فصل: من فوائد ابن عاشور:

مساءً 4 :18
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

و: ما، في قوله: لمَ، استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر، ولذلك علة ذكرت في النحو، وتتعلق: اللام بتحاجون، ومعنى هذا الاستفهام الإنكار، ومعنى: في إبراهيم، في شرعه ودينه وما كان عليه، ومعنى: المحاجة، ادعاء من الطائفتين أنه منها وجدالهم في ذلك، فرد الله عليهم ذلك بأن شريعة اليهود والنصارى متأخرة عن إبراهيم، وهو متقدم عليهما، ومحال أن ينسب المتقدم إلى المتأخر، ولظهور فساد هذه الدعوى قال: {أفلا تعقلون} أي: هذا كلام من لا يعقل، إذ العقل يمنع من ذلك.
ولا يناسب أن يكون موافقًا لهم، لا في العقائد ولا في الأحكام.
أمّا في العقائد فعبادتهم عيسى وادعاؤهم أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة.
وادعاء اليهود أن عزيرًا ابن الله، ولم يكونا موجودين في زمان إبراهيم.
وأما الأحكام فإن التوراة والإنجيل فيهما أحكام مخالفة للأحكام التي كانت عليها شريعة إبراهيم، ومن ذلك قوله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقوله: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} وغير ذلك فلا يمكن إبراهيم على دين حدث بعده بأزمنة متطاوله.
ذكر المؤرخون أن بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان.
وروى أبو صالح عن ابن عباس: أنه كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة وستمائة واثنتان وثلاثون سنة.
وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون.
والواو في: {وما أنزلت التوراة} لعطف جملة على جملة، هكذا ذكروا.
والذي يظهر أنها للحال كهي في قوله تعالى: {لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون} وقوله: {لم تلبسون} ثم قال: {وأنتم تعلمون} وقوله: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم} أنكر عليهم ادّعاء أن إبراهيم كان على شريعة اليهود أو النصارى، والحال أن شريعتيهما متأخرتان عنه في الوجود، فكيف يكون عليها مع تقدمه عليها؟
وأمّا الحنيفية والإسلام فمن الأوصاف التي يختص بها كل ذي دين حق، ولذلك قال تعالى: {أن الدين عند الله الإسلام} إذ الحنيف هو المائل للحق، والمسلم هو المستسلم للحق، وقد أخبر القرآن بأن إبراهيم {كان حنيفًا مسلمًا}.
وفي قوله: {أفلا تعقلون} توبيخ على استحالة مقالتهم، وتنبيه على ما يظهر به غلطهم ومكابرتهم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {لِمَ تُحَآجُّونَ} هي ما الاستفهامية، دخل عليها حرف الجر، فحُذِفَت ألفُها وتقدم ذلك في البقرة، واللام متعلقة بما بعدها، وتقديمها على عاملها واجب؛ لجرها ما له صَدْرُ الكلام.
قوله: {في إِبْرَاهِيمَ} لابد من مضافٍ محذوفٍ، أي: في دين إبراهيم وشريعته؛ لأن الذوات لا مجادلة فيها.
قوله: {وَمَا أُنزِلَتِ التوراة} الظاهر أن الواو للحال، كهي في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70].
أي كيف تحاجون في شريعته والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه؟
وجوزوا أن تكون عاطفة، وليس بالبيِّن، وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب، وقوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} متعلق بـ {أنزلت}، وهو استثناء مفرَّغ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

{يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ} الآية.
ضرب على خليله- صلوات الله- نقاب الضنَّة وحجاب الغيرة، فقطع سببه عن جميعهم بعد ادِّعاء الكل فيه، وحَكَمَ بتعارض شُبُهَاتِهم، وكيف يكون إبراهيم عليه السلام على دين مَنْ أتى بعده؟! إن هذا تناقضٌ من الظن. اهـ.

.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{يا أَهْلِ الكتاب} خطاب لليهود والنصارى {لِمَ تُحَاجُّونَ في إبراهيم} أي تنازعون وتجادلون فيه ويدعي كل منكم أنه عليه السلام كان على دينه، أخرج ابن إسحق، وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: اجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية والظرف الأول متعلق بما بعده وكذا الثاني، وما استفهامية، والغرض الإنكار والتعجب عند السمين وحذفت ألفها لما دخل الجار للفرق بينها وبين الموصولة، والكلام على حذف مضاف أي دين إبراهيم أو شريعته لأن الذوات لا مجادلة فيها {وَمَا أُنزِلَتِ} على موسى عليه السلام {التوراة والإنجيل} على عيسى عليه السلام {إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} حيث كان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وخمس وستون سنة، وقيل: سبعمائة، وقيل: ألف سنة وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة، وقيل: ألفا سنة، وهناك أقوال أخر.
