الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه
.فصل: قُلْنَا: قد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك، نعني الَّذين قَالُوا بِخَبَر الْوَاحِد، فَذهب بَعضهم إِلَى منع ذَلِك عقلا وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَجْوِيز ذَلِك عقلا. قَالَا القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح عندنَا تجويزه عقلا. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه إِذا جَازَ ثُبُوت ابْتِدَاء حكم بِهِ فِي الشَّرْع فَيجوز النّسخ بِهِ أَيْضا وتمثيل جَوَازه فِي الْعقل: أَن يَقُول الله مثلا أَو رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مهما ثَبت عَلَيْكُم عمل بِنَصّ مَقْطُوع بِهِ، ثمَّ نقل ثِقَة خِلَافه بتاريخ مُتَأَخّر فاعملوا بالمتأخر، فَهَذَا مَا لَا اسْتِحَالَة فِيهِ أصلا عقلا. فَإِن قَالُوا هَذَا يُؤَدِّي إِلَى النّسخ الْمَقْطُوع بِهِ بالمظنون الَّذِي نستريب فِي ثُبُوته. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن: احدهما أَن نقُول: وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَقْطُوع بِهِ فَمَا يضرنا التَّرَدُّد فِي اصل الحَدِيث، مَعَ أَنا نعلم قطعا وجوب الْعَمَل بِهِ، فَكَأَن صَاحب الشَّرِيعَة قَالَ: إِذا نقل من ظَاهره الْعَدَالَة فَاقْطَعُوا بَان حكم الله تَعَالَى عَلَيْكُم الْعَمَل بِظَاهِرِهِ، وَصدق النَّاقِل وَكذب، فوضح بذلك مَا قُلْنَاهُ. على أَنا نقُول انْتِفَاء الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع مَقْطُوع بِهِ عندنَا، وَثُبُوت الْحَظْر أَو الْإِبَاحَة مَقْطُوع بِهِ عِنْد آخَرين، ثمَّ إِذا نقل خبر عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آحادا فَيثبت الْعَمَل بِهِ وَيرْفَع مَا تقرر قبل وُرُود الشَّرَائِع من نفي الْأَحْكَام أَو ثُبُوت الْحَظْر أَو الْإِبَاحَة، فَبَطل مَا قَالُوهُ ثمَّ نقُول: مهما جَوَّزنَا نسخ النَّص بِخَبَر الْوَاحِد فَلَا نسلم لكم مَعَ وُرُود الْخَبَر الْوَاحِد كَون النَّص مَقْطُوعًا بِهِ، فَإنَّا لَو قُلْنَا ذَلِك لزمنا الْقطع بكذب الرَّاوِي وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ. فَإِن قيل: فَهَذَا كلامكم فِي جائزات الْعُقُول، فَهَل تجوزون ذَلِك سمعا أم هَل فِي السّمع مَا يمْنَع مِنْهُ؟ قُلْنَا: الَّذِي صَحَّ فِي ذَلِك عندنَا أَن نسخ الْمَقْطُوع بِخَبَر وَالْوَاحد كَانَ يجْرِي فِي زمن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالدَّلِيل عَلَيْهِ إِن أهل مَسْجِد قبَاء افتتحوا الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس فاجتاز بهم مجتاز، وهم فِي خلال الصَّلَاة، فَأخْبرهُم أَن الْقبْلَة قد حولت فاستداروا قبل أَن يتَحَقَّق ذَلِك عِنْدهم تواترا، وَلم يُنكر عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ رُبمَا كَانَ يثبت الْأَحْكَام وَيسْتَمر بتواتر الْأَخْبَار فِي الأقطار، ثمَّ ينْسَخ ذَلِك فيبعث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَاحِد إِلَى كل قطر ليعلمهم نسخ الحكم وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده فِي عاداته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَذَا هُوَ القَوْل فِيمَا يجْرِي فِي عصره. فَأَما بعد أَن اسْتَأْثر الله بِهِ فَلَا يجوز نسخ مَقْطُوع بِهِ بمظنون، وَهَذَا من جائزات الْعُقُول، وَلَكِن أَجمعت الْأمة على مَنعه بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا مُخَالف فيهم وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي تجوزه فِي زمَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا لدلَالَة الْإِجْمَاع لَا يسوغ نسخ الْمَقْطُوع بِهِ بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمظنون الْمَشْكُوك فِيهِ. .