الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر **
وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به في آخره فيكون الآخر دليلا على الأول. وهو ينقسم إلى ثلاثة أوجه: الوجه الأول أن يأتي على طريق الاستفهام فتذكر الجملة الأولى دون الثانية كقوله تعالى: " الوجه الثاني يرد على حد النفي والإثبات كقوله تعالى: " من بعد وقاتلوا " تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل ويدل على المحذوف قوله: " الوجه الثالث أن يرد على غير هذين الوجهين فلا يكون استفهاما ولا نفيا وإثباتا وذلك كقول أبي تمام يتجنب الآثام ثم يخافها فكأنما حسناته آثام وهذا البيت تختلف نسخ ديوانه في إثباته فمنها ما يجيء فيه: يتجنب الأيام خيفة غيها فكأنما حسناته آثام وليس بشيء لأن المعنى لا يصح به وكنت سئلت عن معناه وقيل: كيف ينطبق عجز البيت على صدره وإذا تجنبت الآثام وخافها فكيف تكون حسناته آثاما فأفكرت فيه وأنعمت نظري فسنح لي في القرآن الكريم آية مثله وهي قوله تعالى: " وفي صدر البيت إضمار فسر في عجزه وتقديره أنه يتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنة ثم يخاف تلك الحسنة فكأنما حسناته آثام وهو على طباق الآية سواء. ومن الإضمار على شريطة التفسير قال أبي النواس: سُنة العشاق واحدة فإذا أحببت فاستكن فحذف لفظ الاستكانة من الأول وذكره في الثاني: أي سنة العشاق واحدة وهي الاستكانة فإذا أحببت فاستكن ومن الناس من يقول: " فإذا أحببت فستنن " وهذا لا معنى له لأنه إذا لم يبين سنة العشاق ما هي فبأي شيء يستن المستن منها لكنه ذكر السنة في صدر البيت من غير بيان ثم بينها في عجزه.
ولا إضمار على شريطة التفسير ولا استئناف فأما ما حذف فيه من الجمل المفيدة فكقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: " سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. وقال الملك ائتوني به " قد حذف من هذا الكلام جملة مفيدة تقديرها: فرجع الرسول إليهم فأخبرهم بمقالة يوسف فعجبوا لها أو فصدقوه عليها وقال الملك ائتوني به والمحذوف إذا كان كذلك دل عليه دلالة ظاهرة لأنه إذا ثبتت حاشيتا الكلام وحذف وسطه ظهر المحذوف دلالة الحاشيتين عليه. وكذلك ورد قوله تعالى في هذه السورة أيضا: " بصيرا , قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين.قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصرا إن شاء الله آمنين " قد حذف أيضاً من هذا الكلام جملة مفيدة تقديرها: ثم إنهم تجهزوا وساروا إلى مصر فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه. وقد ورد هذا الضرب في القرآن الكريم كثيرا كقوله تعالى في سورة القصص: " المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها " في هذا محذوف وهو جواب الاستفهام لأنها لما قالت " يكفلونه لكم " احتاج إلى جواب منتظم بما بعده من رده إلى أمه والجواب: فقالوا نعم فدلتهم على امرأة فجيء بها وهي أمه ولم يعلموا بمكانها فأرضعته وهذه الجملة الثانية - أعني قوله تعالى: " ومما يجري على هذا المنهج قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام وقصة الهدهد في إرساله بالكتاب إلى بلقيس " اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون. قالت يأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم " وفي هذا محذوف تقديره: فأخذ الكتاب وذهب به فلما ألقاه إلى المرأة وقرأته قالت يا أيها الملأ. ومن حذف الجمل المفيدة ما يعسر تقدير المحذوف منه بخلاف ما تقدم ألا ترى أن الآيات المذكورة كلها إذا تأملها المتأمل وجد معانيها متصلة من غير تقدير للمحذوفات التي حذفت منها ثم إذا قدر