فصل: مسألة تجار الروم إذا نزلوا برقيق فصالحناهم على عشر ما معهم من الرقيق فأسلم الرقيق:

مساءً 9 :42
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة النشاب والملال في أرض الروم يصيد الحيتان والطير فيبيعه:

وسألت ابن القاسم عن الرجل يعمل النشاب والملال والسروج والمحمل في أرض الروم، ويصيد الحيتان والطير فيبيعه، قال: أرى ثمنه فيئا، قلت: ولا يكون له أجرة مثله؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة وتحصيل القول فيها موعبا، في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.

.مسألة يبيع الطعام في بلاد الروم ممن يأكله ثم يعلم بذلك:

قلت له: فالرجل يبيع الطعام في بلاد الروم ممن يأكله، ثم يعلم بذلك بعدما خرج والمال في يده ما ترى أن يصنع به؟ قال: يرد في المقاسم، ولا يرد على المشتري، قلت له: فالوالي إن رأى أن يبيع الطعام من الناس في بلاد الحرب لحاجتهم إليه في بلاد المسلمين، وهم مستغنون في بلاد الحرب قال: لا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الطعام غنيمة من أموال الكفار، إلا أنه أبيح للناس أكله في بلد الحرب لحاجتهم إليه، فإن باع أحد منهم شيئا، أو استغنى الناس عنه فباعه الإمام، صار غنيمة لأهل الجيش بعد إخراج الخمس كسائر أموال الكفار.

.مسألة تجار الروم إذا نزلوا برقيق فصالحناهم على عشر ما معهم من الرقيق فأسلم الرقيق:

وسئل ابن القاسم عن تجار الروم إذا نزلوا برقيق، فصالحناهم على عشر ما معهم من الرقيق، فأسلم الرقيق، أو صالحناهم على الدنانير فأسلم الرقيق، ثم أرادوا الرجوع بمن معهم من الرقيق بعدما أسلموا، قال: يؤخذ منهم ما صالحوا عليه، ويرجعون بالرقيق وإن أسلموا.
قال محمد بن أحمد: هذا مثل ما في سماع سحنون، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب سواء، وكذلك لو قدموا بعبيد لهم مسلمين؛ لكان لهم الرجوع بهم إن شاءوا، قال في سماع أبي زيد بعد هذا: ويقدم إليهم في ذلك ألا يعودوا، وهذا على أصل ابن القاسم في أن المستأمن في بلد المسلمين من الحربيين لا ينتزع منهم أسارى المسلمين ولا عبيدهم المسلمين، ولا يباع عليهم من أسلم من رقيقهم، ويرجعون بذلك كله إن شاءوا، خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب، وحكى أنه إجماع من مالك وأصحابه إلا ابن القاسم، وفي المدنية لابن نافع، ولمالك من رواية داوود بن سعيد عنه مثل قول ابن القاسم، وقد مضت هذه المسألة محصلة في صدر هذا السماع.

.مسألة مراكب لقوا مراكب في البحر فقاتلوهم فسأل العدو الأمان:

وسئل سحنون عن مراكب لقوا مراكب في البحر، فقاتلوهم فوقع بينهم جراحات وقتال، فسأل العدو المسلمين الأمان فأعطوهم فاستساروا في أيدي المسلمين، فقدموا بهم برية الإسلام، فهل ترى إلى مثلهم سبيلا؟ فإن كان لا سبيل إلى قتلهم، فهل يباعوا أم هل يخلى سبيلهم؟ وكيف ترى في أموالهم إن خلي سبيلهم، أترد عليهم أم لا؟ قال سحنون: إن كانوا إذ سألوا الأمان أمنوا على أن يكونوا ملكا أو ذمة، فالشرط لهم، ولا سبيل إلى القتل، فإن لم يكن شرط إلا أمان مسجل، فلا سبيل إلى قتلهم، ولا إلى استرقاقهم، وأرى أن يردوا إلى مأمنهم، إلا أن يرضوا بالمقام على الجزية أو يسلموا.
قال محمد بن أحمد: وهذا صحيح على ما قال؛ لأن الأمان إذا وقع مسجلا وجب أن يحمل على عمومه في كل شيء من حقن دمائهم وترك استرقاقهم وأخذ أموالهم، إلا أن يستثنى من ذلك شيء في الأمان، فيصح للمسلمين بوقوع البيان، وبالله التوفيق.

