الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
ولا يكره الدفن بالليل، ولكنه بالنهار أولى؛ لأنه أمكن. وقال الحسن البصري: (يكره الدفن ليلاً). دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (ما عرفنا دفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى سمعنا صوت المساحي أول ليلة الأربعاء). وروي: (أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه دفن ليلاً)، و: (دفنت عائشة، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ليلاً).
وإن مات في بلد غير هذه، وكانت مقبرتها تذكر بخير، مثل: أن يكون فيها قبور الصالحين، أو يرى فيها منامات صالحة... فالدفن فيها أولى من غيرها من المقابر، وإن لم يذكر فيها شيء فالدفن فيها أفضل من الدفن في البيت؛ لما يلحقه من دعاء المسلمين الذين يزورون القبور. فإن قيل: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن في بيت عائشة أم المؤمنين؟ قلنا: إلا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن أصحابه في المقبرة، فكان الاقتداء بفعله أولى. ولأنهم أرادوا تخصيص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك؛ لأنه يكثر إليه الزوار، بخلاف غيره. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات... اختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئًا ما أُنسيته، سمعته يقول: ما قبض الله نبيًا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه» ادفنوه في موضع فراشه.
ولو قال بعضهم: أنا أكفنه من مالي، وقال بعضهم: بل يكفن من ماله... كفن من ماله. والفرق بينهما: أنه لا منة عليهم بدفنه في المقبرة المسبلة، وعليهم المنة في كفن بعض الورثة له من ماله. فإن بادر بعضهم، ودفنه في ملك الميت... قال أصحابنا: كان للباقين نقله؛ لأن الملك قد صار لهم، غير أنه يكره لهم نقله. وإن بادر بعضهم، ودفنه في ملك نفسه، أو كفنه من مال نفسه، ثم دفنه... قال ابن الصباغ: ولم يذكره أصحابنا، وعندي: أنه لا ينقل، ولا تسلب أكفانه بعد دفنه؛ لأنه ليس في تبقيته إسقاط حق أحدهم، وفي نقله هتك حرمته. وإن تشاحّ اثنان في الدفن في مقبرة مسبلة... قدم السابق منهما؛ لأن له مزية بالسبق، وإن لم يسبق واحد منهما أقرع بينهما؛ لتساويهما. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيت عندنا يحبون أن يجمع الأهل والقرابة في الدفن في موضع واحد). وهذا صحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دفن عثمان بن مظعون... أمر رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حملها، فقام إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحسر عن ذراعيه، ثم حملها، فوضعها عند رأسه، وقال: أُعلم على قبر أخي؛ لأدفن فيه من مات من أهلي». وإذا دفن ميت في مقبرة مسبلة، ثم أراد آخر أن يدفن في ذلك الموضع ميتًا آخر، فإن علم أنه قد بلي الأول... جاز الدفن فيه، وإن علم أنه لم يبل لم يجز الدفن فيه، وذلك يختلف باختلاف البلاد؛ لأن البلد إذا كان شديد الحر... فإن الميت يبلى فيه في أقرب مما يبلى في البلاد الباردة، فإن خالف وحفر قبرًا، فوجد فيه ميتًا، أو عظامًا... أعيد القبر، إلا أن الشافعي قال: (فإن فرغ من القبر، وظهر فيه شيء من العظام لم يضر أن يجعل في جانب القبر، ويدفن الثاني معه).
وإن دفن رجل بأرض غيره بغير إذنه... فالمستحب لصاحب الأرض: أن لا ينقله؛ لأن في ذلك هتكًا لحرمته، فإن نقله جاز؛ لأنه دفن فيها بغير إذنه.
فإن دعت إلى ذلك ضرورة، بأن يكثر الموتى، أو يكون في الناس ضعف؛ لقلة الغذاء في القحط، أو مشتغلين في الحرب... جاز أن يدفن الاثنان، والثلاثة، وأكثر في قبر، ويقدم أكثرهم قرآنًا إلى القبلة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر في قتلى أحد أن يجعل الاثنان والثلاثة في قبر، قالوا: فمن نقدم؟ قال: أكثرهم قرآنًا». قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب، وإن دعت ضرورة أن يدفن رجل مع امرأة في قبر... جعل الرجل قدامها، وجعل بينهما حاجز من تراب). وإن كان رجلاً وصبيا وخنثى وامرأة... قدم الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة، اعتبارًا بصف الصلاة.
وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه دفنها في مقبرة المسلمين). وبه قال مكحول، وإسحاق رحمهما الله. وقال عطاء، والزهري، والأوزاعي: (تدفن مع أهل دينها). وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يؤدي إلى دفن مسلم مع الكفار. وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يصح عنه؛ لأنه يؤدي إلى دفن مشرك مع المسلمين.
وإن لم يكن شيء من ذلك... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يتركونه بين لوحين، ويشدونه، ويطرحونه في الماء، فربما يقع في جزيرة، فيراه بعض المسلمين، فيدفنه، ولا يثقل حتى ينزل إلى القرار، فتأكله الحيتان). قال المزني: إنما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا إذا كان أهل الجزائر مسلمين، فأما إذا كانوا مشركين: فإنه يثقل بشيء حتى ينزل إلى القرار؛ لكي لا يأخذه الكفار، فيغيروا فيه سنة المسلمين. وقال أحمد: (يثقل بشيء حتى ينزل بكل حال). قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: وما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولى؛ لأنه ربما يأخذه مسلم، فيدفنه، فيكون أولى من أن تأكله الحيتان. وأما الشيخ أبو إسحاق: فاختار في "المهذب" ما قاله المزني.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا حد فيه). وقال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلى السرة. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «احفروا، وأوسعوا، وأعمقوا». وروي عن عمر: أنه قال: (احفروا قبري قامة وبسطة)، ولأنه أحرى أن لا تناله السباع، وأبعد على من يريد نبشه، ولئلا يظهر ريحه. ويستحب أن يوسع عند رجلي الميت ورأسه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للحافر: أوسع من قبل رجليه ورأسه» فإن كانت الأرض صلبة... فاللحد أحب إلينا من الشق، وهو أن يحفر في القبرحفيرة في جانبه؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللحد لنا، والشق لغيرنا». وروي: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لما توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -... اختلفوا في قبره، فقال بعضهم: يلحد له، وقال الآخرون: يشق له، وكان في المدينة حفاران، أحدهما يلحد، والآخر يشق، فوجهوا إليهما، وقالوا: اللهم اختر لنبيك ما فيه الخيرة، فجاء الذي يلحد، فلحد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -). وإن كانت الأرض رخوة... لم يمكن اللحد، ولكن الشق. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهو أن يبني في القبر من الجانبين بالحجارة أو اللبن، ويترك الميت في وسطه، ثم يسقف عليه باللبن أو الخشب، ويجعل في شقوقه كسر اللبن). قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيتهم - عندنا - يضعون على السقف الإذخر، ثم يضعون عليه التراب).
قال الصيدلاني: ويتولى النساء حمل المرأة من مغتسلها إلى الجنازة، وتسليمها إلى من في القبر؛ لأنهن يقدرن على ذلك... وكذلك: يتولى النساء حل ثيابها في القبر، ولم أر هذا لغيره من أصحابنا. إذا ثبت هذا: فإن كان الميت رجلاً... فأولى الناس بإدخاله القبر أولاهم بالصلاة عليه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويدخله منهم أفقههم). فإن كان له قريبان، أحدهما أبعد من الآخر، وكان البعيد فقيهًا... فهو أولى من القريب الذي ليس بفقيه؛ لأن هذا أمر يحتاج فيه إلى معرفة وعلم، فكان الفقيه بذلك أولى. فإن استويا في الفقه... فأقربهم رحمًا، كالأب والجد، ثم بعدهما الابن، ثم ابن الابن، على ترتيب العصبات. وإن كان الميت امرأة... فالزوج أولى بإدخالها من كل أحد؛ لأنه يحل له من النظر إليها ما لا يحل لغيره، فإن لم يكن زوج فالأب أولى، ثم الجد، ثم الابن، ثم ابن الابن، فإن لم يكن أحد من ذوي محارمها... فمملوكها؛ لأنه محرم لها على ظاهر المذهب، فإن لم يكن فالخصي من الرجال؛ لأنه لا شهوة له، فإن لم يكن، فبنوا العم. قال صاحب "الفروع": فإن لم يكونوا... أرسلت بحبل، فإن تعذر ذلك جاز للأجانب الثقات وضعها.
