فصل: (مسألة: التقاط العبد الصغير)

صباحاً 12 :50
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: وجد حيوانا في قرية عامرة]

وإن وجد الحيوان في بلد أو قرية عامرة.. فقال المزني: قال الشافعي فيما وضعه بخطه - لا أعلمه سمع منه -: (فالجميع لقطة).
واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: الصحيح ما ذكره المزني: فالصغير والكبير من الحيوان لقطة في البلد؛ لأنا إنما منعناه من أخذ الكبير من الحيوان في الصحراء؛ لأن ترك أخذه أحظ لصاحبه؛ لأنه يأكل الشجر، ويرد الماء، ويحتفظ بنفسه، وهذا المعنى غير موجود فيه في البلد، لأنه لا يجد ما يرعى فيه، فكان التقاطه أحظ لصاحبه.
ومن أصحابنا من قال: ما يجده من الحيوان في البلد كالذي يجده في الصحراء، فإن كان إبلا، أو ما كان في معناها.. لم يكن له أخذها.
وإن كان غنما، أو ما كان في معناها.. كان له أخذها؛ لعموم حديث زيد بن خالد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق فيه بين البلد والصحراء، وإنما فرق فيه بين الصغير والكبير؛ لأن الكبير في البلد لا يضيع أيضا ولا يخفى أمره بخلاف الصغير.
فإذا قلنا بهذا: فليس له أن يأخذ الكبار للتملك، وله أن يأخذ الصغار ويكون فيه بالخيار: بين أن يتطوع بالإنفاق عليها ويحفظها على صاحبها، وبين أن يعرفها حولا ويتملكها، وبين أن يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يتملكها بعد التعريف، وهل له أن يأكلها في البلد؟ فيه وجهان:
قال أكثر أصحابنا: لا يأكلها. والفرق بين البلد والصحراء: أنه لا يجد في الصحراء من يشتريها في الغالب، فجاز له أكلها، وفي البلد يجد من يشتريها في الغالب.. فلم يجز له أكلها.
وقال الشيخ أبو حامد: يجوز له أكلها في البلد؛ لأن الشافعي قد نص على: (أنه إذا وجد الطعام الرطب في البلد.. فله أكله وإن كان يجد من يشتريه). وهذا في معناه.
وإن قلنا بقول أبي إسحاق: وأن الصغار والكبار لقطة.. فهو بالخيار: بين أن ينفق على الجميع ويحفظها على صاحبها، أو يعرفها ويتملكها، أو يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يتملكه بعد التعريف، وهل له أكل الجميع؟ على الوجهين في الصغار في البلد.

.[فرع: وجد ضالة في دار الحرب]

إذا وجد لقطة أو ضالة في دار الحرب، ولا مسلم في دار الحرب.. فهي غنيمة، لأهل الخمس خمسها، والباقي لمن وجدها.
وإن وجد لقطة أو ضالة للحربي في دار الإسلام.. فهي فيء لا يختص به الواجد.

.[فرع: لقطة الهدي الضال]

إذا وجد هديا ضالا في أيام منى أو قبلها.. فقد قال ابن القاص: أخذه وعرفه، فإن لم يجد صاحبه، وخاف أن يفوته الذبح.. ذبحه.
قال الشافعي: (وأحب إلي أن يرجع إلى الحاكم حتى يأمره الحاكم بذبحه).
قال أبو علي السنجي: قياس قول الشافعي: أنه لا يأخذ الهدي إذا وجده في الصحراء؛ لعموم الخبر. ويحتمل ما حكاه ابن القاص، أن الشافعي قال: (يرجع به إلى الحاكم) أراد به: إذا وجده في المصر. وإن ثبت النص فيها عن الشافعي.. فوجهه: أنه معد للذبح، فإذا وجده وأشرف الوقت على الخروج.. فالغالب أنه انفلت من صاحبه. وإن تركه خرجت العبادة عن وقتها، فجاز له أخذه وذبحه.
وقال القفال: إذا وجد الهدي مشعرا مقلدا.. فهل له أن يذبحه؟ فيه قولان مأخوذان من القولين فيمن وجد هديا مذبوحا في الطريق، وقد أشعر وقلد، وضرب بدمه على صفحة سنامه.. هل له الأكل منه بهذه العلامة؟ على قولين. وهكذا لو قلد هديه وأشعره.. هل يقوم هذا الفعل مقام النطق في إيجابه؟ على قولين.