فصل: قُلْنَا: أما تَجْوِيز ذَلِك فَلَا مَانع مِنْهُ على تَفْصِيل نذكرهُ الْآن، فَنَقُول إِذا ثَبت الحكم بِنَصّ مُتَقَدم، ثمَّ ثَبت آخر بِنَصّ آخر مثلا وَنَفس ذَلِك الحكم لَا يُنَافِي حكم النَّص الأول، وَلَكِن استنبط المستنبطون مِنْهُ قِيَاسا يُخَالف حكم النَّص الاول فَيجوز فِي الْعقل تَقْدِير نسخه بِهِ على الْوَجْه الَّذِي قدرناه فِي الْخَبَر الْوَاحِد، وتمثيله أَن نقُول: لَا يستبعد فِي الْعقل أَن يُكَلف الله تَعَالَى وَيَقُول: مهما ثَبت عَلَيْكُم حكم بِنَصّ مُتَقَدم ثمَّ عَن لكم قِيَاس مستنبط من مورد نَص مُتَأَخّر فاعملوا بِمُوجب الْقيَاس وأعرضوا عَن الحكم بِالنَّصِّ الأول، وَهَذَا مَا لَا بعد فِيهِ عقلا. فَإِن قَالَ قَائِل: افتجوزون أَن يكون نَص فَيثبت ذَلِك الْقيَاس مَعَ ثُبُوت النَّص فَلَو جَازَ النّسخ بِقِيَاس مستنبط من نَص سَابق فَيكون ذَلِك نسخ الْمُتَأَخر بالمتقدم. قُلْنَا: هَذَا مَا لَا وَجه لَهُ فِي الْعقل مَعَ وجود اعْتِقَاد الصدْق فِي النصين فَإِن الأول إِذا كَانَ نافيا لحكم الثَّانِي فَلَا يتَصَوَّر وُرُود الثَّانِي على وَجه الصدْق وَالتَّحْقِيق، فَهَذَا وَجه الْكَلَام عقلا. فَإِن قيل: فَهَل تجوزون ذَلِك سمعا عُمُوما أَو فِي عصر من الْأَعْصَار كَمَا قد ثبتموه فِي خبر الْوَاحِد. قُلْنَا: الصَّحِيح من الْمذَاهب أَن ذَلِك لَا يجوز سمعا، وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى تَجْوِيز النّسخ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ شرعا وَالدَّلِيل على بطلَان ذَلِك من جِهَة السّمع أَن القائسين أَجمعُوا أَن من شَرط الْقيَاس أَن لَا يُخَالف نصا من النُّصُوص، وَالْعُلَمَاء على طريقتين فَمنهمْ من لم ير الْقيَاس حجَّة، وَمِنْهُم من رَآهُ حجَّة وَشرط أَن لَا يُخَالف النَّص فَهَذَا من أوضح الْأَدِلَّة المسعية على منع النّسخ بِالْقِيَاسِ. وَمِمَّا يدل عَلَيْهِ أَيْضا: أَن أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا يتركون الأقيسة فِي المجتهدات بِمَا يرْوى لَهُم من الْأَخْبَار فَمَا رُوِيَ عَن أحد مِنْهُم انه تمسك بِقِيَاس مَعَ نقل نَص عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْأَحَايِين لَوْلَا النَّص لَكَانَ كَذَا وَكَذَا. فَثَبت من جملَة السّمع أَن الْقيَاس لَا ينْسَخ بِهِ. .فصل: .فصل: فَإِن قَالَ قَائِل: فَلَو قَالَ الصَّحَابِيّ: نسخ الحكم الْفُلَانِيّ، فَهَل يثبت بذلك النّسخ؟ قُلْنَا: هَذَا موقع اخْتِلَاف الْعلمَاء فَذهب بَعضهم إِلَى أَن النّسخ يثبت بذلك رِوَايَة ونقلان فَإنَّا نحمل مَا يَنْقُلهُ الصَّحَابِيّ على الصِّحَّة والسداد، فحملنا لذَلِك قَوْله: نسخ الحكم على الْحَقِيقَة. قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح أَن النّسخ لَا يثبت بذلك فَإِن مَا ثَبت النّسخ بِهِ مُخْتَلف فِيهِ فَرُبمَا يعْتَقد الصَّحَابِيّ فِي الشَّيْء نسخا وَهُوَ لَيْسَ بنسخ فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَلَا بُد أَن يظْهر سَبَب النّسخ لنرى فِيهِ رَأينَا، ونجتهد فِيهِ. وَلَو قَالَ الصَّحَابِيّ حكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو قضى بِكَذَا فَلَا يحمل ظَاهر مَا يَنْقُلهُ على صِحَة حَتَّى ينْقل صُورَة الْقَضِيَّة لانقسام الْقَضَاء فَكَذَلِك القَوْل فِيمَا نَحن فِيهِ. وَإِن نقل الصَّحَابِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَرِيحًا أَنه قَالَ نسخت عَنْكُم الحكم الْمَعْلُوم الَّذِي يَنْقُلهُ فَيقبل مثل ذَلِك. وَالْجُمْلَة أَن مَا يكون نَاقِلا فِيهِ فَهُوَ مُصدق فِي نَقله وَمَا يخْشَى أَن يكون مُجْتَهدا فِيهِ فَلَا نقطع بِظَاهِرِهِ حَتَّى يتَبَيَّن حَقِيقَة الْأَمر. .فصل: ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله يجوز أَن ينْسَخ بِفِعْلِهِ إِذا صدر مصدر الْبَيَان، على مَا فصلنا مواقع الْأفعال فِيمَا سبق، وَكَذَلِكَ يجوز نسخ فعله الْوَاقِع موقع الْبَيَان بقوله، وَهَذَا القَوْل فِي تَقْرِيره الْمُبين نَاسِخا ومنسوخا وَهَذَا مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء. وَذهب شرذمة من المنتمين إِلَى الْأُصُول إِلَى انه لَا ينْسَخ قَوْله بِفِعْلِهِ، وَلَا فعله بقوله، لاختلافهما وَهَذَا سَاقِط من الْمَذْهَب، وَذَلِكَ أَن الْفِعْل فِي وُقُوعه موقع الْبَيَان نَازل منزلَة القَوْل، وَإِن قدرُوا أفعالا على خُرُوجه الْبَيَان فَلَا يحْتَج بِهِ اصلا، فقد نزل فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اقتضائه الْبَيَان منزلَة قَوْله، وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ، فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِيمَا ينْسَخ وينسخ بِهِ. .