافعي, ولا نعلم فيه مخالفا لأنه بيع تمر بتمر فاعتبر فيه شروطه إلا ما استثناه الشرع مما لا يمكن اعتباره في بيع العرايا والقبض في كل واحد منهما على حسبه, ففي التمر اكتياله أو نقله وفي الثمرة التخلية وليس من شروطه حضور التمر عند النخيل بل لو تبايعا بعد معرفة التمر والثمرة, ثم مضيا جميعا إلى النخلة فسلمها إلى مشتريها ثم مشيا إلى التمر فتسلمه من مشتريها, أو تسلم التمر ثم مضيا إلى النخلة جميعا فسلمها إلى مشتريها أو سلم النخلة ثم مضيا إلى التمر فتسلمه, جاز لأن التفرق لا يحصل قبل القبض إذا ثبت هذا فإن بيع العرية يقع على وجهين أحدهما أن يقول: بعتك ثمرة هذه النخلة بكذا وكذا من التمر ويصفه والثاني, أن يكيل من التمر بقدر خرصها ثم يقول: بعتك هذا بهذا أو يقول: بعتك ثمرة هذه النخلة بهذا التمر, ونحو هذا وإن باعه بمعين فقبضه بنقله وأخذه وإن باع بموصوف فقبضه باكتياله. أنه لا يجوز بيعها إلا لمحتاج إلى أكلها رطبا ولا يجوز بيعها لغني وهذا أحد قولي الشافعي, وأباحها في القول الآخر مطلقا لكل أحد لأن كل بيع جاز للمحتاج جاز للغني كسائر البياعات, ولأن حديث أبي هريرة وسهل مطلقان ولنا حديث (زيد بن ثابت حين سأله محمود بن لبيد ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار, شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر يأكلونه رطبا) ومتى خولف الأصل بشرط, لم تجز مخالفته بدون ذلك الشرط ولأن ما أبيح للحاجة لم يبح مع عدمها كالزكاة للمساكين, والترخص في السفر فعلى هذا متى كان صاحبها غير محتاج إلى أكل الرطب أو كان محتاجا, ومعه من الثمن ما يشتري به العرية لم يجز له شراؤها بالتمر وسواء باعها لواهبها تحرزا من دخول صاحب العرية حائطه كمذهب مالك, أو لغيره فإنه لا يجوز وقال ابن عقيل يباح ويحتمله كلام أحمد لأن الحاجة وجدت من الجانبين فجاز كما لو كان المشتري محتاجا إلى أكلها ولنا, حديث زيد الذي ذكرناه والرخصة لمعنى خاص لا تثبت مع عدمه ولأن في حديث زيد وسهل: (يأكلها أهلها رطبا) ولو جاز لتخليص المعري لما شرط ذلك فيشترط إذا في بيع العرية شروط خمسة, أن يكون فيما دون خمسة أوسق وبيعها بخرصها من التمر وقبض ثمنها قبل التفرق, وحاجة المشتري إلى أكل الرطب وأن لا يكون معه ما يشتري به سوى التمر واشترط القاضي وأبو بكر شرطا سادسا وهو حاجة البائع إلى البيع واشترط الخرقي, كونها موهوبة لبائعها واشترط أصحابنا لبقاء العقد بأن يأكلها أهلها رطبا فإن تركها حتى تصير تمرا بطل العقد وسنذكر ذلك - إن شاء الله تعالى -. مسألة: قال: فإن تركه المشتري حتى يتمر بطل العقد يعني إن لم يأخذها المشتري رطبا بطل العقد خلافا للشافعي في قوله: لا يبطل وعن أحمد مثله لأن كل ثمرة جاز بيعها رطبا, لا يبطل العقد إذا صارت تمرا كغير العرية ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: (يأكلها أهلها رطبا) ولأن شراءها إنما جاز للحاجة إلى أكل الرطب, فإذا أتمرت تبينا عدم الحاجة فيبطل العقد ثم لا فرق بين تركه لغناه عنها أو مع حاجته إليها, أو تركها لعذر أو لغير عذر للخبر ولو أخذها رطبا فتركها عنده فأتمرت أو شمسها, حتى صارت تمرا جاز لأنه قد أخذها ونقل عن أحمد رواية أخرى في من اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ثم تركها حتى بدا صلاحها, لا يبطل البيع فيخرج ها هنا مثله فإن أخذ بعضها رطبا وترك باقيها حتى أتمر فهل يبطل البيع في الباقي؟ على وجهين.
