الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.تفسير الآيات (14- 15): .مناسبة الآية لما قبلها: ولما علم أن الحسد قد أبعده ونزل به عن ساحة الرضى وأقعده، تمادى فيه فسأل ما يتسبب به إلى إنزال المحسودين عن درجاتهم العاليه إلى دركته السافلة، ولم يسأل بشقاوته فيما يعليه من دركته السافلة إلى درجاتهم العالية، وذلك بأن {قال} أي إبليس، وهو استئناف؛ ولما كان السياق- ولاسيما الحكم بالصغار العاري عن تقييد- يأبى لأن يكون سببًا لسؤاله الانتظار، ذكره بصيغة الإحسان فقال: {أنظرني} أي بالإمهال، أي اجعلني موجودًا بحيث أنظر وأتصرف في زمن ممتد {إلى يوم يبعثون} أي من القبور، وهو يوم القيامة، وكان اللعين طلب بهذا أنه لا يموت، فإن ذلك الوقت ليس وقتًا للموت، إنما هو وقت إفاضة الحياة الأبدية في شقاوة أو سعادة، فأعلم سبحانه أنه حكم له بالانتظار، لكن لا على ما أراده ولا على أنه إجابة له، ولكن هكذا سبق في الأزل في حكمه في قديم علمه، وإليه يرشد التعبير بقوله: {قال إنك من المنظرين} أي في الجملة، ومنعه من الحماية عن الموت بقوله كما ذكره في سورتين الحجر وص {إلى يوم الوقت المعلوم} [الحجر: 38، ص: 81]، وهو وقت النفخة الأولى التي يموت فيها الأحياء فيموت هو معهم، وكان ترك هذه الجملة في هذه السورة لأن هذه السورة للإنذار، وإبهام الأمر أشد في ذلك، وإجابة إلى الإنظار وهو يريد به الفساد، لأنه لا يعدو أمره فيه وتقديره به، ولأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، ولتظهر حكمته تعالى في الثواب والعقاب. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: الوقت المعلوم في علم الله تعالى. قالوا: والدليل على صحة هذا القول أن إبليس كان مكلفًا والمكلف لا يجوز أن يعلم أن الله تعالى أخر أجله إلى الوقت الفلاني لأن ذلك المكلف يعلم أنه متى تاب قبلت توبته فإذا علم أن وقت موته هو الوقت الفلاني أقدم على المعصية بقلب فارغ، فإذا قرب وقت أجله تاب عن تلك المعاصي فثبت أن تعريف وقت الموت بعينه يجري مجرى الإغراء بالقبيح، وذلك غير جائز على الله تعالى. وأجاب الأولون: بأن تعريف الله عز وجل كونه من المنظرين إلى يوم القيامة لا يقتضي إغراءه بالقبيح لأنه تعالى كان يعلم منه أنه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق سواء أعلمه بوقت موته أو لم يعلمه بذلك، فلم يكن ذلك الإعلام موجبًا إغراءه بالقبيح، ومثاله أنه تعالى عرف أنبياءه أنهم يموتون على الطهارة والعصمة، ولم يكن ذلك موجبًا إغراءهم بالقبيح لأجل أنه تعالى علم منهم سواء عرفهم تلك الحالة أو لم يعرفهم هذه الحالة أنهم يموتون على الطهارة والعصمة فلما كان لا يتفاوت حالهم بسبب هذا التعريف لا جرم ما كان ذلك التعريف إغراء بالقبيح فكذا هاهنا، والله أعلم. اهـ. .قال السمرقندي: قال ابن عباس: أراد الخبيث ألا يذوق الموت، فأبى الله تعالى أن يعطيه ذلك. فـ {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المنظرين} إلى النفخة الأولى، فحينئذٍ يذوق الموت وتصيبه المرارة بعدد الأولين والآخرين. اهـ. .قال الثعلبي: ثمّ بيّن مدّة النظر والمهلة في موضع آخر، فقال: {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38] وهي النفخة الأولى حين ثبوت الخلق كلّهم. اهـ. .قال الماوردي: أحدهما: أنه سأله الإنظار بالعقوبة إلى البعث وهو يوم القيامة. والثاني: أنه سأله الإنظار بالحياة إلى يوم يبعثون وهو يوم القيامة لئلا يذوق الموت، فَأُجِيْبَ بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهي النفخة الأولى ليذوق الموت بين النفختين وهو أربعون سنة، قاله الكلبي. فإن قيل: فكيف قدر الله مدة أجله وفي ذلك إغواؤه بفعل المعاصي تعويلًا على التوبة في آخر الأجل؟ قيل: قد علم الله من حاله أنه لا يتوب من معصيته بما أوجبه من لعنته بقوله تعالى: {وَإنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَومِ الدَّينِ} فجاز مع علمه بهذه أن يقدر له مدة أجله ولو كان كغيره ما قدرت له مدة أجله. فإن قيل: كيف أقدم إبليس على هذا السؤال مع معصيته؟ قيل: كما ينبسط الجاهل في سؤال ما لا يستحقه. فإن قيل: فكيف أجاب الله سؤاله مع معصيته؟ قيل: في إجابته دعاء أهل المعاصي قولان: أحدهما: لا تصح إجابتهم لأن إجابة الدعاء تكرمة للداعي وأهل المعاصي لا يستحقون الكرامة، فعلى هذا إنما أنظره الله تعالى وإن كان عقيب سؤاله ابتداء منه لا إجابه له. والثاني: أنه قد يجوز أن تجاب دعوة أهل المعاصي على وجه البلوى وتأكيد الحجة، فتكون إجابة المطيعين تكرمة، وإجابة العصاة بلوى. فإن قيل: فهل ينظر غير إبليس إلى الوقت الذي سأل وقد قال من المنظرين؟ قيل: نعم وهو من لم يقض الله تعالى عليه الموت من عباده الذين تقوم عليهم الساعة. اهـ. .قال ابن عطية: قال القاضي أبو محمد: وقال بعض أهل هذه المقالة: إن إبليس قتلته الملائكة يوم بدر ورووا في ذلك أثرًا ضعيفًا. قال القاضي أبو محمد: والأول من هذه الأقوال أصح وأشهر في الشرع، ومعنى {من المنظرين} من الطائفة التي تأخرت أعمارها كثيرًا حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها، فقد عم تلك الفرقة إنظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر. اهـ. .قال ابن الجوزي: وقد بين مدة إمهاله في الحجر بقوله: {إلى يوم الوقت المعلوم} [الحجر: 38] وفي ما سأل الإمهال له قولان: أحدهما: الموت. والثاني: العقوبة. فإن قيل: كيف قيل له: {إنك من المنظرين} وليس أحد أُنظِر سواه؟ فالجواب: أن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم، فهو منهم. اهـ. .قال القرطبي: طلب ألاّ يموت لأن يوم البعث لا موت بعده؛ فقال الله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ}. قال ابن عباس والسدّي وغيرهما: أنْظَره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين؛ فأبى الله ذلك عليه. وقال: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ولم يتقدّم ذِكْرُ من يبعث؛ لأن القصة في آدم وذريته، فدلّت القرينةُ على أنهم هم المبعوثون. اهـ. .قال الخازن: فإن قلت: فما وجه قولك إنك من المنظرين وليس أحد ينظر سواه؟ قلت: معناه إن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم فهو منهم {قال} يعني إبليس {فبما أغويتني} يعني فبأي شيء أضللتني فعلى هذا تكون ما استفهامية وتم الكلام عند قوله أغويتني ثم ابتدأ فقال: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم}. اهـ. .قال النسفي: وإنما أجيب إلى ذلك لما فيه من الابتلاء، وفيه تقريب لقلوب الأحباب أي هذا بريء بمن يسيئني فكيف بمن يحبني وإنما جسره على السؤال مع وجود الزلل منه في الحال علمه بحلم ذي الجلال. اهـ. .قال أبو حيان: هذا يدلّ على إقراره بالبعث وعلمه بأن آدم سيكون له ذرية ونسل يعمّرون الأرض ثم يموتون وإن منهم من ينظر فيكون طلبه الإنظار بأن يغويهم ويوسوس إليهم فالضمير في {يبعثون} عائد على ما دلّ عليه المعنى إذ ليس في اللفظ ما يعود عليه وحكمة استنظاره وإن كان ذلك سببًا للغواية والفتنة إنّ في ذلك ابتلاء العباد بمخالفته وطواعيته وما يترتب على ذلك من إعظام الثّواب بالمخالفة وإدامة العقاب بالطواعيّة وأجابه تعالى بأنه من المنظرين أي من المؤخرين ولم يأتِ هنا بغاية للانتظار وجاء مغيًا في الحجر وفي ص بقوله: {إلى يوم الوقت المعلوم} ويأتي تفسيره في الحجر إن شاء الله، ومعنى من المنظرين من الطائفة التي تأخّرت أعمارها كثيرًا حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها فقد شمل تلك الطائفة انظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر، وقيل من المنظرين جمع كثير مثل قوم يونس. اهـ.
|