ولما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات... أدخله القبر ثلاثة: العباس، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -)، واختلف في الثالث: فقيل: إنه الفضل بن العباس. وقيل: أسامة بن زيد، وهو الصحيح. وأما عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فهم بذلك، وتهيأ للنزول، ولم ينزل.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الميت رجلاً... لم يفعل ذلك). دليلنا: ما روي عن سعد بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «لما دفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -... ستر قبره بثوب، وكنت ممسكًا بحاشية الثوب، فأصغى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلت: ما قال لك؟ فقال: قال: اهتزت قوائم العرش لموت سعد» ولأنه لا خلاف أنه يستحب ستره بثوب بعد الموت، وعند الغسل؛ لأنه لا يؤمن أن يكون قد تغير، فاستحب - هاهنا - مثله. ولأنه يحتاج إلى حل عقد كفنه، وتسويته، فاستحب ستره.
وقال أبو حنيفة: (توضع الجنازة عرضًا من ناحية القبلة، ثم يدخل إلى القبر معترضًا). دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُل من قبل رأسه) ولأن ذلك أسهل. والمستحب: أن يقول من يدخله القبر: (بسم الله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -). والملة والسنة واحد؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أدخل الميت القبر... قال ذلك). قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستحب أن يدعو مع ذلك، فيقول: اللهم أسلمه إليك الأشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه، وفارق من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة، إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك، وأنت خير منزول به، إن عاقبته... فبذنبه، وإن عفوت فأنت أهل العفو، وأنت غني عن عذابه، وهو فقير إلى رحمتك، اللهم اشكر حسنته، واغفر سيئاته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له الأمن من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة، واخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضل رحمتك، يا أرحم الراحمين).
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هكذا فُعِلَ به، وكذلك فعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم من بعده إلى يومنا هذا. ولأنه إذا فعل به ذلك... استقبل القبلة بجميع بدنه، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة». فإن خالفوا، وأضجعوه على جنبه الأيسر، واستقبلوا بوجهه القبلة... جاز. ويستحب أن يوسد رأسه بلبنة، كالحي إذا نام، ويدنى إلى اللحد، ويجعل خلف ظهره تراب يسنده؛ لئلا يستلقي على ظهره. ولا تترك يده تحت خده؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (إذا مت... فأفضوا بخدي إلى الأرض). وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليتوسد يمينه»... فأراد به: الجنب الأيمن. ويكره أن يدفن في تابوت، أو يجعل تحته مخدة، أو مضربة، أو غير ذلك؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا أنزلتموني في اللحد... فأفضوا بخدي إلى الأرض). وعن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئًا). ويستحب أن ينصب عليه اللبن؛ لما روي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انصبوا علي اللبن نصبًا، وأهيلوا علي التراب). ويستحب لمن على شفير القبر عند رد التراب أن يحثو بيده ثلاث حثيات من التراب في القبر، ثم يهال عليه التراب بالمساحي؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حثى في قبر ثلاث حثيات من التراب في القبر». وروي عن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كيف طابت قلوبكم أن تحثوا التراب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -). فدل على: أنهم كانوا يحثون. ولا يستحب أن يزاد في القبر أكثر من ترابه؛ لئلا يرتفع، فيضيق على الناس. وقيل: إن الملك يأخذ من تراب قبر المؤمن، فإذا زيد تراب في قبره، فرآه الناس كثيرًا... أساءوا الظن به، وأن الملك لم يأخذ من ترابه شيئًا. ويكره أن يرفع القبر فوق الأرض رفعًا كثيرًا؛ لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته». ويستحب أن يشخص القبر على وجه الأرض قدر شبر، ليعلم أن هناك قبرًا، لما روي عن القاسم بن محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: قلت لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أماه، اكشفي لي عن قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة. وروي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ألحد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونصب عليه اللبن، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر). ويستحب أن يسطح القبر. وقال أبو علي الطبري: الأولى أن يسنم. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن التسطيح شعار الرافضة واليهود. قال أبو علي الطبري: وكذلك يستحب ألا يجهر بالبسملة في الصلاة؛ لأن الجهر بها شعار الرافضة، وهذا ليس بصحيح؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سطح قبر ابنه إبراهيم، ورش عليه الماء، ووضع عليه حصى من حصى العرصة». وأما موافقة الرافضة: فلا يضر إذا صحت السنة فيه. ويستحب أن يرش على القبر الماء، ويوضع عليه الحصى؛ لما ذكرناه من الخبر، وإنما أمر بالرش؛ ليلصق عليه الحصى، وإذا لم يفعل ذلك... زال أثره، فلا يعرف.