فصل: ولا يجوز بيع العرية في غير النخيل, وهو اختيار ابن حامد وقول الليث بن سعد إلا أن يكون مما ثمرته لا يجري فيها الربا فيجوز بيع رطبها بيابسها لعدم جريان الربا فيها ويحتمل أن يجوز في العنب والرطب دون غيرهما وهو قول الشافعي لأن العنب كالرطب في وجوب الزكاة فيهما, وجواز خرصهما وتوسيقهما وكثرة تيبيسهما, واقتياتهما في بعض البلدان والحاجة إلى أكل رطبهما والتنصيص على الشيء يوجب ثبوت الحكم في مثله ولا يجوز في غيرهما لاختلافهما في أكثر هذه المعاني فإنه لا يمكن خرصها لتفرقها في الأغصان, واستتارها بالأوراق ولا يقتات يابسها فلا يحتاج إلى الشراء به وقال القاضي: يجوز في سائر الثمار وهو قول مالك والأوزاعي قياسا على ثمرة النخيل ولنا, ما روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن المزابنة الثمر بالتمر, إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم وعن بيع العنب بالزبيب, وكل ثمرة بخرصها) وهذا حديث حسن وهذا يدل على تخصيص العرية بالتمر وعن زيد بن ثابت (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك) وعن ابن عمر قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة) والمزابنة: بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا وعن كل ثمرة بخرصه ولأن الأصل يقتضي تحريم بيع العرية, وإنما جازت في ثمرة النخيل رخصة ولا يصح قياس غيرها عليها لوجهين أحدهما أن غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات بها, وسهولة خرصها وكون الرخصة في الأصل لأهل المدينة وإنما كانت حاجتهم إلى الرطب دون غيره الثاني, أن القياس لا يعمل به إذا خالف نصا وقياسهم يخالف نصوصا غير مخصوصة وإنما يجوز التخصيص بالقياس على المحل المخصوص (ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العنب بالزبيب) لم يدخله تخصيص فيقاس عليه, وكذلك سائر الثمار والله أعلم. مسألة: قال أبو القاسم - رحمه الله- : [ومن باع نخلا مؤبرا وهو ما قد تشقق طلعه, فالثمرة للبائع متروكة في النخل إلى الجزاز إلا أن يشترطها المبتاع] أصل الإبار عند أهل العلم: التلقيح قال ابن عبد البر: إلا أنه لا يكون حتى يتشقق الطلع وتظهر الثمرة فعبر به عن ظهور الثمرة للزومه منه والحكم متعلق بالظهور, دون نفس التلقيح بغير اختلاف بين العلماء يقال: أبرت النخلة بالتخفيف والتشديد, فهي مؤبرة ومأبورة ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: (خير المال سكة مأبورة) والسكة: النخل المصفوف وأبرت النخلة آبرها أبرا وإبارا وأبرتها تأبيرا, وتأبرت النخلة وائتبرت ومنه قول الشاعر: تأبري يا خيرة الفسيل** وفسر الخرقي المؤبر بما قد تشقق طلعه لتعلق الحكم بذلك, دون نفس التأبير قال القاضي: وقد يتشقق الطلع بنفسه فيظهر وقد يشقه الصعاد فيظهر وأيهما كان فهو التأبير المراد ها هنا وفي هذه المسألة فصول ثلاثة:
الفصل الأول: أن البيع متى وقع على نخل مثمر ولم يشترط الثمرة, وكانت الثمرة مؤبرة فهي للبائع وإن كانت غير مؤبرة فهي للمشتري وبهذا قال مالك, والليث والشافعي وقال ابن أبي ليلى: هي للمشتري في الحالين لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقة فكانت تابعة له, كالأغصان وقال أبو حنيفة والأوزاعي: هي للبائع في الحالين لأن هذا نماء له حد فلم يتبع أصله في البيع, كالزرع في الأرض ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع) متفق عليه وهذا صريح في رد قول ابن أبي ليلى, وحجة على أبي حنيفة والأوزاعي بمفهومه لأنه جعل التأبير حدا لملك البائع للثمرة فيكون ما قبله للمشتري وإلا لم يكن حدا, ولا كان ذكر التأبير مفيدا ولأنه نماء كامن لظهوره غاية فكان تابعا لأصله قبل ظهوره وغير تابع له بعد ظهوره, كالحمل في الحيوان فأما الأغصان فإنها تدخل في اسم النخل وليس لانفصالها غاية, والزرع ليس من نماء الأرض وإنما هو مودع فيها.
