الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال الأصمعي: رأيت رجلًا عَيُونًا سمع بقرة تحلب فأعجبه شَخْبها فقال: أيتهنّ هذه؟ فقالوا: الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها، فهلكتا جميعًا، المورَى بها والمورَي عنها. قال الأصمعيّ. وسمعته يقول: إذا رأيتُ الشيء يعجبني وجدتُ حرارة تخرج من عينيّ. الثالثة: واجب على كل مسلم أعجبه شيء أن يُبَرِّك؛ فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة؛ ألا ترى قوله عليه السلام لعامر: «ألا برّكت» فدلّ على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا بَرَّك العائن، وأنها إنما تعدو إذا لم يُبَرِّك. والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين! اللهم بارك فيه. الرابعة: العائن إذا أصاب بعينه ولم يُبَرِّك فإنه يؤمر بالاغتسال، ويُجبر على ذلك إنْ أباه؛ لأن الأمر على الوجوب، لاسيما هذا؛ فإنه قد يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو، ولاسيما إذا كان بسببه وكان الجاني عليه. الخامسة: من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعًا لضرره؛ وقد قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته؛ وإن كان فقيرًا رزقه ما يقوم به، ويكفّ أذاه عن الناس. وقد قيل: إنه يُنفى؛ وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال؛ فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي، بل قد يكون الرجل الصالح عائنًا، وأنه لا يقدح فيه ولا يفسّق به؛ ومن قال: يحبس ويؤمر بلزوم بيته. فذلك احتياط ودفع ضرر، والله أعلم. السادسة: روى مالك عن حميد بن قيس المكّي أنه قال: دُخِل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب فقال لحاضنتهما: «ما لي أراهما ضَارِعَين» فقالت حاضنتهما: يا رسول الله! إنه تسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نَسْتَرْقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدَر سبقته العين» وهذا الحديث منقطع، ولكنه محفوظ لأسماء بنت عُمَيس الْخَثْعمية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة متصلة صحاح؛ وفيه أن الرُّقَى مما يُستَدفع به البلاء، وأن العين تؤثر في الإنسان وتَضْرَعه، أي تضعفه وتنحله؛ وذلك بقضاء الله تعالى وقدره. ويقال: إن العين أسرع إلى الصغار منها إلى الكبار، والله أعلم. السابعة: أمر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أُمامة العائن بالاغتسال للمَعِين، وأمر هنا بالاسترقاء؛ قال علماؤنا: إنما يسترقي من العين إذا لم يعرف العائن؛ وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه فإنه يؤمر بالوضوء على حديث أبي أمامة، والله أعلم. قوله تعالى: {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} أي من شيء أحذره عليكم؛ أي لا ينفع الحذر مع القدر. {إِنِ الحكم} أي الأمر والقضاء. {إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي اعتمدت ووثقت. {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون}. قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} أي من أبواب شتى. {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} إن أراد إيقاع مكروه بهم. {إِلاَّ حَاجَةً} استثناء ليس من الأوّل. {فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} أي خاطر خطر بقلبه؛ وهو وصيته أن يتفرّقوا؛ قال مجاهد: خشية العين، وقد تقدّم القول فيه. وقيل: لئلا يرى الملك عددهم وقوّتهم فيبطش بهم حسدًا أو حذرًا؛ قاله بعض المتأخرين، واختاره النحاس، وقال: ولا معنى للعين ها هنا. ودلّت هذه الآية على أن المسلم يجب عليه أن يحذر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة؛ فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ} يعني يعقوب. {لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} أي بأمر دينه. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون ما يعلم يعقوب عليه السلام من أمر دينه. وقيل: {لَذُو عِلْمٍ} أي عمل؛ فإن العلم أوّل أسباب العمل، فسمي بما هو بسببه. اهـ. .