الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشعراوي: هنا تتجلى عظمة الإيمان، وتتجلى محبة الله تعالى لخَلْقه، حيث يدعوهم إليه في كل أوقات اليوم والليلة، في الصباح وفي المساء، في العشية والظهيرة. والحق سبحانه حين يطلب من عباده أن يؤمنوا به، إنما لحبه لهم، وحرصه عليهم ليعطيهم، ويفيض عليهم من آلائه، وإلا فهو سبحانه بصفات الكمال والجلال غنيٌّ عنهم، فإيمان المؤمنين لا يزيد في مُلكه سبحانه شيئًا، كذلك كُفْر الكافرين لا ينقص من مُلكه سبحانه شيئًا. إذن: المسألة أنه سبحانه يريد أنْ يبرَّ صنعته، ويُكرم خَلْقه وعباده؛ لذلك يستدعيهم إلى حضرته، وقرَّبنا هذه المسألة بمثل- ولله تعالى المثل الأعلى-، قلنا: إذا أردتَ أنْ تقابل أحد العظماء، أو أصحاب المراكز العليا، فدون هذا اللقاء مشاقّ لابد أن تتجشمها. لابُدَّ أن يُؤْذَن لك أولًا في اللقاء، ثم يُحدَّد لك الزمان والمكان، بل ومدة اللقاء وموضوعه، وربما الكلمات التي ستقولها، ثم هو الذي يُنهي اللقاء، لا أنت. هذا إنْ أردتَ لقاء الخَلْق، فما بالك بلقاء الخالق عز وجل؟ يكفي أنه سبحانه يستدعيك بنفسه إلى حضرته، ويجعل ذلك فرضًا وحتمًا عليك، ويطلبك قبل أنْ تطلبه، ويذكرك قبل أن تذكره، لا مرة واحدة، إنما خمس مرات في اليوم والليلة، فإذا لبَّيْتَ طلبه أفاض عليك من رحمته، ومن نعمه، ومن تجلياته، وما بالك بصنعة تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم، أيصيبها عطب؟ ثم يترك لك ربك كل تفاصيل هذه المقابلة، فتختار أنت الزمان والمكان والموضوع، فإنْ أردتَ أنْ تطيل أمد المقابلة، فإن ربك لا يملّ حتى تمل؛ لذلك فإن أهل المعرفة الذين عرفوا لله تعالى قَدْره، وعرفوا عطاءه، وعرفوا عاقبة اللجوء إليه سبحانه يقولون: والعبودية كلمة مكروهة عند البشر؛ لأن العبودية للبشر ذُلٌّ ومهانة، حيث يأخذ السيد خير عبده، أمّا العبودية لله فهي قمة العزّ كله، وفيها يأخذ العبد غير سيده؛ لذلك امتنّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه العبودية في قوله سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بعَبْده} [الإسراء: 1]. وكلمة {فَسُبْحَانَ الله} [الروم: 17] هي في ذاتها عبادة وتسبيح لله تعني: أُنزّه الله عن أنْ يكون مثله شيء؛ لذلك يقول أهل المعرفة: كل ما يخطر ببالك فالله غير ذلك؛ لأنه سبحانه {لَيْسَ كَمثْله شَيْءٌ} [الشورى: 11]. فالله سبحانه مُنزَّه في ذاته، مُنزَّه في صفاته، مُنزَّه في أفعاله، فإنْ وجدنا صفة مشتركة بين الخَلْق والخالق سبحانه نفهمها في إطار {لَيْسَ كَمثْله شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وقلنا: إنك لو استقرأت مادة سبح ومشتقاتها في كتاب الله تجد في أول الإسراء: {سُبْحَانَ الذي أسرى بعَبْده}. [الإسراء: 1] وفي أول سورة الحديد: {سَبَّحَ للَّه مَا في السماوات والأرض} [الحديد: 1] ثم {يُسَبّحُ للَّه مَا في السماوات وَمَا في الأرض} [الجمعة: 1]. فكأن الله تعالى مُسبَّح أزلًا قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبّحه، فالتسبيح ثابت لله أولًا، وبعد ذلك سبَّحَتْ له السماوات والأرض، ولم ينقطع تسبيحها، إنما ما زالت مُسبّحة لله. فإذا كان التسبيح ثابتًا لله تعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبّحه، وحين خلق السماوات والأرض سبَّحتْ له السماوات