وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟ إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما رجعية وتخلفًا وجمودًا وريفية! وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه! وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة؛ وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه؛ وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول عنه: إنه جامد. ومغلق على نفسه، وتنقصه المرونة والثقافة! وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته.. إن الجاهلية هي الجاهلية.. فلا تتغير إلا الأشكال والظروف! وينفي نوح عن نفسه الضلال، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومنبعها، فهو لم يبتدعها من أوهامه وأهوائه. إنما هو رسول من رب العالمين. يحمل لهم الرسالة. ومعها النصح والأمانة. ويعلم من الله ما لا يعلمون. فهو يجده في نفسه، وهو موصول به، وهم عنه محجوبون: {قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون}. ونلمح هنا فجوة في السياق.. فكأنما عجبوا أن يختار الله رسولًا من البشر من بينهم، يحمله رسالة إلى قومه، وأن يجد هذا الرسول في نفسه علمًا عن ربه لا يجده الآخرون، الذين لم يختاروا هذا الاختيار.. هذه الفجوة في السياق يدل عليها ما بعدها: {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون}.. وما من عجب في هذا الاختيار. فهذا الكائن الإنساني شأنه كله عجيب.. إنه يتعامل مع العوالم كلها، ويتصل بربه بما ركب في طبيعته من نفخة الله فيه من روحه.. فإذا اختار الله من بينه رسوله- والله أعلم حيث يجعل رسالته- فإنما يتلقى هذا المختار عنه، بما أودع في كيانه من إمكانية الاتصال به والتلقي عنه، بذلك السر اللطيف الذي به معنى الإنسان، والذي هو مناط التكريم العلوي لهذا الكائن العجيب التكوين. ويكشف لهم نوح عن هدف الرسالة: {لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون}.. فهو الإنذار لتحريك القلوب بمشاعر التقوى، ليظفروا في النهاية برحمة الله.. ولا شيء وراء ذلك لنوح، ولا مصلحة، ولا هدف، إلا هذا الهدف السامي النبيل. ولكن الفطرة حين تبلغ حدًا معينًا من الفساد، لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر، ولا ينفع معها الإنذار ولا التذكير: {فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قومًا عمين}.. ولقد رأينا من عماهم عن الهدى والنصح المخلص والنذير.. فبعماهم هذا كذبوا.. وبعماهم لاقوا هذا المصير!. اهـ.
قال ابن عادل: قوله: {فِي الفُلْكِ} يجوزُ أن يتعلق بـ {أنْجَيْنَاهُ}، أي: أنجيناه في الفلك، ويجوز أن تكون {فِي} حينئذٍ سببيَّةً أي: بسبب الفُلْكِ كقوله: «إنَّ امْرَأةً دخلت النَّارَ في هِرَّةٍ»، ويجوزُ أن يتعلق في الفلك بما تعلَّق به الظَّرْفُ الواقع صلةً، أي: الذين استقرُّوا في الفلك معه. {وعَمِيْنَ} جمع عَمٍ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة. وقيل: عمٍ هنا إذا كان أعْمَى البصيرة، قال ابن عباس: عَمِيَتْ قلوبُهُم عن معرفة التَّوْحِيد، والنَّبوة والمعَادِ قال أهل اللُّغَة: غير عارفٍ بأموره، وأعْمَى أي في البَصَرِ. قال زُهَيْرٌ: [الطويل]