.مسألة مكاتبا لحق بأرض الروم ثم قدم علينا منهم رجل معاهد ومعه المكاتب:

وقال: لو أن مكاتبا أو مدبرا لحق بأرض الروم، ثم قدم علينا منهم رجل معاهد ومعه المكاتب أو المدبر، إن المكاتب تكون كتابته له، فإذا كان حرا كان ولاؤه لسيده، وإن عجز كان له رقيقا، وأما المدبر فتكون له خدمته، فإن مات سيده فحمله الثلث عتق، وإن لم يحمله عتق منه ما حمل الثلث، وكان ما بقي للمعاهد رقيقا.
قال محمد بن أحمد: وجه قول سحنون هذا أنه لما كان من عرس من الحربيين على أن يكون ذمة، ويؤدي الجزية، أنه لا يؤخذ منه ما أبقى بيده من أموال المسلمين ورقيقهم، وجب أن يكون للمعاهد على ذلك في المدبر والمكاتب، ما كان لسيدهما فيهما من بقية الرق، ولا يمكن من استرقاقهما، إذ لو عوهد وبيده حر لم يمكن من استرقاقه يعطى قيمته، ولا يؤخذ منه بغير شيء على ما مضى لابن القاسم في صدر السماع، فكان القياس على هذا أن يعطى من بيت المال قيمة ما فيهما من الحرية أن لو كان ذلك رقيقا وجاز بيعه على الرجاء والخوف بأن يقال: كم يساوي هذا المكاتب على أنه إن أدى كتابته إلى سيده كان مملوكا للمشتري؟ وكم يساوي هذا المدبر على أن تكون خدمته لسيده، فإن مات فحمله الثلث أو حمل بعضه كان ما حمل منه رقا للمشتري؟ وإن رأى الإمام أن يعطيه قيمتهما، ويعجل لهما العتق أو تطوع أحد بذلك لزم ذلك، وعلى ما وقع آخر رسم الكبش، من سماع يحيى، يمكن المعاهد من استرقاق المدبر والمكاتب، إلا أنا قد ذكرنا أنها رواية شاذة خطأ، خارجة عن الأصول، وقعت على غير تحصيل.

.مسألة حصن مسلمين ارتدوا عن الإسلام فهل يقاتلون:

قال سحنون: قال ابن القاسم في حصن مسلمين ارتدوا عن الإسلام، فإنهم يقاتلون ويقتلون ولا تسبى ذراريهم وأموالهم فيئا للمسلمين، قال سحنون قال أشهب: أهل الذمة وأهل الإسلام في هذا سواء، لا تسبى ذراريهم ولا أموالهم، ولا يعادون إلى الرق، ويقرون على جزيتهم كما كانوا.
قال محمد بن أحمد: قول ابن القاسم، ولا تسبى ذراريهم وأموالهم فيئا للمسلمين، يريد أن نسلهم وذراريهم لا يسبون، وأن أموالهم لا تكون فيئا وغنيمة للجيش الذين قاتلوهم كأموال الحربيين؛ لأن حكم أموالهم على مذهبه في قوله: إن ذراريهم لا يسبون حكم مال المرتد إذا قتل على ردته، يكون لجماعة المسلمين على حكم الفيء، وقد وقع في بعض الكتب: ولا تسبى ذراريهم، وأما أموالهم فهي فيء للمسلمين، وهو الصحيح، وفيه بيان ما تأولنا عليه قول ابن القاسم بنصب فيئا على الحال، وإلى هذا ذهب عامة العلماء وأئمة السلف، وهو قول ابن الماجشون وربيعة فيما حكى عنهما ابن حبيب، وقال أصبغ: تسبى ذراريهم ونساؤهم، وتقسم أموالهم ويقتل كبارهم على حكم الناقضين من أهل الذمة؛ لأنهم جماعة، وإنما يكون الارتداد في الواحد وشبهه.
وهذا هو الذي خالفت فيه سيرة عمر بن الخطاب سيرة أبي بكر الصديق، في الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سار فيهم أبو بكر بسيرة الناقضين، فقتل الكبار، وسبى النساء والصغار، وجرت فيهم المقاسم وفي أموالهم، فلما ولي عمر بعده نقض ذلك، وسار فيهم سيرة المرتدين رد نساءهم وصبيانهم إلى عشائرهم وإلى الحرية، وأخرجهم من الرق والسبي، وحملهم محمل ذرية المرتدين أنهم على الإسلام إلا من أباه منهم بعد بلوغه، وما أباه أحد منهم على عمر ولا قبل ذلك، بل أقر كلهم بالإسلام ساعة سبوا، حكى هذا ابن حبيب، وفي قوله: إنه رد نساءهم وصبيانهم إلى عشائرهم، وأخرجهم من الرق بيان أن الذي قضى فيهم أبو بكر بالسبي هم الذين نقض فيهم عمر القضية، وذلك خلاف ما قالوا من أن القاضي لا يرد ما قضى به غيره قبله باجتهاده فتدبر ذلك، وقول أشهب: إن أهل الإسلام في هذا سواء، لا تسبى ذراريهم ولا أموالهم، ولا يعادون إلى الرق، ويقرون على الحرية، مثل ما له في المدونة وغيرها، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ مساواة أشهب بينهم في تحريم سبيهم، ومساواة أصبغ في إيجاب ذلك، وتفرقة ابن القاسم بين ذلك، وهو القول الصحيح من جهة النظر؛ لأن المرتدين أحرار من أصولهم، والمعاهدين لم تتم حريتهم بالمعاهدة، وإنما كانت عصمة لهم من القتل والسبي، فإذا نقضوها رجعوا إلى الأصل، فحل دماؤهم وسباهم، وقد مضى بيان القول في هذا في رسم الجواب، من سماع عيسى.

.مسألة ثمار بين عمران الإسلام والشرك هل يحل للمسلمين الأكل منها:

وسئل سحنون وذكرت له ثمار تكون في مفاز الأندلس بين عمران الإسلام وعمران الشرك، كانت لأهل الإسلام، وتركوها وصارت خارجة عن ملكهم بأرض مفازة، وصار العدو لسيد أبقاؤه عليها ولأهل الإسلام، وكلهم فيها سواء في الخوف، فمر بها جيوش المسلمين وسراياهم وصوابقهم، هل يحل لهم الأكل من تلك الثمار؟ قال: أما الجيوش الغالبة العظيمة التي شأنها القهر والغلبة، فلا أرى لهم الأكل منها؛ لأنه يصير لتلك الثمرة ثمن، وأما السرية والنفر اليسير الذي شأنهم التحلل، فلا أرى بأسا إن أكلوا منها، وهي عندي بمنزلة الضالة يجدها الرجل في الفلاة نائية عن القرى، فإنه في سعة من أكلها؛ لأنه قد جاء الحديث فيها، فقال: «هي لك، أو لأخيك، أو للذئب». وأما العسكر الكبير فإنما الثمرة بينهم بمنزلة الشاة الضالة، توجد بقرب العمران وموضع الأمان، فلا تحل لمن وجدها.
قال محمد بن أحمد: قول سحنون هذا صحيح، وتفرقته بين العسكر العظيم والسرية الصغيرة ظاهرة، واحتجاجه بالحديث بين، وذلك إذا كان أهل تلك الثمار لم يبيدوا، وأمكن أن يعرفوا؛ لأن الواجب على الإمام إذا كان الأمر على هذا، ومر بجيشه على تلك الثمار أن يأمر ببيعها في العسكر، وتوقف أثمانها لأربابها وينشر بها، وكذلك يجب على كل من أخذ منها شيئا أن يبيعه ويمسك ثمنه، ويعرف به ليوصله إلى صاحبه، وأما إن كان الأمر قد طال وباد أهل تلك الثمار، وأيس من أن يعرفوا، أو يعرف أحد ممن تصيرت إليه بالوراثة، فالثمرة لأهل الجيش الكبير في حكم اللقطة إذا لم يوجد صاحبها بعد التعريف، يجري الأمر في جواز أكلها على الاختلاف بين أهل العلم في جواز أكل اللقطة بعد التعريف؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها»، فمالك يكره له أكلها، وإن كان محتاجا إليها، ويرى الصدقة له بها أفضل، ومن أهل العلم من يبيح له أكلها وإن كان غنيا، ومنهم من لا يبيح له أكلها إلا إذا كان فقيرا، وقد مضى في رسم الوضوء والجهاد، من سماع أشهب، من قول مالك ما يدل على أن أكل ذلك أخف من أكل اللقطة بعد التعريف، وقد بينا هناك الوجه في ذلك.

