الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية **
العودة لنتائج البحث
مهما عملت من الأسباب ومن الأمور، إذا لم يقدر الله المسبب فلا تنفعك الأسباب، وجميع الأعمال لا تنفع إذا لم يُقدِّر الله عز وجل لك النفع بها، فأنت عليك فعل السبب، والتوفيق على الله، فأنت مأمور بفعل الأسباب. فالله يفعل ما يشاء من الخير والشر، والنعمة والنقمة، وهو غير ظالم لعباده؛ لأنه يضع الأشياء في مواضعها، فيضع النعمة والتوفيق لمن يتأهل لذلك، ويحرم من التوفيق ومن الطاعة من لا يستحق ذلك، وهو غير ظالم، فلا يعذب المطيع الصالح، ولا يثيب العاصي على معصيته. فالله سبحانه الكامل في ذاته، والكامل في أسمائه وصفاته، والكامل في أفعاله وخلقه سبحانه وتعالى. وكذلك لا يُسأل سبحانه عما يفعل؛ لأن كل شيء يفعله لحكمة، وواقع موقعه، فأما العباد فيسألون؛ لأنهم يخطئون، ويضعون الأمور في غير مواضعها، ففيه فرق بين الخالق والمخلوق، فالله لا يقع في أفعاله خلل، أما العبد فعنده ظلم وحسد وكبر، وعنده أمور تقتضي أنه يخطئ في أموره وتصرفاته. هذه مسألة فقهية، ولها تعلق بالعقيدة: قال عليه الصلاة والسلام: فالعبد ينقطع عمله بموته، إلا ما تسبب في بقائه بعد موته، مثل الصدقة الجارية، كوقف مسجد أو مدرسة يدرس فيها، فما دام نفعها فأجرها يجري ما دام هذا الوقف ينتفع به. (أو علم) بأن يكون قد درّس الفقه أو العقيدة، وصار له تلاميذ، فيجري عليه أجر تعليمه، أو ألّف كتباً تنفع الناس، فيجري أجره، وهذا من العلم الذي علَّمه. (أو ولد صالح يدعو له) فهو تزوج من أجل إعفاف نفسه، وطلباً للذرية الصالحة، فجاءه ولد صالح، وهذا مما تسبب فيه، قال عليه الصلاة والسلام: فإن كان صالحاً يدعو له بعد موته، فإن دعاءه يصل إليه، وهذا من عمله الذي تسبب فيه فينفعه عمل غيره. وغير هذه المسألة محل الخلاف، قال سبحانه: والنبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين إذا دفنوا أخاهم أن يقفوا على قبره، وأن يستغفروا له ويسألوا له التثبيت فعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخرجه أبو داود (رقم3221) والحاكم 1/370 وقال : هذا حديث صحيح على شرط الإسناد ولم يخرجاه.] ، كذلك الصدقة تنفع الميت، كذلك الحج ينفع غيره، كما جاءت به الأدلة، كما في حديث شبرمة، قال عليه الصلاة والسلام: وغلت طائفة في هذا وقالت: ينفع الميت كل شيء من عمل غيره، فيستأجرون المقرئين يقرءون للميت، فمثل هذا العمل لا ينفع الميت ولا الحي؛ لأن القارئ أخذ على قراءته أجرة، فليس له ثواب، ومن ناحية ثانية: أن هذا الأمر مبتدع، ليس عليه دليل، وسبحان الله! لو جعل الأجرة التي يعطيها المقرئ صدقة عن الميت صار تابعاً للسنة وينفع الميت، أما على وجه البدعة فلا ينفع الميت ولا الحي، وهذا نتيجة ترك السنة. هذه من صفات الله عز وجل أنه يجيب من دعاه، قال سبحانه وأمر الله عز وجل بدعائه فقال: والدعاء أعظم أنواع العبادة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: وكما أنه أمر بدعائه، نهى عن دعاء غيره والإشراك به في الدعاء، فقال: فلا يجوز دعاء غير الله، ومن دعا غير الله فهو مشرك، سواء كان المدعو ملكاً أو نبياً أو ولياً، فقد أشرك الشرك الأكبر فالدعاء لا يكون إلا لله، فلا يدعى أحد من دونه من الأحياء أو الأموات، أيّاً كان هذا المدعو. والدعاء على قسمين: الأول: دعاء عبادة، وهو الثناء على الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله، فالذي يسبحه ويكبره ويحمده ويثني عليه قد دعاه دعاء عبادة. الثاني: دعاء مسألة، وهو طلب الحوائج من الله عز وجل، وكلاهما تضمنته سورة الفاتحة، فأولها إلى نصفها دعاء عبادة، إلى قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وآخر السورة مسألة. والعلماء يقولون: دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، ودعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة. والله عز وجل وعد من دعاه أن يستجيب له، وقد يقول قائل: أنا دعوت ولم يستجب لي. والجواب أن يُقال: المانع من عندك أنت، الدعاء سبب من الأسباب، والنتيجة لا تحصل إلا إذا انتفت الموانع، فقد يكون مانع من الموانع منع استجابة دعوتك، إما أن تكون دعوت بقلب غافل لاهٍ فأنى يُستجاب لقلب غافل لاهٍ؟ كما في الحديث، أو أنك تأكل الحرام وتشرب الحرام وتلبس الحرام، قال عليه الصلاة والسلام في الذي: أو يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فلا يُستجاب له، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية: أن الله عز وجل أعلم بمصالحك، قد يعجل لك الإجابة وقد يؤخرها، وقد يصرف عنك من السوء مثلها، وأنت لا تدري، كما في الحديث: أهل الضلال يقولون: لا حاجة للدعاء؛ لأن الأمر إذا كان قدر فلا يحتاج إلى دعاء؛ لأنه إذا كان الأمر قدر لك فإنه سيأتيك، ولو لم تدع، وإن كان لم يقض لك ويقدر فإنك لو دعوت لم يحصل لك ولا يقدر، وهذا ضلال، والعياذ بالله، ومخالف لكلام الله عز وجل. والجواب: أنه لا تعارض بين الدعاء والقضاء والقدر، الذي قضى وقدر هو الذي أمر بالدعاء، والدعاء سبب من الأسباب، والمسبب هو الله عز وجل، وهناك بعض الأشياء قدرت على أسباب، إذا وجدت أسبابها وجدت مسبباتها، والدعاء سبب. من صفات الله عز وجل: أنه يملك كل شيء، فكل ما في الكون فهو ملك له فلا يخرج شيء عن ملكه، والناس وما يملكون فهم ملكه سبحانه وتعالى: فلا أحد يفرض ويلزم ويملي على الله شيئاً؛ لأن الناس عباد لله فقراء إليه، كما قال سبحانه: وإنما هو سبحانه يدبر الأمر بمفرده، ويجريه على حكمته سبحانه وتعالى. الله جل وعلا هو الغني الحميد، والخلق كلهم فقراء إلى الله، وما أحد منهم يمكن أن يستغني عن الله. قال تعالى:
من زعم أنه في غنىً عن الله، وأنه مستغن عن الله، فقد كفر وخرج من الملة، فالواجب على العبد أن يظهر لله ضعفه، ولا يعجبه ما هو فيه من القوة والصحة والغنى؛ لأن الأمور بيد الله عز وجل، فلا يمكن الاستغناء عن الله عز وجل. من صفات الله عز وجل الفعلية: أنه يغضب ويرضى، قال سبحانه: والمخلوق يغضب ويرضى، ولا مشابهة بين غضب ورضا المخلوق وغضب ورضا الخالق، رضا الله وغضبه يليقان به سبحانه، ورضا وغضب المخلوق يليقان به كسائر الصفات وهذا مذهب أهل السنة ولجماعة، يثبتون الرضا والغضب لله عز وجل وغير ذلك من الصفات، وإن كان جنس هذه الصفات موجوداً في المخلوقين، لكن مع الفارق ولكن هذا الفهم عقيم، ويأولون الغضب بالانتقام، والرضا بالإنعام، فالواجب التسليم لله ولرسوله وما ثبت عنهما، وأن يترك هذه الترهات والتأويلات. ولذلك لما سئل مالك عن كيفية استواء الله على عرشه؟ أطرق مالك رأسه خوفاً وحياء من الله، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة). أصحاب: جمع صاحب، والصحابي هو: الذي لقي الرسول وهو مؤمن به ومات على ذلك، فإن آمن به ولم يلقه فليس بصحابي، ولو كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم، كالنجاشي، وكذلك يشترط الإيمان به والموت على ذلك، فبمجرد الردة والموت عليها تبطل الصحبة وسائر الأعمال، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل القرون والأمم بعد الأنبياء والرسل، وذلك لأنهم أدركوا المصطفى عليه الصلاة والسلام وآمنوا به وجاهدوا معه وتلقوا عنه العلم، وأحبهم النبي صلى الله عليه وسلم واختارهم الله لنبيه أصحاباً. والله يقول: فالواجب على المسلمين عموماً حب الصحابة جميعاً، بنص الآية؛ لمحبة الله عز وجل لهم، ولمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنهم جاهدوا في سبيل الله، ونشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وآزروا الرسول وآمنوا به واتبعوا النور الذي أُنزل معه، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة. فالله لما ذكر المهاجرين والأنصار في سورة الحشر، قال سبحانه: وأما النواصب: فيوالون الصحابة، ويبغضون بيت النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك سموا بالنواصب؛ لنصبهم العداوة لأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. والروافض: على العكس، والوا أهل البيت بزعمهم، وأبغضوا الصحابة، ويلعنونهم ويكفرونهم ويذمونهم. والصحابة يتفاضلون، فأفضلهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عن الجميع، الذين قال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام: ثم أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان، قال تعالى: ثم الذين آمنوا وجاهدوا قبل الفتح، فهم أفضل من الصحابة الذين آمنوا وجاهدوا بعد الفتح، قال تعالى: ثم المهاجرون عموماً، ثم الأنصار؛ لأن الله قدّم المهاجرين على الأنصار في القرآن، قال سبحانه: ثم قال سبحانه في الأنصار: فقدّم المهاجرين وأعمالهم على الأنصار وأعمالهم، مما دل على أن المهاجرين أفضل؛ لأنهم تركوا أوطانهم وأموالهم وهاجروا في سبيل الله، فدل على صدق إيمانهم، فجميع الصحابة يجب