.[مسألة: التقاط العبد الصغير]

إذا التقط الرجل عبدا صغيرا غير مميز.. فله أن يحفظه على صاحبه، ويتطوع بالإنفاق عليه. وله أن يعرفه حولا ويتملكه. قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 363]: وله أن يبيعه، كالشاة.
وإن وجد جارية صغيرة غير مميزة.. فله أن يحفظها على صاحبها، ويتطوع بالإنفاق عليها، وهل له أن يتملكها؟ ينظر فيه:
فإن كان لا يحل له وطؤها: بأن كانت من ذوي محارمه.. جاز له أن يتملكها بعد التعريف، كما يجوز له أن يقترضها.
وإن كانت ممن يحل له وطؤها.. لم يجز له تملكها، كما لا يجوز له اقتراضها.
وإن وجد عبدًا كبيرًا، أو صغيرًا مميزًا يتحفظ بنفسه، أو جارية كبيرة، أو صغيرة مميزة، تتحفظ بنفسها.. لم يكن له التقاطهما؛ لأنهما يحفظان أنفسهما.
فإن أراد الواجد أن يحفظهما على مالكهما، وينفق عليهما من كسبهما.. جاز. وإن لم يكن لهما كسب.. رفع الأمر إلى الحاكم؛ ليبيعهما، ويحفظ ثمنهما على مالكهما، فإن باعه الحاكم، أو كان العبد صغيرًا فتملكه المتلقط وباعه، ثم جاء مالكه وأقر أنه كان قد أعتق قبل البيع.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه قولين:
أحدهما: يقبل قول السيد فيه، ويحكم بحريته، ويبطل البيع؛ لأن السيد أقر على نفسه بما يضره، فلا تهمة عليه فيه.. فيقبل.
والثاني: لا يقبل قوله، بل نحكم بصحة البيع؛ لأن الإمام يلي بيعه حين باعه.. فلم يقبل قول المالك بما يبطله، كما لو باع الرجل عبد نفسه، ثم أقر أنه كان أعتقه قبل ذلك.
وحكى القاضي أبو الطيب: أن من أصحابنا من قال: لا يقبل قوله قولا واحدا؛ لما ذكرناه.

.[فرع: ادعاء عبد آبق في مصر وطلبه في مكة]