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} الهمزة داخلة على مقدر هو المعطوف عليه بالعاطف المذكور على رأي أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان قولكم أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه، وهذا تجهيل لهم في تلك الدعوى وتحميق، وهو ظاهر إن كانوا قد ادعوا كما قال الشهاب أنه عليه السلام منهم حقيقة، وإن كان مدعاهم أن دين إبراهيم يوافق دين موسى، أو دين عيسى فهو يهودي، أو نصراني بهذا المعنى فتجهيلهم، ونفي العقل عنهم بنزول التوراة والإنجيل بعده مشكل إلا أن يدعى بأن المراد أنه لو كان الأمر كذلك لما أوتي موسى عليه السلام التوراة، ولا عيسى عليه السلام الإنجيل بل كانا يؤمران بتبليغ صحف إبراهيم كذا قيل وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل إذ لقائل أن يقول: أي مانع من اتحاد الشريعة مع إنزال هذين الكتابين لغرض آخر غير بيان شريعة جديدة على أن الصحف لم تكن مشتملة على الأحكام بل كانت أمثالا ومواعظ كما جاء في الحديث، ثم ما قاله الشهاب وإن كان وجه التجهيل عليه ظاهرًا، إلا أن صدور تلك الدعوى من أهل الكتاب في غاية البعد لأن القوم لم يكونوا بهذه المثابة من الجهالة وفيهم أحبار اليهود ووفد نجران، وقد ذكر أن الأخيرين كانت لهم شدة في البحث، فقد أخرج ابن جرير عبد الله بن الحرث الزبيدي أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليت بيني وبين أهل نجران حجابًا فلا أراهم ولا يروني» من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إلا أن يقال: إن الله تعالى أعمى بصائرهم في هذه الدعوى ليكونوا ضحكة لأطفال المؤمنين، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ليغيظ كل منهم صاحبه؛ أو ليوهموا بعض المؤمنين ظنًا منهم أنهم لكونهم أميين غير مطلعين على تواريخ الأنبياء السالفين يزلزلهم مثل ذلك ففضحهم الله تعالى، أو أن القوم في حدّ ذاتهم جهلة لا يعلمون وإن كانوا أهل كتاب وما ذكره ابن الحرث لا يدل على علمهم كما لا يخفى، وقيل:
إن مراد اليهود بقولهم: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديًا أنه كان مؤمنًا بموسى عليه السلام قبل بعثته على حدّ ما يقوله المسلمون في سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام من أنهم كانوا مؤمنين بنبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثته كما يدل عليه تبشيرهم به، وأن مراد النصارى بقولهم: إن إبراهيم كان نصرانيًا نحو ذلك فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: {وَمَا أَنَزلَ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} أي ومن شأن المتأخر أن يشتمل على أخبار المتقدم لاسيما مثل هذا الأمر المهم والمفخر العظيم والمنة الكبرى أفلا تعقلون ما فيهما لتعلموا خلوهما عن الأخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
استئناف ابتدائي للانتقال من دعائهم لكلمة الحق الجامعة لحق الدين، إلى الإنكار عليهم محاجتهم الباطلة للمسلمين في دين إبراهيم، وزعم كلّ فريق منهم أنهم على دينه توصّلًا إلى أنّ الذي خالف دينهم لا يكون على دين إبراهيم كما يدّعي النبي محمد صلى الله عليه وسلم فالمحاجة فرع عن المخالفة في الدعوى.
وهذه المحاجة على طريق قياس المساواة في النفي، أو في محاجتهم النبي في دعواه أنه على دين إبراهيم، محاجة يقصدون منها إبطال مساواة دينِه لدين إبراهيم، بطريقة قياس المساواة في النفي أيضا.
فيجوز أن تكون هذه الجملة من مقول القول المأمور به الرسولُ في قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا} أي قل لهم: يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون.
ويجوز أن يكون الاستئناف من كلام الله تعالى عَقِبَ أمرِه الرسولَ بأن يقول: {تعالَوا} فيكون توجيه خطاب إلى أهل الكتاب مباشرة، ويكون جعل الجملة الأولى من مقول الرسول دون هذه لأنّ الأولى من شُؤون الدعوة، وهذه من طرق المجاحّة، وإبطال قولهم، وذلك في الدرجة الثانِيَة مِن الدعوة.
والكلُ في النسبة إلى الله سواء.
ومناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى هذا الكلام نشأت من قوله: {فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64] لأنه قد شاع فيما نزل من القرآن في مكة، وبعدَها أنّ الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الحنيفية دين إبراهيم كما تقدم تقريره في سورة البقرة وكما في سورة النحل: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وسيجيء أنّ إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا} وقد اشتهر هذا وأعلن بين المشركين في مكة، وبني اليهود في المدينة، وبين النصارى في وَفد نجران، وقد علم أنّ المشركين بمكة كانوا يدّعون أنهم ورثة شريعة إبراهيم وسدنة بيته، وكان أهل الكتاب قد ادّعوا أنهم على دين إبراهيم، ولم يتبين لي أكان ذلك منهم ادّعاء قديمًا أم كانوا قد تفطنوا إليه من دعوة محمد، فاستيقظوا لتقليده في ذلك، أم كانوا قالوا ذلك على وجه الإفحام للرسول حين حاجهم بأنّ دينه هو الحق، وأن الدين عند الله الإسلام فألْجَؤوه إلى أحد أمرين: إما أن تكون الزيادةُ على دين إبراهيم غيرَ مخرجة عن اتِّباعه، فهو مشترَك الإلزام في دين اليهودية والنصرانية، وإما أن تكون مخرجة عن دين إبراهيم فلا يكون الإسلام تابعًا لدين إبراهيم.
