الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عطية: {أم} هذه ليست بالمعادلة لألف الاستفهام التي في قولك أزيد قام أم عمرو، وإنما هي تتوسط الكلام، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة الألف وبل لأنها تتضمن استفهامًا وإضرابًا عما تقدم، وهي كقوله: إنها لا بل أم شاء، وقالت فرقة في {أم} هذه: هي بمنزلة ألف الاستفهام، ثم عجزهم في قوله: {قل فأتوا بسورة مثله} والسورة مأخوذة من سورة البناء وهي من القرآن هذه القطعة التي لها مبدأ وختم، والتحدي في هذه الآية وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن: إحداهما النظم والرصف والإيجاز والجزالة، كل ذلك في التعريف بالحقائق، والأخرى المعاني من الغيب لما مضى ولما يستقبل، وحين تحداهم بعشر مفتريات إنما تحداهم بالنظم وحده. قال القاضي أبو محمد: هكذا قول جماعة من المتكلمين، وفيه عندي نظر، وكيف يجيء التحدي بمماثلة في الغيوب ردًا على قولهم: {افتراه}، وما وقع التحدي في الآيتين هذه وآية العشر السور إلا بالنظم والرصف والإيجاز في التعريف بالحقائق، وما ألزموا قط إتيانًا بغيب، لأن التحدي بالإعلام بالغيوب كقوله: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [الروم: 3] وكقوله: {لتدخلن المسجد الحرام} [الفتح: 27] ونحو ذلك من غيوب القرآن فبين أن البشر مقصر عن ذلك، وأما التحدي بالنظم فبين أيضًا أن البشر مقصر عن نظم القرآن إذ الله عز وجل قد أحاط بكل شيء علمًا، فإذا قدر الله اللفظة في القرآن علم بالإحاطة اللفظة التي هي أليق بها في جميع كلام العرب في المعنى المقصود، حتى كمل القرآن على هذا النظام الأول فالأول، والبشر مع أن يفرض أفصح العالم، محقوق بنيان وجهل بالألفاظ والحق وبغلط وآفات بشرية، فمحال أن يمشي في اختياره على الأول فالأول، ونحن نجد العربي ينقح قصيدته- وهي الحوليات- يبدل فيها ويقدم ويؤخر، ثم يدفع تلك القصيدة إلى أفصح منه فيزيد في التنقيح، ومذهب أهل الصرفة مكسور بهذا الدليل، فما كان قط في العالم إلا من فيه تقصير سوى من يوحي إليه الله تعالى، وميّزت فصحاء العرب هذا القدر من القرآن وأذعنت له لصحة فطرتها وخلوص سليقتها وأنهم يعرف بعضهم كلام بعض ويميزه من غيره، كفعل الفرزدق في أبيات جرير، والجارية في شعر الأعشى، وقول الأعرابي عرفجكم فقطع ونحو ذلك مما إذا تتبع بان. والقدر المعجز من القرآن ما جمع الجهتين اطراد النظم والسرد، وتحصيل المعاني وتركيب الكثير منها في اللفظ القليل: فأما مثل قوله تعالى: {مدهامتان} [الرحمن: 64] وقوله: {ثم نظر} [المدثر: 21] فلا يصح التحدي بالإتيان بمثله لكن بانتظامه واتصاله يقع العجز عنه، وقوله: {مثله} صفة للسورة والضمير عائد على القرآن المتقدم الذكر، كأنه قال: فأتوا بسورة مثل القرآن أي في معانيه وألفاظه، وخلطت فرق في قوله: {مثله} من جهة اللسان كقول الطبري: ذلك على المعنى، ولو كان على اللفظ لقال: مثلها، وهذا وهم بيّن لا يحتاج إليه، وقرأ عمرو بن فائد {بسورةِ مثلهِ}، على الإضافة، قال أبو الفتح: التقدير بسورة كلام مثله، قال أبو حاتم: أمر عبد الله الأسود أن يسأل عمر عن إضافة سورة أو تنوينها فقال له عمر كيف شئت، وقوله: {وادعوا من استطعتم} إحالة على شركائهم وجنهم وغير ذلك، وهو كقوله في الآية الأخرى، {لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} [الإسراء: 88] أي معينًا، وهذا أشد إقامة لنفوسهم وأوضح تعجيزًا لهم. اهـ. .قال القرطبي: وقيل: هي أم المنقطعة التي تقدّر بمعنى بل والهمزة؛ كقوله تعالى: {الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي بل أيقولون افتراه. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو، مجازه: ويقولون افتراه. وقيل: الميم صلة، والتقدير: أيقولون افتراه، أي اختلق محمد القرآن من قِبل نفسه، فهو استفهام معناه التقريع. {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} ومعنى الكلام الاحتجاج، فإن الآية الأُولى دلّت على كون القرآن من عند الله؛ لأنه مصدّق الذي بين يديه من الكتب وموافق لها من غير أن يتعلم محمد عليه السلام عن أحد. وهذه الآية إلزام بأن يأتوا بسورة مثله إن كان مفترًى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن، وأنه معجز في مقدّمة الكتاب، والحمد لله. اهـ. .قال أبو حيان: وأم متضمنة معنى بل، والهمزة على مذهب سيبويه أي: بل أيقولون اختلقه. والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم، أو إنكار لقولهم واستبعاد. وقالت فرقة: أم هذه بمنزلة همزة الاستفهام. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو ومجازه، ويقولون افتراه. وقيل: الميم صلة، والتقدير أيقولون. وقيل: أم هي المعادلة للهمزة، وحذفت الجملة قبلها والتقدير: أيقرون به أم يقولون افتراه. وجعل الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال: قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله، فأنتم مثله في العربية والفصاحة والألمعية، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في البلاغة وحسن النظم انتهى. والضمير في مثله عائد على القرآن أي: بسورة مماثلة للقرآن، وتقدم الكلام لنا فيما وقع به الإعجاز. وقرأ عمرو بن قائد بسورة مثله على الإضافة أي: بسورة كتاب أو كلام مثله أي: مثل القرآن. وقال صاحب اللوامح: هذا مما حذف الموصوف منه وأقيمت الصفة مقامه أي: بصورة بشر مثله، فالهاء في ذلك واقعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي العامة إلى القرآن. وادعوا من استطعتم أن تدعوه من خلق الله إلى الاستعانة على الإتيان بمثله من دون الله أي: من غير الله، لأنه لا يقدر على أن يأتي بمثله أحد إلا الله، فلا تستعينوه وحده، واستعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين في أنه افتراه. وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن قالوا: لأنه تحدّى به وطلب الإتيان بمثله وعجزوا، ولا يمكن هذا إلا إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان قديمًا لكان الإتيان بمثل القديم محالًا في نفس الأمر، فوجب أن لا يصح التحدي به. وقال أبو عبد الله الرازي: مراتب التحدي بالقرآن ست تحدّ بكل القرآن في: {قل لئن اجتمعت} الآية، وتحد بعشر سور، وتحدّ بسورة واحدة، وتحد بحديث مثله في قوله: {فليأتوا بحديث مثله} وفي هذه الأربع طلب أن يعارض رجل يساوي الرسول في عدم التتلمذ والتعليم، وتحد طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إسنان كان تعلم العلوم أو لم يتعلمها، وفي هذه المراتب الخمس تحدى كل واحد من الخلق، وتحد طلب من المجموع واستعانة بعض ببعض انتهى ملخصًا. اهـ. .قال الثعالبي: {أم} هذه ليست بالمعادلة لهمزة الاستفهام، في قوله: أزيْدٌ قام أمْ عمرو؟ ومذهَبُ سِيبَوَيْهِ: أنها بمنزلة بَلْ ثم عجَّزهم سبحانه بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم...} الآية: والتحدِّي في هذه الآية عند الجُمْهُور وقَعَ بجهتَي الإِعجاز اللَّتَيْنِ في القرآنِ: إِحْداهما: النَّظْم والرَّصْف والإِيجازُ وَالجَزَالَة، كلُّ ذلك في التعريف. والأُخرَى: المعاني مِنَ الغَيْبِ لِمَا مَضَى، ولما يُسْتَقْبَلُ. وحين تحدَّاهم بـ {عَشْرٍ مفترياتٍ} إِنما تحدَّاهم بالنَّظْم وحْده، ثم قال ع: هذا قول جماعة المتكلِّمين، ثم اختار أنَّ الإِعجاز في الآيتين إِنما وقع في النَّظْمِ لا في الإِخبارِ بالغُيُوبِ. ت: والصوابُ ما تَقَدَّم للجمهور، وإليه رَجَعَ في سورة هود وأوجُهُ إِعجاز القرآن أَكْثَرُ من هذا وانظر الشِّفَا. وقوله: {مَنِ استطعتم}: إِحالةٌ على شركائهم. اهـ. .