.مسألة الروم إذا نزلوا بأمان فباعوا واشتروا ثم ركبوا البحر متى يحلون:

وسئل سحنون عن الروم أو غيرهم إذا نزلوا بأمان فباعوا واشتروا، ثم ركبوا البحر راجعين متى يحلون، وإلى أي موضع من البحر يحلون فيه؟ قال: لا يحلون أبدا حتى يصيروا من البحر إلى الموضع الذي يأمنون فيه من عدوهم، ويذهب عنهم الخوف، فإذا صاروا إلى تلك حلوا، فقال له بعض أهل الغزو والمعرفة بالبحر: إنهم اليوم لا يأمنون حتى يقعوا بلادهم، ويخرجوا من البحر؛ لأن مراكب المسلمين قد كثرت عليهم، فقال لهم: فلا يحلون إلا في الموضع الذي يأمنون فيه، وهو الخروج من البحر إن كان الأمر كما وصفت، وقد قال الله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] قلت له: فهو حلال إذا جاءنا ما لم يعط الأمان، وإن قرب من مرسانا أو بعد، فقال: أما من عرف بالتجارة من المسلمين، فلا يحل إذا أخذ، وهو مقبل إلى الأمان فيما قرب من المرسى ولا فيما بعد، لا يحل أبدا إلا أن يؤخذ في بلده، أو يؤخد وهو يريد إلى غير المسلمين، وأما قوم لم يعرفوا بالتجارة فهم حلال.
قال محمد بن رشد: قوله في تجار الحربيين إذا ركبوا البحر راجعين: وإنهم يحلون إذا صاروا من البحر إلى موضع الأمن، وإن لم يصلوا بعد إلى بلادهم، ينبغي أن يحمل على التفسير لما في المدونة في هذه المسألة؛ إذ لم يفرق فيها هذه التفرقة، ولمسألة حبل حبلة، من سماع عيسى، ويحمل عليها ما أشبهها من المسائل، من ذلك إذا غنم العدو في بلاد المسلمين شيئا من أموال المسلمين، ثم غنمه المسلمون منهم قبل أن يصلوا به إلى بلادهم، هل يقسم إذا لم يعرف صاحبه أم لا؟ وهل يأخذه صاحبه إن قسم بغير ثمن أم لا؟ فقد كان يختلف في ذلك عندنا، وهذه المسألة أصل ذلك، وأما من قدم بلاد الإسلام بغير أمان، فزعم لَمَّا أُخِذَ فيما قرب أو بعد أنه أتى للتجارة أو طالبا لأمان، أو راغبا في فدية أسير، أو ما أشبه ذلك مما تقتضيه هذه المسألة، فقد مضى القول فيها محصلا مستوفى موعبا في أول رسم الجواب، من سماع عيسى، فأغنى ذلك عن إعادته.