القَوْل فِي أَن نسخ بعض الْعِبَادَة أَو شَرط من شرائطها هَل يكون نسخا لِلْعِبَادَةِ: قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي يَصح فِي ذَلِك عندنَا أَن مَا ينْسَخ من الْعِبَادَة فَلَا شكّ أَن النّسخ تحقق فِي الْمَرْفُوع بالنسخ وفَاقا فَأَما فِي بَقِيَّة الْعِبَادَة أَو الْعِبَادَة الْمَشْرُوطَة فَإِن ثَبت أَنَّهَا كَانَت لَا تصح دون شَرطهَا أَو لَا يَصح الِاقْتِصَار على بَعْضهَا لَو قدر بَعْضهَا مُفردا أَو جَمِيعًا من غ غير شَرط لَكَانَ أَن يفْسد وَيخرج من حيّز الْعِبَادَات فَإِذا ثَبت الْآن أَنه يَصح الِاقْتِصَار على بَعْضهَا أَو يَصح من غير مَا كَانَ شرطا فِيهَا فَهَذَا نسخ عَن الْحَقِيقَة سَوَاء كَانَ الشَّرْط مُتَّصِلا أَو مُنْفَصِلا. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن النّسخ هُوَ رفع الحكم بعد ثُبُوته على الْحَد الَّذِي رسمناه فِي حَقِيقَة النّسخ، وَقد تحقق ذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا، فان الَّذِي رفع لَا شكّ فِي تحقق النّسخ فِيهِ، وَالَّذِي لم يرفع صورته فقد رفع حكمه، فَإِن مَا كَانَ فَاسِدا خَارِجا عَن قَضِيَّة الْعِبَادَات وَهُوَ الْبَعْض اَوْ الْعِبَادَة دون الشَّرْط، فقد ثَبت أَنه جَائِز بعد أَن لم يكن جَائِزا فَهَذَا هُوَ النّسخ بِعَيْنِه، وَهُوَ أَن يثبت جَوَاز مَا كَانَ لَا يجوز، أَو عدم جَوَاز مَا كَانَ يجوز، وَلَا مُعْتَبر بِنَفْي بعض من الصُّورَة، فَإِنَّمَا الْمُعْتَبر بِالْأَحْكَامِ فِي تَحْقِيق النّسخ. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْفِعْل وَالْوَاحد قد يثبت وُجُوبه شرعا ثمَّ يثبت كَونه مَنْدُوبًا وارتفاع وُجُوبه، وَيكون بِهِ نسخا فِي الْحَالَتَيْنِ إِن بَقِي الْفِعْل م فيهمَا، فَهَذِهِ الطَّرِيقَة الَّتِي طردناها، فَبَطل الْفَصْل بَين الْمُنْفَصِل والمتصل، وَهُوَ بَين عِنْد التَّأَمُّل. فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَت الصَّلَاة أَرْبعا فَردَّتْ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فهاتان الركعتان كَانَتَا ثابتتين مَعَ أخرتين وبقيتا ثابتين فَلَا معنى للنسخ فيهمَا، وأوضحوا ذَلِك فِي الشَّرْط الْمُنْفَصِل أَيْضا فَقَالُوا إِذا كَانَت الصَّلَاة مَشْرُوطَة بِالطَّهَارَةِ وهما فعلان متغيران وعبادتان متغايران والنسخ فِي أَحدهمَا لَا يكون رفعا فِي الثَّانِي، وَمَا قدمْنَاهُ من الدَّلِيل انْفِصَال عَن ذَلِك إِذْ قد بَينا أَن بَقَاء الصُّورَة لَا معول عَلَيْهِ فِي نفي وَلَا إِثْبَات، وَإِنَّمَا الْمعول على ارْتِفَاع الْأَحْكَام وبقائها، وَقد حققنا ذَلِك وَبينا أَن مَا لم يكن جَائِزا صَار جَائِزا وَهَذَا هُوَ النّسخ عينه. .القَوْل فِي أَنه هَل يتَحَقَّق النّسخ فِي حق من لم يبلغهُ النَّاسِخ: وَهَذَا ظن من قَائِله، فَإِن الصَّحِيح الَّذِي يجب الْقطع بِهِ أَن التَّكْلِيف لَا يَنْقَطِع عَمَّن لم يبلغهُ النَّاسِخ، بل يبْقى عَلَيْهِ الحكم الأول، وَلَا يثبت عَلَيْهِ الحكم الثَّانِي مَعَ الْجَهْل بِالدَّال عَلَيْهِ، إِذْ لَا يسوغ ثُبُوت التَّكْلِيف مَعَ الْجَهْل بِسَبَبِهِ ومقتضيه، وَهَذَا مِمَّا يقطع بِهِ، وَلَو سَاغَ تثبيت التَّكْلِيف مَعَ الْجَهْل لساغ مَعَ كل مِمَّا يضاد الْعلم، حَتَّى يلْزم من ذَلِك تَجْوِيز التَّكْلِيف للسكران والنائم، وَقد استقصينا فِي ذَلِك قولا مقنعا فِي أول الْكتاب، ومحصوله أَنه إِذا ثَبت أَن الحكم لَا يثبت دون دَلِيل عَلَيْهِ وَلم يتَمَكَّن الْمُكَلف مِم التَّوَصُّل إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ كلف الْعَمَل على وَجه يَسْتَحِيل، فَإِن حَالَة الْجَهْل بالناسخ تنَافِي الْعلم بالتكليف فَلَا يتَحَقَّق مَعَ الْجَهْل الْعلم لتناقضهما وتضادهما، فَلَا مخرج لتجويز ذَلِك إِلَّا تَكْلِيف الْمحَال. وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن الَّذِي لم يبلغهُ النَّاسِخ مُخَاطب بِحكمِهِ الأول إِلَى ان يبلغهُ النّسخ. ثمَّ اخْتلف بعد ذَلِك فِيمَا يؤول إِلَى عبَادَة عِنْد التَّحْقِيق فَذهب بَعضهم إِلَى أَن النَّاسِخ إِنَّا هُوَ نَاسخ فِي حق من بلغه وَلَيْسَ بناسخ فِي حق من لم يبلغهُ فَإِذا بلغه اتّصف حِينَئِذٍ بِكَوْنِهِ نَاسِخا فِي حَقه، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه نَاسخ فِي