وأحسب أنّ ادّعاءهم أنهم على ملة إبراهيم إنما انتحلوه لبثّ كل من الفريقين الدعوةَ إلى دينه بين العرب، ولاسيما النصرانية، فإنّ دعاتها كانوا يحاولون انتشارها بين العرب فلا يجدون شيئًا يروج عندهم سِوى أن يقولوا: إنها ملة إبراهيم، ومن أجل ذلك اتُّبعت في بعض قبائل العرب، وهنالك أخبار في أسباب النزول تثير هذه الاحتمالات: فروى أنّ وفد نجران قالوا للنبيء حين دعاهم إلى اتباع دينه: على أي دين أنتَ قال: على ملة إبراهيم قالوا: فقد زدتَ فيه ما لم يكن فيه فعلى هذه الرواية يكون المخاطبُ بأهل الكتاب هنا خصوصَ النصارى كالخطاب الذي قبْله وروى: أنه تنازعت اليهود ونصارى نجران بالمدينة، عند النبي، فأدّعي كل فريق أنه على دين إبراهيم دون الآخر، فيكون الخطاب لأهل الكتاب كلهم، من يهود ونصارى.
ولعل اختلاف المخاطبين هو الداعي لتكرير الخطاب.
وقوله: {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} يكون على حسب الرواية الأولى مَنْعًا لقولهم: فقد زدت فيه ما ليس مِنْه، المقصودِ منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم.
وتفصيلُ هذا المنع: إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم، فمن أين لكم أنّ الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم، فإنكم لا مستند لكم في علمكم بأمور الدين إلاّ التوراةُ والإنجيلُ، وهما قد نَزلا من بعد إبراهيم، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلمَ المزيد عليهَا، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل.
ويكون على حسب الرواية الثانية نفيًا لدعوى كلّ فريق منهما أنه على دين إبراهيم، بِأنّ دين اليهود هو التوراة، ودينَ النصارى هو الإنجيل، وكلاهما نزل بعد إبراهيم، فكيف يكون شريعةً له.
قال الفخر: يعني ولم يُصرّح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابقٌ لشريعة إبراهيم، فذكر التوراة والإنجيل على هذا نشرٌ بعد اللف: لأنّ أهل الكتاب شَمِل الفريقين، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود، وذكرَ الإنجيل لإبطالِ قول النصارى، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة، وإن كان المقصود بادئ ذي بدء هم النصارى الذين مَساقُ الكلام معهم.
والأظهر عندي في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله: {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} وقوله: {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} وقوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} فيبطل بذلك دعواهم أنهم على دين إبراهيم، ودعواهم أنّ الإسلام ليس على دين إبراهيم، ويَثْبُتُ عليهم أنّ الإسلام على دين إبراهيم، وذلك أنّ قوله: {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} يدل على أنّ علمهم في الدين منحصر فيهما، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا جائز أن يكونا عين صحف إبراهيم.
وقوله: {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} يُبطل قولهم: إنّ الإسلام زاد على دين إبراهيم، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم؛ لأنّ التوراة والإنجيل لم يَرد فيهما التصريح بذلك، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه، فلا يقولون وكيف يُدّعَى أنّ الإسلام دين إبراهيم مع أنّ القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده.
وقوله: {والله يعلم} يدل على أنّ الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمدًا بالإسلام ديننِ إبراهيم وهو أعلم منكم بذلك، ولم يسبق أن امتنّ عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية، واستيقظتم لذلك حَسدًا على هذه النعمة، فنهضتْ الحجة عليهم، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا: إنّ مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترَكُ الإلزام لنا ولكم؛ فإنّ القرآن أنزل بعد إبراهيم، ولولا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لَكَانَ مشترك الإلزام.
والاستفهام في قوله: {فلم تحاجون} مقصود منه التنبيه على الغلط.
وقد أعرض في هذا الاحتجاح عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على الدين الذي جاء به إبراهيم، وبين وصف الإسلام بأنه ملّة إبراهيم: لأنّهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع، واتحاد الأصول، وأنّ مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما سنبينها عند تفسير قوله تعالى: {فإنْ حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي للَّه} [آل عمران: 20] وعندَ قوله: {ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا} فاكتُفي في المحاجّة بإبطال مستندهم في قولهم: فقد زدت فيه ما ليس فيه على طريقة المنع، ثم بقوله: {ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا} [آل عمران: 67] على طريقة الدعوى بناءً على أنّ انقطاع المعترِض كافٍ في اتجاه دعوى المستدل. اهـ.