قال الخازن: وذلك أنهم لما خرجوا من عند يعقوب قاصدين مصر قال لهم يا بني لا تدخلوا يعني مدينة مصر من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وكان لمدينة مصر يومئذ أربعة أبواب، وقال السدي: أراد الطرق لا الأبواب يعني من طرق متفرقة وإنما أمرهم بذلك لأنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا قد أعطوا جمالًا وقوة وامتداد قامة وكانوا أولاد رجل واحد فأمرهم أن يتفرقوا في دخولهم المدينة لئلا يصابوا بالعين فإن العين حق، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العين حق» زاد البخاري «ونهى عن الوشم» عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغتسلوا» عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين» أخرجه أبو داود. قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى: قال المازري: أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقال العين حق وأنكره طوائف من المبتدعة والدليل على فساد عقولهم ان كل معنى يكون مخالفًا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول وإذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه وإنكاره وقيل لابد من فرق بين تكذيبهم بهذا وتكذيبهم بما يخبر به من أمور الآخرة قال وقد زعم بعض الطبائعيين مثبتين للعين تأثيرًا أن العين تنبعث من عينيه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد قالوا ولا يمتنع هذا كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقب تتصل بالملدوغ فيهلك وإن كان غير محسوس لنا فكذا العين، قال المازري: وهذا غير مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أنه لا فاعل إلا الله تعالى وبينا فساد القول بالطبائع وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئًا، فإذا تقرر هذا بطل ما قالوه ثم تقول هذا المنبعث من العين إما جوهر وإما عرض فباطل أن يكون عرضًا لأنه لا يقبل الانتقال وباطل ان يكون جوهرًا لأن الجواهر متجانسة فليس بعضها بأن يكون مفسدًا لبعض بأولى من عكسه فبطل ما قالوه وأقرب طريقة قالها من ينتحل الإسلام منهم إن قالوا لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من عين العائن للتصل بالمعين فتتخلل مسام جسمه فيخلق الله الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السموم عادة أجراها الله وليست ضرورة ولا طبيعية ألجأ الفعل إليها قال ومذهب أهل السنة أن المعين إنما يفسد ويهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى أجرى الله تعالى العادة بأن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص شخصًا آخر، وهل ثم جواهر أم لا فهذا من مجوزات العقول لا يقطع فيه بواحد من الأمرين وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وإضافته إلى الله تعالى فمن قطع من أطباء الإسلام بانبعاث الجواهر فقد أخطأ في قطعه وإنما هو من الجائزات هذا ما يتعلق بعلم الأصول وأما ما يتعلق بعلم الفقه فإن الشرع قد ورد بالوضوء لهذا الأمر في حديث سهل بن حنيف لما أصيب بالعين عند اغتساله رواه مالك في الموطأ. وأما صفة وضوء العائن فمذكور في كتب شرح الحديث ومعروف عند العلماء فيطلب من هناك فليس هذا موضعه والله أعلم. وقال وهب بن منبه: في قوله: {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} أنه خاف أن يغتالوا لما ظهر لهم في أرض مصر من التهمة حكاه ابن الجوزي عنه وقيل إن يعقوب كان قد علم أن ملك مصر هو ولده يوسف إلا أن الله تعالى لم يأذن له في إظهاره ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال لهم: لا تدخلوا من بابا واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى أخيه يوسف في وقت الخلوة قبل إخوته والقول الأول أصح أنه خاف عليهم من العين ثم رجع إلى علمه وفوض أمره إلى الله تعالى بقوله: {وما أغني عنكم من الله من شيء} يعني إن كان الله قد قضى عليكم بقضاء فهو يصيبكم مجتمعين كنتم أو متفرقين فإن المقدور كائن ولا ينفع حذر من قدر: {إن الحكم إلا