الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقوله: {بغير الحق} زيادة لتشنيع التكبر بذكر ما هو صفة لازمة له، وهو مغايرة الحق، أي: باطل وهي حال لازمة للتكبر، كاشفة لوصفه، إذ التكبر لا يكون بحق في جانب الخلق، وإنما هو وصف لله بحق؛ لأنه العظيم على كل موجود، وليس تكبر الله بمقصود أن يحترز عنه هنا حتى يجعل القيد {بغير الحق} للاحتراز عنه، كما في الكشاف.ومن المفسرين من حاول جعل قوله: {بغير الحق} قيدًا للتكبر، وجعل من التكبر ما هو حق، لأن للمحق أن يتكبر على المبطل، ومنه المقالة المشهورة: الكِبْر على المتكبر صدقة. وهذه المقالة المستشهد بها جرت على المجاز أو الغلط.وقوله: {وإن يَروا كل آية لا يؤمنوا بها} عطف على قوله: {يتكبرون} فهو في حكم الصلة، والقول فيه كالقول في قوله: {لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية} في سورة يونس (96، 97) وكل مستعملة في معنى الكثرة، كما تقدم في قوله تعالى: {ولئن أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية} في سورة البقرة (145).والسبيل مستعار لوسيلة الشيء بقرينة إضافته إلى الرشد وإلى الغي.والرؤية مستعارة للإدراك.والاتخاذ حقيقته مطاوع أخّذه بالتشديد، إذا جعله آخذًا، ثم أطلق على أخذ الشيء ولو لم يعطه إياه غيرُه، وهوَ هنا مستعار للملازمة، أي لا يلازمون طريق الرشد، ويلازمون طريق الغي.والرشد الصلاح وفعل النافع، وقد تقدم في قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدًا} في سورة النساء (6) والمراد به هنا: الشيء الصالح كله من الإيمان والأعمال الصالحة.والغي الفساد والضلال، وهو ضد الرشد بهذا المعنى، كما أن السفه ضد الرشد بمعنى حسن النظر في المال، فالمعنى: أن يدركوا الشيءَ الصالح لم يعملوا به.لغلبة الهوى على قلوبهم، وإن يدركوا الفساد عملوا به لغلبة الهوى، فالعمل به حمل للنفس على كلفة، وذلك تأباه الأنفس التي نشأت على متابعة مَرغوبها، وذلك شأن الناس الذين لم يروّضوا أنفسهم بالهدى الإلهي، ولا بالحكمة ونصائح الحكماء والعقلاء، بخلاف الغي، فإنه ما ظهر في العالم إلاّ من آثار شهوات النفوس ودعواتها التي يزيَن لها الظاهر العاجل، وتجهل عواقب السوء الآجلة، كما جاء في الحديث: {حفّت الجنة بالمكاره وُحفّت النار بالشهوات}.والتعبير في الصلات الأربع بالأفعال المضارعة: لإفادة تجدد تلك الأفعال منهم واستمرارهم عليها.وقرأ الجمهور: {الرُشد} بضم فسكون وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف: بفتحتين، وهما لغتان فيه.وجملة: {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا} مستأنفة استئنافًا بيانيًا، لأن توسيمهم بتلك الصلات يثير سؤالًا.والمشار إليه بذلك ما تضمنه الكلام السابق، نُزّل منزلة الموجود في الخارج وهو ما تضمنه قوله: {سأصرف عن آياتي} إلى آخر الآية، واستعمل له اسم إشارة المفرد؛ لتأويل المشار إليه بالمذكور كقوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا} [الفرقان: 68] أي من يفعل المذكور، وهذا الاستعمال كثير في اسم الإشارة، وألحق به الضمير كما تقدم في قوله تعالى: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} في سورة البقرة (61).والباء السببية أي: كِبْرُهم.وعدمُ إيمانهم، واتباعُهم سبيل الغي، وإعراضُهم عن سبيل الرشد سببه تَكذيبهم بالآيات، فأفادت الجملة بيان سبب الكبر، وما عطف عليه من الأوصاف التي هي سبب صرفهم عن الآيات، فكان ذلك سبب السبب، وهذا أحسن من إرجاع الإشارة إلى الصرف المأخوذة من {سأصرف} لأن هذا المحمل يجعل التكذيب سببًا ثانيًا للصرف، وجعله سببًا للسبب أرشق.واجتلبت أن الدالة على المصدرية والتوكيد؛ لتحقيق هذا التسبب وتأكيده، لأنه محل عرابة.وجعل المسند فعلًا ماضيًا، لإفادة أن وصف التكذيب قديم راسخ فيهم، فكان رسوخ ذلك فيهم سببًا في أن خُلق الطبعُ والختمُ على قلوبهم فلا يشعرون بنقائصهم، ولا يصلحون أنفسهم، فلا يزالون متكبرين معرضين غاوين.ومعنى {كذبوا بآياتنا} إنهم ابتدأوا بالتكذيب، ولم ينظروا، ولم يهتموا بالتأمل في الآيات فداموا على الكبر وما معه، فصرف الله قلوبهم عن الانتفاع بالآيات، وليس المراد الإخبار بأنهم حصل منهم التكذيب، لأن ذلك قد علم من قوله: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها}.والغفلة انصراف العقل والذهن عن تذكر شيء بقصدٍ أو بغير قصد، وأكثر استعماله في القرآن فيما كان عن قصد بإعراض وتشاغل، والمذموم منها ما كان عن قصد، وهو مناط التكليف والمؤاخذة، فأما الغفلة عن غير قصد فلا مؤاخذة عليها، وهي المقصود من قول علماء أصول الفقه: يمتنع تكليف الغافل.وللتنبيه على أن غفلتهم عن قصد صيغ الإخبار عنهم بصيغة {كانوا عنها غافلين} للدلالة على استمرار غفلتهم.وكونها دأبًا لهم، وإنما تكون كذلك إذا كانوا قد التزموها، فأما لو كانت عن غير قصد.فإنها قد تعتريهم وقد تفارقهم. اهـ.
|