تلك المحذوفات سهل تقديرها ببديهة النظر والذي أذكره الآن ليس كذلك بل إذا تأمله المتأمل وجده غير متصل المعنى وإذا أراد أن يقدر المحذوف عسر عليه. فمما جاء منه قوله تعالى: " في عيونهم بذكر قصة داود الذي كان نبيا من الأنبياء وقد آتاه الله ما آتاه من النبوة والملك العظيم ثم لما زل زلة قوبل بكذا وكذا فما الظن بكم أنتم مع كفركم الوجه الآخر: أنه قال: " وأما ما ورد من هذا الضرب في حذف الجمل التي ليست بمفيدة فنحو قوله تعالى: " قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا " هذا الكلام قد حذف منه جملة دل عليها صدره وهو البشرى بالغلام وتقديرها ولما جاءه الغلام ونشأ وترعرع قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة فالجملة المحذوفة ليس من الجمل المفيدة. على هذا النهج ورد قوله تعالى: " الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي " وقد حذف من هذا الكلام جملة إلا أنها غير مفيدة وتقديرها: فلما رجع موسى ورآهم على تلك الحالة من عبادة العجل قال لأخيه هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني. وكذلك ورد قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام من سورة النمل " قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل الله ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون " وفي هذا محذوف وتقديره: فلما جاء به قال نكروا لها عرشها لأن تنكيره لم يكن إلا بعد أن جيء به ومما ورد على ذلك شعرا قول أبي الطيب المتنبي: لا أبغض العيس لكني وقيت بها قلبي من الهم أو جسمي من السقم وهذا البيت فيه محذوف تقديره: لا أبغض العيس لإنضائي إياها في الأسفار ولكني وقيت بها كذا وكذا فالثاني دليل على حذف الأول. وهذا موضع يحتاج فيه استخراجه واستخراج أمثاله إلى فكرة وتدقيق نظر. ومما يتصل بهذا الضرب حذف ما يجيء بعد أفعل كقولنا " الله أكبر " فإن هذا يحتاج إلى تمام أي أكبر من كل كبير أو أكبر من كل شيء يتوهم كبيرا أو ما جرى هذا المجرى ومثله يرد قولهم: زيد أحسن وجها وأكرم خلقا تقديره أحسن وجها من غيره وأكرم خلقا من غيره أو ما يسد هذا المسد من الكلام. وعليه ورد قول البحتري: الله أعطاك المحبة في الورى وحباك بالفضل الذي لا ينكر ولأنت أملأ في العيون لديهم وأجل قدرا في الصدور وأكبر أي: أنت أملأ في العيون من غيرك.
أما القسم الثاني المشتمل على حذف المفردات فإنه يتصرف على أربعة عشر ضرباً: والاكتفاء في الدلالة عليه بذكر الفعل كقول العرب: أرسلت وهم يريدون جاء المطر ولا يذكرون السماء ومنه قول حاتم: أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر يريد النفس ولم يجر لها ذكر وعلى هذا ورد قوله تعالى: " ولم يجر لها ذكر. وقد نص عثمان بن جني رحمه الله تعالى على عدم الجواز في حذف الفاعل وهذه الآية وهذا البيت الشعري وهذه الكلمة الواردة عن العرب على خلاف ما ذهب إليه إلا أن حذف الفاعل لا يجوز على الإطلاق بل يجوز فيما هذا سبيله وذاك أنه لا يكون إلا فيما لا يكون إلا فيما دل الكلام عليه ألا ترى أن التي تبلغ التراقي إنما هي النفس وذلك عند الموت فعلم حينئذ أن النفس هي المرادة وإن كان الكلام خاليا عن ذكرها وكذلك قول حاتم " حشرجت " فإن الحشرجة إنما تكون عند الموت. وأما قول العرب " أرسلت " وهم يريدون أرسلت السماء فإن هذا يقولونه نظرا إلى الحال وقد شاع فيما بينهم أن هذه كلمة تقال عند مجيء المطر ولم ترد في شيء من أشعارهم ولا في كلامهم المنثور وإنما يقولها بعضهم لبعض إذا جاء المطر فالفرق بينها وبين " حشرجت " وبين " حشرجت وأنها هي التي بلغت التراقي وأما " أرسلت " فلولا شاهد الحال وإلا لم