وفي رواية أخرى: «أنه نهى عن تجصيص القبور، والكتابة فيها، والقعود عليها». ولأن ذلك من زينة الأحياء، ولا حاجة بالميت إليه. وأما البناء على القبر: فإن بني عليه بيت أو قبة، فإن كان ذلك في مقبرة مسبلة... لم يجز؛ لأنه يضيق على غيره، وعليه يحمل الخبر. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيت من الولاة من يهدم بمكة ما بني بها، ولم أر من الفقهاء من يعيب عليه ذلك). وإن كان في ملكه... جاز له أن يبني ما شاء؛ لأنه لا يضيق على غيره، بخلاف المسبلة.
وإن دفن بغير غسل، أو وجه إلى غير القبلة، فإن خيف عليه التغيير... لم ينبش؛ لأن ذلك قد تعذر، وإن لم يخف عليه التغيير نبش، وغسل، ووجه إلى القبلة. وقال أبو حنيفة: (إن كان قبل نصب اللبن، أو بعد نصب اللبن، وقبل أن يطرح عليه التراب... فإنه ينبش، وإن كان بعد طرح اللبن عليه لم ينبش). دليلنا: أنه فرض مقدور عليه، فوجب أن ينبش لأجله، كما لو لم يطرح عليه التراب. وإن دفن من غير كفن... ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا ينبش؛ لأن القصد منه المواراة، وقد وجد ذلك، فلا ينبغي أن ينبش. والثاني: أنه ينبش، ويكفن؛ لأنه فرض مقدور عليه، فأشبه الغسل. وإن غصب من رجل ثوبًا، وكفن به ميتًا، ودفنه... ففيه وجهان، حكاهما في "العدة": أحدهما: ينتقل حق مالكه إلى القيمة، مراعاة لحق الميت. والثاني - وهو الأشبه -: إن أتى عليه زمان يبلى فيه ذلك الثوب... كان حقه في القيمة، وإن لم يأت عليه ذلك طالبه برد الثوب، كما لو دفنه في أرض مغصوبة.
وقيل: إنه فعل ذلك حيلة؛ ليقول: (أنا أقربكم عهدًا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -). وإن ابتلع الميت جوهرة، فإن كانت لغيره... شق جوفه، وأخرجت، وإن كانت للميت ففيه وجهان: أحدهما: يشق جوفه، وتخرج؛ لأنها صارت للورثة. والثاني: لا تخرج؛ لأنه أتلفها في حياته، وهي على ملكه. وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين يتحرك... ففيه وجهان: قال أبو العباس ابن سريج: يشق جوفها، ويخرج؛ لأن حرمة الحي آكد من حرمة الميت. ومن أصحابنا من قال: ينظر فيه: فإن قلن القوابل: إن هذا الجنين إذا أخرج عاش، مثل: أن يكون ابن ستة أشهر، فأكثر... شق جوفها. وإن قلن: لا يعيش... فإنه لا يخرج؛ لأن فيه هتك حرمة الميتة بما لا فائدة فيه. فعلى هذا: لا تدفن حتى يتحقق موته. |