قال أبو السعود: .قال الألوسي: وقرئ {بِسُورَةٍ مّثْلِهِ} على الإضافة أي بسورة كتاب مثله {وادعوا} للمعاونة والمظاهرة. {مَنِ استطعتم} دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التي تزعمون إنها ممدة لكم في المهمات والملمات والمداراة الذين تلجؤون إليهم في كل ما تأتون وتذرون {مِن دُونِ الله} متعلق بادعوا كما قيل و{مِنْ} ابتدائية على معنى أن الدعاء مبتدأ من غيره تعالى لا ملابسة له معه جل شأنه بوجه، وجوز أن يكون متعلقًا بما عنده ومن بيانية أي ادعوا من استطعتم من خلقه ولا يخلو عن حسن. وفائدة هذا القيد قيل: التنصيص على براءتهم منه تعالى وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة، وليس المراد به إفادة استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه لأجابهم إليه، وقد يقال: لا بأس بإفادة ذلك لأن الاستبداد المذكور مما يؤيد المقصود وهو كون ما أتى به صلى الله عليه وسلم لم يكن من عند نفسه بل هو منه تعالى، والإيهام مما لا يلتفت إليه فإن دعاءهم إياه تعالى بمعنى طلبهم منه سبحانه وتعالى أن يأتي بما كلفوه مستبدًا به ممالا يكاد يتصور لأنه ينافي زعمهم السابق كما لا يخفى فتأمل {إِن كُنتُمْ صادقين} في أنى افتريته فإن ذلك مستلزم لإمكان الإتيان بمثله وهو أيضًا مستلزم لقدرتكم عليه وجواب {إن} محذوف لدلالة المذكور عليه، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن لأنه عليه الصلاة والسلام تحدي مصاقع العرب بسورة ما منه فلم يأتوا بذلك وإلا لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله. وزعم بعض الملاحدة أنه لا يلزم من عجزهم عن الإتيان بذلك كونه من عند الله تعالى قطعًا فإنه قد يتفق في الشخص خصوصية لا توجد في غيره فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان مخصوصًا بهذه المرتبة من الفصاحة والبلاغة ممتازًا بها عن سائر العرب فأتى بما أتى دونهم، وقد جاء من بعضا لطرق أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم وإن كان في أقصى الغايات من الفصاحة حتى كأن الله تعالى شأنه وعزت قدرته مخض اللسان العربي وألقى زبدته على لسانه صلى الله عليه وسلم فما من خطب يقاومه الأنكص متفكك الرجل وما من مصقع يناهزه إلا رجع فارغ السجل إلا أن كلامه صلى الله عليه وسلم لا يشبه ما جاء به من القرآن وكلام شخص واحد متشابه كما لا يخفى على ذوي الأذواق الواقفين على كلام البلغاء قديمًا وحديثًا. وتعقب بأنه لا يدفع ذلك الزعم لما فيه ظاهرًا من تسليم كون كلامه عليه الصلاة والسلام معجزًا لا تستطاع معارضته وحينئذٍ العجز عن معارضة القرآن يجعله دائرًا بين كونه كلامه تعالى وكونه كلامه صلى الله عليه وسلم ولا يثبت كونه كلام الله عز وجل إلا بضم امتيازه على كلامه صلى الله عليه وسلم والزاعم لم يدع إلا عدم لزوم كونه من عند الله تعالى قطعًا من عجزهم عن الإتيان بذلك، وأيضًا ينافي هذا التسليم ما تقدم في بيان حاصل {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ} حيث علل بأنكم مثلي في العربية والفصاحة الخ، ومن هنا قيل: الأوجه في الجواب أن يلتزم عدم إعجاز كلامه صلى الله عليه وسلم مع كونه عله الصلاة والسلام أفصح العرب ولا منافاة بينهما كما لا يخفى على المتأمل. وأطال بعضهم الكلام في هذا المقام، وبعض أدرج مسألة خلق الأفعال في البين وجعل مدار الجواب مذهب الأشعري فيها ولعل الأمر غني عن الإطالة عند من انجاب عن عين بصيرته الغين. اهـ.
|