يجز أن تكون دالة على مجيء المطر ولو قيل في معرض الاستسقاء: إنا خرجنا نسأل الله فلم نزل حتى أرسلت لفهم من ذلك أن التي أرسلت هي السماء ولابد في الكلام من دليل على المحذوف وإلا كان لغوا لا يلتفت إليه. اعلم أن حذف الفعل ينقسم قسمين: أحدهما يظهر بدلالة المفعول عليه كقولهم في المثل: أهلك والليل فنصب " أهلك والليل " يدل على محذوف ناصب تقديره: الحق أهلك وبادر الليل وهذا مثل يضرب في التحذير وعليه ورد قوله تعالى: " تزوجت قال: ثيبا فقال له: " فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك " يريد فهلا تزوجت جارية فحذف الفعل لدلالة الكلام عليه. ومما ورد منه شعرا قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته التي يمتدح بها عضد الدولة أبا شجاع بن بويه ومطلعها: فدى لك من يُّقصر عن مداكا وسأذكر الموضع الذي حذف منه الفعل وجوابه لتعلق الأبيات بعضها ببعض وهي من محاسن ما يؤتى به في معنى الوداع ولم يأت لغيره مثلها وهي: إذا التوديع أعرض قال قلبي عليك الصمت لا صاحبت فاكا ولولا أن أكثر ما تمنى معاودة لقلت ولا مناكا قد استشفيت من داء بداء وأقتل ما أعلك ما شفاكا فأكتم منك نجوانا وأخفي هموما قد أطلت لها العراكا وكم دون الثوية من حزين يقول له قدومي: ذا بذاكا ومن عذب الرضاب إذا أنخنا يقبل رحل تروك والوراكا يحرم أن يمس الطيب بعدي وقد عبق العبير به وصاكا يحدث مقلتيه النوم عني فليت النوم حدث عن نداكا وما أرضى لمقلته بحلم إذا انتبهت توهمه ابتشاكا ولا أرضى إلا بأن يصغي وأحكي فليتك لا يتيمه هواكا فقوله " ولا مناكا " فيه محذوف تقديره: ولا صاحبت مناكا وكذلك قوله " ولا إلا بأن يصغي وأحكي " فإن فيه محذوفا تقديره: ولا أرضى إلا بأن يصغي وأحكي. أما القسم الأخر فإنه لا يظهر فيه قسم الفعل لأنه لا يكون هناك منصوب يدل عليه وإنما يظهر بالنظر إلى ملاءمة الكلام. فمما جاء منه قوله تعالى " " وقد استعمل هذا القرآن الكريم في غير موضع كقوله تعالى: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا " فقوله " وكذلك ورد قوله تعالى: " ليس لك به علم فلا تطعهما " فقوله " جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما. ومن هذا الضرب إيقاع الفعل على شيئين وهو لأحدهما كقوله تعالى: " وشركاءكم " وهو لأمركم وحده وإنما المراد أجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم لأن معنى أجمعوا من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه وقد قرأ أبي رضي الله عنه: فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم " وهذا دليل على ما أشرت إليه وكذلك هو مثبت في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ومن حذف الفعل باب يسمى باب إقامة المصدر مقام الفعل وإنما يفعل ذلك لضرب من المبالغة والتوكيد كقوله تعالى: " فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وفي ذلك اختصار مع إعطاء معنى التوكيد المصدري. وأما حذف جواب الفعل فإنه لا يكون في الأمر المحتوم كقوله تعالى: فجزم يخوضوا ويلعبوا لأنهما جواب أمر " فذرهم " وحذف الجواب في هذا لا يدخل في باب الإيجاز لأنا إذا قلنا ذرهم أي اتركهم لا يحتاج ذلك إلى جواب وكذلك ما يجري مجراه وإنما يكون الجواب بالفاء في ماض كقولنا قلت له اذهب فذهب وحينئذ يظهر الجواب المحذوف كقوله تعالى: " الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا " ألا ترى كيف حذف جواب الأمر في هذه الآية فإن تقديره فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناه تدميرا فذكر حاشيتي القصة أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة بطولها أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم. ومن هذا الضرب قوله تعالى: " ذلك ما جاء بعده من قوله " منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان " الآية فجواب الأمر من هذا الموضع محذوف وتقديره: فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال له: يوسف أيها الصديق وكذلك قوله تعالى: " ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم. راودتن يوسف عن نفسه " الآية ففي هذا الكلام حذف واختصار استغنى عنه بدلالة الحال عليه وتقديره: فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف فدعا الملك بالنسوة وقال لهن: ما خطبكن. وهكذا ورد قوله تعالى: " وقد حذف جواب الأمر ههنا وتقديره: فأتوه به فلما كلمه وفي سورة يوسف عليه السلام محذوفات كثيرة من أولها إلى آخرها. فانظر أيها المتأمل إلى هذه المحذوفات المذكورة ههنا التي كأنها لم تحذف من هذا الكلام لظهور معناها وبيانه ودلالة الحال عليه وعلى النحو من ذلك ينبغي أن تكون محذوفات الكلام
وذلك مما نحن بصدده أخص فإن اللطائف فيه أكثر وأعجب كقولنا فلان يحل ويعقد ويبرم وينقض ويضر وينفع والأصل في ذلك على إثبات المعنى المقصود في نفسك للشيء على وعلى هذا جاء قوله تعالى: " ومن بديع قوله عزوجل: " امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاع وأبونا شيخ كبير. لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " فإن في هاتين الآيتين قد حذف المفعول به في أربعة أماكن إذ المعنى وجد أمة من الناس يسقون مواشيهم وامرأتين تذودان مواشيهما وقالتا لا نسقي مواشينا فسقى لهما مواشيهما لأن الغرض أن يعلم أنه كان من الناس سقي ومن الامرأتين ذود وأنهما قالتا لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى عليه السلام بعد ذلك السقي فأما كون المسقي غنما وإبلا أو غير ذلك فخارج عن الغرض. وقد ورد في الشعر من هذا النوع قول البعيث بن حريث من أبيات الحماسة: دعاني يزيد بعد ما ساء ظنه وعبس وقد كانا على جد منكب وقد علما أن العشيرة كلها سوى محضري من حاضرين وغيب فالمفعول الثاني من " علما " محذوف لأن قوله " أن العشيرة " في موضع مفعول علما الأول وتقدير الكلام قد علما أن العشيرة سوى محضري من حاضرين وغيب لا غناء عندهم أو سواء حضورهم وغيبتهم أو ما جرى هذا المجرى. ومن هذا الضرب أيضاً حذف المفعول الوارد بعد المشيئة والإرادة كقوله تعالى: " لذهب بسمعهم وأبصارهم " فمفعول شاء ههنا محذوف وتقديره ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها. وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى: " ومما جاء على مثال ذلك شعرا قول البحتري: لو شئت لم تفسد سماحة حاتم كرما ولم تهدم مآثر خالد الأصل في ذلك: لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها فحذف ذلك من الأول استغناء بدلالته عليه في الثاني. وقد تقدم أن من الواجب في حكم البلاغة ألا تنطق بالمحذوف ولا تظهره إلى اللفظ ولو أظهرت لصرت إلى كلام غث. ومجيء المشيئة بعد " لو " وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معداة إلى شيء كثير شائع بين البلغاء ولقد تكاثر هذا الحذف في " شاء " و " أراد " حتى إنهم لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كقوله تعالى: " و على هذا الأسلوب جاء قول الشاعر: فلو كان على حد قوله تعالى " لبكيت دما ولكنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى هذه لأنه أليق في هذا الموضع وسبب ذلك أنه كان بدعا عجيبا أن يشاء الإنسان أن يبكي دما فلما كان مفعول المشيئة مما يستعظم ويستغرب كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر.