حبهم وموالاتهم، ولا نتدخل فيما حصل بينهم من حروب، فما حصل بينهم من الحروب فبتأويل منهم، فهم مجتهدون، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وكذلك عندهم من الحسنات والفضائل العظيمة التي تُكفِّر ما يقع من الخطأ من بعضهم. فالواجب على المسلمين الترضّي عنهم، وطلب العذر لهم، والدفاع عنهم، فمذهب أهل السنة والجماعة: أنهم لا يتدخلون فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم؛ لما لهم من الفضل والسابقة؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: وقال عليه الصلاة والسلام: الإفراط: الغلو، أي: لا نغلوا في حب أحد منهم، كما غلت الرافضة في حب علي رضي الله عنه على زعمهم، وإلا الظاهر أنهم لا يحبونه ولا يحبون المسلمين عموماً، فغلوا فيه حتى قال بعضهم: إن علياً هو الله، وذلك في زمن علي رضي الله عنه، فخدَّ لهم الأخاديد وأحرقهم بالنار غيرةً لله عز وجل. فالغلو ممنوع سواء في الصحابة أو غيرهم، قال سبحانه : في هذا إشارة إلى الرافضة الذين يتبرؤون من الصحابة، وخاصة أبا بكر، وعمر، وعثمان، بل يكفرون كثيراً من الصحابة، هذا من التفريط، فلا نُفرّط في حبهم؛ لأن التفريط هو ترك محبتهم . من يبغض الصحابة فإنه يبغض الدين؛ لأنهم هم حملة الإسلام وأتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام، فمن أبغضهم فقد أبغض الإسلام؛ فهذا دليل على أنه ليس في قلوب هؤلاء إيمان، وفيه دليل على أنهم لا يحبون الإسلام.
على ما سبق فلا يجوز الخوض فيما حصل بينهم؛ بل يجب الإمساك عن ذلك وأن لا يُذكروا إلا بخير . هذا أصل عظيم يجب على المسلمين معرفته، وهو محبة الصحابة وتقديرهم؛ لأن ذلك من الإيمان، بغضهم أو بغض أحد منهم من الكفر والنفاق، ولأن حبهم من حب النبي صلى الله عليه وسلم، وبغضهم من بغض النبي صلى الله عليه وسلم. لما فرغ مما يجب للصحابة من المحبة والولاء، وترك بغضهم وبغض من يبغضهم، وعدم التدخل فيما جرى بينهم، شرع في ذكر الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي على النحو الذي ذكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة في آخر حياته، وفي هذا إشارة إلى خلافته، ولذلك قال الصحابة لما بايعوه: (رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، ألا نرضاك لدنيانا؟) فبايعوه، ولما لأبي بكر من السوابق العظيمة قبل الهجرة وبعدها، وهو أولى الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعده عمر بن الخطاب بعهد من أبي بكر، ثم عثمان بإجماع الصحابة باختيار من أصحاب الشورى الذين عينهم عمر قبل وفاته من العشرة المبشرين بالجنة، وهم خيار الصحابة. وبعد مقتل عثمان وليها علي رضي الله عنه، هذا هو ترتيب الخلافة، فمن زعم أن الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه، فهو ضال ومخالف للنبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع المسلمين. فالشيعة: يزعمون أنها لعلي، ويسمونه الوصي على الأمة، وإنما قصدهم التهويش وإشعال الفتن بين الناس، فهم ليسوا بأحسن نظراً من الصحابة رضي الله عنهم. فالشيعة يقولون: الصحابة ظلمة، وكل وصف ذميم في القرآن المعني به الصحابة عندهم فيصفونهم بأنهم ظالمون وكافرون وضالون، وهذا مما جعل العلماء ينصون على ذكر الخلافة في كتب العقائد؛ لئلا يتأثر أحد بهؤلاء الأرجاس. فترتيب الخلفاء الأربعة على هذا الترتيب هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن الصحابة رتبوا هذا الترتيب وأجمعوا عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من خالف في أمر الخلافة فهو أضل من حمار أهله) . فهؤلاء هم العشرة المشهود لهم بالجنة، وأبو عبيدة رضي الله عنه وصف بأنه أمين هذه الأمة؛ لأنه لما عقد النبي صلى الله عليه وسلم العهد مع أهل نجران، وفرض عليهم الجزية، طلبوا منه أن يبعث إليهم أميناً، فاختار أبا عبيدة وقال صلى الله عليه وسلم: بعد أن ذكر ما يجب للصحابة انتقل إلى ذكر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأول أهل البيت هم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: فأول من يدخل في أهل البيت: زوجاته، ثم قرابته عليه الصلاة والسلام، وهم آل العباس وآل أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب. فالرافضة: يقدحون في عائشة ويصفونها بما برأها الله منه، وهذا تكذيب لله عز وجل ووصف لله بأنه اختار لرسوله امرأة لا تصلح له، وهذا كفر بالله، قال