إذا أبق للرجل عبد، فحصل عند الحاكم بمصر، فجعله مع الضوال، فأقام رجل عند حاكم مكة شاهدين شهدا على أن ذلك العبد بصفاته له، فكتب حاكم مكة إلى حاكم مصر: حضر إلي فلان بن فلان، وادعى أن له في يدك عبدًا، من صفته كذا وكذا، وشهد له ذلك شاهدان.. فهل يجب تسلميه بذلك إلى المدعي؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب تسليمه بذلك. وبه قال أبو حنيفة ومحمد؛ لأنهم لم يشهدوا على عينه، وإنما شهدوا على الصفات، والصفات تشتبه، وقد تتفق الصفات مع اختلاف الأعيان.
فعلى هذا: لو جاء طالب له آخر، وادعى أنه له، ووصفه بصفاته.. لم يجز دفعه إليه حتى يتضح له: من المالك منهما؟
القول الثاني: يجب تسليمه إليه بذلك. وبه قال أبو يوسف؛ لأن البينة أثبتته له بصفاته، كما ثبتت في الذمة بوصفه في السلم. فإذا قلنا بهذا: فإن حاكم مصر يجعل في رقبة العبد خيطا، ويضيقه بحيث لا يمكن أن يخرجه من رأسه، ويختم على ذلك الخيط، ويسلمه إلى المدعي أو وكيله، ويكون مضمونا على المدعي إن تلف، فيحمله إلى حاكم مكة، فإن قال الشاهدان: إن هذا هو العبد الذي شهدنا عليه للمدعي.. استقر ملكه عليه. وإن قالا: هو غيره.. لزمه رده إلى حاكم مصر. والأول أصح؛ لأنه يدخل على الثاني ثلاثة أشياء:
أحدها: أنه إذا أسلم العبد إلى المدعي.. لم يؤمن أن يموت المدعي أو يفلس، وقد تلف العبد في يده، ويكون لغيره، فلا يصل صاحبه إلى العبد، ولا إلى قيمته.
الثاني: أنه قد يكون للغير، فتذهب منفعته في الطريق مع المدعي.
الثالث: قد تكون أم ولد للغير، فيسلمها إلى غيره، وهذا لا سبيل إليه.
وإذا قلنا بالأول: فرأى حاكم مصر بيعه وحفظ ثمنه، فنصب المدعي رجلا ليبتاعه له من حاكم مصر، فابتاعه له، ثم مضى به إلى مكة فحضر الشاهدان وشهدا أن هذا العبد ملكه. حكم بفساد البيع، فيكتب حاكم مكة إلى حاكم مصر بذلك ليرد له الثمن إن كان قد قبضه؛ لأنه قد بان أنه ملكه، ولا يقول المدعي لحاكم مصر: بعني هذا العبد؛ لأن ذلك إقرار منه أنه ليس بملك له.

.[مسألة: التقاط كلب صيد]

إذا التقط كلب صيد.. عرفه حولا، فإن لم يجد صاحبه.. كان له أن ينتفع به بعد الحول؛ لأنه وإن كان غير مملوك فإن الانتفاع به جائز، فقام بعد الحول والتعريف مقام صاحبه. فإن جاء صاحبه وقد هلك.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنه لا قيمة له.
وهل يضمن قيمة منفعته بعد الحول؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في جواز إجارته.

.[مسألة: التقاط الطعام الرطب]

وإن كانت اللقطة طعامًا رطبًا لا يمكن استبقاؤه، كالطبائخ والهرائس.. فقد قال الشافعي: (له أن يأكله إذا خاف فساده، ويغرمه لربه).
قال المزني: وقال الشافعي فيما وضعه بخطه ـ لا أعلمه سمع منه ـ: (إذا خاف فساده.. أحببت له أن يبيعه) فجعل المزني هذا قولًا آخر أنه لا يجوز له أكله؛ لأنه يمكنه بيعه.
قال أصحابنا: وما خرجه المزني غير صحيح، بل يجوز له الأكل، قولًا واحدًا.
وما ذكره الشافعي بخطه لا يدل على أنه لا يجوز له الأكل، وإنما يدل على أن البيع أولى من الأكل، وهذا صحيح.
وإذا ثبت هذا: فهو بالخيار: بين أن يبيعه، وبين أن يأكله، كما قلنا في الشاة إذا وجدها في صحراء؛ لأنه يخاف على كل واحد منهما الهلاك؛ فإن اختار بيعه، فإن لم يكن في البلد حاكم.. باعه بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة، ويعرف الطعام الذي وجده لا نفس الثمن. وإن كان في البلد حاكم، فرفع الأمر إليه، فباعه الحاكم بنفسه، أو أمر الملتقط أو غيره أن يبيعه فباعه.. صح البيع.
وإن باعه الملتقط بنفسه من غير إذن الحاكم.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا يصح البيع.
قلت: ويحتمل أن يكون على الوجهين اللذين حكاهما الشيخ أبو إسحاق في بيع الشاة التي وجدها في الصحراء.
وإن اختار أكله.. فهل يلزمه عزل قيمته؟ حكى الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فيه وجهين عن أبي إسحاق، وقد مضى تعليلهما في أكل الشاة التي وجدها في الصحراء.