.مسألة أخذ المسلمون يهودا مقبلين من بلاد الإفرنج فادعوا الذمة لصاحب الأندلس:

قلت له: فلو أخذوا في البحر مركبا فيها يهود مقبلون من بلاد الإفرنج أو غيرها من بلاد الشرك، فلما أخذوا قالوا: نحن ذمة لصاحب الأندلس، وإليه نؤدي الجزية، قال: يُكلفوا البينة على ما ادعوا من ذلك، فإن بينوا ذلك لم يعرض لهم، وإلا كانوا فيئا، قلت: فإذا ثبت أنهم ذمة لصاحب الأندلس، وادعوا على الذين أخذوهم أنهم أخذوا منهم أموالا، قال: إن كان الذين أخذوهم قوما أمناء صالحين مأمونين، فلا يمين عليهم، وإن كانوا ناسا غير مأمونين استُحلفوا.
قال محمد بن أحمد: إنما قال: إنهم يكونون فيئا إن لم يبينوا ما ادعوا، من أجل أنهم ادعوا ما لا يشبه؛ لوجودهم مقبلين من بلاد الإفرنج؛ إذ لا ينبغي أن تؤخذ الجزية إلا ممن هو في بلاد المسلمين، أو حيث يمكن أن تجرى عليهم أحكامهم على ما قال ابن وهب في سماع زونان بعد هذا؛ لقول الله عز وجل: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، ولو ادعوا ما يشبه، وضعفوا عن إثبات ذلك؛ لوجب أن لا يستباحوا إلا بيقين، وأن يوقفوا وما وجد معهم حتى يكتب في خبرهم إلى حيث يتحقق به صدقهم من كذبهم، فيعمل على ذلك، وإنما قال:
إنه لا يحلف الذين أخذوهم إن ادعوا عليهم أنهم أخذوا لهم مالا، إلا أن يكونوا غير مأمونين؛ لأنهم ادعوا عليهم التعدي في الأخذ، فهو باب يجوز إليهم، بخلاف ما لو ادعوا عليهم مالا من معاملة.

.مسألة القوم يواقعون العدو هل لأحد منهم أن يبارز بغير إذن الإمام:

من سماع عبد المالك بن الحسن من ابن وهب قال عبد المالك بن الحسن: سئل عبد الله بن وهب عن القوم يواقعون العدو، هل لأحد منهم أن يبارز بغير إذن الإمام؟ فقال: إن كان الإمام عدلا لم يجز له أن يبارز إلا بإذنه، وإن كان غير عدل فليبارز وليقاتل بغير إذنه، قلت له: والمبارزة والقتال عندك واحد؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الإمام إذا كان غير عدل، لم يلزم استئذانه في مبارزة ولا قتال؛ إذ قد ينهاه عن عدة قد ثبتت له على غير وجه نظر يعضده؛ لكونه غير عدل في أموره، فتلزمه طاعته، فإنما يفترق العدل وغير العدل في الاستئذان لا في طاعة إذا أمر بشيء أو نهى عنه؛ لأن الطاعة للإمام من فرائض الغزو، فواجب على الرجل طاعة الإمام فيما أحب أو كره، وإن كان غير عدل، ما لم يأمره بمعصية، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية»، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتقوا الله، وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع، فاسمعوا وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله»، وقد قيل في قول الله عز وجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]: إنهم أمراء المزايا، وقد مضى طرف من هذا المعنى في أول سماع أشهب.