تعالى : وذرياته المقصود بهم أولاده عليه الصلاة والسلام، وأولاد ابنته فاطمة، وهم الحسن والحسين وأولادهما، هؤلاء ذريته صلى الله عليه وسلم . لما فرع –رحمه الله- من حقوق الصحابة وأهل البيت، وما يجب لهم من المحبة والموالاة، وعدم التنقُّص لأحد منهم انتقل إلى الذين يلونهم في الفضيلة وهم العلماء، فعلماء هذه الأمة لهم منـزلة وفضل بعد الصحابة؛ لأنهم ورثة الأنبياء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: فالعلماء على قسمين: القسم الأول: علماء الأثر، وهم المحدثون الذين اعتنوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وحفظوها وذبُّوا عنها، وقدموها للأمة صافية نقية، كما نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبعدوا عنها كل دخيل وكل كذب، فنحوا الأحاديث الموضوعة وبينوها وحاصروها، فهؤلاء يسمون: علماء الرواية. القسم الثاني : وهم الفقهاء، وهم الذين استنبطوا الأحكام، من هذه الأدلة، وبينوا فقهها، وشرحوها وبينوها للناس، فهؤلاء يسمون: علماء الدراية. ومنهم من جمع بين العلمين، ويسمون: فقهاء المحدثين، كالإمام أحمد، ومالك، والشافعي، والبخاري. وكل هؤلاء العلماء لهم فضل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: فالعلماء قاموا بما أوجب الله عليهم من حماية الدين والعقيدة، فبينوا الأحكام، والمواريث، والحلال والحرام، وبينوا أيضاً فقه الكتاب والسنة، فجعلوا للأمة ثروة عظيمة يستفاد منها ويقاس عليها ما يجد من مشاكل. والفقه على قسمين: القسم الأول: الفقه الأكبر، وهو فقه العقيدة. القسم الثاني: وهو فقه عملي، لا يقل عن الفقه الأكبر من حيث الأهمية، وهو فقه الأحكام العملية. وفي فضل العلماء جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: فلا يجوز الطعن فيهم وتنقصهم حتى لو حصل من بعضهم خطأ في الاجتهاد، فهذا لا يقتضي تنقصهم؛ لأنهم قد يخطئون، ومع ذلك هم طالبون للحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: انتقل المصنف –رحمه الله- من العلماء إلى الأولياء. والأولياء: جمع ولي، والولاية هي القرب والمحبة، فهم أهل القرب والمحبة من الله عز وجل، وسُمُّوا بالأولياء لقربهم من الله، ولأن الله يحبهم، قال تعالى : وقد بينهم الله في قوله: الأولى: الإيمان. والثانية: التقوى. والناس في الولاية والبغض على أقسام ثلاثة: القسم الأول: أولياء الله الخُلَّص من الملائكة والنبيين والصدّيقين والشهداء وصالح المؤمنين. القسم الثاني: أعداء لله عداوة خالصة، كالمشرك والكافر والمنافق النفاق الأكبر، فهؤلاء أعداء الله ورسوله القسم الثالث: من فيهم ولاية من وجه، وعداوة من وجه، وهو المسلم العاصي، ففيه ولاية بقدر ما معه من طاعة، وفيه عداوة بقدر ما معه من معصية، فكل مسلم ولي لله ولكن على حسب ما معه من إيمان. فمن ادّعى الولاية أو ادعيت له الولاية وليس معه إيمان، وليس فيه تقوى، فإنما هو دجال وكذاب. وقد يدعون الولاية وهم سحرة وكهنة ومشعوذون وعرافون، وقد كتب شيخ الإسلام كتاباً سمّاه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وبيّن فيه من يدّعي الولاية، ويُروج على الناس أشياءً يظن أنها كرامات، وهي خوارق شيطانية، وسيأتي بيانه. فتجب محبة أولياء الله، والاقتداء بهم، وولايتهم، والقرب منهم. وقوله : (ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام): رد على الصوفية، فعندهم غلو في الأولياء. وأنهم عندهم أفضل من الأنبياء وأهل السنة والجماعة لا يغلون في الأولياء وينـزلونهم منازلهم، أما الصوفية الضلال فيفضلونهم على الأنبياء، يقول قائلهم: وهذا كفر؛ لأن الأفضل الرسل ثم الأنبياء ثم الأولياء، وسبب تقديم الولي على النبي عند الصوفية –على زعمهم- أن الولي يأخذ عن الله مباشرة، والنبي يأخذ بواسطة. وقوله: (ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء) : وهذا لا شك فيه، فجميع الأولياء من أول الخلق إلى آخرهم لا يعادلون نبياً واحداً، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة. هذا بحث عظيم، وهو بحث الكرامات، فالكرامة هي الخارق للعادة، فإن كانت على يد نبي فهي معجزة، مثل معجزة القرآن، فالإنس والجن عجزوا عن أن يأتوا بمثله، وهي أعظم المعجزات، ومثل معجزة عصا موسى، والتسع الآيات، ومثل إحياء الموتى لعيسى ابن مريم؛ وإن جرت الخارقة على يد رجل صالح فهو كرامة من الله أجراها على يده، وليس من عنده، مثل ما حصل لأصحاب