الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} {أَرَأَيْتُمْ} و{جَعَلَ} تنازعا في {الليلَ} وأعملَ الثاني. ومفعولُ {أَرَأَيْتُم} هي جملةُ الاستفهامِ بعده. والعائدُ منها على {الليل} محذوفٌ، وتقديرُه: بضياءٍ بعدَه. وجوابُ الشرطِ محذوفٌ. وتحريرُ هذا قد مَضَى في الأنعام فهو نظيرُه. و{سَرْمَدًا} مفعولٌ ثانٍ، إنْ كان الجَعْلُ تصييرًا، أو حالٌ إن كان خَلْقًا وإنشاءً. والسَّرْمَدُ: الدائمُ الذي لا ينقطعُ. قال طرفة: والظاهرُ أنَّ ميمَهُ أصليةٌ، ووزنُه فَعْلَل كجَعْفَر. وقيل: هي زائدةٌ. واشتقاقُه من السَّرْد، وهو تتابُعُ الشيءِ على الشيءِ، إلاَّ أنَّ زيادةِ الميمِ وَسَطًا وأخيرًا لا يَنْقاسُ نحو: دُلامِص، وزُرْقُم، من الدِّلاص والزُّرْقَة. قوله: {إلى يَوْمِ} متعلقٌ ب {جَعَل} أو ب {سَرْمدًا} أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل {سَرْمَدًا}. قوله: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ} من باب اللَّفِّ والنشر. ومنه: اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: .قال في ملاك التأويل: والجواب عن الأول أن تقديم الليل على النهار جار على ما بنت العرب عليه حساب شهورها من تقديم الليل وجعل النهار تابعًا له، ولم يرد في كتاب الله تعالى على كثرة ترداده إلا ذلك. والجواب عن السؤال الثاني: أن قوله تعالى في آية الأولى: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} مناسب للمدرك ليلًا من ضربي ما يعتبر به من المسموعات والمبصرات، إذ الليل حائل دون المبصرات، وإنما تدرك فيه المسموعات لأن ظلمة الليل غير مانعة من إدراكها، فجيء بما يناسب، وجيء مع ذكر النهار بما يناسب أيضًا، فقيل: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لأن المبصرات تدرك نهارًا ولا تدرك ليلًا، فجيء مع كل بما يناسب، والله أعلم. اهـ. .من لطائف القشيري في الآية: إن دامت ليالي الفترة فَمَنْ الذي يأتي بنهار التوبة غيرُ اللَّهِ؟ وإِنْ دامت ليالي الطَّلَبِ فَمَنْ الذي يأتي بصُبْحِ الوجودِ غيرُ اللَّهِ؟ وإِن دامت ليالي القبض فمن الذي يأتي بصبح البسط غيرُ اللَّهِ؟ وإِن دام ليل الفراق فمن الذي يأتي بصبح الوصالِ غيرُ الله؟. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)}. إِنْ دام في الوصلة نهارُكم فأيُّ سبيل للواشين إلى تنغيص سروركم؟ وإن دام نهارُ معاشكم ووقتُ اشتغالكم بحظوظكم فَمَنْ إلهٌ غيرُ اللَّهِ يأتيكم بليلٍ تَسْكنُون فيه إِلى الله إلا الله، وتستريحون من أشغالكم بالخلوة مع اللَّهِ إلا الله. {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)}. الأوقات ظروفٌ لما يحصل فيها من الأفعال والأحوال؛ فالظروفُ من الزمان متجانسة، وإنما الاختلافُ راجعٌ إلى أعيان ما يحصل فيها؛ فليالي أهل الوصال ساداتُ الليالي، أهل الفراق أسوأ الليالي؛ فأهلُ القُرْبِ لياليهم قِصَارٌ وكذلك أيامُهم، وأربابُ الفراقِ لياليهم طوال وكذلك جميع أوقاتهم في ليلهم ونهارهم، يقول قائلهم: وقال آخر: وقال ثالث: ولفظ الجلالة لا يكاد يغيب عنا في إشاراته، مما يدل- واللّه أعلم- على أن الرجل ذاكر أخذته حالة انمحاء في المذكور، وقد حرصنا أن نلفت نظر القارئ إلى هذا الملحظ ليشعر بالفرق بين المفسر التقليدى والمفسر الإشارى، إن الكلمات هنا أشبه بالتسابيح الوافدة من عالم بعيد!. {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)}. كلا لا حُجَّة لهم، ولا جوابَ يعذرهم، ولا شفيعَ يرحمهم، ولا ناصِرَ يُعِينهم. اشتهرت ضلالتهُم، واتضحت للكافة جهالتهُم؛ فدامَ عذابُ الأبد، وحاقَ بهم وبالُ السَّرمَد. اهـ. .