.مسألة يحاصرون حصنا من حصون العدو فيدعوهم العدو إلى أخذ الجزية:

وسئل ابن وهب عن القوم يحاصرون حصنا من حصون العدو، فيدعوهم العدو إلى أخذ الجزية منهم، هل ترى للمسلمين أن يقاتلوهم إذا دعوهم إلى أخذ الجزية؟ فقال: إذا كان ذلك العدو الذين دعوا إلى الجزية هم بموضع لا يصل المسلمون إليه إلا بخوف شديد على أنفسهم، فإني أرى أن يقول لهم المسلمون: الحقوا بدار الإسلام تؤدوا الجزية، فإن أبوا قوتلوا، وإن كانوا بموضع يقدر المسلمون على الاختلاف إليهم، ولا يخافون على أنفسهم كفوا عن قتالهم، وأخذوا الجزية منهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنهم إذا كانوا بموضع لا يصل المسلمون إليهم إلا بخوف على أنفسهم لم يأمنوا إن انصرفوا عنهم أن ينكثوا عليهم، ويكون ما سألوه مكيدة منهم، وأيضا فإن من شرط الجزية أن تؤدى بذل وصغار، كما قال عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وإن كانوا بائنين بدارهم لا يصل المسلمون إليهم إلا بخوف شديد على أنفسهم، لم يلزم قبول الجزية منهم، وهم على هذه الحال إذا لم يبذلوها على ما شرطه الله عليهم فيها، وبالله التوفيق.

.مسألة الغزاة لا يقاتلون على الخيل لاستغنائهم عنها أيقسم لها:

من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الجهاد مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن الغزاة يقتلون رجلا، فلا يقاتلون على الخيل لاستغنائهم عنها، وخيلهم في رحالهم أيقسم لها؟ قال: نعم، يقسم لها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهذا مما لا اختلاف فيه؛ لأنه كما يقسم لمن شهد القتال، وإن لم يقاتل فكذلك يقسم لفرس من شهد بفرسه، وإن لم يقاتل عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة فيما أحرز العدو من متاع المسلمين ثم جاءوا به بأمان يبيعونه أيحل اشتراؤه:

وقال: عن مالك فيما أحرز العدو من متاع المسلمين ثم جاءوا به بأمان يبيعونه، ولا يعرف له أهل، أو يعرف؛ أيحل اشتراؤه؟ قال مالك: أحب إلي ألا يبتاعه أهل الإسلام.
قال محمد بن رشد: ابن المواز لا يرى بأسا أن يشتريه أهل الإسلام، فإذا عرفه صاحبه كان له أخذه بالثمن إن شاء، قال: واشتراء العبد المسلم من العدو إذا باعه الحربي أفضل من تركه، فنحى مالك في قوله منحى الورع مراعاة لقول من لا يراعي ملك العدو، ويراهم فيما غنموا من أموال المسلمين كاللصوص، فيوجب لمن وجد متاعه بيد من اشتراه من العدو، صار له في مقسم أن يأخذه بغير ثمن، ورأى محمد شراء المتاع خيرا لصاحبه من أن يتركه فيرجع به الحربي إلى بلده، وقول مالك أحسن؛ إذ قد يكون في رجوع الحربي به إلى بلده خير لصاحبه؛ إذ قد يغنمه المسلمون بعد فيدركه قبل القسم، فيأخذه من غير ثمن، وأما العبد المسلم فلا شك أن شراءه أولا أفضل من ترك الحربي يرجع به إلى بلده، وكذلك الجارية، ولا يحل له إذا علم صاحبها بعينه أن يطأها حتى يعرضها عليه، وإن لم يعلمه بعينه، ويعلم أنها للمسلمين، فيكره له وطأها، هذا ظاهر ما في المدونة، وهو صحيح على أصولهم.
وقول محمد بن المواز: إن شراء العبد المسلم إذا باعه الحربي أفضل من تركه صحيح على مذهب ابن القاسم في أن له الرجوع به إلى بلده إن شاء، وأما على مذهب أصحاب مالك سواه، فيباع عليه شاء أو أبى، ولا يترك والرجوع به إلى بلده، وقد تقدم ذلك في غير ما موضع، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يركب البحر غازيا فيشتري بأرض الروم متاعا من المقاسم:

قال: وسمعت ابن القاسم، وسئل عن الرجل يركب البحر غازيا، فيشتري بأرض الروم متاعا من المقاسم أو غيرها للتجارة، ويحمله في السفن التي هو فيها بغير إذن الوالي، قال: لا أرى ذلك ولا أرى للوالي أن يأذن به لبعض الناس في حمل ما يضر بأصحابه ويتعب السفن.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا الذي قاله بين لا إشكال فيه؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا ضرر ولا ضرار».

