الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} أي من أمر يعلمه ربي، الجمهور على أنه الروح الذي في الحيوان، سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله أي مما استأثر بعلمه. وعن أبي هريرة: لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيته بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه. والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز، ولذا رد ما قيل في حده أنه جسم دقيق هوائي في كل جزء من الحيوان. وقيل: هو خلق عظيم روحاني أعظم من الملك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو جبريل عليه السلام: {نزل به الروح الأمين على قلبك} [الشعراء: 193] وعن الحسن: القرآن دليله: {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشورى: 52] ولأن به حياة القلوب و{من أمر ربي} أي من وحيه وكلامه ليس من كلام البشر. ورُوي أن اليهود بعثت إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عن الكل أو سكت عن الكل فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم. وقيل: كان السؤال عن خلق الروح يعني أهو مخلوق أم لا. وقوله: {من أمر ربي} دليل خلق الروح فكان هذا جوابًا {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} الخطاب عام فقد رُويَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال: «بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلًا» وقيل: هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله. فالقلة والكثرة من الأمور الإضافية، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله تعالى فهي قليلة. ثم نبه على نعمة الوحي وعزاه بالصبر على أذى الجدال في السؤال بقوله: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} {لنذهبن} جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط، واللام الداخلة على {إن} توطئة للقسم، والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف فلم نترك له أثرًا {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} أي ثم لا تجد لك بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظًا مسطورًا. {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} أي إلا إن يرحمك ربك فيرده عليك كأن رحمته تتوكل عليه بالرد، أو يكون على الاستثناء المنقطع أي ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظًا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه ونزل جوابًا لقول النضر: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الأنفال: 21]. اهـ. .قال البيضاوي: {يَوْمَ نَدْعُو} نصب بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه {وَلاَ يُظْلَمُونَ}، وقرئ {يدعو} و{يدعي} و{يدعو} على قلب الألف واوًا في لغة من يقول أفعو في أفعى، أو على أن الواو علامة الجمع كما في قوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} أو ضميره وكل بدل منه والنون محذوفة لقلة المبالاة بها فإنها ليست إلا علامة الرفع، وهو قد يقدر كما في {يدعي}. {كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين. وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا صاحب كتاب كذا، أي تنقطع علقة الأنساب وتبقى نسبة الأعمال. وقيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم. وقيل بأمهاتهم جمع أم كخف وخفاف، والحكمة في ذلك، إجلال عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله عنهما، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. {فَمَنْ أُوتِىَ} من المدعوين. {كتابه بِيَمِينِهِ} أي كتاب عمله. {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم} ابتهاجًا وتبجحًا بما يرون فيه. {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء، وجمع اسم الإشارة والضمير لأن من أوتي في معنى الجمع، وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على أن من أوتي كتابه بشماله إذا اطلع ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن القراءة، ولذلك لم يذكرهم مع أن قوله: {وَمَن كَانَ في هذه أعمى فَهُوَ في الآخرة أعمى} أيضًا مشعر بذلك فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب، والمعنى ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يبصر رشده كان في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة. {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} منه في الدنيا لزوال الاستعداد وفقدان الآلة والمهلة. وقيل لأن الاهتداء بعد لا ينفعه والأعمى مستعار من فاقد الحاسة. وقيل الثاني للتفضيل من عمي بقلبه كالأجهل والأبله ولذلك لم يمله أبو عمرو ويعقوب، فإن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسطة كما في أعمالكم بخلاف النعت، فإن ألفه واقعة في الطرف لفظًا وحكمًا فكانت معرضة للامالة من حيث إنها تصير ياء في التثنية، وقد أمالهما حمزة والكسائي وأبو بكر، وقرأ ورش بين بين فيهما. {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} نزلت في ثقيف قالوا لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالًا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في