الكهف وما حصل لمريم أما إذا جرى الخارق على يد كاهن أو ساحر فهذا خارق شيطاني، يجري على يده من أجل الابتلاء والامتحان، فقد يطير في الهواء ويمشي على الماء ويعمل أعمالاً خارقة للعادة وهي من أعمال الشياطين. والضابط: أننا ننظر إلى عمله، فإن كان موافقاً للإسلام، فما يجري على يده كرامة، وإلا فهو من خدمة الشياطين له. قال تعالى: الصنف الثاني: وهم القبوريون والصوفيون، غلوا في إثبات الكرامات حتى أثبتوها لأولياء الشيطان، فيثبتونها لمن لا يصلي ولا يصوم إذا جرى على يده خارق للعادة، وهي خوارق شيطانية، ومنهم من يغلو في الولي الصالح ويتخذه إلهاً مع الله كما حدث للقبوريين، فلو قرأت كتاب الشعراني المسمى "طبقات الأولياء" لرأيت العجب العجاب والحكايات الباطلة، فالولي عندهم خرج عن التكاليف ولا يحتاج إلى العبادة. فالإنسان مهما بلغ من الصلاح والعبادة فإنه لا يخرج عن العبودية، لا الملائكة، ولا الأولياء، ولا الأنبياء، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: الأشراط: جمع شرط، وهو العلامة، ومنه سمي الشرطي: شرطياً؛ لوجود العلامة عليه. وأشراط الساعة: علاماتها الدالة على قرب وقوعها، قال سبحانة: وقد ذكر العلماء أن أشراط الساعة على ثلاثة أقسام: القسم الأول: العلامات الصغرى، وهذه حصلت وانقضت. القسم الثاني: العلامات الوسطى، هذه ما تزال تحدث مثل ما حدث في زماننا من تقدم الصناعات والاتصالات، واستخراج الكنوز من الأرض، وتقارب البلدان، حتى كأن العالم قرية واحدة، واجتماع اليهود في فلسطين انتظاراً للدجال، وتوطئة للملاحم التي ستقوم هناك. القسم الثالث: العلامات الكبرى، من خروج الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها، فهذه إذا حصل أحدها تتابعت البقية. وقوله: (من خروج الدجال) : هو أول العلامات الكبرى، وهو من اليهود، ويدّعي الربوبية، ومعه خوارق شيطانية، تفتن الناس، يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتخرج ما فيها من الكنوز والنبات. والدجّال هو أشد الفتن؛ لأن الذين يفتنون به كثير؛ لشدة ما معه من الفتن، ومعه جنة ونار، ويأتي على جميع الأرض إلا مكة والمدينة، وهذه الفتنة تميز المؤمن من الكافر، وسُمّي دجالاً من الدجل، وهو الكذب؛ لكثرة كذبه، وسمي المسيح؛ لأنه يسير في الأرض ويمسحها بسرعة؛ لما هيأ الله له من وسائل المواصلات السريعة، التي هي أسرع من الريح، وقيل: سمي بذلك لأن عينه ممسوحة، فهو أعور، ويسمى: مسيح الضلالة. فيخرج الدجال فيتبعه اليهود، فيقودهم، ويحصل بسببه على المسلمين فتنة عظيمة، وما من نبي إلا حذر أمته منه، وأشدهم تحذيراً منه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه آخر الأنبياء، وأمته آخر الأمم، وأقربها للدجال، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير من الصلاة: ثم يخرج في وقته يأجوج ومأجوج، وهم أيضاً فتنة عظيمة، قال تعالى: ويسمى بالمسيح؛ لأنه كان يمسح على ذي العاهة فيشفيه الله، ويسمى: مسيح الهداية، ونزوله من السماء إلى الأرض في آخر الزمان متواتر، ومن أنكر ذلك فهو كافر، قال تعالى : الشمس مسخرة تجري بأمر الله، فتخرج من المشرق، وتغرب من المغرب، ثم إذا كان آخر الزمان وحان قيام الساعة أمرها الله سبحانه بالطلوع من المغرب، فتكون علامة للقيامة، وإذا طلعت من مغربها فلا يقبل الله توبة التائب، قال سبحانه: قال سبحانه: سبق أن ذكر المؤلف الكرامات وضابطها، وأن الكرامات حق ثابت، ولا يجوز الاعتماد عليها، ولا يظن بأن للأولياء مرتبة يُدعون فيها مع الله عز وجل، كما يقوله القبوريون والخرافيون، فيتعلقون بالأولياء والصالحين من أهل هذه الخوارق. أما قوله رحمه الله: (لا نصدق كاهناً ولا عرافاً) ففيه بيان الفرق بين الكرامة والكهانة والعرافة والسحر والشعوذة والتنجيم، فهذه –أي التي مع الكهان والعرافين- خوارق شيطانية وأعمال حذقوها وتعلموها بسبب تقربهم من الشياطين فيظن الناس والجهال أن هذه كرامات وأنها بسبب ولا يتهم لله، وهذا غلط، إنما هي من فعل الشياطين؛ لخضوعهم لهم وموافقتهم على الشرك، فالسحرة ما توصلوا إلى السحر إلا لخضوعهم للشياطين، فالسحر من عمل الشيطان وهو كفر بالله، فلا يغتر بهم، فهم يقولون: هذه كرامة أو أعمال رياضية أو أعمال بهلوانية، ويحضرون في المحافل والنوادي، ويتركون يعملون السحر أمام الناس، ويقولون: هذه أمور رياضية، ليضلوا الناس وليأكلوا بسحرهم الأموال، فيجب التنبيه على هؤلاء وبغضهم