تفسير الآيات (76- 78): .مناسبة الآية لما قبلها: ولما دل على عجزهم في تلك الدار، وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار، إنما هو الواحد القهار، دل على أن ذلك له أيضًا في هذه الدار وقوع العلم به بإهلاك أولي البطر، والمرح والأثر، من غير أن يغنوا عمن أضلوا، أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق، وما أضلهم من صامت، تطبيقًا لعموم {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} على بعض الجزئيات، تخويفًا لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما من نسبه إلى السحر، وإعلامًا بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء، لأنه سبحانه عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحد، وهم من بني إسرائيل ومن أقرب بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فعلم كان من كان اغتر بما أوتيه أن الحق لله في كل ما دعت إليه رسله، ونطقت به كتبه، وضل عنهم ما كانوا يفتقرون، ولم يغن عنهم شيئًا ما اعتمدوا عليه، فكان معبودهم في الحقيقة مما جمعوه من حطام الدنيا فاعتدوا أنهم نالوا به السعادة الدائمة والعز الباقي، فكان مثله- كما يأتي في التي بعده- كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا، وكل ذلك بمرأى من موسى عليه الصلاة والسلام حين كذبه ونسبه إلى السحر وتكبر عليه، فلم يسأل الله تعالى فيه لخروجه باستكباره من الوعد بالمنة على الذين استضعفوا في الأرض، وكان ذلك العذاب الذي عذبوا به من جنس ما عذب به فرعون في الصورة من حيث إنه تغييب وإن كان ذلك في مائع، وهذا صلب جامد، ليعلم أنه قادر على ما يريد، ليدوم منه الحذر، فيما سبق منه القضاء والقدر، ونزع موسى عليه الصلاة والسلام من كل سبط من أسباط بني إسرائيل شهيدًا من عصبهم وقال لهم: هاتوا برهانكم فيها، فعلموا بإبراق عصا هاورن عليه الصلاة والسلام دون عصيهم أن الحق لله في أمر الحبورة وفي جميع أمره فقال: {إن قارون} ويسمى في التوراة قورح، ثم بين سبب التأكيد بقوله: {كان} أي كونًا متمكنًا {من قوم موسى} تنبيهًا على أنه جدير بأن ينكر كونه كذلك لأنه فعله معهم لا يكاد يفعله أحد مع قومه، وذلك أنه كان من الذين آمنوا به وقلنا فيهم {ونريد أن نمن على الذين} إلى آخره، لأنه ابن عم موسى عليه الصلاة والسلام على ما حكاه أبو حيان وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما {فبغى عليهم} أي تجاوز الحد في احتقارهم بما خولناه فيه من هذا الحطام المتلاشي، والعرض الفاني، فقطع ما بينه وبينهم من الوصلة، ووصل ما بينه وبين فرعون وأضرابه، من الفرقة، فأخرجه ذلك من حوزة المنة والأمانة والوراثة إلى دائرة الهلاك والحقارة والخيانة، كما بغى عليهم فرعون؛ وكان أصل بغى هذه: أراد، لكن لما كان العبد لا ينبغي أن يكون له إرادة، بل الإرادة لسيده كما نبه عليه {ما كان لهم الخيرة} جعلت إرادته تجاوز الحد، وعديت ب على المقتضية للاستعلاء تنبيهًا على خروجها عن أصلها. ولما ذكر بغيه، ذكر سببه الحقيقي، فقال: {وآتيناه} أي ومع