الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (173- 174): وقوله سبحانه: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ...} الآية: {الذين}: صفةٌ للمحسنين، وهذا القولُ هو الذي قاله الركْبُ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ لرسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حِينَ حَمَّلَهُمْ أبُو سُفْيَانَ ذلكَ، فالنَّاسُ الأوَّلُ هُمُ الرَّكْبُ، والنَّاسُ الثَّانِي عَسْكَر قُرَيْش؛ هذا قول الجمهورِ، وهو الصوابُ، وقولُ مَنْ قال: إن الآية نزلَتْ في خروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى بَدْرٍ الصغرى لميعاد أبي سُفْيان، و{إِنَّ الناس} هنا هو نُعيْمُ بْنُ مسعودٍ قولٌ ضعيفٌ، وعن ابنِ عَبَّاسٍ؛ أنه قال: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ» قَالَهَا إبْرَاهِيمُ عليه السلام، حينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وقَالَها محمَّد صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إيمانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، رواه مسلمٌ. والبخاريُّ. انتهى. .تفسير الآيات (175- 178): وقوله سبحانه: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ...} الآية: إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الرَّكْب عن رسالة أبِي سُفْيَان، ومِنْ جَزَعِ مَنْ جَزِعَ من الخَبَر. وقرأ الجمهورُ: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، قالَ قوم: معناه: يخوِّف المنافقينَ، ومَنْ في قلبه مرضٌ، وحكى أبو الفَتْحِ بْنُ جِنِّي، عن ابن عَبَّاس؛ أنه قرأ {يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ}، فهذه قراءةٌ ظهر فيها المفعولانِ، وهي مفسِّرة لقراءة الجَمَاعة، وفي قراءة أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: {يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ}، وفِي كتاب {القَصْد إلى اللَّه تعالى}؛ للمحاسِبِيِّ، قال: وكلما عَظُمَتْ هيبةُ اللَّه عزَّ وجلَّ في صدورِ الأولياء، لم يهابوا معه غيره؛ حياءً منه عزَّ وجلَّ أن يخافوا معَهُ سواه. انتهى. وقوله سبحانه: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يسارعون في الكفر}، والمسارعة في الكُفْر: هي المبادرة إلى أقواله وأفعاله، والجِدُّ في ذلك، وسَلَّى اللَّه تعالى نبيَّه عليه السلام بهذه الآية عنْ حالِ المنافقين والمجاهِرِين؛ إذ كلُّهم مسارعٌ، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً}: خبرٌ في ضِمْنِهِ وعيدٌ لهم، أي: وإنما يضرُّون أنفسهم، والحَظُّ: إذا أطلق، فإنما يستعملُ في الخير، وقوله سبحانه: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ}: نُمْلِي: معناه: نُمْهِلُ ونَمُدُّ في العمر، والمعنى: لا تَحْسَبَنَّ إملاءنا للذين كَفَرُوا خَيْراً لهم، فالآيةُ ردٌّ على الكفَّار في قولهم: إنَّ كوننا مموَّلِينَ أصحَّة دليلٌ على رِضا اللَّه بحالتنا. .