الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال الله عز وجل ردًا على الكافرين {أَطَّلَعَ الغيب} يقول: أنظر في اللوح المحفوظ {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} يعني: أعقد عند الله عقد التوحيد وهو قول لا إله إلاّ الله، ويقال: أعهد إليه أن يجعل له في الجنة {كَلاَّ} وهو رد عليه لا يعطى له ذلك، واعلم أنه ليس في النصف الأول كلا، وأما النصف الثاني ففيه نيف وثلاثون موضعًا، ففي بعض المواضع في معنى الرد للكلام الأول، وفي بعض المواضع للتنبيه في معنى الافتتاح، وفي بعض المواضع يحتمل كلا الوجهين.فأول ذلك {أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا كَلاَّ} تم الكلام عنده أي: كلا لم يطلع الغيب ولم يتخذ عهدًا، ثم ابتدأ {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} من ذلك قوله: {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَّ} لا يقتلونك.وأما الذي هو للتنبيه في معنى الافتتاح قوله عز وجل {حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 2/3] وقوله عز وجل {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} من الكذب، يعني: سنحفظ ما يقول {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب} يعني: نزيد له من العذاب {مَدًّا} يعني: بعضه على إثر بعضٍ {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} يعني: نعطيه غير ما يقول في الجنة، ونعطي ما يدعي لنفسه لغيره {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} يعني: وحيدًا بغير مال ولا ولد {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا} يعني: منعة في الآخرة {كَلاَّ} رد عليهم أي لا يكون لهم منعة. وتم الكلام.ثم قال: {سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم} يعني: الآلهة يجحدون عبادتهم {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} يعني: الآلهة تكون عونًا عليهم في العذاب، ويقال: عدوًا لهم في الآخرة، ومن هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ رِضَا المَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ عَادَ الحَامِدُ لَهُ ذَامًّا» ثم قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين} يعني: ألم تخبر في القرآن أنا سلطنا الشياطين {عَلَى الكافرين} مجازاة لهم ويقال: خلينا بينهم وبين الكفار فلم نعصمهم {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} يعني: تزعجهم إزعاجًا وتغريهم إغراءً حتى يركبوا المعاصي، قال الضحاك: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي تأمرهم أمرًا، وقال الحسن: تقدمهم إقدامًا إلى الشر، وقال الكلبي: نزلت الآية في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط {فَلاَ تَعْجَلْ} يا محمد {عَلَيْهِمْ} بالعذاب {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} يعني: أيام الحياة، ثم ينزل بهم العذاب ويقال: نعد عليهم النفس بعد النفس ويقال: الأيام والليالي والشهور قوله عز وجل: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين} يعني: اذكر يوم نحشر المتقين الذين اتقوا الشرك والفواحش {إِلَى الرحمن وَفْدًا} يعني: ركبانًا على النوق والوفد جمع الوافد مثل الركب جمع راكب والوفد الذي يأتي بالخبر والبشارة ويجازي بالحياة الكرامة.وروي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا} ثم قال: أتدرون على أي شيء يحشرون أما والله ما يحشرون على أقدامهم، ولكن يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها أرحال الذهب، وأزمتها من الزبرجد ثم ينطلق بهم حتى يقرعوا باب الجنة.وقال الربيع بن أنس يوفدون إلى ربهم فيكرمون ويعظمون ويشفعون ويحيون فيها بالسلام.ويقال: {إِلَى الرحمن} يعني: إلى الرحمة وهي الجنة ويقال: {إِلَى الرحمن} يعني: إلى دار الرحمن.ثم قال عز وجل: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا} يعني: عطاشًا مشاة، وأصله الورود على الماء والوارد على الماء يكون عطشانًا.قال عز وجل: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} يعني: من جاء بلا إله إلا الله، وقال سفيان الثوري: إلا من قدم عملًا صالحًا {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا} يعني: اليهود والنصارى {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} يعني: قلتم قولًا عظيمًا منكرًا ويقال كذبًا وزورًا، قال عز وجل: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} يعني: من قولهم {وَتَنشَقُّ الأرض} يعني: تتصدع الأرض {وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا} تصير الجبال كسرًا {أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا} يعني: بأن قالوا لله ولد.