كوننا أنعمنا عليه بجعله من حزب أصفيائنا آتيناه بعظمتنا {من الكنوز} أي الأموال المدفونة المدخرة، فضلًا عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منه لما عساه يعرض من المهمات {ما} أي الذي أو شيئًا كثيرًا لا يدخل تحت حصر حتى {إن مفاتحه} أي مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيما وراء أبوابها {لتنوء} أي تميل بجهد ومشقة لثقلها {بالعصبة} أي الجماعة الكثيرة التي يعصب- أي يقوي- بعضهم بعضًا، وفي المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده، وكل ذلك مما تستبعده العقول، فلذلك وقع التأكيد {أولي القوة} أي تميلهم من أثقالها إياهم، والنوء: الميل، قال الرازي: والنوء: الكوكب مال عن العين عند الغروب، يقال: ناء بالحمل- إذا نهض به مثقلًا، وناء به الحمل- إذا أماله لثقله. ولما ذكر بغيه، ذكر وقته، والوقت قد يكون واسعًا كما نقول: جرى كذا عام كذا، وفيه التعرض للسبب فقال: {إذ قال له} وقال: {قومه} إشارة إلى تناهي بغيه بافتخاره وكبره على أقاربه الذين جرت العادة أن لا يغضب كلامهم ولا يؤرث التعزر عليهم ولا يحمل إلا على النصح والشفقة، وساغت نسبة القول للكل وإن كان القائل البعض، بدليل ما يأتي، إما عدًا للساكت قائلًا لرضاه به لأنه مما لا يأباه أحد، وإما لأن أهل الخير هم الناس، ومن عداهم عدم: {لا تفرح} أي لا تسر سرورًا يحفر في قلبك فيتغلغل فيه فيحرفك إلى الأشر والمرح، فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه، وذلك يدل على نسيان الآخرة، وذلك على غاية الجهل والطيش وقلة التأمل للعواقب، فيجر إلى المرح فيجر إلى الهلاك، قال الرزاي: ومن فرح بغير مفروح به استجلب حزنًا لا انقضاء له، وعللوا نهيهم له بما يفهم أشد الشفقة والمحبة فقالوا مؤكدين لاستبعاد من يرى تواصل النعم السارة على أحد أن يكون غير محبوب: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال فلا شيء أجل منه، فبه ينبغي أن يفرح {لا يحب} أي لا يعامل معاملة المحبوب {الفرحين} أي الراسخين في الفرح بما يفنى، فإن فرحهم يدل على سفول الهمم. ولما كان ترك الفرح سببًا للزهد، وهو سبب القرب إلى الله، كان كأن قيل: وازهد فيه إن الله يحب الزاهدين {وابتغ} أي اطلب طلبًا تجهد نفسك فيه {فيما آتاك الله} أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله من هذه الأموال حال تمكنك {الدار الآخرة} بإنفاقه فيما يحبه الله بحيث يكون ابتغاؤك ذلك مظروفًا له فيكون كالروح والمؤتى كالجسد ليكون حيًا بذلك الابتغاء، فلا يكون منه شيء بغير حياة، فإن فعلك لذلك يذكرك أن هذه الدار دار قلعة وارتحال، وكل ما فيها إلى زوال، وذلك يوجب الزهد في جميع ما فيها من الأموال. ولما كان ذلك شديد المشقة على النفوس مع ما فيه من شائبة الاتهام قالوا: {ولا تنس} أي تترك ترك الناسي {نصيبك من الدنيا} ترك المنسي، بل استعمل المباحات من المآكل والملابس والمناكح والمساكن وما يلائمها، وليكن استعمالك لذلك- كما دل عليه السياق- من غير إسراف ولا مخيلة توجب ترك الاتصاف بالإنصاف؛ وعن علي رضى الله عنه: ولا تنس صحتك وقوتك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة. ولما أطلق له الاقتصاد في التمتع بالزاد، وكانت النفس مجبولة على الشره، فإذا أذن لها من الدنيا في نقير جعلته أكبر كبير، أتبعوا ذلك ما لعله يكف