تفسير الآيات (179- 180): وقوله تعالى: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ}، أيْ: ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين، مُشْكِلاً أمرَهُم؛ حتى يميز بعْضَهُم مِنْ بعض؛ بما يظهره مِنْ هؤلاء وهؤلاء في أُحُدٍ من الأفعال والأقوال، هذا تفسيرُ مجاهد وغيره. وقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب}، أي: في أمر أُحُدٍ، وما كان من الهزيمة وأيضاً: فما كان اللَّه ليطلعكم على المنافقين تصريحاً وتسميةً لهم، ولكنْ بقرائنِ أفعالهم وأقوالهم. قال الفَخْر: وذلك أنَّ سنة اللَّه جاريةٌ بأنَّه لا يُطْلِعُ عوامَّ الناس على غَيْبِهِ، أي: لا سبيلَ لكم إلى معرفة ذلك الإمتياز إلاَّ بامتحانات؛ كما تقدَّم، فأمَّا معرفةُ ذلك على سبيلِ الإطلاعِ مِنَ الغَيْبِ، فهو من خواصِّ الأنبياء، فلهذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ}. انتهى. وقال الزَّجَّاج وغيره: رُوِيَ أنَّ بعض الكُفَّار قال: لِمَ لا يكونُ جميعنا أنبياءَ، فنَزَلَتْ هذه الآيةُ، و{يَجْتَبِي}: معناه: يَخْتَارُ ويصْطَفِي، وقوله سبحانه: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} الآية: قال السُّدِّيُّ وجماعةٌ من المتأوِّلين: الآية نزلَتْ في البُخْل بالمال، والإنفاقِ في سبيل اللَّه، وأداء الزكاة المفْرُوضَة، وَنحْو ذلك، قال: ومعنى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} هو الذي ورد في الحديثِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمِهِ، فَيَسْأَلَهُ مِنْ فَضْلٍ عِنْدَهُ، فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ إلاَّ أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعٌ مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ؛ حتى يُطَوَّقَه»، قُلْتُ: وفي البخاريِّ وغيره، عنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ شُجَاعاً أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَأْخُذُ بلَهْزَمَتَيْهِ، يَعْنِي: شِدْقَيهِ، يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلاَ هذه الآيةَ: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ...}» الأية. قلْتُ: واعلم أنه قد وردَتْ آثار صحيحةٌ بتعذيبِ العُصَاة بنَوْعٍ مَا عَصَوْا به؛ كحديث: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَهُوَ يَجَأُ نَفْسَهُ بِحَدِيدَتِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَالَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسُّمِّ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»، ونحو ذلك. قال الغَزَّالِيُّ في الجَوَاهِرِ: واعلم أنَّ المعانِيَ في عالم الآخرة تستتبعُ الصُّور، ولا تَتْبَعُها، فيتمثَّل كلُّ شيء بصورة تُوَازِي معناه، فيُحْشَرُ المتكبِّرون في صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُمْ مَنْ أَقْبَل وأَدْبَر، والمتواضِعُون أعزَّاء. انتهى، وهو كلام صحيحٌ يشهد له صحيحُ الآثارِ؛ ويؤيِّده النظَرُ والإعتبار، اللَّهم، وفِّقنا لما تحبُّه وترضاه. قال ابنُ العَرَبِيِّ في أحكامه: قال عُلَماؤنا: البُخْل: مَنْعُ الواجبِ، والشُّحُّ: منع المستحَبِّ، والصحيحُ المختارُ أنَّ هذه الآيةَ في الزكاة الواجبَة؛ لأنَّ هذا وعيدٌ لمانعيها، والوعيدُ إذا اقترن بالفعْلِ المأمورِ به، أو المنهيِّ عنه، اقتضى الوجوبَ أو التحريمَ. انتهى. وتعميمها في جميع أنْواع الواجب أحْسَنُ. وقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} خطابٌ على ما يفهمه البشر، دَالٌّ على فناء الجميعِ، وأنه لا يبقى مَالِكٌ إلاَّ اللَّه سبحانه. .تفسير الآيات (181- 182): وقوله سبحانه: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ...} الآية: نزلَتْ بسبب فِنْحَاصٍ اليَهُودِيِّ وأشباهه؛ كَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وغيره، لمَّا نزلَتْ: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [الحديد: 11]، قالوا: يستقرضُنا ربُّنا، إنما يَسْتَقْرِضُ الفَقِيرُ الغَنِيَّ، وهذا مِنْ تحريف اليهودِ للتأويل علَى نحو ما صَنَعُوا في تَوْرَاتِهِمْ. وقوله تعالى: {قَوْلَ الذين قَالُواْ}: دالٌّ على أنَّهم جماعةٌ. وقوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ...} وعيدٌ لهم، أي: سنُحْصِي عليهم قولَهُمْ، ويتصلُ ذلك بفعل آبائهم مِنْ قَتْل الأنبياءِ بغَيْر حَقٍّ. وقوله سبحانه: {إِنَّ الله}؛ أي: وبأنَّ اللَّه ليس بظَلاَّم للعبيد. قال * ص *: قيل: المراد هنا نفْيُ القليلِ والكثيرِ مِنَ الظُّلْم؛ كقول طَرَفَةَ: [الطويل]. ولا يريدُ: أنه قدْ يحلُّ التلاعَ قليلاً. وزاد أبو البقاءِ وجْهاً آخر، وهو أنْ يكون على النَّسَبِ، أي: لا ينسب سبحانه إلى ظُلْمٍ، فيكون من باب بَزَّاز وعَطَّار. انتهى، قلتُ: وهذا القولُ أحْسَنُ ما قيل هنا، فمعنى وما ربُّكَ بظَلاَّم، أي: بذي ظُلْم. .تفسير الآيات (183- 184): وقوله سبحانه: {الذين قَالُواْ إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا...} هذه المقالَةُ قالَتْها أحْبَارُ اليهودِ مدافعةً لأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إنَّك لم تأْتِنَا بقُرْبان تأكله النار، فنَحْنُ قد عُهِدَ إلَيْنا ألاَّ نُؤْمِنَ لك. وقوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ}؛ مِنْ أمْر القُرْبان، والمعنى: أنَّ هذا منكم تعلُّل وتعنُّت، ولو أتيتُكُمْ بقُرْبَان، لتعلَّلتم بغَيْرِ ذلك، ثم أَنَّسَ سبحانه نبيَّه بالأُسْوة والقُدْوة فيمن تقدَّم من الأنبياء. قال الفَخْر: والمرادُ {بالبينات} المعجزاتُ. انتهى. والزُّبُر: الكتابُ المكتوبُ، قال الزَّجَّاج: زَبَرْتُ: كَتَبْتُ. .تفسير الآية رقم (185): وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت...} الآية: وعْظٌ فيه تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولأمته عن أمْرِ الدُّنْيا وأهلِها، ووَعْدٌ بالفلاحِ في الآخرةِ؛ فبالفكْرة في المَوْت يَهُونُ أمر الكُفَّار وتكذيبُهم، {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ}، أي: على الكمالِ، ولا محَالَة أنَّ يوم القيامةِ تَقَعُ فيه توفيةُ الأجور، وتوفيةُ العُقُوبات، و{زُحْزِحَ}: معناه: أبعد، والمَكَانُ الزَّحْزَاحُ: البعيدُ، {وفَازَ}: معناه: نَجَا من خَطَره وخَوْفه، و{الغرور}: الخَدْعُ، والتَّرْجِيَةُ بالباطل والحياةِ الدنيا، وكلُّ ما فيها من الأموالِ هي متاعٌ قليلٌ يخدَعُ المرء، ويمنِّيه الأباطيلَ؛ وعلى هذا فسَّر الآيةَ جمهورُ المفسِّرين، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، ثم تَلاَ هذه الآيةَ، قُلْتُ: وأسند أبو بَكْر بْنُ الخَطِيبِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا سَكَنَ حُبُّ الدُّنْيَا قَلْبَ عَبْدٍ قَطُّ إلاَّ التاط مِنْهَا بِخِصَالٍ ثَلاَثٍ: أَمَلٌ لاَ يَبْلُغُ مُنْتَهَاهُ، وَفَقْرٌ لاَ يُدْرِكُ غِنَاهُ، وَشُغْلٌ لاَ يَنْفَكُّ عَنَاهُ» انتهى. .تفسير الآية رقم (186): وقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أموالكم وَأَنفُسِكُمْ...