حَقه قبل أَن يبلغهُ على شَرط أَن يبلغهُ كَمَا أَن الْأَمر أَمر للمعدوم على شَرط الْوُجُود. وَهَذَا رَاجع إِلَى اخْتِلَاف فِي الْعبارَة فَإِن الْفَرِيقَيْنِ صَارُوا إِلَى أَنه مُخَاطب بِحكمِهِ الأول وَمَا يبدر مِنْهُ على الْقَضِيَّة الأولى فَهُوَ حكم الله تَعَالَى. فَإِذا قد اتفقنا على ذَلِك ثمَّ اتفقنا على أَنه إِذا بلغه النَّاسِخ يتبدل عِنْد بُلُوغه التَّكْلِيف عَلَيْهِ فقد تقرر رُجُوع الِاخْتِلَاف إِلَى عبارَة، وَإِنَّمَا الْخلاف الْحَقِيقِيّ مَعَ الَّذين قدمنَا ذكرهم حَيْثُ قَالُوا: إِن الحكم يرْتَفع عَمَّن لم يبلغهُ النَّاسِخ وَقد أَشَرنَا إِلَى وَجه الرَّد عَلَيْهِم. .فصل: وَهَذَا غلط ظَاهر مِنْهُ، وَذَلِكَ انه إِذا نسخ الأَصْل الَّذِي مِنْهُ الاستنباط فيرتفع مَعَ ارتفاعه اعْتِبَار علته الَّتِي هِيَ أم الْقيَاس إِذْ من المستحيل أَن ينْسَخ حكم وَتبقى علته الدَّالَّة وإمارته المقررة المنصوصة على الحكم، ثمَّ إِذا ارْتَفَعت عِلّة الحكم لَا محَالة فيستحيل اعْتِبَارهَا فرعا واصلا ولعلنا نوضح ذَلِك فِي أَحْكَام الأقيسة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. .القَوْل فِي تَارِيخ النَّاسِخ والمنسوخ: ثمَّ فِي معرفَة التَّارِيخ طَرِيقَانِ: أَحدهمَا أَن ينْقل صَرِيحًا تَارِيخ النَّاسِخ والمنسوخ، وَالثَّانِي أَن يثبت خبران لَا وَجه للْجمع بَينهمَا، وَالْأمة مجمعة على الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا والتمسك بِهِ وَالِاسْتِدْلَال بِهِ، فنعلم أَن الْأمة مَا اجمعت على ذَلِك مَعَ اعترافهم بِصِحَّة الْحَدِيثين إِلَّا مَعَ علمهمْ بِكَوْن مَا تمسكوا بِهِ نَاسِخا مُتَأَخِّرًا. والتاريخ يثبت نقلا، وَمِنْهَا أَن يُضَاف خبران إِلَى زمانين نصا وَتَصْرِيحًا، وَالثَّانِي أَن يُضَاف إِلَى قضيتين ثَبت تقدم أَحدهمَا على الآخر كالحديثين إِلَى غزوتين، وكل ذَا يؤول إِلَى شَيْء وَاحِد، وَهُوَ النَّقْل المنبىء عَن التَّارِيخ. وَأما كل نقل لَا ينبىء عَن التَّارِيخ فَيجوز ذَلِك فِيهِ، وَلَا يَقْتَضِي نسخا، وَذَلِكَ نَحْو أَن يكون اُحْدُ الرِّوَايَتَيْنِ للمحدثين من مُتَقَدِّمي الصَّحَابَة وَالثَّانِي من أحداثهم فَلَا يجوز حمل حَدِيث الْحَدث على التَّأْخِير وَحمل حَدِيث الطاعن فِي السن على التَّقَدُّم، فَإِن هَذَا مِمَّا لَا يُفْضِي إِلَى التَّارِيخ على تَحْقِيق. .فصل: قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالْقَوْل فِي أَنا نشرط أَن يثبت التَّارِيخ قطعا إِذا كَانَ اصل الحَدِيث مَقْطُوعًا بِهِ أولى عِنْدِي وَأظْهر، وَالله أعلم. .باب الاجماع وَذكر فصوله وَوجه الِاخْتِلَاف فِيهِ: أَولهَا: ذكر حَقِيقَة الْإِجْمَاع فِي اللُّغَة والاصطلاح. وَالْإِجْمَاع فِي اللُّغَة يرد على مَعْنيين: يرد وَالْمرَاد بِهِ إبرام الْعَزْم وتوطين النَّفس فَتَقول: أجمع فلَان الْمسير، إِذا عزم عَلَيْهِ. وَيرد الْإِجْمَاع، وَيُرَاد بِهِ اتِّفَاق طَائِفَة على أَمر، فعلا كَانَ أَو قولا. وَلَا يخص ذَلِك فِي وضع اللُّغَة بِقوم دون قوم. فيستعمل فِي الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقهمَا، فَيُقَال: أجمع الرّجلَانِ، وَأجْمع الثَّلَاثَة على فصل وعَلى قَول. وَهَذَا أَيْضا فِي التَّحْقِيق رَاجع إِلَى الْمَعْنى الأول. وَذَلِكَ أَنهم إِذا اتَّفقُوا على شَيْء، فقد أبرموا الْعَزْم عَلَيْهِ. وَأما الْإِجْمَاع فِي الِاصْطِلَاح فِي أَحْكَام الشَّرِيعَة: فَهُوَ اتِّفَاق الْأمة أَو اتِّفَاق علمائها على حكم من أَحْكَام الشَّرِيعَة، على مَا سنفصل القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله. وَذهب النظام من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْإِجْمَاع، كل قَول يجب اتِّبَاعه سَوَاء صدر من جمع أَو من وَاحِد. وَسمي لذَلِك خبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِجْمَاعًا. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ من تَخْصِيص الْإِجْمَاع بالْقَوْل الَّذِي يجب اتِّبَاعه، لَا محصول لَهُ. فَإِن القَوْل الْوَاحِد لَا يُسمى إِجْمَاعًا شَرْعِيًّا. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن أهل الْملَل إِذا اتَّفقُوا على شَيْء، فَيُقَال فِي أَلْفَاظ الشَّرِيعَة: أَجمعُوا. وَلَا منع من إِطْلَاق ذَلِك، وَإِن لم يسغْ الِاحْتِجَاج بإجماعهم. ومقصد النظام مِمَّا قَالَه أَن اتِّفَاق عُلَمَاء الْأمة لَا يُسمى إِجْمَاعًا. فَإِنَّهُ لَا حجَّة فِيهِ عِنْده. وَقد وضح تحكمه على اللُّغَة والوضع وَالشَّرْع فِيمَا قَالَه. .ذكر الْمذَاهب فِي ثُبُوت الْإِجْمَاع وحجيته: ثمَّ اخْتلف أَيْضا عَنهُ على دَرَجَات: فَمنهمْ من صَار إِلَى أَن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر انْعِقَاده، فضلا عَن أَن يتَصَوَّر ثمَّ لَا تقوم بِهِ الْحجَّة. وَمِنْهُم من قَالَ: يتَصَوَّر انْعِقَاده، وَلَكِن لَا يتَصَوَّر نَقله على وَجه. وَمِنْهُم من قَالَ: يتَصَوَّر ذَلِك، وَلَا حجَّة فِيهِ، وَهَذَا مَذْهَب النظام. وَالَّذين صَارُوا إِلَى أَن إِجْمَاع الْمُسلمين حجَّة يقطع بهَا، افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن: فَمنهمْ من رأى أَنه يسْتَدرك بقضية الْعقل، ويتأكد بِدلَالَة السّمع. وَمِنْهُم من زعم أَن مدركه السّمع، وَلَا يدْرك بقضية الْعقل، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي نرتضيه وندين الله تَعَالَى بِهِ. .إِثْبَات تصور انْعِقَاد الْإِجْمَاع: فَأَما الَّذين قَالُوا من منكري الْإِجْمَاع، إِنَّه لَا يتَصَوَّر انْعِقَاده، فقد ذَهَبُوا فِي ذَلِك الى ضرب من الحسبان فِيمَا بَينهم وفنون من التُّهْمَة وَجحد الضَّرُورَة. وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: لقد صَحَّ من أصلكم - معاشر الْقَائِلين بِالْإِجْمَاع - أَن أهل الْإِجْمَاع لَا يتفقون على فعل وَلَا قَول إِلَّا عَن دلَالَة. ثمَّ جوزتم أَن تِلْكَ الدّلَالَة خبر من أَخْبَار الْآحَاد، أَو قِيَاس مستنبط يخفى مدركه! وَنحن نعلم أَن عُلَمَاء الأقطار يَسْتَحِيل مِنْهُم العثور فِي مجاري الْعَادَات على قِيَاس وَاحِد أَو خبر وَاحِد. فَيُقَال لهَؤُلَاء: الَّذِي ذكرتموه تحكم على الْعَادة. وَذَلِكَ أَن عُلَمَاء الشَّرْع متعبدون بِشدَّة الفحص و التنقير عَن الْأَدِلَّة، وتتبع الأمارات المنصوبة على الْأَحْكَام. وهم "دائبون" فِيهِ فِي مُعظم الْأَوْقَات فِي غلبات ظنونهم، وتطلب مِنْهُم فِيمَا تعبدوا بِهِ. وَهَذَا الْمَعْنى فيهم أَشد الدَّوَاعِي على العثور على الْمَقَاصِد. فَلَا يبعد فِي مجاري الْعَادَات عثورهم جَمِيعًا على خبر أَو قِيَاس. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الَّذين يزِيد عَددهمْ على عدد الْمُسلمين، تراهم فِي شَرق الأَرْض وغربها. فقد اتّفقت كلمتهم واتفقت "دَارهم" على شُبْهَة وَاحِدَة تَقْتَضِي فِي مجْرى الْعَادة قودهم إِلَى الْكفْر وحيدهم عَن الْحق، نَحْو اجْتِمَاع "الملحدة " على الدَّهْر، واجتماع النَّصَارَى على التَّثْلِيث مَعَ اتِّحَاد الأقنومية. فَإِذا كَانَ يتَصَوَّر فِي مجاري الْعَادَات اجْتِمَاع الْمَلأ الْعَظِيم على الشُّبْهَة الْوَاحِدَة، فَلَا وَجه يمْنَع لما تصور اجْتِمَاع الْمُسلمين على أَمارَة من الأمارات. .إِثْبَات صِحَة نقل الْإِجْمَاع، وَالرَّدّ على الإيرادات: فَكيف يتَحَقَّق للْوَاحِد الطّواف على كَافَّة الْعلمَاء، وَأخذ أَقْوَالهم متفقة فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة؟ وَإِن تصور ذَلِك فَمَا يومن وَأَن لم ينْتَه إِلَى الثَّانِي إِلَّا رَجَعَ الأول عَن قَوْله؟ وَإِذا لم يتَصَوَّر من هَذَا الْوَجْه، فَلَا يتَصَوَّر أَيْضا نقل. فَإِن طرق النَّقْل تبدأ من الْآحَاد، وَإِذا لم يتَصَوَّر ذَلِك فيهم، لم يتَصَوَّر نَقله أصلا. قُلْنَا: هَذَا عناد مِنْكُم ومراغمة لما عهد فِي مجاري الْعَادَات ضَرُورَة وبديهة. فَإنَّا نعلم أَنه قد تتواصل الْأَخْبَار على امتداد الْأَعْصَار من أقْصَى الْأَمْصَار والأقطار باتحاد أقاويل الْعلمَاء فِي مَسْأَلَة من الْمسَائِل. وَهَذَا كَمَا أَنه قد تحقق عندنَا اتِّفَاق الْعلمَاء على عدد الصَّلَوَات وركعاتها وسجداتها، إِلَى غير ذَلِك من أَحْكَامهَا. والمستريب فِي ذَلِك متعرض لجحد الضَّرُورَة. وَكَذَلِكَ نعلم قطعا اتِّفَاق النَّصَارَى على التَّثْلِيث وَجحد نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا قدره من الاستحالة يتَحَقَّق فِي كل مَا تمثلنا بِهِ. وَكَذَلِكَ نعلم أَن الْمُعْتَزلَة قَائِلُونَ بِخلق الْقُرْآن. فَلَا أحد مِنْهُم إِلَّا يَقُول بذلك فَبَطل مَا قَالُوهُ. فَإِن قَالُوا: كَمَا يبعد فِي مُسْتَقر الْعَادة اتِّفَاق الْعلمَاء المتبددين فِي الْأَمْصَار مَعَ اخْتِلَاف أغراضهم وتباين آرائهم، أَن يجتمعوا على اخْتِلَاف من القَوْل، وزور وَكذب، على تواضع وتواطئ، أَو وفَاقا من غير سَبَب، فَهَذَا مستنكر فِي الْعَادة. كَمَا يستنكر أَن يتَّفق فِي الْوَقْت الْوَاحِد لكافة الْبَريَّة قعُود على صفة وَاحِدَة أَو قيام، أَو نَحْوهمَا من الْأَوْصَاف. وكما يَسْتَحِيل ذَلِك، فَكَذَلِك يَسْتَحِيل اتِّفَاقهم على حكم وَاحِد، قولا أَو فعلا. وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه، تحكم، على الْعَادَات، واقتراب من المطاعن فِي الضروريات. وَذَلِكَ أَن نقُول لَهُم: أَلَيْسَ قد ثَبت جَوَاز اتِّفَاق أهل التَّوَاتُر على نقل شَيْء عاينوه وشاهدوه؟ ثمَّ نعلم مَا نقلوه صدقا ضَرُورَة. على مَا قدمْنَاهُ فِي كتاب الْأَخْبَار. فَلَو قَالَ الْقَائِل: إِذا تصور اجْتِمَاعهم على نقل صدق فَيَنْبَغِي أَن يتَصَوَّر اتِّفَاقهم على نقل كذب! فَإِن كل وَاحِد مِنْهُم لَو قدر مُفردا، بصدد أَن يتَصَوَّر مِنْهُ ذَلِك. فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك، لِأَن النُّفُوس مجبولة على نقل الصدْق، مَحْمُولَة على خلاف طباعها إِذا نقلت الْكَذِب. قُلْنَا هَذَا تحكم. فَرب متطبع بِالْكَذِبِ لَا يصدق، إِلَّا بعد كدَ مِنْهُ لطباعه، ثمَّ مَا أنكرتم من مثل ذَلِك فِي الْمُتَنَازع فِيهِ، فَنَقُول: يتَصَوَّر اجْتِمَاعهم على صَوَاب لكَوْنهم متعبدين بِطَلَبِهِ واتصاف الدعاوي فِيهِ، فوضحت هَذِه الْأُصُول، واستندت فِي وضوحها الى الضروريات. .الرَّد على من زعم أَن يكون أَن حجية الْإِجْمَاع يدْرك بقضية الْعقل: وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَيْضا، أَنه لما اسْتَحَالَ فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن ينْقل أهل التَّوَاتُر مَا شاهدوه، وَلَا يُوجب نقلهم الْعلم الضَّرُورِيّ. مَعَ الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فِي أَخْبَار التَّوَاتُر. فَلم يفصل فِي ذَلِك بَين أمة وَأمة. وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. فَإِن قَالُوا: الْعقل يحِيل اجْتِمَاع الْعلمَاء على بَاطِل وافتعال وكتمان حق وَوضع كذب. وَهَذَا مُسْتَدْرك فِي مجْرى الْعَادة. قُلْنَا: فَأهل الْملَل إِذا قيسوا بعلماء الْإِسْلَام فَإِنَّهُم يزِيدُونَ عَلَيْهِم أضعافا مضاعفة. ثمَّ نراهم قد اتّحدت كلمتهم فِي ضروب من الْخَطَأ والضلال وَالْكفْر والمحال. والعادات لَا تخْتَلف باخْتلَاف الْأَدْيَان. فَمَا ذَكرُوهُ من رَكِيك من القَوْل. وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ أَيْضا، أَن قَالُوا: قد ثَبت اسْتِمْرَار شرع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّور، وَلَا تقوم الشَّرِيعَة إِلَّا بِحجَّة قَاطِعَة. وَلما كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أظهر أصحابه كَانَ قَوْله مَقْطُوعًا بِهِ. فَلَمَّا اسْتَأْثر الله بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى رَحمته، فَيجب تَقْدِير حجَّة يقطع بهَا فِي التباس المشكلات وإتمام المعضلات. وَمَا هُوَ إِلَّا الْإِجْمَاع. قُلْنَا: هَذَا أوضح فَسَادًا من كل فَاسد، والإطناب فِيهِ بعد عَن الْمَقْصد، وَالَّذِي يُبطلهُ على قرب، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد خلف فِينَا الْكتاب وَالسّنة المتواترة المستفيضة، وَيقوم الْقطع بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا. فَهَلا وَقع الاجتزاء بهما؟ وَكَذَلِكَ أَخْبَار الْآحَاد وطرق المقايس يقطع بهَا فِي إِيجَاب الْعَمَل. فَوَقع بهَا الاجتزاء. فَإِن قَالُوا: فنصوص الْكتاب وَالسّنة لَا تعم كل صُورَة! قُلْنَا: فَكَانَ الْإِجْمَاع يعم كل صُورَة أم يخْتَص بِبَعْضِهَا؟ فَإِن زَعَمُوا أَنه يعمها، بهتُوا. وَإِن زَعَمُوا أَنه يخص بعض الصُّور، بَطل اعتلالهم. .