من شرهها فقالوا: {وأحسن} أي أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج، والإنفاق في جميع الطاعات {كما أحسن الله} أي الجامع لصفات الكمال، المتردي برداء العظمة والجلال {إليك} بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع عليك. ولما كانت النفس من شأنها إن لم تزم بزمام الشرع الإسراف والإجحاف، قالوا: {ولا تبغ} أي لا ترد إرادة ما {الفساد في الأرض} بتقتير ولا تبذير، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير، ثم أتبع ذلك علته مؤكدًا لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا، وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب، فقيل: {إن الله} أي العالم بكل شيء، القدير على كل شيء {لا يحب المفسدين} أي لا يعاملهم معاملة من يحبه، فلا يكرمهم. ولما كان مما قالوه أن الذي أعطاه ذلك إنما هو الله، وكان قد أبطرته النعمة حتى على خالقه حتى حصل التشوف إلى جوابه فقيل في أسلوب التأكيد لأن كل أحد يعلم من نفسه العجز، وأن غيره ينكر عليه فيما يدعي أنه حصله بقوته: {قال إنما أوتيته} أي هذا المال {على علم} حاصل {عندي} فأنا مستحق لذلك، وذلك العلم هو السبب في حصوله، لا فضل لأحد عليّ فيه- بما يفيده التعبير بإنما، وبناء الفعل للمجهول إشارة إلى عدم علمه بالمؤتى من هو، وقد قيل: إن ذلك العلم هو الكيمياء. ولما كان التقدير: ألا يخاف أن يسلبه الله- عقوبة له على هذا- علمه وماله ونفسه؟ ألم يعلم أن ذلك إنما هو بقدرة الله؟ لا صنع له في الحقيقة في ذلك أصلًا، لأن الله قد أفقر من هو أجل منه حيلة وأكثر علمًا، وأعطى أكثر منه من لا علم له ولا قدرة، فهو قادر على إهلاكه، وسلب ما معه وإفنائه، كما قدر على إيتائه، عطف عليه قوله منكرًا عليه: {أولم يعلم أن الله} أي بما به من صفات الجلال والعظمة والكمال {قد أهلك} ونبه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان بإدخال من في قوله: {من قبله} ولو حذفها لاستغرق الإهلاك على ذلك الوصف جميع ما تقدمه من الزمان {من القرون} أي الذين هم في الصلابة كالقرون {من هو أشد منه} أي قرون {قوة} أي في البدن، والمعاني من العلم وغيره، والأنصار والخدم {وأكثر جمعًا} في المال والرجال، آخرهم فرعون الذي شاوره في ملكه، وحقق أمره يوم مهم هلكه، وكان يستعبده أمثالة ويسومهم سوء العذاب، ولم يعاملهم معاملة من يحبه ولا امتنع عليه ذلك لعلم عند أحد منهم ولا جمع، بل أخذهم لبغيهم وقبح تقلبهم وسعيهم. ولما كانت عادة أهل الدنيا أنهم إذا غضبوا من أحد فأرادوا إهلاكه عاتبوه، فتارة يحلف على نفي الذنب فيقبل منه وإن كان كاذبًا، وتارة يكشف الحال عن أن باطن أمره على خلاف ما ظهر من شره، فيكون له عذر خفي، أشار سبحانه إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل بحقائق الأمور ومقادير ما يستحق على كل ذنب من العقوبة، وأمل المطلع على بواطن الضمائر وخفايا السرائر فغني عن ذلك، فقال تعالى ذاكرًا لحال المفعول وهو {من} {ولا} أي أهلكهم والحال أنهم لا يسألون- هذا الأصل، ولكنه قال: {يسأل} أي من سائل ما {عن ذنوبهم المجرمون} فأظهر لإفادة أن الموجب للإهلاك الإجرام، وهو قطع ما ينبغي وصله بوصل ما ينبغي قطعه، ولهذا سبب وعقب عن وعظهم الحسن وجوابه الخشن قوله سبحانه دليلًا على إجرامه، وطغيانه في آثامه: {فخرج على قومه}. اهـ.
|