وهو حذف المضاف والمضاف إليه وإقامة كل واحد منهما مقام الآخر وذلك باب عريض طويل شائع في كلام العرب وإن كان أبو الحسن الأخفش رحمه الله لا يرى القياس عليه. فأما حذف المضاف فكقوله تعالى: " ينسلون " فحذف المضاف إلى يأجوج ومأجوج وهو سدهما كما حذف المضاف إلى القرية في قوله تعالى " ومن ذلك أيضاً قوله عزوجل: " وقد حذف المضاف مكررا في قوله تعالى: " ومما جاء منه شعرا قول بعضهم من شعراء الحماسة: إذا لاقيت قومي فاسأليهم كفى قوما بصاحبهم خبيرا هل اعفو عن أصول الحق فيهم إذا عسرت وأقتطع الصدورا أراد أنه يقتطع ما في الصدور من الضغائن والأوغام: أي يزيل ذلك بإحسانه من عفو وغيره فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. أما حذف المضاف إليه فإنه قليل الاستعمال " ومن بعده. وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه كقوله تعالى: "
وكذلك ورد قول جرير: إذا أخذت قيس عليك وخندف بأقطارها لم تدر من أين تسرح وهو حذف الموصوف والصفة وإقامة كل منهما مقام الأخر ولا يكون اطراده في كل موضع وأكثره يجيء في الشعر وإنما كانت كثرته في الشعر دون الكلام المنثور لامتناع القياس في اطراده. فمما جاء منه في الشعر قول البحتري في أبيات في صفة إيوان كسرى فقال في ذكر التصاوير التي في الإيوان وذلك أن الفرس كانت تحارب الروم فصوروا صورة مدينة أنطاكية في الإيوان وحرب الروم والفرس عليها فمما ذكره في ذلك قوله: وإذا ما رأيت صورة أنط - كية ارتعت بين روم وفرس والمنايا موائل وأنوشر - وان يزجي الصفوف تحت الدرفس في اخضرار من اللباس على أص - - فر يختال في صبيغة ورس فقوله " على اصفرار " أي: على فرس أصفر وهذا مفهوم من قرينة الحال لأنه لما قال " على اصفرار " علم بذلك أنه أراد فرسا أصفر. والصفة تأتي في الكلام على ضربين: إما للتأكيد والتخصيص وإما للمدح والذم وكلاهما من مقامات الإسهاب والتطويل لا من مقامات الإيجاز والاختصار وإذا كان الأمر كذلك لم يلق الحذف به هذا مع ما ينضاف إليه من الالتباس وضد البيان ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بطويل لم يبن من هذا اللفظ الممرور به إنسان هو أم رمح أم ثوب أم غير ذلك وإذا كان الأمر على هذا فحذف الموصوف إنما هو شيء قام الدليل عليه أو شهدت به وإذا استبهم كان حذفه غير لائق. ومما يؤكد عندك ضعف حذفه أنك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف موصوفه وذاك أن تكون الصفة جملة نحو: مررت برجل قام أبوه ولقيت غلاما وجهه حسن ألا تراك لو قلت: مررت بقام أبوه ولقيت وجهه حسن لم يجز. وقد ورد حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير موضع من القرآن الكريم كقوله تعالى: " ولقد تأملت حذف الموصوف في مواضع كثيرة فوجدت أكثر وقوعه في النداء وفي المصدر: أما النداء : فكقولهم : يا أيها الظريف تقديره: يا أيها الرجل الظريف وعليه ورد قوله تعالى : " وقد أقيمت الصفة الشبيهة بالجملة مقام الموصوف المبتدأ في قوله تعالى: " وأما حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها فإنه أقل وجودا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ولا يكاد يقع في الكلام إلا نادرا لمكان استبهامه. فمن ذلك ما حكاه سيبويه رحمه الله من قولهم: سير عليه ليل وهم يريدون ليل طويل وإنما حذفت الصفة في هذا الموضع لما دل من الحال عليه وذاك أنه يحسن في كلام القائل لذلك من التصريح والتطويح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله: طويل وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته وهو أن يكون في مدح إنسان والثناء عليه فتقول: " كان والله رجلا " أي رجلا فاضلا أو شجاعا