الْأَدِلَّة على ثُبُوت الْإِجْمَاع سمعا وَشرعا: قُلْنَا: الَّذِي نعول عَلَيْهِ فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع، نَص الْكتاب وَالسّنة المستفيضة من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَأَما نَص الْكتاب، فَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا}. وَوجه الدَّلِيل من الْآيَة: أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى زجر عَن اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، وتوعد عَلَيْهِ بأعظم الْوَعيد، وقرنه بمشاقة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قيل: هَذَا تمسك مِنْكُم بِالْمَفْهُومِ من الْآيَة أَولا، فَإِن مَضْمُون الْآيَة: النَّهْي عَن اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَلم زعمتم أَنه يجب اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ؟ قُلْنَا: هَذَا سِيَاقه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه سُبْحَانَهُ أخرج هَذَا الْكَلَام مخرج التَّقْسِيم الضَّرُورِيّ. فَإِنَّهُ إِذا ثَبت الزّجر عَن اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَلَا محيص عَن الْمنْهِي إِلَّا بِاتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَإِن السَّبِيل إِمَّا أَن يكون سَبِيل الْمُؤمنِينَ، وَإِمَّا أَن يكون غير سبيلهم. فَتبين أَن هَذَا لَيْسَ من الْمَفْهُوم فِي شَيْء. على أَنا نقُول: مواقع الْكَلَام تخْتَلف بسياق الْخطاب، وَنحن نعلم ضَرُورَة، بِحَيْثُ لَا نستجيز الريب فيهمَا، أَن الْمَقْصد من الْآيَة، تَعْظِيم أَمر الْمُؤمنِينَ وتفخيم شَأْنهمْ، والحث على اتِّبَاع سبيلهم، والزجر عَن إبداء صِحَة الْخلاف عَلَيْهِم. وَهَذَا حَال مَحل الفحوى فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ}. فَإِن قَالُوا: كَيفَ يَسْتَقِيم مِنْكُم التَّمَسُّك بِالْآيَةِ، وَلَيْسَ لهَذِهِ الصِّيغَة ظَاهر عنْدكُمْ فِي اقْتِضَاء الْوُجُوب؟ قُلْنَا: أما من حمل مُطلق هَذِه الصِّيغَة على الْوُجُوب، فيصدكم عَن سؤالكم بِمُجَرَّد الْمَذْهَب، وَأما نَحن: فَإنَّا نقُول باقتضاء الْوُجُوب بعد وضوح الْقَرَائِن. وَمن أوضحها، الْوَعيد والتهديد وَالْآيَة منطوية على ذَلِك. .سُؤال: فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يحث المعرض على الْإِيمَان، ومتابعة الْمُؤمنِينَ فِي إِيمَانهم، وَالرجز عَن الْكفْر. وَالْجَوَاب عَن ذَلِك: أَنا نقُول: هَذِه مُخَالفَة ظَاهِرَة لظَاهِر الْخطاب، ذَلِك لِأَن الرب تَعَالَى سمى أَقْوَامًا، ونعتهم بنعت تميزوا بِهِ عَن غَيرهم، وَأثبت لَهُم سَبِيلا بعد أَن نعتهم وميزهم، وَأوجب اتِّبَاع سبيلهم، فَمن أَرَادَ أَن يَجْعَل السَّبِيل الْمُثبت بعد النَّعْت رَاجعا الى نفس النَّعْت، فقد خَالف الْعَرَبيَّة. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، أَنَّك إِذا قلت: من يتبع سَبِيل الْأَطِبَّاء أَو المهندسين أَو نحوهم، كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَلَا يفهم من ذَلِك التطبب وَلَا الْخَوْض فِي علم الهندسة، وَلَكِن الْمَعْنى بِهِ مَا يرسمونه، وَكَذَلِكَ إِذا قلت: من يتبع سَبِيل الْمَلَائِكَة، فَأَنت تَعْنِي بِهِ اتباعهم فِي كَونهم مَلَائِكَة، وَهَذَا بَين فِي فحوى الْكَلَام. ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تسرع مِنْكُم الى ترك الظَّاهِر، وَذَلِكَ أَن الْإِيمَان - على اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيمَا يثبت - لَا يثبت بِشَيْء من أَرْكَانه بالاتباع، إِجْمَاعًا مِنْكُم عنْدكُمْ، وَلَكِن إِنَّمَا يدْرك بمدارك الْعُقُول الى غَيرهَا مِمَّا تهذون بِهِ، فَكل مَا يبلغ مبلغ التَّكْلِيف بِهِ، فَلَا يتبع الْأمة أصلا، بل يشْتَغل بالطرق الَّتِي يثبتونها، وَيُخَالف الْأمة أَولا، ثمَّ إِن اطردت لَهُ الدّلَالَة اتبعها. فَهَذَا تَصْرِيح بِمَنْع اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ أَولا فِيمَا صَارُوا بِهِ مُؤمنين. على أَنا نقُول: فحوى الْخطاب مطرح بِكَوْن سَبِيل الْمُؤمنِينَ ملاذا يعتصم بِهِ ويلجأ إِلَيْهِ. ويتضمن ظَاهر الْخطاب جعل سَبِيل الْمُؤمنِينَ أصلا مُتبعا، وَلَا معنى لذَلِك عنْدكُمْ، فَإِن المتبع طرق الْأَدِلَّة الَّتِي تقررت مُوَافقَة الْمُؤمنِينَ إِيَّاهَا، فَالْكل متعبدون بهَا دون السبل. وعندكم أَن مُوَافقَة الْمُؤمنِينَ فِي مُقْتَضى الْأَدِلَّة، كموافقة الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي إِثْبَات التَّوْحِيد وَإِثْبَات الصَّانِع، وَلَا يثبت شَيْء من ذَلِك باتباعهما. وَإِنَّمَا يثبت عقلا، أَو سمعا بطرق غير الِاتِّبَاع، فَلَا يكون هَذَا الْكَلَام مُفِيدا فَتبين أَن مَا قَالُوهُ تعسف. .