أنه متى اشترطها أحد المتبايعين فهي له مؤبرة كانت أو غير مؤبرة, البائع فيه والمشتري سواء وقال مالك: إن اشترطها المشتري بعد التأبير جاز لأنه بمنزلة شرائها مع أصلها وإن اشترطها البائع قبل التأبير, لم يجز لأن اشتراطه لها بمنزلة شرائه لها قبل بدو صلاحها بشرط تركها ولنا أنه استثنى بعض ما وقع عليه العقد وهو معلوم فصح, كما لو باع حائطا واستثنى نخلة بعينها (ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثنيا إلا أن تعلم) ولأنه أحد المتبايعين, فصح اشتراطه للثمرة كالمشتري وقد ثبت الأصل بالاتفاق عليه, وبقوله عليه السلام: (إلا أن يشترطها المبتاع) ولو اشترط أحدهما جزءا من الثمرة معلوما كان ذلك كاشتراط جميعها في الجواز في قول جمهور الفقهاء وقول أشهب من أصحاب مالك وقال ابن القاسم: لا يجوز اشتراط بعضها لأن الخبر إنما ورد باشتراط جميعها ولنا, أن ما جاز اشتراط جميعه جاز اشتراط بعضه كمدة الخيار, وكذلك القول في مال العبد إذا اشترط بعضه. الفصل الثالث: إن الثمرة إذا بقيت للبائع فله تركها في الشجر إلى أوان الجزاز سواء استحقها بشرطه أو بظهورها وبه قال مالك, والشافعي وقال أبو حنيفة: يلزمه قطعها وتفريغ النخل منها لأنه مبيع مشغول بملك البائع فلزم نقله وتفريغه, كما لو باع دارا فيها طعام أو قماش له ولنا أن النقل والتفريغ للمبيع على حسب العرف والعادة, كما لو باع دارا فيها طعام لم يجب نقله إلا على حسب العادة في ذلك وهو أن ينقله نهارا, شيئا بعد شيء ولا يلزمه النقل ليلا ولا جمع دواب البلد لنقله كذلك ها هنا, يفرغ النخل من الثمرة في أوان تفريغها وهو أوان جزازها وقياسه حجة لنا لما بيناه إذا تقرر هذا, فالمرجع في جزه إلى ما جرت به العادة فإذا كان المبيع نخلا فحين تتناهى حلاوة ثمره, إلا أن يكون مما بسره خير من رطبه أو ما جرت العادة بأخذه بسرا فإنه يجزه حين تستحكم حلاوة بسره لأن هذا هو العادة, فإذا استحكمت حلاوته فعليه نقله وإن قيل: بقاؤه في شجره خير له وأبقى فعليه النقل لأن العادة في النقل قد حصلت وليس له إبقاؤه بعد ذلك وإن كان المبيع عنبا, أو فاكهة سواه فأخذه حين يتناهى إدراكه وتستحكم حلاوته, ويجز مثله وهذا قول مالك والشافعي.
فصل: فإن أبر بعضه دون بعض فالمنصوص عن أحمد, أن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري وهو قول أبي بكر للخبر الذي عليه مبني هذه المسألة فإن صريحه, أن ما أبر للبائع ومفهومه أن ما لم يؤبر للمشتري وقال ابن حامد: الكل للبائع وهو مذهب الشافعي لأنا إذا لم نجعل الكل للبائع, أدى إلى الإضرار باشتراك الأيدي في البستان فيجب أن يجعل ما لم يؤبر تبعا لما أبر كثمر النخلة الواحدة, فإنه لا خلاف في أن تأبير بعض النخلة يجعل جميعها للبائع وقد يتبع الباطن الظاهر منه كأساسات الحيطان تتبع الظاهر منه ولأن البستان إذا بدا صلاح ثمرة منه جاز بيع جميعها بغير شرط القطع, كذا ها هنا وهذا من النوع الواحد لأن الظاهر أن النوع الواحد يتقارب يتلاحق فأما إن أبر, لم يتبعه النوع الآخر ولم يفرق أبو الخطاب بين النوع والجنس كله وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي, كما في النوع الواحد ولنا أن النوعين يتباعدان ويتميز أحدهما من الآخر, ولا يخشى اختلاطهما واشتباههما فأشبها الجنسين وما ذكره يبطل بالجنسين ولا يصح القياس على النوع الواحد لافتراقهما فيما ذكرناه ولو باع حائطين قد أبر أحدهما لم يتبعه الآخر لأنه يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي لانفراد كل واحد منهما عن صاحبه ولو أبر بعض الحائط, فأفرد بالبيع ما لم يؤبر فللمبيع حكم نفسه ولا يتبع غيره وخرج القاضي وجها في أنه يتبع غير المبيع, ويكون للبائع لأنه قد ثبت للحائط كله حكم التأبير وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ولا يصح هذا لأن المبيع لم يؤبر منه شيء فوجب أن يكون للمشتري بمفهوم الخبر, وكما لو كان منفردا في بستان وحده ولأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة ولا اختلاف الأيدي ولا إلى ضرر, فبقي على حكم الأصل فإن بيعت النخلة وقد أبرت كلها أو بعضها فأطلعت بعد ذلك, فالطلع للمشتري لأنه حدث في ملكه فكان له كما لو حدث بعد جزاز الثمرة ولأن ما أطلع بعد تأبير غيره لا يكاد يشتبه به لتباعد ما بينهما.