.[فرع: التقاط ما يحتاج إلى مؤونة]

وإن التقط ما لا يبقى إلا بمؤونة وعلاج، كالرطب والعنب، فإن كان بيعه رطبًا أحوط.. قال ابن الصباغ: كان كالطعام الرطب على ما مضى.
وذكر الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ: أنه يباع ويحتفظ بثمنه لصاحبه.
وإن كان تجفيفه أحوط، فإن تطوع الواجد بالإنفاق على تجفيفه.. جاز، وإن لم يتطوع.. باع الحاكم جزءًا منه، وأنفقه على تجفيفه، بخلاف الحيوان فإنه لا يباع منه شيء؛ لأن النفقة هاهنا لا تتكرر، بخلاف النفقة على الحيوان فإنها تتكرر، فلذلك قلنا: لا يباع منه شيء لذلك.

.[مسألة: لقطة خمر مراق]

وإن وجد خمرًا أراقها صاحبها.. لم يجب تعريفها؛ لأن إراقتها مستحقة، فإن صارت عنده خلًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب تعريفها؛ لأنها عادت إلى الملك السابق لصاحبها.
والثاني: لا يجب تعريفها؛ لأن صاحبها قد أسقط حقه منها بإراقتها.

.[مسألة: لقطة العبد]

