الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)}.قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على اسم {إنَّ}. و{ما} نافيةٌ، و{أنتم} اسمُها أو مبتدأٌ، و{أنتم} فيه تغليبُ المخاطبِ على الغائبِ؛ إذ الأصلُ: فإنكمُ ومعبودَكم ما أنتم وهو، فغُلِّب الخطابُ. و{عليه} متعلقٌ بقوله: {بفاتِنين}. والضميرُ عائدٌ على {ما تعبدون} بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ وضُمِّنَ فاتنين معنى حاملين بالفتنة والتقدير: فإنكم وآلهتكم، ما أنتم وهم حامِلين على عبادته إلاَّ الذين سَبَقَ في عِلْمه أنَّه من أهل صَلْيِ الجحيم. فَمَنْ مفعولٌ ب {فاتِنين} والاستثناءُ مفرغٌ. والثاني: أنه مفعولٌ معه، وعلى هذا فيَحْسُنُ السكوتُ على {تعبدون} كما يَحْسُن في قولك: إنَّ كلَّ رجلٍ وضَيْعَتَه، وحكى الكسائيُّ أن كلَّ ثوبٍ وثمنَه والمعنى: أنكم مع معبودِيْكم مُقْتَرنون. كما يُقَدَّر ذلك في كلُ رجلٍ وضَيْعَتُه مقترنان. وقولُه: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} مستأنفٌ أي: ما أنتم على ما تعبدون بفاتنين، أو بحاملين على الفتنة، إلاَّ مَنْ هو صالٍ منكم. قالها الزمخشريُّ. إلاَّ أنَّ أبا البقاء ضَعَّفَ الثاني: وكذا الشيخُ تابعًا له في تضعيفِه بعَدَم تَبَادُرِهِ إلى الفهم.قلت: الظاهرُ أنه معطوفٌ، واستئنافُ {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} غيرُ واضحٍ، والحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يعودَ الضمير في {عليه} على اللَّهِ تعالى قال: فإنْ قلتَ: كيف يَفْتِنُونهم على الله؟ قلت: يُفْسِدونهم عليه بإغوائهم، مِنْ قولِك: فتن فلانٌ على فلانٍ امرأتَه، كما تقول: أَفْسَدها عليه وخَيَّبها عليه.{إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)}.و{مَنْ هو} يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أو موصوفةً.وقرأ العامَّةُ {صالِ الجحيم} بكسرِ اللامِ؛ لأنه منقوصٌ مضافٌ حُذِفَتْ لامُه لالتقاءِ الساكنين، وحُمِلَ على لفظ {مَنْ} فأَفْرَدَ كما أَفْرد هو. وقرأ الحسنُ وابن أبي عبلة بضمِّ اللامِ مع واوٍ بعدَها، فيما نقله الهذلي عنهما، وابن عطية عن الحسن. وقرآ بضمِّها مع عَدَمِ واوٍ فيما نقل ابنُ خالويه عنهما وعن الحسن فقط، فيما نقله الزمخشريُّ وأبو الفضل. فأمَّا مع الواو فإنَّه جَمْعُ سَلامةٍ بالواو والنون، ويكون قد حُمِلَ على لفظ {مَنْ} أولًا فأفردَ في قوله: {هو} وعلى معناها ثانيًا فجُمِعَ في قوله: {صالُو} وحُذِفَتْ النونُ للإِضافة. وممَّا حُمِل فيه على اللفظ والمعنى في جملةٍ واحدةٍ وهي صلةٌ للموصولِ قولُه تعالى: {إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] فأفرد في {كان} وجُمِعَ في هودًا. ومثله قولُه:
وأمَّا مع عَدَمِ الواو فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعًا أيضًا، وإنما حُذِفَتْ الواوُ خطًا كما حُذِفَتْ لفظًا. وكثيرًا ما يَفْعلون هذا: يُسْقِطون في الخطِّ ما يَسْقط في اللفظِ. ومنه يَقُضُّ الحق في قراءةِ مَنْ قرأ بالضاد المعجمة، ورُسِمَ بغير ياءٍ، وكذلك {واخشون} {اليوم} [المائدة: 3]. ويُحْتمل أَنْ يكونَ مفردًا، وحقُّه على هذا كسرُ اللامِ فقط لأنه عينُ منقوصٍ، وعينُ المنقوصِ مكسورةٌ أبدًا وحُذِفَتِ اللامُ وهي الياءُ لالتقاءِ الساكنين نحو: هذا قاضِ البلد.وقد ذكروا فيه توجيهَيْن، أحدهما: أنه مقلوبٌ؛ إذا الأصلُ: صالي ثم صايل: قَدَّموا اللامَ إلى موضع العينِ، فوقعَ الإِعرابُ على العين، ثم حُذِفَتْ لامُ الكلمة بعد القلب فصار اللفظ كما ترى، ووزنُه على هذا فاعُ فيُقال على هذا: جاء صالٌ، ورأيتُ صالًا، ومررت بصالٍ، فيصيرُ في اللفظِ كقولك: هذا بابٌ ورأيتُ بابًا، ومررتُ ببابٍ. ونظيرُه في مجردِ القلبِ: شاكٍ ولاثٍ في شائك ولائث، ولكنْ شائِك ولائِث قبل القلب صحيحان، فصارا به معتلَّيْن منقوصَيْنِ بخلافِ {صال} فإنَّه قبلَ القلبِ معتلٌّ منقوصٌ فصار به صحيحًا. والثاني: أنَّ اللامَ حُذِفَتْ استثقالًا مِنْ غيرِ قَلْبٍ. وهذا عندي أسهلُ ممَّا قبلَه وقد رَأَيْناهم يتناسَوْن اللامَ المحذوفةَ، ويجعلون الإِعرابَ على العين. وقد قُرِئَ {وله الجوارُ} برفع الراءِ، {وَجَنَى الجنتين دَانٌ} برفعِ النونِ تشبيهًا ب جناح وجانّ. وقالوا: ما بالَيْت به بالة والأصل بالِية كعافِيَة. وقد تقدَّمَ طَرَف مِنْ هذا عند قولِه تعالى: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٌ} فيمَنْ قرأه برفع الشين.