أو كريما أو ما جرى هذا المجرى من الصفات وكذلك تقول: " سألناه فوجدناه إنسانا " أي إنسانا سمحا أو جوادا أو ما أشبهه فعلى هذا ونحوه تحذف الصفة فأما إن عريت عن الدلالة عليها من اللفظ أو الحال فإن حذفها لا يجوز. وقد تأملت حذفها فوجدته لا يسوغ إلا في صفة تقدمها ما يدل عليها أو تأخر عنها أو فهم ذلك من شيء خارج عنها. أما الصفة التي تقدمها ما يدل عليها فقوله تعالى: " كل سفينة صحيحة غصبا ويدل على المحذوف قوله: " يخرجها عن كونها سفينة وإنما المأخوذ هو الصحيح دون المعيب فحذفت الصفة ههنا لأنه تقدمها ما يدل عليها. وأما التي تأخر عنها ما يدل عليها فقول بعض شعراء الحماسة: كل امرئ ستئيم من - - ه العرس أو منها يئيم فإنه أراد كل امريء متزوج إذ دل عليه ما بعده من قوله: " ستئيم منه أو منها يئيم " إذ لا تئيم هي إلا من زوج ولا يئيم هو إلا من زوجة فجاء بعد الموصوف ما دل عليه ولولا ذلك لما صح معنى البيت إذ ليس كل امريء يئيم من عرس إلا إذا كان متزوجا. وأما ما يفهم حذف الصفة فيه من شيء خارج عن الكلام فقول النبي )" لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " فإنه قد علم جواز صلاة جار المسجد في غير المسجد من غير هذا الحديث فعلم حينئذ أن المراد به الفضيلة والكمال وهذا شيء لم يعلم من نفس اللفظ وإنما علم من شيء خارج عنه.
فأما حذف الشرط فنحو قوله تعالى: " فاعبدون " فالفاء في قوله تعالى: " فاعبدون " جواب شرط محذوف لأن المعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها في غيرها ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص. ومن هذا الضرب قوله تعالى: " فدية. وكذلك قولهم: الناس مجزيون بأعمالهم: إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا: أي إن فعل المرء خيرا جزي خيرا وإن فعل شرا جزي شرا. وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى: " تقدير ذلك: فأفطر فعدة من أيام أخر ولهذا ذهب داود الظاهري إلى الأخذ بظاهر الآية ولم ينظر إلى حذف الشرط فأوجب القضاء على المريض والمسافر سواء أفطر أم لم يفطر. ومن حذف الشرط قوله تعالى: " وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون " اعلم أن هذه الفاء التي في قول الشاعر: " فقد جئنا خراسانا " وحقيقتها أنها في جواب شرط محذوف يدل عليه الكلام كأنه قال: إن صح ما قلتم إن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان وآن لنا أن نخلص وكذلك هذه الآية يقول: إن كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث: أي قد تبين بطلان قولكم. أما حذف جواب الشرط فكقوله تعالى: " شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " فإن جواب الشرط ههنا محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين ويدل على المحذوف قوله تعالى: "
فأما حذف القسم فنحو قولك " لأفعلن " أو غير ذلك من الأقسام المحلوف بها. وأما حذف جوابه فكقوله تعالى: " البلاد. " فجواب القسم ههنا محذوف تقديره: ليعذبن أو نحوه ويدل على ذلك ما بعده من قوله: ألم تر كيف فعل ربك بعاد " إلى قوله " ومما يتنظم في هذا السلك قوله تعالى: " فقال الكافرون هذا شيء عجيب " فإن معناه ق والقرآن المجيد لتبعثن والشاهد على ذلك ما بعده من ذكر البعث في قوله: " وقد ورد هذا الضرب في القرآن كثيرا كقوله تعالى في سورة النازعات: " والناشطات نشطا والسابحات سبحا. فالسابقات سبقا. فالمدبرات أمرا. يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة. " فجواب القسم ههنا محذوف تقديره: لتبعثن أو لتحشرن ويدل على ذلك ما أتى من بعده من ذكر القيامة في قوله " تتبعها الرادفة " وكذلك إلى آخر السورة.