إذا التقط العبد لقطة.. فهل يصح التقاطه؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح. وبه قال أبو حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من التقط لقطة.. فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتمها ولا يغيبها» ولم يفرق بين الحر والعبد. ولأنه كسب بفعل، فصح من العبد، كالاصطياد والاحتشاش، وفيه احتراز من الميراث.
والثاني: لا يصح التقاطه. وهو اختيار المزني؛ لأن الالتقاط يقتضي: أمانة وولاية في مدة التعريف، وتملكًا بعوض في ذمته، والعبد ليس من أهل الأمانة والولاية، ولا ذمة له يستوفى الحق منها، فلم يصح.
فإذا قلنا: يصح التقاطه، فإن لم يعلم السيد باللقطة.. فإنها أمانة في يد العبد. وإن تلفت في يد العبد بغير تفريط منه.. لم يضمنها؛ لأن الأمانة لا تضمن بغير تعد.
وإن أتلفها العبد، أو تلفت في يده بتفريط منه.. ضمنها في رقبته، كما لو أتلف مالًا لغيره.
وإن عرفها العبد حولًا تعريفًا كاملًا.. لم يملكها العبد قولًا واحدًا؛ لأنه لا يملك المال على القول الجديد، ويملكه على القول القديم إذا ملكه السيد، ولم يملكه السيد هاهنا.
فإن قلنا: إن اللقطة تدخل في ملك الملتقط بعد انقضاء التعريف.. دخلت في ملك السيد.
وإن قلنا: لا يملكها الملتقط إلا باختيار التملك.. لم يملكها السيد حتى يختار تملكها، فإن تملكها العبد وتصرف فيها. فإنه لا يملكها ويضمنها، وفي محل ضمانه لها وجهان:
أحدهما: يضمنها في ذمته، كما لو اقترض شيئًا فاسدًا، أو قبضه وأتلفه.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه يضمنها في رقبته؛ لأنه لزمه بغير رضى من له الحق، بخلاف القرض الفاسد.
وأما إذا علم بها السيد: فله أخذها من يده؛ لأن كسبه له، فإن أخذها السيد بعد أن عرفها العبد.. كان للسيد أن يتملكها. وإن كان العبد قد عرفها بعض الحول.. فللسيد أن يكمل التعريف ويتملكها. وإن كان قبل أن يعرفها العبد.. عرفها السيد حولًا وتملكها. وإن لم يأخذها السيد من العبد، بل أقرها في يده، فإن كان العبد ثقة.. جاز، كما لو استعان به في حفظ ماله، ويكون الحكم فيه كما لو أخذها السيد منه. وإن كان العبد غير ثقة.. ضمنها السيد وزال الضمان عن العبد؛ لأن السيد فرط في إقرارها بيده، فلزمه ضمانها، كما لو أخذها من يده وردها إليه؛ لأن يد العبد كيد سيده.
وإن علم فلم يأخذها من يده ولم يقرها، وإنما أهملها في يده.. فهل يجب على السيد ضمانها؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان، يأتي توجيههما.
وأما إذا قلنا: لا يصح التقاط العبد.. فإن العبد يضمنها بالأخذ؛ لأنه أخذ ما لًا يجوز له أخذه، فهو كما لو غصب مال غيره، فإن علم بها السيد.. فإنه لا يخلو: إما أن يأخذها من يده، أو يقرها في يده، أو يهملها. فإن أخذها من يده.. زال الضمان عن العبد، وصار كأن السيد التقطها.
قال ابن الصباغ: وينبغي لو أخذها غير السيد من الأحرار.. أن يزول عن العبد الضمان؛ لأن كل من هو من أهل الالتقاط نائب عن صاحبها.
فإن قيل: إذا حصل الشيء مضمونًا، لم يزل الضمان بالانتقال إلى يد غير يد مالكه..
فالجواب: أنه إنما لا يزول الضمان إذا أخذه من لا يجوز له أخذه، وهاهنا يجوز للسيد أخذها، فصار كما لو غصب عينًا، فدفعها الغاصب إلى وكيل المغصوب منه.
إذا ثبت هذا: فإن اختار السيد حفظها على صاحبها.. جاز. وإن اختار تملكها.. عرفها حولًا ثم تملكها. فإن كان العبد قد عرفها.. لم يعتد بتعريفه؛ لأن وجود التقاطه بمنزلة عدمه، فكذلك تعريفه.
وإن لم يأخذها السيد منه، ولكن أقرها في يده ليعرفها، فإن كان العبد ثقة.. جاز وزال عن العبد الضمان؛ لأن العبد صار ممسكًا لها عن السيد، فصار كما لو أخذها السيد من يده وردها إليه.
وإن كان العبد غير ثقة.. ضمنها السيد؛ لأنه فرط في تركها في يده؛ لأن يد السيد على العبد وعلى ما في يده، فصار كما لو أخذها السيد منه ثم ردها إليه.
وإن لم يأخذها السيد منه ولا أقرها، ولكن أهملها في يده.. فقد روى المزني: (أن السيد يضمنها في رقبة عبده)، ونقل الربيع: (أنه يضمنها في رقبة عبده وسائر أمواله). وأراد بقوله (وسائر أمواله): في ذمته.
فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما نقله المزني، وأنه يضمنها في رقبة عبده لا غير؛ لأن السيد لا يضمن جنايات عبده في ذمته، وإنما يتعلق الضمان برقبة العبد لا غير، فإن تلف العبد.. سقط حق صاحب اللقطة.
وقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله الربيع، وقد نقله المزني في "جامعه الكبير " وإنما أسقطه في " المختصر "؛ لأن السيد قد كان يمكنه أن يأخذها منه، أو يقرها في يده، فإذا لم يفعل.. صار متعديًا، فكان ضامنًا لها في ذمته، كما لو غصب العبد مالًا لغيره، وعلم به السيد، وأمكنه انتزاعه منه، فلم يفعل حتى تلف في يد العبد، فإن السيد يضمنه في ذمته.
فعلى هذا: إن تلف العبد.. تعلق الضمان بذمة السيد.
وإن كان على السيد ديون وأفلس.. كان للملتقط أن يأخذ حقه من العبد، ولا يشاركه الغرماء فيه.
وإن لم تف قيمته بحقه.. ضارب الغرماء فيما بقي له من قيمة اللقطة في مال السيد. ومن أصحابنا من قال: فيها قولان، ووجههما ما ذكرناه.

.[فرع: عتق العبد ومعه لقطة لم يعلم بها سيده]:

إذا التقط العبد لقطة فأعتقه سيده قبل أن يعلم باللقطة، فإن قلنا: يصح التقاطه.. كان للسيد أخذها منه، كما لو اكتسب مالًا قبل العتق ولم يعلم به السيد.
وإن قلنا: لا يصح التقاطه.. لم يكن للسيد أخذها؛ لأنه قبل أن يعتق لم يتعلق به حق للسيد.
وهل للعبد أن يبتدئ تعريفها بعد العتق، ويتملكها بعد التعريف؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه قد صار على صفة يصح التقاطه، فصار كما لو وجدها في هذه الحالة.
والثاني ـ خرجه الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق ـ: ليس له ذلك؛ لأن يده قد صارت يد ضمان، فلا تنقلب يد أمانة.

