الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قيل: إن الأغنام ألقت ما في بطونها من هول هذا التوديع، ثم أخذه العبد وطلب القافلة فبينما هو على الراحلة إذ مر بقبر أمه راحيل في مقابر كنعان فلما أبصر القبر لم يتمالك أن رمى بنفسه عليه فاعتنقه وجعل يبكي ويقول: يا أماه ارفعي رأسك من التراب حتى ترى ولدك مقيدًا يا أماه إخوتي في الجب طرحوني ومن أبي فرقوني وبأبخس الأثمان باعوني ولم يرقوا لصغر سني ولم يرحموني فأنا أسأل الله تعالى أن يجمع بيني وبين والدي في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين.فالتفت العبد فلم يره فرجع رآه على القبر فقال: والله لقد صدق مواليك إنك عبد آبق ثم لطمه شديده فغشي عليه ثم أفاق فقال له: لا تؤاخذني هذا قبر أمي نزلت أسلم عليها ولا أعود بعد لما تكرهه أبدًا ثم رفع عينيه إلى السماء وقد تمرغ بالتراب والدموع في وجهه فقال: اللهم إن كانت لي خطيئة أخلقت وجهي عندك فبحرمة آبائي الكرام إبراهيم وإسحق ويعقوب أن تعفو عني وترحمني يا أرحم الراحمين فضجت الملائكة إلى الله تعالى عند ذلك فقال تبارك وتعالى: يا ملائكتي هذا نبي وابن أنبيائي وقد استغاث بى وأنا مغيثه ومغيث المستغيثين يا جبريل أدركه فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا صديق الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: مهلًا عليك فقد أبكيت ملائكة السموات السبع أتريد أن أطبق السماء على الأرض؟ فقال: لا يا جبريل ارفق بخلق ربي فإنه حليم لا يعجل فضرب الأرض بجناحه فهبت ريح حمراء وكسفت الشمس وأظلمت الغبراء فلم ير أهل القافلة بعضهم بعضًا، فقال التاجر: انزلوا قبل أن تهلكوا إن لي سنين عديدة أم بهذا الطريق فما رأيت كاليوم فمن أصاب منكم ذنبًا فليتب منه فما أصابنا هذا إلا بذنب اقترفناه فأخبره العبد بما فعل مع يوسف، وقال يا سيدي: إني لما ضربته رفع عينيه إلى السماء وحرك شفتيه فقال له التاجر: ويحك أهلكتنا وأهلكت نفسك فتقدم إليه التاجر وقال: يا غلام إنا ظلمناك حين ضربناك فإن شئت أن تقتص منها فها نحن بين يديك؟ فقال يوسف: ما أنا من قوم إذا ظلموا يقتصرون ولكني من أهل بيت إذا ظلموا عفوا وغفروا ولقد عفوت عنكم رجاء أن يعفوا الله تعالى عني فانجلت الظلمة وسكنت الريح وأسفرت الشمس وأضاءت مشارق الأرض ومغاربها فساروا حتى دخلوا مصر آمنين وكان هذا التاجر فيما قيل: مالك بن ذعر الذي أخرجه من الجب، وقيل: غيره.وروي أنه حين ورد به مصر باعه بعشرين دينارًا وزوجي نعل وثوبين أبيضين، وقيل: أدخل السوق للبيع فترافعوا في ثمنه حتى بلغ وزنه مسكا ووزنه ورقا ووزنه حريرًا فاشتراه بذلك العزيز الذي كان على خزائن مصر عند ملكها، وقيل: كان خباز الملك وصاحب شرابه ودوا به صاحب السجن المشهور، والمعول عليه هو الأول، واسمه قطفير أو اطفير أو قنطورًا، والأول مروى عن ابن عباس. اهـ.
وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون.قال النابغة: والمعنى: وجدت في البئر غلامًا، فهو لقطة، فيكون عبدًا لمن التقطه.وذلك سبب ابتهاجه بقوله: {يا بشراي هذا غلام}.والغلام: مَن سنهُ بين العشر والعشرين.وكان سنّ يوسف عليه السّلام يومئذٍ سبع عشرة سنة.وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيليين كما في التّوراة، أي أبناء إسماعيل بن إبراهيم.وقيل: كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها، ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب.ومعنى: {أسَرُّوه} أخْفَوْه.والضمير للسيارة لا محالة، أي أخْفوا يوسف عليه السّلام، أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردّى في الجب، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت، وكان الشأن أن يعرّفوا من كان قريبًا من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللّقطة، ولذلك كان قوله: {وأسرّوه} مشعرًا بأن يوسف عليه السّلام أخبرهم بقصته، فأعرضوا عن ذلك طمعًا في أن يبيعوه.وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين.و{بضاعةً} منصوب على الحال المقدّرة من الضمير المنصوب في: {أسرّوه}، أي جعلوه بضاعة.والبضاعة: عروض التجارة ومتاعها، أي عزموا على بيعه.وجملة: {والله عليم بما يعملون} معترضة، أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حقّ في استرقاقه، ومن كان حقّه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم، لأنهم قد علموا خبره، أو كان من حقهم أن يسْألوه لأنه كان مستطيعًا أن يخبرهم بخبره.وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف عليه السّلام آية من لطف الله به.{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}معنى: {شروه} باعوه.يقال: شرى كما يقال: باع، ويقال: اشترى كما يقال: ابتاع.ومثلهما رَهن وارتهن، وعاوض واعتاض، وكَرى واكترى.والأصل في ذلك وأمثاله أن الفعل للحدث والافتعال لمطاوعة الحدث.ومن فسر: {شروه} باشتروه أخطأ خطأ أوقعه فيه سوء تأويل قوله: {وكانوا فيه من الزاهدين}.وما ادّعاه بعض أهل اللغة أن شرى واشترى مترادفان في معنييهما يغلب على ظني أنه وَهَم إذ لا دليل يدل عليه.والبخس: أصله مصدر بَخَسه إذا نقصه عن قيمة شيئه.وهو هنا بمعنى المبخوس كالخلق بمعنى المخلوق.وتقدم فعل البخس عند قوله تعالى: {ولا يَبخس منه شيئًا} في سورة البقرة (282).و{دراهم} بدل من: {ثمن} وهي جمع درهم، وهو المسكوك.وهو معرّب عن الفارسية كما في صحاح الجوهري.وقد أغفله الذين جمعوا ما هو معرب في القرآن كالسيوطي في الإتقان.و{معدودة} كناية عن كونها قليلة لأن الشيء القليل يسهل عدّه فإذا كثر صار تقديره بالوزن أو الكيل.ويقال في الكناية عن الكثرة: لا يعدّ.وضمائر الجمع كلها للسيّارة على أصح التفاسير.والزهادة: قلة الرغبة في حصول الشيء الذي من شأنه أن يرغب فيه، أو قلة الرغبة في عوضه كما هنا، أي كان السيارة غير راغبين في إغلاء ثمن يوسف عليه السّلام.ولعل سبب ذلك قلة معرفتهم بالأسعار.وصوغ الإخبار عن زهادتهم فيه بصيغة: {من الزاهدين} أشد مبالغة مما لو أخبر بكانوا فيه زاهدين، لأن جعلهم من فريق زاهدين ينبئ بأنهم جَروا في زهدهم في أمثاله على سنَن أمثالهم البسطاء الذين لا يقدرون قدر نفائس الأمور.و{فيه} متعلق بـ: {الزاهدين} و (أل) حرف لتعريف الجنس، وليست اسم موصول خلافًا لأكثر النحاة الذين يجعلون (أل) الداخلة على الأسماء المشتقة اسم موصول ما لم يتحقق عهد وتمسكوا بعلل واهية وخالفهم الأخفش والمازني.وتقديم المجرور على عامله للتنويه بشأن المزهود فيه، وللتنبيه على ضعف توسمهم وبصارتهم مع الرعاية على الفاصلة. اهـ.
|