روي عن بعض الصحابة أنه قال كان بنو آدم لا يأتون شجرة إلا أصابوا منها منفعة حتى قالت فجرة بني آدم اتَّخذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا اقشعرت الأرض وهلك الشجر، وقرأ نافع والكسائي {يَكَادُ} بالياء على لفظ التذكير والباقون بالتاء لأن الفعل مقدم، فيجوز كلاهما، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية حفص {يَتَفَطَّرْنَ} بالتاء والباقون بالنون ومعناهما واحد مثل ينشق وتنشق، قال الله عز وجل: {وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} يعني: ما اتخذ الله عز وجل ولدًا {إِن كُلُّ مَن في السموات والأرض إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْدًا} يعني: أقر بالعبودية يعني: به الملائكة وعيسى وعزيرًا وغيرهم {لَّقَدْ أحصاهم} يعني: حفظ عليهم أعمالهم ليجازيهم بها {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} يعني: علم عددهم، ويقال: {أحصاهم} أي: حفظ أعمالهم فيجازيهم {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي: علم عدد أنفاسهم وحركاتهم {وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدًا} يعني: وحيدًا بغير مال ولا ولد {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} يعني: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} يعني: يحبهم ويحببهم إلى الناس، وقال كعب الأحبار: قرأت في التوراة أنها لم تكن محبة لأحد إلا كان بدؤها من الله تعالى ينزل إلى أهل السماء ثم ينزلها إلى أهل الأرض، ثم قرأت القرآن فوجدته فيه وهو قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} يعني: محبة في أنفس القوم، روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَحَبَّ الله عَبْدًَا نَادَىَ جِبْرِيْلَ قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَنًَا فَأَحِبُّوهُ فَيُنَادِي في السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ المَحَبَّةُ فِي الأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ الله عَبْدًَا نَادَىَ جِبْرِيلَ قَدْ أَبْغَضْتُ فُلانًا فَيُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءَ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ البَغْضَاءُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ».قوله عز وجل: {فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ} يعني: هَوَّنا قراءة القرآن على لسانك {لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين} أي: الموحدين {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} أي جُدلًا بالباطل شديدي الخصومة، هو جمع ألد مثل أصم وصم.{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ} يعني: من قبل قريش {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ} يعني: هل ترى منهم من أحد {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أي صوتًا خفيًا، والركز الصوت الذي لا يفهم، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله. اهـ.
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} لنَخرجنّ من كلّ أُمّة وأهل دين {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيًّا} عتوًّا قال ابن عباس: يعني جرأةً، وقال مجاهد: فجورًا وكذبًا، قال مقاتل: علوًّا، وقيل: غلوًّا في الكفر، وقيل: كفرًا، وقال الكلبي: قائدهم رأسُهم في الشرّ.أخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدَّثنا محمد بن يعقوب قال: حدَّثنا الحسن بن علي قال: حدَّثنا أبو أُسامة عن سفيان عن علي بن الأرقم عن أبي الأحوص قال: نبدأ بالأكابر فألاكابر {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيًّا} أي أحقّ بدخول النار، يقال: صلي يصلى صليًا مثل لقي يلقى لقيًّا وصلى يصلى صليًا مثل مضى يمضي مضيًا.{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قيل: في الآية إضمار مجازه: والله إنْ منكم يعني ما منكم من أحد ألاّ واردها يعني النار، واختلف الناس في معنى الورود حسب اختلافهم في الوعيد، فأمّا الوعيد فإنّهم قالوا: إنّ من دخلها لم يخرج منها، وقالت المرجئة: لا يدخلها مؤمن، واتّفقوا على أنّ الورود هو الحضور والمرور، فأمّا أهل السنّة فإنّهم قالوا: يجوز أن يعاقب الله سبحانه العصاة من المؤمنين بالنار ثم يخرجهم منها، وقالوا: معنى الورود الدخول، واحتجّوا، بقول الله سبحانه حكاية عن فرعون {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] وقال في الأصنام وعبدتها {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] {لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 99] فلو لم يكن الورود في هذه الآيات بمعنى الدخول لوجب أن يدخل الأصنام وعبدتها وفرعون وقومه الجنّة لأن من مرَّ على النار فلابّد له من الجنّة لأنه ليس بعد الدنيا دار إلاّ الجنّة أو النار، والذي يدلّ على أنّ الورود هو الدخول قوله في سياق الآية {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} والنجاة لا تكون إلاّ ممّا دخلت فيه وأنت ملقىً فيه، قال الله سبحانه: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] واللغة تشهد لهذا، تقول العرب: ورد كتاب فلان، ووردتُ بلد كذا، لا يريدون جزت عليها وإنّما يريدون دخلتها، ودليلنا أيضًا من السنّة.
|