فصل: وطلع الفحال كطلع الإناث وهو ظاهر كلام الشافعي ويحتمل أن يكون طلع الفحال للبائع قبل ظهوره لأنه يؤخذ للأكل قبل ظهوره, فهو كثمرة لا تخلق إلا ظاهرة كالتين ويكون ظهور طلعه كظهور ثمرة غيره ولنا, أنها ثمرة نخل إذا تركت ظهرت فهي كالإناث أو يدخل في عموم الخبر وما ذكر للوجه الآخر لا يصح فإن أكله ليس هو المقصود منه, وإنما يراد للتلقيح به وهو يكون بعد ظهوره فأشبه طلع الإناث فإن باع نخلا فيه فحال وإناث لم يتشقق منه شيء, فالكل للمشتري إلا على الوجه الآخر فإن طلع الفحال يكون للبائع وإن كان قد تشقق طلع أحد النوعين دون الآخر, فما تشقق فهو للبائع وما لم يتشقق للمشتري إلا عند من سوى بين الأنواع كلها وإن تشقق طلع بعض الإناث أو بعض الفحال, فالذي قد ظهر للبائع وما لم يظهر على ما ذكرنا من الاختلاف فيه.
فصل: وكل عقد معاوضة يجري مجرى البيع في أن الثمرة المؤبرة تكون لمن انتقل عنه الأصل, وغير المؤبرة لمن انتقل إليه مثل أن يصدق المرأة نخلا أو يخلعها به, أو يجعله عوضا في إجارة أو عقد صلح لأنه عقد معاوضة فجرى مجرى البيع وإن انتقل بغير معاوضة كالهبة, والرهن أو فسخ لأجل العيب أو فلس المشتري, أو رجوع الأب في هبته لولده أو تقايلا المبيع أو كان صداقا فرجع إلى الزوج لفسخ المرأة النكاح, أو نصفه لطلاق الزوج فإنه في الفسخ يتبع الأصل سواء أبر, أو لم يؤبر لأنه نماء متصل فأشبه السمن وفي الهبة والرهن حكمهما حكم البيع, في أنه يتبع قبل التأبير ولا يتبع فيما بعده لأن الملك زال عن الأصل بغير فسخ فكان الحكم فيه ما ذكرناه, كالبيع وأما رجوع البائع لفلس المشتري أو الزوج لانفساخ النكاح فيذكران في بابيهما.
مسألة: قال: [وكذلك بيع الشجر إذا كان فيه ثمر باد] وجملة ذلك, أن الشجر على خمسة أضرب: أحدها ما يكون ثمره في أكمامه ثم تتفتح الأكمام, فيظهر كالنخل الذي وردت السنة فيه وبينا حكمه, وهو الأصل وما عداه مقيس عليه وملحق به ومن هذا الضرب القطن, وما يقصد نوره كالورد والياسمين والنرجس, والبنفسج فإنه تظهر أكمامه ثم تتفتح فيظهر, فهو كالطلع إن تفتح صجنبذه فهو للبائع وإلا فهو للمشتري الثاني, ما تظهر ثمرته بارزة لا قشر عليها ولا نور كالتين والتوت, والجميز فهن للبائع لأن ظهورها من شجرها بمنزلة ظهور الطلع من قشره الثالث ما يظهر في قشره, ثم يبقى فيه إلى حين الأكل كالرمان والموز, فهو للبائع أيضا بنفس الظهور لأن قشره من مصلحته ويبقى فيه إلى حين الأكل فهو كالتين ولأن قشره ينزل منزلة أجزائه للزومه إياه, وكونه من مصلحته الضرب الرابع ما يظهر في قشرين كالجوز, واللوز فهو للبائع أيضا بنفس الظهور لأن قشره لا يزول عنه غالبا إلا بعد جزازه, فأشبه الضرب الذي قبله ولأن قشر اللوز يؤكل معه فأشبه التين وقال القاضي: إن تشقق القشر الأعلى فهو للبائع وإن لم يتشقق فهو للمشتري, كالطلع ولو اعتبر هذا لم يكن للبائع إلا نادرا ولا يصح قياسه على الطلع لأن الطلع لا بد من تشققه وتشققه من مصلحته, وهذا بخلافه فإنه لا