وعداوتهم؛ لأنهم أعداء الله ولرسوله. والسحر على قسمين : القسم الأول: سحر حقيقي : وهو ما يؤثر في بدن المسحور فيمرضه أو يؤثر على عقله أو يقتله، فهذا عمل شيطاني. القسم الثاني: سحر تخييلي، قال الله تعالى: فهذا كله كذب وتدجيل على الناس، وسحر لأعين الناس، وهو سحر تخييلي، إذا ذهب هذا السحر عادت الأمور كما هي، فيجب علينا أن لا نغتر بهم ولا نصدقهم ولا نمكنهم من أولادنا ولا بلادنا من أجل ترويج سحرهم. وأما الكاهن: فهو الذي يدعي علم الغيب وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الشياطين يسترقون السمع فيسرقون الكلمة، فيخبرون بها الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدقه الناس في كل ما قال بسبب تلك الكلمة، قال سبحانه: وجاء في السنن فالكاهن: هو الذي يدّعي علم الغيب، بسبب تعامله مع الشيطان. وأما العراف : فهو الذي يدّعي علم الغيب، لكن ليس بواسطة الشياطين، وإنما بالحدس والتخمين، فيقول: يمكن أن يقع كذا وكذا، بناء على تنبؤات كاذبة. وقال بعض أهل العلم: إن العراف هو الكاهن، كل منهما يخبر عن الأمور الغائبة لكن باختلاف الوسيلة، فيجب على المسلم أن يكفر بالكهانة والعرافة، ولا يصدق أهلها، فهم ليسوا من أولياء الله، إنما هم من أولياء الشيطان، ومن أراد التوسع في هذا فليراجع كتاب "الفرقان" لشيخ الإسلام. وأما التنجيم فالمنجم: هو الذي يخبر عن الأمور المستقبلة بواسطة النظر في النجوم، إذا طلع النجم الفلاني يحصل كذا، وإذا غرب النجم الفلاني يحصل كذا، والبرج الفلاني فيه نحس أو فيه سعادة، وهكذا يستندون إلى هذه الأعمال الكاذبة. فالتنجيم: (هو نسبة الحوادث الأرضية إلى الأحوال الفلكية) كما عرفه شيخ الإسلام. والتنجيم من أمور الجاهلية، قال عليه الصلاة والسلام: الأولى: أنها زينة للسماء الدنيا. الثانية: أنها رجوم للشياطين. الثالثة: أنها علامات يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فمن اعتقد أنها لغير ذلك فهو قد أضاع نصيبه. وإذا تدبرت القرآن وجدت أن الله ذكر للنجوم ثلاث فوائد، أما ما يحدث في الأرض من حوادث فليس للنجوم فيها تأثير، وإنما المنجمون يُدَلسون ويكذبون على الناس، ويقولون: إن هذه الحوادث بسبب النجوم، قال سبحانه: أي: لا نصدق أحداً يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع؛ لأنها الأدلة التي يعتمد عليها، فما خالفها فهو باطل، سواء من الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات. نرى –معشر أهل السنة والجماعة- أن الاجتماع حق والفرقة عذاب، فالاجتماع للأمة على الحق رحمة، والفرقة بينهما عذاب، وهذا من صميم عقيدة أهل السنة والجماعة، فيجب الاجتماع ونبذ الفرقة، قال سبحانه وتعالى: فالاجتماع لا يحصل إلا على كتاب الله، قال سبحانه: فأمر الله سبحانه بالاجتماع ونبذ الفرقة في الآراء وفي القلوب، فالمسلمون مهما تفرقوا وبعدت أقطارهم فإنّهم مجتمعون على الحق، وقلوبهم مجتمعة، ويحب بعضهم بعضاً، أما أهل الباطل وإن كانوا في مكان واحد، أحدهم إلى جنب الآخر، فهم مجتمعة أبدانهم متفرقة قلوبهم، قال سبحانه: فالواجب على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة في عقيدتها وفي عبادتها وفي جماعتها وطاعتها لولي أمرها، فتكون يداً واحدة، وجسماً واحداً، وبنياناً واحداً، كما شبهها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا رحمة للمسلمين، تُحقن دماؤهم، وتتآلف قلوبهم، ويأمن مجتمعهم، فإذا حصل هذا درت عليهم الأرزاق. أما إذا تناحروا وتقاطعوا وتباغضوا تسلط عليهم الأعداء، وسفك بعضهم دماء بعض. والاختلاف على قسمين: القسم الأول: اختلاف في العقيدة، وهذا لا يجوز أبداً؛ لأنه يوجب التناحر والعداوة والبغضاء ويفرق الكلمة، فيجب أن يكون المسلمون على عقيدة واحدة، وهي عقيدة لا إله إلا الله، واعتقاد ذلك قولاً وعملاً واعتقاداً، والعقيدة توقيفية ليست محلاً للاجتهاد، فإذا كانت كذلك فليس فيها مجال للتفرق، فالعقيدة مأخوذة من الكتاب والسنة، لا من الآراء والاجتهادات، فالفرقة في العقيدة تؤدّي إلى التناحر والتباغض والتقاطع، كما حصل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والفرق الضالة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: القسم الثاني: اختلاف في الاجتهاد الفقهي، وهذا لا يوجب عداوة؛ لأن سببه هو النظر في الأدلة حسب مدارك الناس، والناس يختلفون في ذلك، وليسوا على حد سواء، فهم يختلفون