سُؤال: قُلْنَا: لَا فَائِدَة فِي الإطناب بِذكر الْحَقَائِق وضروب الْمجَاز، وَالَّذِي يقطع مَادَّة هَذَا السُّؤَال: الرُّجُوع الى الْمَفْهُوم من الْخطاب قطعا ويقينا، حَقِيقَة كَانَ أَو مجَازًا غَالِبا، أَو سمعا عرفيا أَو شَرْعِيًّا. وَقد يُطلق الْمجَاز فِي بعض منَازِل الْكَلَام، فنعلم ضَرُورَة مقصد الْخطاب . وَذَلِكَ نَحْو قَول الْقَائِل: فلَان بَطل شُجَاع مِقْدَام أَسد هزبر. فَهَذَا متجوز بِهِ، وَنحن نعلم قطعا أَن المُرَاد بِهِ فِي جرْأَة الْأسد وبطشه، وَإِن كَانَ مجَازًا. وَكَذَلِكَ نعلم ضَرُورَة أَنه لَيْسَ الْمَعْنى بِالْآيَةِ تتبع الطّرق والقوارع، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود اتِّبَاع طرائق الدّين، وجاحد ذَلِك متعنت. على أَنا نقُول: مَتى سلم لكم كَون السَّبِيل مجَازًا فِي غير مَا ادعيتموه، وَإِنَّمَا يتَمَيَّز الْمجَاز عندنَا من الْحَقَائِق عِنْد طرق الْإِشْكَال لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال. وَاسْتِعْمَال السَّبِيل فِي المناهج وطرق الشَّرَائِع أَعم من اسْتِعْمَاله فِيمَا ذكرتموه. .سُؤال: وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن نقُول: أول مَا نفاتحكم بِهِ أَن نقُول: قد وضح بِمَا قَرَّرْنَاهُ، جَوَاز اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَقولُوا بِهِ وَلَو فِي سَبِيل وَاحِد، سوى ماقلتموه أول، واعتقدوا اتباعهم وَلَو فِي سَبِيل وَاحِد. ثمَّ نقُول: من مذهبكم، منع تَأْخِير الْبَيَان الْوَارِد إِلَى وَقت الْحَاجة، وَمن مَذْهَبنَا منع تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، وَأجْمع الكافة على اسْتِحَالَة بَقَاء إِجْمَال فِي خطاب، بعد أنٍ أكمل الله الدّين، واستأثر بِرَسُولِهِ خَاتم النَّبِيين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَو صَحَّ مَا قلتموه، لَكَانَ بَين ذَلِك السَّبِيل. على أَنا نقُول: إِذا أطلق السَّبِيل فِي مثل هَذِه الْمنزلَة، فَإِن قَرَائِن الْأَحْوَال وقيود الْمقَال دَالَّة على الِاسْتِغْرَاق والاستيعاب. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن من قَالَ لغيره: "اتبع سَبِيل الصَّالِحين، وَلَا تتبع غير سبيلهم"، فَلَيْسَ يحمل هَذَا الْخطاب على سَبِيل وَاحِد بجمل من جملَة السبل، وَمن قَالَ بِالْعُمُومِ هان عَلَيْهِ دفع السُّؤَال بِمُجَرَّد الْمَذْهَب. ثمَّ نقُول: أَكثر مَا فِي ذَلِك أَنه قد أوجب علينا اتِّبَاع الْمُؤمنِينَ فِي سَبِيل، وَقد اسْتَقر علينا الْخطاب المقرون بعظيم الْوَعيد فِي ذَلِك. فَلَا خُرُوج عَن مُقْتَضَاهُ إِلَّا بِأَن يتبع الْمُؤمنِينَ فِي كل سَبِيل، فَيتَحَقَّق الْخُرُوج من مُقْتَضى الشَّرْع، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه. وَرُبمَا يوجهون هَذَا السُّؤَال الَّذِي ذَكرُوهُ فِي السَّبِيل، فِي الْمُؤمنِينَ، فَيَقُولُونَ: الْمُؤْمِنُونَ من الجموع الَّتِي لَا يثبت فِي قضيتها الْعُمُوم عنْدكُمْ، فَمَا بالكم حملتموه على كَافَّة الْمُؤمنِينَ؟ وَطَرِيق الْجَواب مَا قدمْنَاهُ أَولا. .سُؤال: قُلْنَا: هَذَا "احتيال" مِنْكُم فِي رد الْآيَة، لَا ينجيكم عَمَّا أُرِيد بكم، وَذَلِكَ أَن مثل هَذَا الْخطاب إِذا أطلق، فَلَا يفهم من فحواه التحسس على البواطن والتعريض للأسرار، بل الْمَفْهُوم من فحواه تَكْلِيف الجري على الظَّوَاهِر. وخطاب الْقُرْآن وَاجِب حمله على مُقْتَضى الْعَرَبيَّة. وَنحن نعلم أَن من قَالَ لمن يخاطبه: أكْرم الْمُؤمنِينَ. وَأعْطِ الْمُؤمنِينَ. الى غير ذَلِك من ضروب الْخطاب الْمُعَلق بهم، فَلَيْسَ يَعْنِي بذلك التحسس والتنقير عَن بواطنهم، وجاحد ذَلِك متحكم على اللُّغَة. على أَنا نقُول: أَكثر مَا فِي سؤالكم أَن يحمل الْخطاب على المعتقدين المخلصين فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، فَلَا توصل إِلَى ذَلِك إِلَّا بِأَن يتبع جمَاعَة المعتزين المنتمين إِلَى الْإِيمَان ليستيقن عِنْد ذَلِك الجري على حَقِيقَة الْآيَة. على أَنا نقُول: فِي حمل الْآيَة على هَذَا الْمحمل، مَعَ الْعلم بانطواء الغيوب وقضايا الْأَسْرَار عَنَّا، تسبب إِلَى تَكْلِيف الْمحَال وَمَا لَا يُطَاق، وَهَذَا من أقبح القبائح عنْدكُمْ.
|