لله} يعني وما الحكم إلا لله وحده لا شريك له فيه وهذا تفويض من يعقوب في أموره كلها إلى الله تعالى: {عليه توكلت} يعني عليه اعتمدت في أموري كلها لا على غيره: {وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} يعني من الأبواب المتفرقة وكان لمدينة مصر وقيل مدينة الفرماء أربعة أبواب فدخلوا من أبوابها كلها: {ما كان يغني عنهم من الله من شيء} وهذا تصديق من الله سبحانه وتعالى ليعقوب فيما قال وما أغني عنكم من الله من شيء: {إلا حاجة في نفس يعقوب قضاه} هذا استثناء منقطع ليس من الأول في شيء ومعناه لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها وهو أنه أشفق عليهم إشفاق الآباء على الأبناء وذلك أنه خاف عليهم من العين أو خاف عليهم حسد أهل مصر أو خاف أن لا يردوا عليه فأشفق من هذا كله أو بعضه: {وأنه} يعني يعقوب: {لذو علم} يعني صاحب علم: {لما علمناه} يعني لتعليمنا إياه ذلك العلم، وقيل: معناه وإنه لذو علم للشيء الذي والمعنى أنا لما علمناه هذه الأشياء حصل له العلم بتلك الأشياء، وقيل: إنه لذو حفظ لما علمناه وقيل إنه كان يعمل ما يعمل عن علم لا عن جهل، وقيل: إنه لعامل بما علمناه. قال سفيان من لا يعمل بما يعلم لا يكون عالمًا: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يعني لا يعلمون ما كان يعلم يعقوب لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم وقال ابن عباس: لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه. اهـ. .قال أبو السعود: {وَقَالَ} ناصحًا لهم لمّا أزمع على إرسالهم جميعًا: {الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ} مصر: {مِن بَابٍ وَاحِدٍ} نهاهم عن ذلك حِذارًا من إصابة العين، فإنهم كانوا ذوي جمالٍ وشارةٍ حسنة وقد كانوا تجمّلوا في هذه الكرّة أكثرَ مما في المرة الأولى وقد اشتهروا في مصر بالكرامة والزلفى لدى الملِك بخلاف النَّوْبة الأولى فكانوا مَئِنّةً لدنوّ كل ناظر وطُموح كل طامح، وإصابةُ مُعْين بتقدير العزيز الحكيم ليست مما يُنكر وقد ورد عنه عليه السلام: «إن العينَ حق» وعنه عليه السلام: «إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القِدْرَ» وقد كان عليه السلام يعوّذ الحسنين رضي الله عنهما بقوله: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامّة ومن كل عين لامّة» وكان عليه السلام يقول: «كان أبوكما يعوّذ بها إسماعيلَ وإسحاقَ عليهم السلام» رواه البخاري في صحيحه وقد شهدت بذلك التجارِبُ. ولمّا لم يكن عدمُ الدخول من باب واحد مستلزمًا للدخول من أبواب متفرّقة وكان في دخولهم من بابين أو ثلاثةٍ بعضُ ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماعٍ مصحِّحٍ لوقوع المحذورِ قال: {وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} بيانًا لِما المرادُ بالنهي وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزمًا له إظهارًا لكمال العنايةِ وإيذانًا بأنه المرادُ بالأمر المذكور لا تحقيقًا لشيء آخر: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ} أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري: {مّنَ الله مِن شَئ} أي شيئًا مما قضى عليكم فإن الحذرَ لا يمنع القدَر ولم يرد به عليه السلام إلغاءَ الحذر بالمرة كيف لا وقد قال عز قائلًا: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} وقال: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} بل أراد بيانَ أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المرادَ لا محالة بل هو تديبرٌ في الجملة وإنما التأثيرُ وترتُّبُ المنفعةِ عليه من العزيز القدير وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانةٌ بالله تعالى وهربٌ منه إليه. {إِنِ الحكم} مطلقًا: {أَلاَ لِلَّهِ} لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء: {عَلَيْهِ} لا على أحد سواه: {تَوَكَّلْتُ} في كل ما آتي وأذر، وفيه دَلالةٌ على أن ترتيبَ الأسباب غيرُ مُخلَ بالتوكل: {وَعَلَيْهِ} دون غيره: {فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} جُمع