يتشقق على شجره وتشققه قبل كماله يفسده الخامس, ما يظهر نوره ثم يتناثر فتظهر الثمرة, كالتفاح والمشمش والإجاص, والخوخ فإذا تفتح نوره وظهرت الثمرة فيه فهي للبائع, وإن لم تظهر فهي للمشتري وقيل: ما تناثر نوره فهو للبائع, وما لا فهو للمشتري لأن الثمرة لا تظهر حتى يتناثر النور وقال القاضي: يحتمل أن تكون للبائع بظهور نوره لأن الطلع إذا تشقق كان كنور الشجر فإن العقد التي في جوف الطلع ليست عين الثمرة وإنما هي أوعية لها, تكبر الثمرة في جوفها وتظهر فتصير العقدة في طرفها, وهي قمع الرطبة وقول الخرقي يقتضي ما قلناه لأنه علق استحقاق البائع لها بكون الثمر باديا لا يبدو نوره ولا يبدو الثمر حتى يتفتح نوره وقد يبدو إذا كبر قبل أن ينثر النور فتعلق ذلك بظهوره والعنب بمنزلة ما له نور لأنه يبدو في قطوفه شيء صغار كحب الدخن ثم يتفتح, ويتناثر كتناثر النور فيكون من هذا القسم والله أعلم وهذا يفارق الطلع لأن الذي في الطلع عين الثمرة ينمو ويتغير والنور في هذه الثمار يتساقط, ويذهب وتظهر الثمرة ومذهب الشافعي في هذا الفصل جميعه كما ذكرنا ها هنا أو قريبا منه, وبينهما اختلاف على حسب ما ذكرنا من الخلاف أو قريبا منه.
فصل: فأما الأغصان والورق, وسائر أجزاء الشجر فهو للمشتري بكل حال لأنه من أجزائها خلق لمصلحتها فهو كأجزاء سائر المبيع ويحتمل أن يكون ورق التوت الذي يقصد أخذه لتربية دود القز إن تفتح, فهو للبائع وإلا فهو للمشتري لأنه بمنزلة الجنبذ الذي يتفتح فيظهر نوره من الورد وغيره, وهذا في المواضع التي عادتهم أخذ الورق وإن لم تكن عادتهم ذلك فهو للمشتري, كسائر ورق الشجر والله أعلم.
فصل: وإذا كانت الثمرة للبائع مبقاة في شجر المشتري فاحتاجت إلى سقي لم يكن للمشتري منعه منه لأنه يبقى به, فلزمه تمكينه منه كتركه على الأصول وإن أراد سقيها من غير حاجة, فللمشتري منعه منه لأنه بسقيه يتضمن التصرف في ملك غيره ولأن الأصل منعه من التصرف في ملك غيره وإنما أباحته الحاجة, فإن لم توجد الحاجة يبقى على أصل المنع فإن احتاجت إلى السقي وفيه ضرر على الشجر, أو احتاج الشجر إلى سقي يضر بالثمرة فقال القاضي: أيهما طلب السقي لحاجته أجبر الآخر عليه لأنه دخل في العقد على ذلك فإن المشتري اقتضى عقده تبقية الثمرة, والسقي من تبقيتها والعقد اقتضى تمكين المشتري من حفظ الأصول وتسليمها, فلزم كل واحد منهما ما أوجبه العقد للآخر وإن أضر به وإنما له أن يسقي بقدر حاجته فإن اختلفا في قدر الحاجة, رجع إلى أهل الخبرة وأيهما التمس السقي فالمؤنة عليه لأنه لحاجته.
فصل: فإن خيف على الأصول الضرر بتبقية الثمرة عليها لعطش أو غيره والضرر يسير لم يجبر على قطعها لأنها مستحقة للبقاء, فلم يجبر على إزالتها لدفع ضرر يسير عن غيره وإن كان كثيرا فخيف على الأصول الجفاف أو نقص حملها ففيه وجهان أحدهما, لا يجبر أيضا لذلك الثاني يجبر على القطع لأن الضرر يلحقها وإن لم تقطع والأصول تسلم بالقطع, فكان القطع أولى وللشافعي قولان كالوجهين.