والأرض وما زالت، فعليك أنت أيها الإنسان ألاَّ تشذَّ عن هذه القاعدة، وألاَّ تتخلف عن هذه المنظومة الكونية، وأن تكون أنت كذلك مُسبّحًا؛ لذلك جاء في القرآن: {سَبّح اسم رَبّكَ الأعلى} [الأعلى: 1]. فاستح أنت أيها الإنسان، فكل شيء في الوجود مُسبّح {وَإن مّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبّحُ بحَمْده ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. لكن أراد بعض العلماء أنْ يُقرّب تسبيح الجمادات التي لا يسمع لها صوتًا ولا حسًّا، فقال: إن تسبيحها تسبيح دلالة على الله. ونقول: إنْ كان تسبيحَ دلالة كما تقول فقد فهمته، والله يقول {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. إذن: ففهْمُك له غير حقيقي، وما دام أن الله أخبر أنها تُسبّح فهي تسبّح على الحقيقة بلغة لا نعرفها نحن، ولمَ لا والله قد أعطانا أمثلة لأشياء غير ناطقة سبَّحتْ؟ ألم يقُلْ عن الجبال أنها تُسبّح مع داود عليه السلام: {ياجبال أَوّبي مَعَهُ والطير} [سبأ: 10] ألم يُثبت للنملة وللهدهد كلامًا ومنطقًا؟ وقال في عموم الكائنات: {كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبيحَهُ} [النور: 41]. إذن: فالتسبيح لله تعالى من كل الكائنات، والحق سبحانه يعطينا المثل في ذواتنا: فأنت إذا لم تكُنْ تعرف الإنجليزية مثلًا، أتفهم مَنْ يتكلم بها؟ وهي لغة لها أصوات وحروف تُنطق، وتسمعها بنفس الطريقة التي تتكلم أنت بها. لذلك تأتي كلمة سبحان الله في الأشياء التي يجب أنْ تُنزه الله فيها، واقرأ إنْ شئت قوله تعالى في الإسراء: {سُبْحَانَ الذي أسرى بعَبْده} [الإسراء: 1] كأنه سبحانه يقول لنا: نزّهوا الله عن مشابهة البشر، وعن قوانين البشر في هذه المسألة، إياك أنْ تقول: كيف ذهب محمد من مكة إلى بيت المقدس، ثم يصعد إلى السماء، ويعود في ليلة واحدة. فبقانون البشر يصعُب عليك فَهْم هذه المسألة، وهذا ما فعله كفار مكة حيث قالوا: كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرًا، وتدَّعي أنك أتيتها في ليلة؟ فقاسوا المسألة والمسافات على قدرتهم هم، فاستبعدوا ذلك وكذَّبوه. ولو تأملوا الآية: {سُبْحَانَ الذي أسرى بعَبْده} [الإسراء: 1] وهم أهل اللغة لَعرفوا أن الإسراء لم يكُنْ بقوة محمد، فلم يقُلْ أسريتُ، ولكن قال: «أُسري بي» فلا دخلَ له في هذه المسألة وقانونه فيها مُلْغى، إنما أسرى بقانون مَنْ أسرى به. إذن: عليك أن تُنزه الله عن قوانينك في الزمان وفي المسافة، وإنْ أردتَ أن تُقرب هذه المسألة للعقل، فالمسافة تحتاج إلى زمن يتناسب مع الوسيلة هذه المسألة للعقل، فالمسافة تحتاج إلى زمن يتناسب مع الوسيلة التي ستقطع بها المسافة، فالذي يسير غير الذي يركب دابةً، غير الذي يركب سيارة أو طائرة أو صاروخًا وهكذا. فإذا كان في قوانين البشر: إذا زادت القوة قَلَّ الزمن، فكيف لو نسَبْتَ القوة إلى الله عز وجل؟ عندها نقول: لا زمن فإنْ قُلْتَ: إن ألغينا الزمن مع قوة الله وقدرته تعالى، فلماذا ذكر الزمن هنا وقُدّر بليلة؟ قالوا: لأن الرحلة لم تقتصر على الذهاب والعودة، إنما تعرَّض فيها النبي صلى الله عليه وسلم لَمَراء كثيرة، وقابل هناك بعض الأنبياء، وتحدَّث معهم، فهذه الأحداث لرسول الله هي التي استغرقتْ الزمن، أمّا الرحلة فلم تستغرق وقتًا. كذلك جاءت كلمة {سبحان} في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا ممَّا تُنبتُ الأرض وَمنْ أَنفُسهمْ وَممَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] لماذا؟ لأن مسألة الخَلْق من المسائل التي يقف عندها العقل، وينبغي أنْ تُنزّه الله عن أنْ يشاركه فيها أحد. ولما نزلت هذه الآية كان الناس يعرفون الزوجية في النبات لأنهم كانوا يُلقّحون النخل، ويعرفونها في الإنسان؛ لأنهم يتزوجون وينجبون، وكذلك يعرفونها في الحيوان، هذه حدود العقل في مسألة الزوجية. لكن الآية لم تقتصر على ذلك، إنما قال سبحانه: {وَممَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] لأن المستقبل سيكتشف لهم عن أشياء أخرى تقوم على نظرية الزوجية، وقد عرفنا نحن هذه النظرية في الكهرباء مثلًا حيث السالب والموجب، وفي الذرات حيث الإلكترونات، والبروتونات. إلخ. إذن: ساعةَ تسمع كلمة التسبيح فاعلم أنك ستستقبل حدثًا فريدًا، ليس كأحداث البشر، ولا يخضع لقوانينهم. ثم يقول سبحانه: {وَلَهُ الحمد في السماوات}. نحلظ أن قوله تعالى: {وَلَهُ الحمد في السماوات والأرض} [الروم: 18] فصلَتْ بين الأزمنة المذكورة، فجعلت {تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبحُونَ} [الروم: 17] في ناحية، و{وَعَشيًّا وَحينَ تُظْهرُونَ} [الروم: 18] في ناحية، مع أنها جميعًا أوقات وأزمنة في اليوم والليلة، لماذا؟ قالوا: لأنه سبحانه يريد أنْ يُشعرنا أن له الحمد، ويجب أنْ تحمده على أنه مُنزَّه عن التمثيل؛ لأنها في مصلحتك أنت، وأنت الجاني لثمار ها التنزيه، فإنْ أرادك بخير فلا مثيلَ له سبحانه يمنعه عنك، وله وحده الكبرياء الذي يحميك أن يتكبر أحد عليك، وله وحده تخضع وتسجد، لا تسجد لغيره، فسجودك لوجه ربك يكفيك كل الأوجه، كما قال الشاعر: إذن: من مصلحتك أن يكون الله تعالى هو الواحد الذي لا مثيلَ له، والقوى الذي لا يوجد أقوى منه، والمتكبّر بحقٍّ؛ لأن كبرياءه يحمي الضعيف أنْ يتكبّر عليه القوي، يجب أنْ تحمد الله الذي تعبَّدنا بالسجود له وحده، وبالخضوع له وحده؛ لأنه أنجاك بالسجود له أنْ تسجد لكل قوي عنك، وهذا من عظمته تعالى ورحمته بخَلْقه؛ لذلك تستوجب الحمد. لذلك نقول في العامية اللي ملوش كبير يشتري له كبير لماذا؟ لأنه لا يعيش عزيزًا مُكرّمًا إلا إذا كان له كبير يحميه، ويدافع عنه، كذلك أنت لا تكون عزيزًا إلا في عبوديتك لله. والخَلْق جميعًا بالنسبة لله تعالى سواء، فليس له سبحانه من عباده ولد ولا قريب، فلا مؤثرات تؤثر عليه، فيحابي أحدًا على أحد، فنحن جميعًا شركة في الله؛ لذلك يقول سبحانه: {مَا اتخذ صَاحبَةً وَلاَ وَلَدًا} [الجن: 3] أي: لا شيء يؤثر عليه سبحانه. وقال بعد التسبيح {وَلَهُ الحمد} [الروم: 18] لأن التسبيح ينبغي أنْ يُتبَع بالحمد فتقول: سبحان الله والحمد لله، أي: الحمد لله على أنني سبَّحت مسبَّحًا. وحين نتأمل هذه الأوقات التي أمرنا الله فيها بالتسبيح، وهي المساء والصباح والعشي، وهي من العصر إلى المغرب، ثم الظهيرة نجد أنها أوقات عامة سارية في كَوْن الله لا تنقطع أبدًا، فأيّ صباح وأيّ مساء؟ صباحي أنا؟ أم صباح الآخرين؟ مسائي أم مساء غيري في أقصى أطراف المعمورة؟ إن المتأمل في دورة الوقت يجد أن كل لحظة فيه لا تخلو من صباح ومساء، وعشية وظهيرة، وهذا يعني أن الله تعالى مُسبّح معبود في كل لحظة من لحظات الزمن. وفي ضوء هذا نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» فالكون لا يخلو في لحظة واحدة من ليل أو نهار، وهذا يعني أن يد الله سبحانه مبسوطة دائمًا لا تُقبَض: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة: 64]. ثم يقول الحق سبحانه: {يُخْرجُ الحي منَ الميت}. أولًا: ما مناسبة الحديث عن البعث، وإخراج الحيّ من الميت، وإخراج الميت من الحيّ بعد الحديث عن تسبيح الله وتحميده؟ قالوا: لأنه تكلَّم عن المساء والصباح، وفيهما شبه بالحياة والموت، ففي المساء يحلُّ الظلام، ويسكُن الخَلْق وينامون، فهو وقت للهدوء والاستقرار، والنوم الذي هو صورة من صور الموت؛ لذلك نسميه الموت الأصغر، وفي الصباح وقت الحركة والعمل والسعي على المعاش، ففيه إذن حياة، كما يقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا اليل لبَاسًا وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشًا} [النبأ: 10-11]. ويُُمثَّل الموت والبعث بالنوم والاستيقاظ منه، كما جاء في بعض المواعظ: لتموتُن كما تنامون، ولتُبعثُنَّ كما تستيقظون. وما دُمْنا قد شاهدنا الحاليْن، وعايّنا النوم واليقظة، فلنأخذ منهما دليلًا على البعث بعد الموت، وإنْ أخبرنا القرآن بذلك، فعلينا أنْ نُصدّق، وأنْ نأخذ من المشاهد دليلًا على الغَيْب، وهذا ما جاءتْ به الآية: {يُخْرجُ الحي منَ الميت وَيُخْرجُ الميت منَ الحي} [الروم: 19]. وقوله تعالى هنا {الحي} {والميت} أي: في نظرنا نحن وعلى حَدّ علْمنا وفَهمنا للأمور، وإلا فكُلُّ شيء في الوجود له حياة تناسبه، ولا يوجد موت حقيقي إلا في الآخرة التي قال الله فيها: {كُلُّ شَيْءٍ هَالكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]. فضدُّ الحياة الهلاك بدليل قوله تعالى: {لّيَهْلكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيّنَةٍ} [الأنفال: 42]. وما دام كلُّ شيء هالكًا إلا وجهه تعالى، فكل شيء بالتالي حَيٌّ، لكنه حي بحياة تناسبه. وأذكر أنهم كانوا يُعلّموننا كيفية عمل المغناطيس وانتقال المغناطيسية من قطعة مُمغنطة إلى قطعة أخرى بالدَّلْك في اتجاه واحد، وفعلًا شاهدنا أن قطعة الحديد تكتسب المغناطيسية. وتستطيع أنْ تجذب إليها قطعة أخرى، أليس هذا مظهرًا من مظاهر الحياة؟ أليست هذه حركة في الجماد الذي نراه نحن جمادًا لا حياةَ فيه، وهو يؤثر ويتأثر بغيره، وفيه ذرات تتحرك بنظام ثابت ولها قانون. إذن: نقول لكل شيء موجود حياته الخاصة به، وإنْ كُنَّا لا ندركها؛ لأننا نفهم أن الحياة في الأحياء فحسب، إنما هي في كل شيء وكَوْنك لا تفقه حياة هذه الأشياء، فهذه مسألة أخرى. لذلك سيدنا سليمان- عليه السلام- لما سمع كلام النملة، وكيف أنها تفهم وتقف ديدبانًا لقبيلتها، وتفهم حركة الجيش وعاقبة الوقوف في طريقه، فتحذر جماعتها ادخلوا مساكنكم، وكيف كانت واعية، وعادلة في قولها. {لاَ يَحْطمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] فهي تعلم أن الجيش لو حطَّم النمل، فهذا عن غير مقصد منهم، وعندها أحسَّ سليمان بنعمة الله عليه بأنْ يعلم ما لا يعلمه غيره من الناس، فقال: {رَبّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالدَيَّ} [النمل: 19]. فمعنى {يُخْرجُ الحي منَ الميت} [الروم: 19] أي: في عُرْفنا نحن، وعلى قَدْر فَهْمنا للحياة وللموت، والبعض يقول: يعني يُخرج البيضة من الدجاجة، ويُخرج الدجاجة من البيضة، وهذا الكلام لا يستقيم مع منطق العقل، وهل كل بيضة بالضرورة تُخرج دجاجة؟ لا بل لابد أنْ تكون بيضة مُخصَّبة. إذن: لا تقُلْ البيضة والدجاجة، ولكن قُلْ يُخرج الحي من الميت من كل شيء موجود. ثم يقول سبحانه: {وَيُخْرجُ الميت منَ الحي} [الروم: 19] وفي موضع آخر يقول تعالى: {يُخْرجُ الحي منَ الميت وَمُخْرجُ الميت منَ الحي} [الأنعام: 95] فأتى باسم الفاعل {مُخْرج} بدلًا من الفعل المضارع. لذلك وقف عندها المشككون في أسلوب القرآن، يقولون: إنْ كانت إحداهما بليغة، فالأخرى غير بليغة، وهذا منهم نتيجة طبيعية لعدم فَهْمهم للغة القرآن، وليستْ لديهم الملَكة العربية التي تستقبل كلام الله. وهنا نقول: إن الذي يتكلم ربٌّ يعطي لكل لفظة وزنها، ويضع كل كلمة في موضعها الذي لا تُؤدّيه كلمة أخرى. فقوله تعالى: {يُخْرجُ الحي منَ الميت} [الروم: 19] هذه في مصلحة مَنْ؟ في مصلحتنا نحن؛ لأن الإنسان بطَبْعه يحب الحياة، وربما استعلى بها، واغترَّ بهذا الاستعلاء، كما قال ربنا: {كَلاَّ إنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6-7]. لذلك يُذكّره ربه تعالى بالمقابل: فأنا كما أُخرج الحيَّ من الميت أُخرج الميت من الحيّ فانتبه، وإياك أنْ تَتعالى أو تتكبَّر، وافهم أن الحياة موهوبة لك من ربك يمكن أنْ يسلبها منك في أيّ لحظة. وعبَّر عن هذا المعنى مرة بالفعل المضارع {يُخرج} الدالّ على الاستمرار والتجدُّد، ومرة باسم الفاعل {مُخرج} الدال على ثبوت الصفة وملازمتها للموصوف، لا مجرد حدث عارض. لذلك تأمل قول الله تعالى: {تَبَارَكَ الذي بيَده الملك وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ الذي خَلَقَ الموت والحياة ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 1-2] وفي نظرنا أن الحياة تسبق الموت، لكن الحق سبحانه يريد أن يقتل في الإنسان صفة الاغترار بالحياة، فجعله يستقبل الحياة بما يناقضها، فقال: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2]. فقدَّم الموت على الحياة، فقبل أنْ تفكر في الحياة تذكّر الموت حتى لا تغترّ بها ولا تَطْغى. ويتجلى هذا المعنى أيضًا في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بمَسْبُوقينَ} [الواقعة: 58-60]. يعني: خذوا بالكم، وافهموا أنني واهب الحياة، وأستطيع أنْ أسلبها فلا تغترَّ بها ولا تتفرعن، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يَدُكَّ في الإنسان صفة الكبرياء والتعالي، فيُحدث هذه المقابلة دائمًا بين ذكْر الحياة في آيات القرآن الكريم. ثم أَلاَ ترى أن الخالق سبحانه لم يجعل للموت سببًا من أسباب العمر والسنين، فواحد يموت قبل أنْ يُولَد، وواحد يموت بعد يوم أو بعد شهر، وآخر يموت بعد عدة أعوام، وآخر بعد مائة عام. إذن: مسألة لا ضابط لها إلا أقدار الله وأجله الذي أجلَّه سبحانه، وفي هذا إشارة للإنسان: احذر فقد تُسلْبَ منك الحياة التي تنشأ منها غرورك في أيّ لحظة، ودون أنْ تدري ودن سابق إنذار أو مقدمات، فاستقمْ إذن على منهج ربك، ولا تجتريء على المعصية؛ لأنك قد تموت قبل أنْ تتدارك نفسَك بالتوبة. لذلك يقولون: إن الحق سبحانه حين أبهم وقت الموت بيَّنه بالإبهام غايةَ البيان، كيف؟ قالوا: لأنه سبحانه لو حدَّد لك موعد الموت لكنتَ تستعد له قبل أوانه، إنما حين أبهمه جعلك تستعدّ له كل لحظة من لحظات حياتك.
|