بين الحرْفين في عطف الجملةِ على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص مقيَّدًا بالواو عطف فعلٍ غيرِه من تخصيص التوكل بالله عز وجل على فعل نفسه وبإلقاء سببية فعلِه لكونه نبيًا لفعل غيره من المقتدين به فيدخل فيهم بنوه دخولًا أوليًا وفيه ما لا يخفى من حسن هدايتِهم وإرشادِهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله عز وجل غيرَ مغترّين بما وصاهم من التدبير. {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} من الأبواب المتفرقة من البلد، قيل: كانت له أربعةُ أبوابٍ فدخلوا منها وإنما اكتُفى بذكره لاستلزامه الانتهاءَ عما نُهوا عنه: {مَا كَانَ} ذلك الدخولُ: {يُغْنِى} فيما سيأتي عند وقوعِ ما وقع: {عَنْهُمْ} عن الداخلين لأن المقصودَ به استدفاعُ الضرر عنهم، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقيق المقارنةِ الواجبةِ بين جوابِ لمّا ومدخولِه فإن عدمَ الإغناءِ بالفعل إنما يتحقق عند نزولِ المحذورِ لا وقت الدخول، وإنما المتحققُ حينئذ ما أفاده الجمعُ المذكور من عدم كونِ الدخولِ المذكورِ مغْنيًا فيما سيأتي فتأمل: {مِنَ الله} من جهته: {مِن شَئ} أي شيئًا مما قضاه مع كونه مَظِنةً لذلك في بادي الرأي حيث وصّاهم به يعقوبُ عليه السلام وعمِلوا بموجبه واثقين بجدواه من فضل الله تعالى، فليس المرادُ بيانَ سببية الدخولِ المذكور لعدم الإغناءِ كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} فإن مجيءَ النذير هناك سببٌ لزيادة نفورِهم بل بيانُ عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعةً في بادي الرأي كما في قولك: حلف أن يُعطيَني حقي عند حلولِ الأجلِ فلما حل لم يُعطني شيئًا، فإن المرادَ بيانُ عدمِ سببية حلولِ الأجلِ للإعطاء مع كونها مرجُوّةً بموجب الحلِف لا بيانُ سببيته لعدم الإعطاءِ فالمآلُ بيانُ عدمِ ترتبِ الغرضِ المقصود على التدبير المعهودِ مع كونه مرجوَّ الوجود لا بيانُ ترتبِ عدمِه عليه، ويجوز أن يراد ذلك أيضًا بناءً على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيّتِه من أنه لا يُغني عنهم من الله شيئًا فكأنه قيل: ولمّا فعلوا ما وصاهم به لم يُفِدْ ذلك شيئًا ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقُوا ما لقُوا فيكون من باب وقوعِ المتوقع فتأمل. {إِلاَّ حَاجَةً} استثناءٌ منقطعٌ أي ولكنْ حاجةً وحرازةً كائنة: {فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} أي أظهرها ووصّاهم بها دفعًا للخاطرة غيرَ معتقدٍ أن للتدبير تأثيرًا في تغيير التقديرِ، وقد جعل ضميرُ الفاعل في قضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخولَ قضى حاجةً في نفس يعقوبَ وهي إرادتُه أن يكون دخولُهم من أبواب متفرقةٍ، فالمعنى ما كان ذلك الدخولُ يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئًا ولكن قضى حاجةً حاصلةً في نفس يعقوبَ بوقوعه حسب إرادتِه فالاستثناءُ منقطعٌ أيضًا وعلى التقديرين لم يكن للتدبير فائدةٌ سوى دفعِ الخاطرة، وأما إصابةُ العين فإنما لم تقع لكونها غيرَ مقدّرةٍ عليهم لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقضيّةً عليهم: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} جليلٍ: {لّمَا عَلَّمْنَاهُ} لتعليمنا إياه بالوحي ونصْبِ الأدلةِ لم يعتقِدْ أن الحذرَ يدفع القَدر وأن التديبرَ له حظٌ من التأثير حتى يتبينَ الخللُ في رأيه عند تخلفِ الأثر أو حيث بتّ القولَ بأنه لا يغني عنهم من الله شيئًا فكان الحالُ كما قال. وفي تأكيد الجملةِ بإن واللامِ وتنكيرِ العلْم وتعليلِه بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدلالة على جلالة شأنِ يعقوبَ عليه السلام وعلوِّ مرتبة علمِه وفخامته ما لا يخفى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أسرارَ القدر ويزعمُون أنه يغني عنه الحذرُ، وأما ما يقال من أن المعنى لا يعلمون إيجابَ الحذر مع أنه لا يغني شيئًا من القدر فيأباه مقام بيان تخلّفِ المطلوب عن المبادئ. اهـ.
|