فصل: وإذا باع شجرا فيه ثمر للبائع فحدثت ثمرة أخرى أو اشترى ثمرة في شجرها, فحدثت ثمرة أخرى فإن تميزتا فلكل واحد ثمرته, وإن لم تتميز إحداهما من الأخرى فهما شريكان فيهما كل واحد بقدر ثمرته فإن لم يعلم قدر كل واحدة منهما, اصطلحا عليها ولا يبطل العقد لأن المبيع لم يتعذر تسليمه وإنما اختلط بغيره, فهو كما لو اشترى طعاما في مكان فانثال عليه طعام للبائع أو انثال هو على طعام للبائع, ولم يعرف قدر كل واحد منهما ويفارق هذا ما لو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها فتركها حتى بدا صلاحها أو اشترى عرية, فتركها حتى أثمرت فإن العقد يبطل في إحدى الروايتين لكون اختلاط المبيع بغيره حصل بارتكاب النهي وكونه يتخذ حيلة على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها, أو شراء الرطب بالتمر من غير كيل من غير حاجة إلى أكله رطبا وها هنا ما ارتكب نهيا ولا يجعل هذا طريقا إلى فعل المحرم وجمع أبو الخطاب بينهما, فقال: في الجميع روايتان إحداهما يبطل العقد والأخرى لا يبطل وقال القاضي: إن كانت الثمرة للبائع, فحدثت ثمرة أخرى قيل لكل واحد: اسمح بنصيبك لصاحبك فإن فعله أحدهما أقررنا العقد وأجبرنا الآخر على القبول لأنه يزول به النزاع وإن امتنعا, فسخنا العقد لتعذر وصول كل واحد منهما إلى قدر حقه وإن اشترى ثمرة فحدثت ثمرة أخرى لم نقل للمشتري: اسمح بنصيبك لأن الثمرة كل المبيع, فلا يؤمر بتخليته كله ونقول للبائع ذلك فإن سمح بنصيبه للمشتري أجبرناه على القبول, وإلا فسخ البيع بينهما وهذا مذهب الشافعي قال ابن عقيل: لعل هذا قول لبعض أصحابنا فإنني لم أجده معزيا إلى أحمد والظاهر أن هذا اختيار القاضي, وليس بمذهب لأحمد ولو اشترى حنطة فانثالت عليها أخرى لم ينفسخ البيع, والحكم فيه كالحكم في الثمرة تحدث معها أخرى والله أعلم.
فصل: إذا باع الأرض وفيها زرع لا يحصد إلا مرة كالحنطة والشعير, والقطاني وما المقصود منه مستتر كالجزر, والفجل والبصل والثوم, وأشباهها فاشترطه للمشتري فهو له, قصيلا كان أو ذا حب مستترا أو ظاهرا معلوما أو مجهولا لكونه دخل في البيع تبعا للأرض, فلم يضر جهله وعدم كماله كما لو اشترى شجرة فاشترط ثمرتها بعد تأبيرها وإن أطلق البيع, فهو للبائع لأنه مودع في الأرض فهو كالكنز والقماش ولأنه يراد للنقل, فأشبه الثمرة المؤبرة وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم فيه مخالفا ويكون للبائع مبقى في الأرض إلى حين الحصاد بغير أجرة لأن المنفعة حصلت مستثناة له وعليه حصاده في أول وقت حصاده وإن كان بقاؤه أنفع له, كقولنا في الثمرة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: عليه نقله عقيب البيع كقوله في الثمرة وقد مضى الكلام فيها وهكذا قال الحكم في القصب الفارسي لأن له وقتا يقطع فيه إلا أن العروق تكون للمشتري لأنها تترك في الأرض للبقاء فيها والقصب نفسه كالثمرة, وإن لم يظهر منه شيء فهو للمشتري وأما قصب السكر فإنه يؤخذ مرة واحدة فهو كالزرع فإن حصده قبل أوان الحصاد لينتفع بالأرض في غيره, لم يملك الانتفاع بها لأن منفعتها إنما حصلت مستثناة عن مقتضى العقد ضرورة بقاء الزرع فتقدر ببقائه, كالثمرة على الشجرة وكما لو كان المبيع طعاما لا ينقل مثله عادة إلا في شهر لم يكلف إلا ذلك, فإن تكلف نقله في يوم واحد لينتفع بالدار في غيره لم يجز, كذلك ها هنا ومتى حصد الزرع وبقيت له عروق تستضر بها الأرض كعروق القطن والذرة, فعلى البائع إزالتها وإن تحفرت الأرض فعليه تسوية حفرها لأنه استصلاح لملكه فصار كما لو باع دارا فيها خابية كبيرة, لا تخرج إلا بهدم باب الدار فهدمها كان عليه الضمان, وكذلك كل نقص دخل على ملك شخص لاستصلاح ملك الآخر من غير إذن الأول ولا فعل صدر عنه النقص واستند إليه, كان الضمان على مدخل النقص.