} الآية: خطابٌ للنبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وأمته، والمعنى: لتختبرنَّ ولتمتحننَّ في أموالكم بالمَصَائب والأَرْزَاء، وبالإنفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وفي سَائِرِ تَكَاليفِ الشَّرْع، والابتلاء في الأنفس بالمَوْتِ، والأمراضِ وفَقْدِ الأحبَّة، قال الفَخْر: قال الواحديُّ: اللام في {لَتُبْلَوُنَّ}: لامُ قسمٍ. انتهى. وقوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب...} الآية: قال عِكْرِمَةُ وغَيْره: السبَبُ في نزولها أقوالُ فِنْحَاص، وقال الزُّهْريُّ وغيره: نزلَتْ بسبب كَعْب بن الأشْرفِ؛ حتى بعث إلَيْه رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَنْ قتله، والأذَى: اسمٌ جامعٌ في معنى الضَّرَر، وهو هنا يشملُ أقوالهم فيما يَخُصُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ مِنْ سبٍّ، وأقوالهم في جِهَة اللَّه سبحانه، وأنبيائه، وندَبَ سبحانه إلى الصبْرِ والتقوى، وأخبر أنه مِنْ عَزْم الأمور، أي: مِنْ أشدِّها وأحسنها، والعَزْمُ: إمضاءُ الأَمْر المُرَوَّى المُنَقَّح، وليس رُكُوبُ الرأْي دون رَوِيَّةٍ عَزْماً. .تفسير الآية رقم (187): وقوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب...} الآية: توبيخٌ لمعاصري النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم هو مع ذلك خَبَرٌ عامٌّ لهم ولغيرهم، قال جمهورٌ من العلماء: الآية عامَّةٌ في كلِّ من علَّمه اللَّه عِلْماً، وعلماءُ هذه الأمَّة داخلُونَ في هذا الميثاقِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ، فَكَتَمَهُ، أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»، والضميرُ في: {لَتُبَيِّنُنَّهُ}، {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}: عائدٌ على {الكتاب}، والنَّبْذُ: الطَّرْح، وأظهر الأقوال في هذه الآيةِ أنَّها نزلَتْ في اليهودِ، وهم المعْنِيُّون، ثم كلِّ كاتمٍ من هذه الأمَّة يأخذ بحظِّه من هذه المَذَمَّةِ. .تفسير الآيات (188- 190): وقوله سبحانه: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ...} الآية: ذهبتْ جماعة إلى أن الآية في المنافقين، وقالت جماعة كبيرة: إنما نزلَتْ في أهْل الكتاب أحبارِ اليهودِ، قال سعيدُ بن جُبَيْر: الآية في اليهود، فَرِحُوا بما أعطَى اللَّه آل إبراهيم من النبوَّة والكتابِ، فهم يقولونَ: نحن على طريقهم، ويحبُّون أن يُحْمَدُوا بذلك، وهم ليسوا على طريقهم، وقراءةُ سعيدِ بنِ جُبَيْر: {بما أُوتُوا}؛ بمعنى أُعْطُوا بضم الهمزة والطاء؛ وعلى قراءته يَستقيمُ المعنَى الذي قال، والمفازةُ مَفْعَلَةٌ من فَازَ يَفُوزُ، إذا نَجَا، وباقي الآية بيِّن. ثم دلَّ سبحانه على مواضِع النظرِ والعبرةِ، فقالَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض واختلاف اليل والنهار}، أي: تَعَاقُب الليل والنَّهار؛ إذ جعلهما سبحانه خِلْفِةً، ويدخل تحت اختلافهما قِصَرُ أحدِهِمَا وطولُ الآخَرِ، وبالعكْسِ، واختلافُهُما بالنُّور والظَّلام، والآياتُ: العلاماتُ الدالَّة على وحدانيَّتِهِ، وعظيمِ قُدْرته سُبْحانه. قال الفَخْر: واعلم أنَّ المقصود من هذا الكتَابِ الكريمِ جَذْبُ القلوبِ والأرْوَاحِ عن الإشتغالِ بالخَلْقِ والإستغراقِ في معرفة الحقِّ، فلمَّا طال الكلامُ في تَقْرير الأحكامِ، والجوابِ عن شُبُهَاتِ المُبْطِلِين، عاد إلى إثارة القُلُوب بِذِكْرِ ما يدلُّ على التوحيدِ والكِبْرِيَاءِ والجَلاَل، وذِكْرِ الأدعية، فختم بهذه الآياتِ بنَحْو ما في سورة البقرة. انتهى. .