صلاتنا، وكل ربًا لنا فهو لنا وكل ربًا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك فقل إن الله أمرني. وقيل في قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا وتمسها بيدك. وإن هي المخففة واللام هي الفارقة والمعنى: أن الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة بالاستنزال. {عَنِ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من الأحكام {لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} غير ما أوحينا إليك. {وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك وليًا لهم بريئًا من ولايتي. {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك} ولولا تثبيتنا إياك. {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم، والمعنى أنك كنت على صدد الركون إليهم لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون فضلًا أن تركن إليهم، وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما هَمَّ بإجابتهم مع قوة الدواعي. إليها، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه. {إِذًا لأذقناك} أي لو قاربت لأذقناك. {ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ضعف ما نعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك لأن خطأ الخطير أخطر، وكان أصل الكلام عذابًا ضعفًا في الحياة وعذابًا ضعفًا في الممات بمعنى مضاعفًا، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، ثم أضيفت كما يضاف موصوفها. وقيل الضعف من أسماء العذاب. وقيل المراد بـ {ضِعْفَ الحياة} عذاب الآخرة {وَضِعْفَ الممات} عذاب القبر. {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} يدفع العذاب عنك. {وَإِن كَادُواْ} وإن كاد أهل مكة. {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ليزعجوك بمعاداتهم. {مّنَ الأرض} أرض مكة. {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك} ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك. {إِلاَّ قَلِيلًا} إلا زمانًا قليلًا، وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته بسنة. وقيل الآية: نزلت في اليهود حسدوا مقام النبي بالمدينة فقالوا: الشام مقام الأنبياء فإن كنت نبيًا فالحق بها حتى نؤمن بك، فوقع ذلك في قلبه فخرج مرحلة فنزلت، فرجع ثم قتل منهم بنو قريظة وأجلي بنو النضير بقليل. وقرئ {لا يلبثوا} منصوبًا ب {إِذَا} على أنه معطوف على جملة قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} لا على خبر كاد فإن إذا لا تعمل إذا كان معتمد ما بعدها على ما قبلها وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص: {خلافك} وهو لغة فيه قال الشاعر: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} نصب على المصدر أي سن الله ذلك سنة، وهو أن يهلك كل أمة لله أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم، فالسنة لله وإضافتها إلى الرسل لأنها من أجلهم ويدل عليه. {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} أي تغييرًا. {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} لزوالها ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر» وقيل لغروبها وأصل التركيب للانتقال ومنه الدلك فإن الدلك لا تستقر يده، وكذا كل ما تركب من الدال واللام: كدلج ودلح ودلع ودلف ودله. وقيل الدلوك من الدلك لأن الناظر إليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها، واللام للتأنيث مثلها في: لثلاث خلون {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} إلى ظلمته وهو وقت صلاة العشاء الأخيرة. {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ} وصلاة الصبح، سميت قرآنًا لأنه ركنها كما سميت ركوعًا وسجودًا، واستدل به على وجوب القراءة فيها ولا دليل فيه لجواز أن يكون التجوز لكونها مندوبة فيها، نعم لو فسر بالقراءة في صلاة الفجر دل الأمر بإقامتها على الوجوب فيها نصًا وفي غيرها قياسًا. {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، أو شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء والنوم الذي هو أخو الموت بالانتباه أو كثير من المصلين أو من حقه أن يشهده الجم الغفير، والآية جامعة للصلوات الخمس إن فسر الدلوك بالزوال ولصلوات الليل وحدها إن فسر بالغروب. وقيل المراد بالصلاة صلاة المغرب وقوله: {لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل} بيان لمبدأ الوقت ومنتهاه، واستدل به على أن الوقت يمتد إلى غروب الشفق. {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ} وبعض الليل فاترك الهجود للصلاة والضمير لل {قُرْءانَ}. {نَافِلَةً لَّكَ} فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة، أو فضيلة لك لاختصاص وجوبه بك. {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} مقامًا يحمده القائم فيه وكل من عرفه، وهو مطلق في كل مكان يتضمن كرامة والمشهور أنه مقام الشفاعة. لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي» ولإِشعاره بأن الناس يحمدونه لقيامه فيه وما ذاك إلا مقام الشفاعة، وانتصابه على الظرف بإضمار فعله أي فيقيمك مقامًا أو بتضمين {يَبْعَثَكَ} معناه، أو الحال