فصل: وإن باع أرضا وفيها زرع يجز مرة بعد أخرى فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع, سواء كان مما يبقى سنة كالهندبا والبقول, أو أكثر كالرطبة وعلى البائع قطع ما يستحقه منه في الحال, فإنه ليس لذلك حد ينتهي إليه ولأن ذلك يطول ويخرج غير ما كان ظاهرا والزيادة من الأصول التي هي ملك للمشتري وكذلك إن كان الزرع مما تكرر ثمرته, كالقثاء والخيار والبطيخ, والباذنجان وشبهه فهو للمشتري, والثمرة الظاهرة عند البيع للبائع لأن ذلك مما تتكرر الثمرة فيه فأشبه الشجر ولو كان مما تؤخذ زهرته وتبقى عروقه في الأرض, كالبنفسج والنرجس فالأصول للمشتري لأنه جعل في الأرض للبقاء فيها, فهو كالرطبة وكذلك أوراقه وغصونه لأنه لا يقصد أخذه فهو كورق الشجر وأغصانه, وأما زهرته فإن كانت قد تفتحت فهي للبائع, وإلا فهي للمشتري على ما ذكرناه فيما مضى واختار ابن عقيل في هذا كله أن البائع إن قال: بعتك هذه الأرض بحقوقها دخل فيها وإن لم يقل: بحقوقها فهل يدخل؟ على وجهين, كالشجر.
فصل: وإذا اشترى أرضا فيها بذر فاستحق المشتري أصله كالرطبة, والنعناع والبقول التي تجز مرة بعد أخرى فهو له لأنه ترك في الأرض للتبقية, فهو كأصول الشجر ولأنه لو كان ظاهرا كان له فالمستتر أولى سواء علقت عروقه في الأرض, أو لا فإن كان بذرا لما يستحقه البائع فهو له إلا أن يشترطه المبتاع, فيكون له وقال الشافعي: البيع باطل لأن البذر مجهول وهو مقصود ولنا أن البذر يدخل تبعا في البيع, فلم يضر جهله كما لو اشترى عبدا فاشترط ماله ويجوز في التابع من الغرر ما لا يجوز في المتبوع, كبيع اللبن في الضرع مع الشاة والحمل مع الأم والسقوف في الدار, وأساسات الحيطان تدخل تبعا في البيع ولا تضر جهالتها, ولا تجوز مفردة وإن لم يعلم المشتري بذلك فله الخيار في فسخ البيع وإمضائه لأنه يفوت عليه منفعة الأرض عاما فإن رضي البائع بتركه للمشتري أو قال: أنا أحوله وأمكنه ذلك في زمن يسير لا يضر بمنافع الأرض فلا خيار للمشتري لأنه أزال العيب بالنقل, أو زاده خيرا بالترك فلزمه قبوله لأن فيه تصحيحا للعقد وهذا مذهب الشافعي وكذلك لو اشترى نخيلا فيه طلع, فبان أنه مؤبر فله الخيار لأنه يفوت المشتري ثمرة عامه ويضر بقاؤها بنخله فإن تركها له البائع, لم يكن له خيار فإن قال: أنا أقطعها الآن لم يسقط خياره بذلك لأن ثمرة العام تفوت سواء قطعها أو تركها وإن اشترى أرضا فيها زرع للبائع, أو شجرا فيه ثمر للبائع والمشتري جاهل بذلك يظن أن الزرع والثمر له, فله الخيار أيضا كما لو جهل وجوده لأنه إنما رضي ببذل ماله عوضا عن الأرض والشجر بما فيهما فإذا بان خلاف ذلك ينبغي أن يثبت له الخيار, كالمشتري للمعيب يظنه صحيحا وإن اختلفا في جهله لذلك فالقول قول المشتري إذا كان ممن يجهل ذلك لكونه عاميا, فإن هذا مما يجهله كثير من الناس وإن كان ممن يعلم ذلك لم يقبل قوله لأن الظاهر أنه لا يجهله.