.مسألة يفرق بين الجدة وولد ابنها وولد ابنتها في البيع:

قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: يفرق بين الجدة وولد ابنها وولد ابنتها في البيع في المملكة وفي السباء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن النهي عن التفرقة إنما جاء في الأم والولد خاصة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا توله والدة على ولدها»، وقال: «لا يفرق بين الوالدة وولدها»، وقال: «من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» وإنما الاختلاف في حدها، وهل هو من حقها، أو من حق الولد على ما سيأتي القول عليه في رسم الشريكين، في سماع ابن القاسم، من كتاب التجارة، إلى أرض الحرب.

.مسألة الأسير إذا خلوه في بلادهم على وجه المملكة والقهر فهرب:

قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الأسير إذا خلوه في بلادهم على وجه المملكة والقهر فهرب: فله أخذ ما قدر عليه من أموالهم، وليقتل ما قدر عليه منهم، وليهرب إن استطاع، وليستق من نسائهم وذراريهم ما استطاع، قال: وأما إذا كان عندهم في وثاق فخلوه على وجه الائتمان ألا يبرح ولا يحدث شيئا فلا، ولا يقتل منهم أحدا ولا يخونه، قال أصبغ: ولا يهرب، وهو كالعهد، ولا ينقض العهد، ولا يحبس به، وسواء كان حين سايره على هذه السيرة في وثاق أو غير وثاق.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم حبل حبلة، من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته.

.مسألة يكونون في ثغر من وراء عورة المسلمين هل يخرجون سراياهم لغرة يطمعون بها:

قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عن أناس يكونون في ثغر من وراء عورة المسلمين، هل يخرجون سراياهم لغرة يطمعون بها من عدوهم بغير إذن الإمام، والإمام منهم على أيام؟ قال: إن كانت تلك الغرة بينة قد تبينت لهم منهم، ولم يخافوا أن يلجئوا بأنفسهم، فلا أرى بأسا، وإن كانوا يخافون أن يلقوا ما لا قوة لهم به، أو يطلبون فيدركون، فلا أحب ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: إنما جاز لهم أن يخرجوا سراياهم لغرة قد تبينت بغير إذن الإمام؛ لكونه غائبا عنهم على مسيرة أيام، ولو كان حاضرا معهم لم يجز لهم أن يخرجوها بغير إذنه إذا كان عدلا على ما مضى من قول ابن وهب في سماع زونان، وقد مضى طرف من هذا المعنى في آخر سماع أشهب.

.مسألة يعطى الفرس أو البرذون في سبيل الله هل يحرث على البرذون:

قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن الرجل يعطى الفرس أو البرذون في سبيل الله، هل يحرث على البرذون ويسافر عليهما في قضاء دين أو لحاجة؟ قال: أما يحرث عليه بمرابطة الذي هو به الشيء الخفيف الذي هو له منفعة في قوته، ولا يضر به، وما أشبه ذلك، فلا أرى به بأسا، وأما أن ينزيه لغيره أو لنفسه، أو يسافر عليه في حوائجه، فلا يعجبني ذلك، إلا أن يكون مل له مالا من ماله، فيصنع به ما شاء، وإلا فلا يتقوى بشيء من أمره ولا بثمنه، إلا في سبيل الله.
قال محمد بن رشد: لسحنون في كتاب ابنه: أنه لا يحرث عليه لنفسه ولا للفرس، وإنما يأخذه من يضمن مؤنته، ولو جاز أن يحرث لقوته جاز أن يكريه ممن يقضي عليه حوائجه لقوته، وقال: لا يركب الفرس إلا لمصلحته، وأما في حوائج نفسه فلا، وإنما يركب في السفر الذي حبس فيه، قال: فإن أعطاه المحبس عليه في ثغر آخر ضمن، وقاله الأوزاعي، وتخفيف ابن القاسم أن يحرث عليه الشيء اليسير الذي لا يضر به لقوته بموضع مرابطة أحسن من تشديد سحنون في ذلك إن شاء الله؛ لأن ذلك عون له على مقامه بموضع مرابطه، فهو من سبيل الجهاد والعون عليه إن شاء الله، وقد مضى في أول رسم، من سماع ابن القاسم، من حكم من أعطى شيئا في السبيل ما يبين هذه المسألة.

.مسألة أصابوا أعلاجا ثم أدركهم ما أدركهم فخافوا فأرادوا أن يقتلوهم:

قال أصبغ: سمعت أشهب يسأل عن سريه ساروا، فأصابوا أعلاجا، ثم أدركهم ما أدركهم، فخافوا أن يعينوا عليهم، فأرادوا أن يضربوا أعناقهم، فقال: إن كان استحيوهم فليس لهم إلى قتلهم سبيل إلا أن يقاتلوهم حتى يتبين لهم منهم فيقتلونهم، وإن كانوا لم يكونوا استحيوهم ضربوا أعناقهم إن شاءوا، قيل له: وما الاستحياء هاهنا؟ فقال: إن كانوا تركوهم رقيقا للمسلمين، وفيئا لهم، فأما إن كانوا تركوهم على أن يأتوا بهم الإمام، فيكون مخيرا إن شاء قتل وإن شاء استحيا كما يصنع، ضربوا أعناقهم إن خافوهم، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا صحيح على أصولهم، فلا وجه للقول فيه.

.مسألة عدو يخرج على المسلمين فيهزمهم الله هل فيما أصابه المسلمون الخمس:

وسئل عن خيل العدو يخرجون على المسلمين في بلاد الإسلام، فيهزمهم الله على غير قتال، فتشتت أمورهم، فينهزمون، هل فيما أصابه المسلمون منهم الخمس؟ أو هل هم فيء؟ أو لكل إنسان منهم ما أصاب؟ فقال: هذا لا يكون، ولو كان يكون، لكان مما قد أوجف عليه بالخيل والركاب، فكان فيه الخمس، وكان مقسوما بين الذين ولوا الإيجاف عليهم والقتال لهم.
قال محمد بن رشد: أبعد أن يكون ما سأله عنهم من انهزامهم دون هازم لهم، أو خارج إليهم، أو موافق لهم؟ فلم يعطه فيه جوابا بينا، وما هو ما سأله عنه إلا في الممكن مثل أن يموت رئيسهم، فتشتت أمورهم، ويتراءى لهم على البعد سواد، فيظنون ذلك عسكرا لمسلمين، فيفرون على وجوههم، ويتفرقون ويختفون في الشعاري؛ لظنهم أنهم يتبعون ويستأسرون لمن لقيهم من المسلمين، أو مروا به من قراهم، ويتركون أمتعتهم ورحائلهم ودوابهم، فهذا لو كان لوجب أن يكون ما أصابه المسلمون منهم فيئا لجميعهم، حكمه حكم الخمس، ولو نزلوا على بعض ثغور المسلمين، فتداعى عليهم المسلمون فانهزموا على غير قتال ولا لقاء، فأصابوا غنائمهم؛ لخمست وكان سائرها لأهل المكان الذي كان منهم التداعي في النفير إليهم؛ لأنهم منهم رعبوا فانهزموا فهو إيجافهم، قاله ابن حبيب في الواضحة، وهو صحيح يؤيد ما قلنا.