{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)}.قوله: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} فيه وجهان، أحدهما: أنَّ {منَّا} صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مبتدأٌ، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه: {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} تقديرُه: ما أحدٌ منا إلاَّ له مقامٌ، وحَذْفُ المبتدأ مع مِنْ جيدٌ فصيحٌ. والثاني: أنَّ المبتدأ محذوفٌ أيضًا، و{إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} صفتُه حُذِفَ موصوفُها، والخبرُ على هذا هو الجارُّ المتقدم. والتقدير: وما منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ. قال الزمخشري: حَذَفَ الموصوفَ، وأقامَ الصفةَ مُقامَه كقولِه: وقوله: ورَدَّه الشيخُ فقال: ليس هذا مِنْ حَذْفِ الموصوفِ وإقامةِ الصفةِ مُقامَه؛ لأنَّ المحذوفَ مبتدأٌ، و{إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} خَبَرُه؛ ولأنه لا ينعقِدُ كلامٌ مِنْ قولِه: {وما منَّا أحد} وقوله: {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} مَحَطُّ الفائدةِ، وإنْ تُخُيِّل أن {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} في موضع الصفةِ فقد نَصُّوا على أنَّ {إلاَّ} لا تكونُ صفةً إذا حُذِف موصوفُها، وأنها فارقتْ غير إذا كانتْ صفةً في ذلك لتمكّنِ غير في الوصف وَعَدَمِ تمكُّنِ إلا فيه، وجَعَل ذلك كقولِه: أنا ابنُ جَلا أي: أنا ابنُ رجلٍ جَلا، و بكفَّيْ كان أي: رجل كان، وقد عَدَّه النَّحْويون مِنْ أقبحِ الضَّرائِر حيث حَذَفَ الموصوفَ والصفةُ جملةٌ لم تتقدَّمْها مِنْ بخلافِ قولِه مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام يريدون: مِنَّا فريقٌ ظَعَن، ومنَّا فريقٌ أقام وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في النساء عند قوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159]. وهذا الكلامُ وما بعده ظاهرُه أنه من كلامِ الملائكةِ. وقيل: مِنْ كلامِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. ومفعول {الصافُّون} و{المُسَبِّحون}ز يجوزُ أن يكونَ مُرادًا أي: الصافُّون أقدامَنا أو أجنحتَنا، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى وأنْ لا يُرادَ البتةَ أي: نحن مِنْ أهلِ هذا الفعلِ.{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)}.قوله: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} تفسيرٌ للكلمة فيجوز أن لا يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، ويجوزُ أَنْ تكونَ خبرَ مبتدأ مضمر أو منصوبةً بإضمارِ فعل أي: هي أنَّهم لهم المنصورون، أو أعني بالكلمة هذا اللفظَ، ويكون ذلك على سبيلِ الحكايةِ؛ لأنَّك لو صَرَّحْتَ بالفعل قبلَها حاكيًا للجملة بعده كان صحيحًا، كأنَّك قلت: عَنَيْتُ هذا اللفظ كما تقول: كتبتُ زيدٌ قائمٌ و إنَّ زيدًا لَقائمٌ. وقرأ الضحَّاك {كلماتنا} جمعًا.{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)}.قوله: {نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} العامَّةُ على {نَزَلَ} مبنيًا للفاعلِ، وعبد الله ببنائه للمفعولِ، والجارُّ قائمٌ مقامَ فاعِله. والسَّاحةُ: الفِناءُ الخالي مِن الأبنية، وجَمْعُها سُوْحٌ فألفُها عن واوٍ، فتُصَغَّرُ على سُوَيْحَة. قال الشاعر: وبهذا يتبيَّنُ ضَعْفُ قولِ الراغب: إنها مِنْ ذواتِ الياءِ؛ حيث عَدَّها في مادة سيح ثم قال: السَّاحة: المكانُ الواسعُ. ومنه ساحةُ الدار. والسَّائحُ: الماءُ الجاري في الساحة. وساحَ فلانٌ في الأرضِ: مَرَّ مَرَّ السَّائح، ورجلٌ سائحٌ وسَيَّاح انتهى. ويُحتمل أَنْ يكونَ لها مادتان، لكنْ كان ينبغي أن يذكرَ: ما هي الأشهرُ، أو يذكرَهما معًا. وحُذِفَ مفعولُ أبْصر الثاني: إمَّا اختصارًا لدلالةِ الأولِ عليه، وإمَّا اقتصارًا. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: صباحُهم.{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)}.قوله: {رَبِّ العزة} أُضيف الربُّ إلى العزَّةِ لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذو العزَّة كما تقول: صاحبُ صِدْقٍ لاختصاصِه به. وقيل: المرادُ العزَّةُ المخلوقةُ الكائنةُ بين خَلْقِه. ويترتَّبُ على القولين مسألةُ اليمين. فعلى الأول ينعقدُ بها اليمينُ؛ لأنها صفةٌ من صفاتِه تعالى بخلاف الثاني، فإنه لا ينعقدُ بها اليمينُ. اهـ.
|