فصل: إذا باعه أرضًا بحقوقها دخل ما فيها من غراس وبناء في البيع وكذلك إذا قال: رهنتك هذه الأرض بحقوقها دخل في الرهن غراسها وبناؤها وإن لم يقل: بحقوقها فهل يدخل الغراس والبناء فيهما؟ على وجهين ونص الشافعي على أنهما يدخلان في البيع دون الرهن, واختلف أصحابه في ذلك فمنهم من قال: فيهما جميعا قولان ومنهم من فرق بينهما بكون البيع أقوى فيستتبع البناء والشجر بخلاف الرهن, ومنهم من قال: إنهما سواء لأن ما تبع في البيع تبع في الرهن كالطرق والمنافع وفيهما جميعا وجهان أحدهما, يدخل البناء والشجر لأنهما من حقوق الأرض ولذلك يدخلان إذا قال: بحقوقها وما كان من حقوقها يدخل فيها بالإطلاق كطرقها ومنافعها والثاني, لا يدخلان لأنهما ليسا من حقوق الأرض فلا يدخلان في بيعها ورهنها كالثمرة المؤبرة ومن نصر الأول فرق بينهما بكون الثمرة تراد للنقل, وليست من حقوقها بخلاف الشجر والبناء فإن قال: بعتك هذا البستان دخل فيه الشجر لأن البستان اسم للأرض والشجر, والحائط ولذلك لا تسمى الأرض المكشوفة بستانا قال ابن عقيل: ويدخل فيه البناء لأن ما دخل فيه الشجر دخل فيه البناء ويحتمل أن لا يدخل.
فصل: وإن باعه شجرا لم تدخل الأرض في البيع ذكره أبو إسحاق بن شاقلا لأن الاسم لا يتناولها, ولا هي تبع للمبيع.
فصل: وإن قال: بعتك هذه القرية فإن كانت في اللفظ قرينة مثل المساومة على أرضها أو ذكر الزرع والغرس فيها, وذكر حدودها أو بذل ثمن لا يصلح إلا فيها وفي أرضها دخل في البيع لأن الاسم يجوز أن يطلق عليها مع أرضها, والقرينة صارفة إليه ودالة عليه فأشبه ما لو صرح به وإن لم يكن قرينة تصرف إلى ذلك, فالبيع يتناول البيوت والحصن الدائر عليها فإن القرية اسم لذلك, وهو مأخوذ من الجمع لأنه يجمع الناس وسواء قال: بحقوقها أو لم يقل وأما الغراس بين بنيانها فحكمه حكم الغراس في الأرض, إن قال: بحقوقها دخل وإن لم يقل فعلى وجهين.
فصل: وما كان في الأرض من الحجارة المخلوقة فيها, أو مبني فيها كأساسات الحيطان المتهدمة فهي للمشتري بالبيع لأنه من أجزائها فهي كحيطانها, وترابها والمعادن الجامدة فيها والآجر كالحجارة في هذا وإذا كان المشتري عالما بذلك, فلا خيار له وإن لم يكن عالما به وكان ذلك يضر بالأرض وينقصها, كالصخر المضر بعروق الشجر فهو عيب وللمشتري الخيار بين الفسخ وأخذ الثمن, أو الإمساك وأخذ أرش العيب كما في سائر المبيع فأما إن كانت الحجارة أو الآجر مودعا فيها للنقل عنها فهي للبائع, كالكنز وعليه نقلها وتسوية الأرض إذا نقلها, وإصلاح الحفر لأنه ضرر لحق لاستصلاح ملكه فكان عليه إزالته وإن كان قلعها يضر بالأرض أو تتطاول مدته, ولم يكن المشتري عالما فله الخيار كما ذكرنا لأنه عيب وإن لم يكن في نقلها ضرر ويمكن نقلها في أيام يسيرة, كالثلاثة فما دون فلا خيار له وله مطالبة البائع بنقلها في الحال لأنه لا عرف في تبقيتها, بخلاف الزرع وإن كان عالما بالحال فلا خيار له ولا أجرة في الزمان الذي نقلت فيه لأنه علم بذلك ورضي, فأشبه ما لو اشترى أرضا فيها زرع وإن لم يعلم واختار إمساك المبيع فهل له أجرة لزمان النقل؟ على وجهين أحدهما, له ذلك لأن المنافع مضمونة على المتلف فكان عليه بدلها كالأجزاء والثاني, لا يجب لأنه لما رضي بإمساك المبيع رضي بتلف المنفعة في زمان النقل فإن لم يختر الإمساك فقال البائع: أنا أدع ذلك لك وكان مما لا ضرر في بقائه, لم يكن له خيار لأن الضرر زال عنه.
|