بمعنى أن يبعثك ذا مقام. {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى} أي في القبر. {مُدْخَلَ صِدْقٍ} إِدخالًا مرضيًا. {وَأَخْرِجْنِى} أي منه عند البعث. {مُخْرَجَ صِدْقٍ} إخراجًا ملقى بالكرامة. وقيل المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة. وقيل إدخاله مكة ظاهرًا عليها وإخراجه منها آمنًا من المشركين. وقيل إدخاله الغار وإخراجه منه سالمًا. وقيل إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة وإخراجه منه مؤديًا حقه. وقيل إدخاله في كل ما يلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه. وقرئ {مُدْخَلَ} و{مُخْرَجَ} بالفتح على معنى أدخلني فأدخل دخولًا وأخرجني فأخرج خروجًا. {واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا} حجة تنصرني على من خالفني أو ملكًا ينصر الإِسلام على الكفر، فاستجاب له بقوله: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض} {وَقُلْ جَاء الحق} الإسلام {وَزَهَقَ الباطل} وذهب وهلك الشرك من زهق روحه إذا خرج. {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} مضمحلًا غير ثابت، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة يوم الفتح وفيها ثلثمائة وستون صنمًا ينكت بمخصرته في عين كل واحد منها فيقول جاء الحق وزهق الباطل، فينكب لوجهه حتى ألقى جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من صفر فقال: «يا علي ارم به» فصعد فرمى به فكسره. {وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} ما هو في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى، و{مِنْ} للبيان فإن كله كذلك. وقيل إنه للتبعيض والمعنى أن منه ما يشفي من المرض كالفاتحة وآيات الشفاء. وقرأ البصريان {نُنَزّلُ} بالتخفيف. {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} لتكذيبهم وكفرهم به. {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان} بالصحة والسعة {أَعْرَضَ} عن ذكر الله. {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} لوى عطفه وبعد بنفسه عنه كأنه مستغن مستبد بأمره، ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار لأنه من عادة المستكبرين، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان هنا وفي فصلت {وناء} على القلب أو على أنه بمعنى نهض. {وَإِذَا مَسَّهُ الشر} من مرض أو فقر. {كَانَ يَئُوسًا} شديد اليأس من روح الله. {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} قل كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، أو جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه. {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلًا} أسد طريقًا وأبين منهجًا، وقد فسرت الشاكلة بالطبيعة والعادة والدين. {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح} الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره. {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} من الإبداعيات الكائنة بـ {كُنَّ} من غير مادة وتولد من أصل كأعضاء جسده، أو وجد بأمره وحدث بتكوينه على أن السؤال عن قدمه وحدوثه. وقيل مما استأثر الله بعلمه. لما روي: أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة. وقيل الروح جبريل وقيل خلق أعظم من الملك وقيل القرآن، ومن أمر ربي معناه من وحيه. {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} تستفيدونه بتوسط حواسكم، فإن اكتساب العقل للمعارف النظرية. إنما هو من الضروريات المستفادة من إحساس الجزئيات، ولذلك قيل من فقد حسًا فقد فقد علمًا. ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيئًا من أحواله المعروفة لذاته، وهو إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس به، فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى في جواب: وما رب العالمين بذكر بعض صفاته. روي: أنه عليه الصلاة والسلام لما قال لهم ذلك قالوا: أنحن مختصون بهذا الخطاب؟ فقال: بل نحن وأنتم، فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} وساعة تقول هذا فنزلت {وَلَوْ أَنَّمَّا في الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} وما قالوا لسوء فهمهم لأن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير والحق ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به معاشه ومعاده، وهو بالإضافة إلى معلومات الله التي لا نهاية لها قليل ينال به خير الدارين وهو بالإضافة إليه كثيرًا. {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} اللام الأولى موطئة للقسم و{لنذهبن} جوابه النائب مناب جزاء الشرط. والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور {ثم لا تجد لك به علينا وكيلًا} من يتوكل علينا استرداده مسطورًا محفوظًا. {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} فإنها إن نالتك فلعلهما تسترده عليك، ويجوز أن يكون استثناء منقطعًا بمعنى ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، فيكون امتنانًا بابقائه بعد المنة في تنزيله. {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} كإرساله وإنزال الكتاب عليه وإبقائه في حفظه. اهـ.
|