في قوة الاستنباط وفي كثرة العلم وقلته. فهذا الخلاف إذا لم يصحبه تعصب للرأي فإنه لا يفضي إلى العداوة، وكان الصحابة يختلفون في المسائل الفقهية، ولا يحدث بينهم عداوة، وهم إخوة، وكذلك السلف الصالح والأئمة الأربعة يختلفون، ولم يحصل بينهم عداوة، وهم إخوة، وكذلك أتباعهم، فإذا تعصب أحدهم للرأي فإن ذلك يوجب العداوة، ويجب على المسلم أن يأخذ الأقوال التي توافق الدليل من الكتاب أو السنة، قال سبحانه: والإسلام عبادة الله وحده لا شريك له، فهذا تدين به الملائكة في السماء والإنس والجن في الأرض، وهو دين الإسلام، ومعناه بمفهومه العام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، كما عرفه شيخ الإسلام ونقله عنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الثلاثة الأصول، فالإسلام دين جميع الأنبياء وأتباعهم، فكل نبي دعا قومه إلى ذلك، وكل من اتبعه على ذلك فيعتبر مسلماً، سواء من أول الخلق أو آخرهم، فهو مستسلم لله بالتوحيد ومنقاد إلى الله بالطاعة، فدين الأنبياء واحد، وشرائعهم شتى ومختلفة بسبب حاجة البشر في كل زمان ومكان، ففي الحديث: فهو الدين الذي رضيه لعباده من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة. فالإسلام وسط بين الغلو، وهو: الزيادة والتشديد، وبين التقصير، وهو: الجفاء، فدين الإسلام وسط لا تشديد فيه ولا تحلل منه، فكلا الطرفين مذموم، والوسط خير، ولهذا قال سبحانه: أي : في العقيدة، بين التعطيل والتشبيه، بين تعطيل أسماء الله وصفاته، وبين تشبيه المخلوق بالخالق، والعقيدة وسط، فالمعطلة غلوا في التنـزيه، فنفوا الأسماء والصفات، والمشبهة غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه، والعقيدة، وسط، قال سبحانه: مذهب أهل السنة والجماعة وسط بين الجبرية والقدرية، فالجبرية يغلون في إثبات القدر حتى يسلبوا العبد عن الاختيار، فيقولون: العبد ليس له اختيار، أفعاله كلها مجبور عليها، فهو آلة يحركه القدر، فصلاته وصيامه وأعماله ليس له فيها اختيار، فهو يحرك كما تحرك الآلة، وهذا مذهب باطل. والقدرية غلوا في إثبات اختيار العبد فنفوا القدر، حتى جعلوا العبد يستقل بأفعاله ويخرجونها من إرادة الله ومشيئته، وأن العبد له إرادة مستقلة، فقالوا: هو الذي يخلق فعل نفسه، وليس لله فيها تصرف، وهذا مذهب المعتزلة. أما أهل السنة والجماعة فتوسطوا في هذه المسألة، وقالوا: إن العبد له اختيار ومشيئة، يفعل باختياره، ولكنه لا يخرج عن قضاء الله وقدره، فأفعاله خلق الله، وهي فعله وكسبه، فهو الذي يفعل المعاصي ويفعل الطاعات، ولكن الله هو المقدر، فلذلك يعاقب على جرائمه، ويثاب على طاعته، ولو كان يفعل هذا بغير اختياره ما حصل على الثواب ولا العقاب، فالمجنون والصغير لا يؤاخذان، وكذلك المكره الذي ليس له اختيار لا يؤاخذ . كذلك، هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو الوسط بين الأمن من مكر الله والإياس من رحمته، فهم يرجون رحمة الله، ولا يأمنون من مكر الله، ولا من العذاب والفتنة، لكن لا يقنطون من رحمة الله، فيجمعون بين الخوف والرجاء، وهو ما كان عليه الأنبياء، قال سبحانه: فإبراهيم أبو الأنبياء يقول: فلا يأمن الإنسان على نفسه ويقول: أنا رجل صالح، بل يخاف على نفسه، مع عدم القنوط من رحمة الله، قال تعالى: فالواجب على الإنسان: أن يفعل أسباب الرحمة، وهي التوبة وإسلام الوجه لله سبحانه، عند ذلك يحصل على رحمة الله، فرحمة الله قريب من المحسنين، والإحسان سبب الرحمة، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهو بين مذهب المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، فإذا كان الإنسان مؤمناً بقلبه فلا تضره المعصية، فهؤلاء أمنوا مكر الله، ويقولون: الأعمال لا تدخل في حقيقة الإيمان، فيدخل الجنة وإن لم يعمل شيئاً عندهم، وهذا مذهب أفسد الدنيا، تحلل الناس من الدين بسببه، وقالوا: ما دام أننا ندخل الجنة، فلا حاجة إلى الأعمال، فيفعلون ما يشاءون. وبين الوعيدية الخوارج الذين يُكفِّرون بالكبائر التي دون الشرك، ويرون إنفاذ الوعيد الذي ذكره الله على من عصاه، فإن الله توعد العصاة، لكن قال: والقول الحق مع أهل السنة والجماعة الذين توسطوا بين الأمن والرجاء، والخوف والقنوط، ولهذا يقولون: الخوف والرجاء بالنسبة للإنسان كجناحي الطائرة، ولابد من سلامة الجناحين، فكذلك الخوف والرجاء لو اختل أحدهما سقط، فلابد من التعادل كما يتعادل جناحا الطائر.