تفسير الآيات (191- 192): وقوله سبحانه: {الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً}: الَّذِينَ: في موضع خفضٍ صفَة ل {أُوْلِي الألباب}، وهذا وصف ظاهره استعمالُ التحميدِ والتَّهْليلِ والتَّكْبير ونَحْوه مِنْ ذكر اللَّه، وأنْ يحضر القلب اللسان؛ وذلك من أعْظَمِ وجوه العبادَاتِ، والأحاديثُ الصحيحةُ في ذلك كثيرةٌ، وابنُ آدم متنقِّلٌ في هذه الثلاثِ الهيئاتِ، لا يَخْلُو في غالب أمْرِه مِنْها فكأنها تحصرُ زمنه، وكذلك جَرَّتْ عائشةُ رضي اللَّه عنها إلى حصر الزَّمَن في قَوْلها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ على كُلِّ أَحْيَانِهِ». قلت: خرَّجه أبو داود، فدخَلَ في ذلك كونه على الخَلاَءِ وغيره. وذهَبَ جماعةٌ إلى أنَّ قوله تعالى: {الذين يَذْكُرُونَ الله} إنما هو عبارةٌ عن الصَّلاة، أي: لا يضيِّعونها، ففي حال العُذْر يصلُّونها قعوداً، وعلى جُنُوبهم، ثم عَطَف على هذه العبادةِ التي هِيَ ذكُرْ اللَّه باللسان، أو الصَّلاة فرضها وندبها بعبادة أخرى عظيمةٍ، وهي الفِكْرَةُ في قُدْرة اللَّه تعالى ومخلوقاتِهِ، والعِبَرُ التي بَثَّ. [المتقارب] قال الغَزَّالِيُّ: ونهايةُ ثمرة الدِّين في الدُّنيا تَحْصيلُ معرفة اللَّه، وتحصيلُ الأُنُس بذكْرِ اللَّهِ تعالى، والأنسُ يَحْصُلُ بدوامِ الذِّكْر، والمعرفَةُ تحصُلُ بدوامِ الفِكْرِ. انتهى من الإحياء. ومَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قومٍ يتفكَّرون في اللَّه، فَقَالَ: «تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ، وَلاَ تَتَفَكَّرُوا فِي الخَالِقِ؛ فَإنَّكُمْ لاَ تَقْدُرُونَ قَدْرَهُ». قال * ع *: وهذا هو قَصْدُ الآية في قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السموات والأرض}. وقال بعض العلماء: المتفكِّر في ذاتِ اللَّهِ كَالنَّاظر في عَيْنِ الشمْسِ؛ لأنه سبحانه لَيْسَ كمثله شيء، وإنما التفكُّر وانبساط الذِّهْن في المخلوقاتِ، وفي أحوالِ الآخِرَةِ، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ عِبَادَةَ كَتَفَكُّرٍ» وقال ابن عبَّاس، وأبو الدَّرْدَاء: فكْرَةُ ساعَةٍ خيُرٌ من قيامِ لَيْلَةٍ، وقال سَرِيٌّ السَّقطِيُّ: فكرةُ ساعةٍ خَيْرٌ من عبادة سَنَةٍ، ما هو إلاَّ أنْ تحلَّ أطناب خَيْمَتِكَ، فَتَجْعَلها في الآخِرَةِ، وقال الحَسَنُ بْنُ أَبي الحَسَن: الفكْرةُ مِرآةُ المُؤْمنِ، ينظر فيها إلى حسنَاتهِ وسيِّئاته، وأخذ أبو سليمان الدَّارانِيُّ قَدَح الماء؛ ليتوضَّأ لصلاة الليلِ، وعنده ضيْفٌ، فرآه لما أدخَلَ أصبعه في أُذُنِ القَدَح، أقام كذلك مفكِّراً حتى طلع الفَجْر، فقال له: ما هذا يَا أبا سليمان؟ فَقَالَ: إني لما طَرَحْتُ أصبعي في أُذُنِ القَدَحِ، تذكَّرت قول اللَّه سُبْحَانه: {إِذِ الأغلال فِي أعناقهم والسلاسل} [غافر: 71]، فتفكَّرت في حالِي، وكيف أتلَقَّى الغُلَّ، إنْ طُرِحَ في عُنُقِي يوم القيامة، فما زلْتُ في ذلك حتى أُصْبِحَ. قال * ع *: وهذه نهايةُ الخَوْف، وخَيْرُ الأمور أوساطها، وليس علماء الأمَّة الذين هم الحُجَّة على هذا المنهاج، وقراءةُ علْمِ كتابِ اللَّه ومَعَانِي سُنَّة رسُوله لِمَنْ يفهم ويرجى نَفْعُه أفضَلُ من هذا، لكنْ يَحْسُنُ ألاَّ تخلُوَ البلاد مِنْ مثل هذا. قال * ع *: وحدثني أبي رحمه اللَّه، عَنْ بعضِ علماءِ المَشْرق، قال: كنتُ بائتًا في مسجد الإقدامُ ب مَصْرَ فصلَّيْتُ العَتَمَةَ، فرأَيْتُ رجلاً قد اضطجع في كساءٍ له، حتى أصبح، وصلَّينا نَحْنُ تلك اللَّيْلَة، وسَهِرْنَا، فلَمَّا أُقِيمَتْ صلاةُ الصُّبْح، قام ذلك الرجُلُ، فاستقبل القبْلَةَ، وصلى مع النَّاس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلَمَّا فرغَتِ الصلاةُ، خرَجَ، فتبعْتُهُ لأعظَهُ، فلَمَّا دنوْتُ منه، سَمِعْتُهُ، وهو يُنْشِدُ: [المنسرح] قال: فعلمتُ أنه مِمَّن يعبدُ اللَّهَ بالفِكْرة، فانصرفت عنه. قال الفَخْر: ودلَّتِ الآية على أنَّ أعلى مراتب الصِّدِّيقين التفكُّر. انتهى. وفي العتبية: قال مالكٌ: قيلَ لأمِّ الدَّرْداء: ما كان أَكْثَر شأن أبي الدَّرْداء؟ قَالَتْ: كان أَكْثَرُ شَأْنِهِ التفكُّرَ. قال مالكٌ: وهو مِنَ الأعمال، وهو اليَقِينُ؛ قال اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السموات والأرض}، قال ابنُ رُشْدٍ: والتفكُّر مِنَ الأعمال؛ كما قاله مالك رحمه اللَّه، وهو مِنْ أشرف الأعمال؛ لأنه مِنْ أعمال القُلُوب التي هي أشْرَفُ الجوارحِ؛ أَلاَ ترى أنه لا يُثَابُ أحدٌ على عملٍ مِنْ أعمال الجَوَارح مِنْ سائر الطَّاعات، إلاَّ مع مشارَكَةِ القُلُوبِ لها بإخلاص النِّيَّة للَّه عَزَّ وجلَّ في فعلها. انتهى من الَبَيانِ والتحصيل. قال ابنُ بَطَّال: إن الإنسان إذا كَمُل إيمانه، وكَثُر تفكُّره، كان الغالِبُ علَيْه الإشفاقَ والخَوْف. انتهى. قال ابنُ عطاءِ اللَّهِ: الفِكْرَةُ سَيْر القَلْب في ميادين الاعتبار، والفَكْرَةِ سِرَاجُ القَلْب، فإذا ذَهَبَتْ، فلا إضاءة له. قُلْتُ: قال بعض المحقِّقين: وذلك أن الإنسان إذا تفكَّر، عَلِم، وإذا عَلِمَ، عَمِلَ. قال ابنُ عَبَّاد: قال الإمام أبو القاسم القُشَيْريُّ رحمه اللَّه: التفكُّر نعتُ كلِّ طالب، وثمرتُهُ الوصولُ بشرط العِلْمِ، ثم فِكْرُ الزاهدين: في فناءِ الدنيا، وقلَّةِ وفائها لطلاَّبها؛ فيزدادُونَ بالفِكْرِ زهْداً، وفِكْرُ العابدين: في جَميلِ الثوابِ، فيزدادُونَ نَشَاطاً ورغبةً فيه، وفِكْرُ العارفين: في الآلاء والنعماء؛ فيزدادُونَ محبَّةً للحَقِّ سبحانه. انتهى. وقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا}، أي: يقولُونَ: يا ربَّنا؛ على النداء، ما خلَقْتَ هذا باطلاً، يريد: لغير غايةٍ منصوبةٍ، بل خلقْتَهُ، وخلَقْتَ البشر؛ لينظروا فيه؛ فيوحِّدوك، ويعبدوك؛ فَمَنْ فعل ذلك نَعَّمْتَهُ، ومَنْ ضَلَّ عن ذلك، عَذَّبته، وقولهم: {سبحانك}، أي: تنزيهاً لك عمَّا يقول المُبْطِلُون، وقولهم: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}، أي: فلا تفعلْ ذلك بِنَا، والخِزْيُ: الفضيحةُ المُخْجِلَةُ الهادِمَة لقَدْرِ المرء. قال أنَسُ بنُ مالكٍ، والحَسَنُ بنُ أبي الحَسَن، وابنُ جُرَيْج، وغيرهم: هذه إشارة إلى من يَخْلُدُ في النَّار، وأمَّا مَنْ يخرج منها بالشفاعةِ والأَمان، فليس بمُخْزًى، أي: وما أصابه من عذابِهَا، إنما هو تمحيصٌ لذنوبه. وقوله سبحانه: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}: هو من قول الدَّاعِينَ.
|