وذاك من ألطف ضروب الإيجاز وأحسنها فأما حذف لو فكقوله تعالى " وكذلك ورد قوله تعالى: " ومما جاء من ذلك شعرا قول بعضهم في صدر الحماسة: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا إذا لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا فلو في البيت الثاني محذوفة لأنها في البيت الأول قد استوفت جوابها بقوله " لم تستبح إبلي " ثم حذفها في الثاني وتقدير حذفها إذا لو كنت منهم لقام بنصري معشر خشن وإذا لو كانوا قومي لقام بنصري معشر حسن. وأما حذف جواب " لو " فإنه كثير شائع وذلك كقولك: لو زرتنا لو ألممت بنا معناه لأحسنا إليك أو لأكرمناك أو ما جرى هذا المجرى. ومما ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: " جواب " لو " ههنا محذوف تقديره: لرأيت أمرا عظيما وحالا هائلة أو غير ذلك مما جرى مجراه. ومما جاء على نحو من هذا قوله عزوجل: " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون " تقديره لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت صعب شديد تحيط بهم النار من وراء وقدام ولا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون ناصرا ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر ومما يجري على هذا النهج قوله تعالى: " وهذا الضرب من المحذوفات أظهر الضروب المذكورة وأوضحها لعلم المخاطب به لأن قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام " ومما جاء منه شعرا قول أبي تمام في قصيدته البائية التي يمدح بها المعتصم عند فتحه مدينة عمورية: لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت له العواقب بين السمر والقضب فإن هذا محذوف الجواب تقديره: لو يعلم الكفر ذلك لأخذ أهبة الحذار أو غير ذلك. واعلم أن حذف هذا الجواب لا يسوغ في أي موضع كان من الكلام وإنما يحذف ما دل عليه مكان المحذوف ألا ترى أنه قد ورد في القرآن الكريم غير محذوف كقوله تعالى: " عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون. لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون " وهذا ليس كالذي تقدم من الآيات لأن تلك علم مكان المحذوف منها وهذه الآية لو حذف الجواب فيها لم يعلم مكانه لأنه يحتمل وجوها منها أن يقال: لما آمنوا أو لطلبوا ما وراء ذلك وقد تقدم القول في أول باب الإيجاز أنه لا بد من دلالة الكلام على المحذوف.
فمن ذلك قوله تعالى: " أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم " فجواب " لولا " ههنا محذوف تقديره: لما أنزل عليكم هذا الحكم بطريق التلاعن وستر عليكم هذه الفاحشة بسببه. وكذلك ورد قوله تعالى: " الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم " تقديره ولولا فضل الله عليكم ورحمته لعجل لكم العذاب أو فعل بكم كذا وكذا.
فكقوله تعالى " صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين " فإن جواب " لما " ههنا محذوف وتقديره: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا محذوف وتقديره: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه إن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله وما أشبه ذلك مما اكتسباه بهذه المحنة من عظائم الوصف دنيا وآخرة وقوله " المحسنين " تعليل لتخويل ما خولهما من الفرح والسرور بعد تلك الشدة العظيمة. وأما حذف جواب " أما " فنحو قوله تعالى: "
فمما جاء منه قوله تعالى: " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين " ألا ترى كيف حذف الجواب عن " إذا " في هذا الكلام وهو مدلول عليه بقوله: "
أما حذف المبتدأ فلا يكون مفردا والأحسن هو حذف الخبر ولأن منه ما يأتي جملة كقوله تعالى: " ومما ورد منه شعرا قول أبي عبادة البحتري: كل عذر من كل ذنب ولكن أعوز العذر من بياض العذار وهذا قد حذف منه خبر المبتدأ إلا أنه مفرد غير جملة وتقديره كل عذر من كل ذنب مقبول أو مسموع أو ما جرى هذا المجرى.