أي: ما ذكرناه في هذه العقيدة من أولـها إلى آخرها، فهو ديننا معشر المسلمين، ونحن براء من كل من خالفه؛ لأنها عقيدة حق، وما خالفها فهو باطل. هذا تأدب مع الله، لما بين عقيدة أهل السنة والجماعة، سأل الله أن يثبته عليها، فلا يكفي أن الإنسان يعرف العقيدة، فالعالم يَزَلُّ ويخطئ، فلا يغتر الإنسان بعلمه، ولا يأمن الفتن، فهل علمه يعادل علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ وقد دعاء الله فقال: فالإنسان يسأل الله السلامة والعافية، فكم من عالم زل وانحرف عن الدين، وكم وكم.. فالأعمال بالخواتيم. ما أضل الناس إلا الأهواء، قال تعالى: وهي الفرق التي أخبر عنها عليه الصلاة والسلام بقوله: والمذاهب بمعنى الآراء. هم الذين شبهوا صفات الله بصفات المخلوقين. هم الذين عطلوا صفات الله ونفوها، بحجة أنهم ينـزهون الله، فغلوا في التنـزيه، وهم أتباع واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وكانا من تلاميذ الحسن البصري، وكانوا يحضرون في حلقته، فسئل الحسن البصري عن صاحب الكبيرة، فأجاب بما يوافق الكتاب والسنة، وقال: هو تحت المشيئة، ولا يكفر بالكبيرة، وهو ناقص الإيمان، فعند ذلك أنكر عليه واصل وقال له: هو في منـزلة بين المنـزلتين، ليس بكافر ولا مسلم. فاخترع هذا المذهب الباطل، واعتزل مجلس الحسن، واجتمع حوله الناس الذين هم من جنسه، فكونوا جماعة سُمُّو بالمعتزلة. وهم أتباع الجهم بن صفوان (30) لقد شكر الضحية كل صاحب سنة ** لله درك من أخي قـربان فخلفه الجهم، فنُسب المذهب إليه؛ لأنه هو الذي أظهره، فجمع بين الجبر والتجهم. ولهذا يقول الشاعر:
مثل نفاه القدر، وهم المعتزلة، يقولون: أفعالُ العباد خلقهم، وليست داخلةً في خلق الله ولا إرادته، ولذلك سُمُّوا بمجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس أثبتوا خالقين: خالق للخير، وخالق للشر، أما القدرية فأثبتوا خالقين متعددين مع الله. من الذين خالفوا الكتاب والسنة من سائر الفرق الضالة. فنحن نبرأ منهم، ونعاديهم في الله، ونبغضهم؛ لأنهم أهل ضلال وباطل، فالواجب هجرهم وبغضهم، والرد عليهم وعلى باطلهم. فنحن نتبرأ ممن يقول: إن كل الفرق تحت اسم الإسلام، ويجب أن نتغاضى عن هذه الأمور، أخذاً بحرية الكلمة وحرية الرأي، فالفرق كلها تدخل تحت الإسلام. وهذا مذهب باطل وخطير على الأمة، وحرية الكلمة والرأي مقيدة بالكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة. والفرق المخالفة كلها في النار إلا الفرقة التي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. والإنسان عُرضة للخطأ، العصمة والتوفيق والحول والقوة بيد الله، فالإنسان لا يضمن لنفسه النجاة، إنما يرجو الله ويخافه. وبهذا انتهت هذه النبذة المباركة، المشتملة على جُمَل عظيمة من اعتقاد أهل السنة والجماعة، فنسأل الله أن ينفعنا بها، وأن يجزل لمؤلفها جزيل الثواب على ما بيّن، وعلى ما وضح وعلى ما كتب، وعلى ما نصح للأمة، فجزاه الله خيراً وسائر أئمة المسلمين. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
|