الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وزعم بعض العلماء أنه عام دخله التخصيص لأنه غير مبعوث إلى غير المكلفين بقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق» وأيضًا يمكن وجود قوم في طرف من أطراف العمارة لم يصل إليهم خبر وجوده فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوّته. والجواب أن رفع القلم عن الأصناف الثلاثة أيضًا حكم عليهم بهذا الاعتبار يدخلون تحت الخطاب وإن وجود قوم كما زعمتم من المستبعدات فلا يستحق الالتفات إليه. قال بعض الأكابر: إن الآية وإن دلت على أنه صلى الله عليه وسلم مبعثوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء ما كان مبعوثًا إلى كلهم. وقد تمسك جمع من العلماء بالحديث المشهور: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وختم بي النبيون» ورد بأن مجموع هذه الأمور من خواصه لا كل واحد واحد، وبأن آدم بعث إلى كل أولاده في ذلك الزمان فيكون مبعوثًا إلى كل الناس وقتئذ. ولا يخفى ضعف هذا الرد لأنا نعلم من دين محمد أنه خاتم النبيين وحده في رواية أخرى: «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» وإذا كان بعض هذه الأمور من خواصه لزم أن يكون كل واحد منها كذلك. وأيضًا أن آدم لم يكن مبعوثًا إلى حواء لأنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل ولا تقربًا. ثم لما أمر رسول الله بأن يقول للناس أني رسول الله إليكم أتبعه ذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى وأنها لا تتم إلا بتقرير أصول أربعة: أوّلها إثبات أن للعالم إلهًا حيًا عالمًا قادرًا وأشار إليه بقوله: {الذي له ملك السموات والأرض} إذ لو لم يكن للعالم مؤثر موجب بالذات لا فاعل بالاختيار لم يمكن القول ببعثة الرسول. ومحل {الذي} نصب أو رفع على المدح أو جر بدلًا أو وصفًا لله. وثانيها أن إله العالم واحد وذلك قوله: {لا إله إلا هو} إذ لو فرض إلهان لم يكن عبادة أحدهما أولى من عبادة الآخر.وثالثها أنه تعالى قادر على الخير والشر والبعث والحساب كما قال: {يحيى ويميت} وإنما لم يوسط العاطف بين هذه الجمل لأن كل واحد منها مبينة لما قبلها، وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت أصل رابع وهو أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف. أما بالأصل الأوّل والثاني فلأنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته ولاسيما إذا كان فردًا منزهًا عن الشريك والنظير مستقلًا بالأمر والنهي. وأما الأصل الثالث فلأنه يحسن من القادر تكليف المكلف بنوع من طاعته إيصالًا له إلى الجزاء إلى لذة الجزاء، فإن تحصيل لذة الأجر بدون كونه أجر ممتنع وأشار إلى هذا الأصل الرابع بقوله: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي} اقتصر من الصفات المذكورة هاهنا على الأمية لأنها أجل الأوصاف وأدلها على حقيته، وذلك أنه لم يتفق له مطالعة كتاب ولا مصاحبة معلم لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبة طويلة يمكن التعلم فيها ومع ذلك فتح الله عليه أبواب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن الذي اشتمل على علوم الأوّلين والآخرين فليس ذلك إلا بتأييد سماوي وفيض إلهي. ثم وصفه بقوله: {الذي يؤمن بالله وكلماته} لأن النبي صلى الله عليه وآله يجب أن يكون ممن آمن بالله وبكتبه. وإنما لم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قول: {إني رسول الله} بل عدل إلى المظهر ليمكن أن يجري عليه الصفات المذكورة. ولما في طريقة الالتفات من البلاغة، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائنًا من كان، أنا أو غيري إظهارًا للنصفة واحترازًا عن العصبية. واعلم أن الكمالات إما نظرية وأشار إليها بقوله: {فآمنوا بالله} وإما عملية وإليها الإشارة بقوله: {واتبعوه} والأولى إشارة إلى التكاليف المستفادة من أقواله، والثانية إشارة إلى المستفادة من أفعاله، فإن كل فعل يصدر عنه وقد واظب عليه فلابد أن يكون جانب فعله ذلك الفعل جانب فعله راجحًا على تركه. ثم إن ظاهر الأمر للوجوب فيجب علينا اتباعه وإن كان ذلك مندوبًا له إلا أن يدل دليل منفصل على أن ذلك الفعل من خصائصه. ومعنى الترجي في {لعلكم تهتدون} قد مر في نظائره ولاسيما في أوّل البقرة في قوله: {لعلكم تتقون} [البقرة: 21] ثم لما ذكر الرسول وأنه يجب على الخلق متابعته ذكر أن في قوم موسى من اتبع الحق وهدي إليه فقال: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق} أي يهدون الناس بكلمة الحق {وبه} أي بالحق {يعدلون} بينهم في الحكم لا يجورون. وهذه الآية متى حصلت في أي زمان كانت؟ اختلف المفسرون في ذلك. فقيل: هم اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كعبد الله بن سلام وابن صوريا وغيرهما.ولفظ الأمة قد يطلق على القليل إذا كان لهم شأن كما أطلق على الواحد في قوله: {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120] وقيل: إنهم قوم ثبتوا على دين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع، ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه، ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك، وقال السدي وجماعة من المفسرين: إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطًا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله لهم نفقًا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفًا حتى خرجوا من وراء الصين. ثم من المفسرين من قال: إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن بناء على أن خبر نبينا لم يصل إليهم فيهم معذورون، ومنهم من استبعد عدم وصول الخبر إليهم مع أن خبر هذه الشريعة طار في كل أفق وتغلغل في كل نفق فقال: إنهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل ذهب به صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبرائيل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي فآمنوا به. وقالوا: يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه مني السلام، فرد محمد على موسى عليه السلام ثم أقرأهم عشر سور من القران نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت والله أعلم. اهـ.
وبالشكر تزداد النعم كما نطق بذلك الكتاب {وَكَتَبْنَا لَهُ في الألواح} أي أظهرنا نقوش استعداده في ألواح تفاصيل وجوده من الروح والقلب العقل والفكر والخيال فظهر فيها {مِن كُلّ شَيْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شَيْء فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي بعزم لتكون من ذويه {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي أكثرها نفعًا وهي العزائم {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} [الأعراف: 145] أي عاقبة الذين لا يأخذون بذلك {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} [الأعراف: 146] هم الذين في مقام النفس فيكون تكبرهم حجابًا لهم عن آيات الله تعالى وأما المتكبرون بالحق وهم الذي فنيت صفاتهم وظهرت عليهم صفات مولاهم فليسوا بمحجوبين ولا يعد تكبرهم مذمومًا لأنه ليس تكبرهم حقيقة وإنما حظهم منه كونهم مظهرًا له {والذين كَذَّبُواْ بآياتنا وَلِقَاء الآخرة} [الأعراف: 147] حيث حجبوا بصفاتهم وأفعالهم حبطت أعمالهم فلا تقربهم شيئًا {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلًا} صنعه لهم السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه لسوء استعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيما إذا كان ذهبًا أو فضة، وكثير من الناس اليوم عبيد الدرهم والدينار وهما العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك العجل صار ذا لحم ودم وإليه الإشارة بقوله سبحانه: {جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148] وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار ذا روح بواسطة التراب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم {وَأَلْقَى الالواح} أي ذهل من شدة الغضب عنها وتجافي عن حكم ما فيها ونسيان ما يستحسن من الحلم مثلًا عند الغضب مما يجده كل أحد من نفسه {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} يجره إليه ظنًا أنه قصر في كفهم.
|