وهو حذف لا من الكلام وهي مرادة وذلك كقوله تعالى: " مرادة وعلى هذا جاء قول امريء القيس: أي لا أبرح قاعدا فحذفت " لا " في هذا الموضع وهي مرادة. ومما جاء منه قول أبي محجن الثقفي لما نها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن شرب الخمر وهو إذ ذاك في قتال الفرس بالقادسية: رأيت الخمر صالحة وفيها مناقب تهلك الرجل الحليما فلا والله أشربها حياتي ولا أسقي بها أبدا نديما يريد " لا أشربها " فحذف " لا " من الكلام وإثباتها. وأحسن حذوفها في المعطوف والمعطوف عليه وإذا لم يذكر الحرف المعطوف به كان ذلك بلاغة وإيجازا كقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان أصحاب رسول الله )ينامون ويصلون ولا يتوضئون أو قال ثم يصلون لا يتوضئون فقوله " لا يتوضئون " بحذف الواو أبلغ في تحقيق عدم الوضوء من قوله " ولا يتوضئون " بإثباتها كأنه جعل ذلك حالة لهم لازمة: أي أنها داخلة في الجملة وليست جملة خارجة عن الأولى لأن واو العطف تؤذن بانفراد المعطوف عن المعطوف عليه وإذا حذفت في مثل هذا الموضع صار المعطوف والمعطوف عليه جملة واحدة. وقد جاء في القرآن الكريم وذلك أنه يذكر جمل من القول كل واحدة منها مستقلة بنفسها ثم تسرد سردا بغير عاطف كقوله تعالى: " خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر " تقدير هذا الكلام: لا يألونكم وودوا ما عنتم وقد بدت البغضاء من أفواههم فلما حذفت الواو جاء الكلام أوجز وأحسن طلاوة وأبلغ تأليفا ونظما وأمثاله في القرآن الكريم كثير. واعلم أنه قد حذف الواو وأثبتت في مواضع فأما إثباتها فنحو قوله تعالى: " إلا ولها كتاب معلوم " وأما حذفها فنحو قوله تعالى: " وعلى هذا فلا يجوز حذف الواو وإثباتها في كل موضع وإنما يجوز ذلك فيما هذا سبيله من هاتين الآيتين. ولنبين لك في ذلك رسما تتبعه فنقول: اعلم أن كل اسم نكرة جاء خبره بعد إلا " يجوز إثبات الواو في خبره وحذفها كقولك: ما رأيت رجلا إلا وعليه ثياب وإن شئت قلت: إلا عليه ثياب بغير واو فإن كان الذي يقع على النكرة ناقصا فلا يكون إلا بحذف الواو نحو قولك: ما أظن درهما إلا هو كافيك ولا يجوز إلا وهو كافيك بالواو لأن الظن يحتاج إلى شيئين فلا يعترض فيه بالواو لأنه يصير كالمكتفي من الأفعال باسم واحد وكذلك جواب ظننت وكان وإن وأشباهها فخطأ أن تقول: إن رجلا وهو قائم ونحو ذلك ويجوز هذا في " ليس " خاصة تقول ليس أحد إلا وهو قائم لأن الكلام يتوهم تمامه بليس وبحرف ونكرة ألا ترى أنك تقول ليس أحد وما من أحد فجاز فيها إثبات الواو ولم يجوز في الظن لأنك لا تقول: ما أظن أحدا فأما أصبح وأمسى ورأى فإن الواو فيهن أسهل لأنهن توأم في حال وكان وأظن ونحوهما بنين على النقص إلا إذا كانت تامة وكذلك " لا " في التنزيه وغيرها نحو لا رجل وما من رجل فيجوز إثبات الواو فيها وحذفها. واعلم أن العرب قد حذفت من أصل الألفاظ شيئا لا يجوز القياس عليه كقول بعضهم: كأن إبريقهم ظبي على شرف مفدم بسبا الكتان ملثوم فقوله " بسبا الكتان " يريد بسبائب الكتان وكذلك قول الآخر: يذرين جندل حائر لجنوبها فكأنما تذكي سنابكها الحبا فهذا وأمثاله مما يقبح ولا يحسن وإن كانت العرب قد استعملته فإنه لا يجوز لنا أن نستعمله. ما لا يحذف منه شيء
فهو ما لا يحذف منه شيء وذلك ضربان أحدهما مأساوي لفظه معناه ويسمى التقدير والآخر: ما زاد معناه على لفظه ويسمى الإيجاز بالقصر. فأما الإيجاز بالتقدير فإنه الذي يمكن التعبير عن معناه بمثل ألفاظه وفي عدتها. أما الإيجاز بالقصر فإنه ينقسم قسمين: أحدهما: ما دل لفظه على محتملات متعددة وهذا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها والآخر: ما يدل لفظه على محتملات متعددة ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها لا بل يستحيل ذلك.
|