.[مسألة: المكاتب في اللقطة]

قال الشافعي في " المختصر " [3/128] (والمكاتب في اللقطة كالحر؛ لأن ماله يسلم له) ونص في "الأم" [3/289] (أنه كالعبد).
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالعبد؛ لأنه ناقص بالرق، بدليل أنه لا يرث، ولا تصح الوصية إليه.
ومنهم من قال: إنه كالحر قولًا واحدًا.
قال الشافعي في "الأم": (لأن ماله له) وهذا التعليل أصح من التعليل الذي نقله المزني: (أن ماله يسلم له)؛ لأنه قد يسلم له، وقد لا يسلم له.
فإذا قلنا: إنه كالحر، أو قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: يصح التقاطه، فإذا التقط لقطة.. فهي أمانة في يده، فإذا عرفها حولًا.. صح تعريفه، وله أن يتملكها بعد التعريف؛ لأنه من أهل التملك كالحر.
وإذا قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: لا يصح التقاطه، فالتقط لقطة.. ضمنها بأخذه لها، وليس للسيد أن يأخذها منه، كما يأخذها من العبد؛ لأنه لا سبيل للسيد على ما في يد المكاتب، ولكن يسلمها إلى الحاكم، فإذا قبضها الحاكم.. برئ المكاتب من ضمانها، فإن عرفها الحاكم حولًا، فهل للمكاتب أن يتملكها؟ فيه وجهان:
قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب: له أن يتملكها؛ لأنه من أهل التملك.
وقال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: ليس له أن يتملكها؛ لأنه ليس من أهل الالتقاط، فلم يملكها بالحول والتعريف.
فعلى هذا: تكون في يد الحاكم إلى أن يجد صاحبها.

.[فرع: لقطة المبعض]

وأما إذا وجد من نصفه حر ونصفه عبد لقطة.. فقد نص الشافعي: (أنه كالحر). فمن أصحابنا من قال: فيه قولان كالعبد؛ لأنه ناقص بالرق. ومنهم من قال: هو كالحر قولًا واحدًا، وهو الصحيح؛ لأنه يملك بنصفه الحر ملكًا تامًا.
فإذا قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: لا يصح التقاطه، فهو كالعبد يصير ضامنًا لها، وإذا أخذها السيد منه.. زال عنه الضمان.
وإذا قلنا: إنه كالحر، أو كالعبد، وقلنا: يصح التقاطه، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة.. فاللقطة لهما بعد التعريف. وإن كان بينهما مهايأة.. فهل تكون اللقطة لمن وجدت في يومه؟ فيه قولان:
أحدهما: تكون له؛ لأنه كسب للعبد، فكانت لمن وجدت في يومه، كالمعتاد.
والثاني: أنها لا تكون لمن وجدت في يومه، بل تكون بينهما؛ لأنه كسب نادر، والنادر غير معلوم وجوده، فلا يدخل في المهايأة.

.[فرع: لقطة المدبر والمعلق عتقه]

وأما المدبر والمعتق بصفة، إذا التقط لقطة.. فحكمه حكم العبد القن على ما مضى.
وأما أم الولد إذا التقطت لقطة.. فنص الشافعي: (أنها كالعبد القن).
قال الشافعي: (إلا أنها إذا تلفت اللقطة في يدها، فإن علم بها السيد.. كان الضمان عليه في ذمته، وأما إذا لم يعلم بها.. كان الضمان في ذمتها).
قال الربيع: وفيه قول آخر: (أن ضمانها في ذمته). وقوله: (في ذمتها) غلط.
واختلف أصحابنا في قول الشافعي: (في ذمتها):
فقال أكثرهم: هو غلط كما قال الربيع؛ لأن هذا فرعه الشافعي على القول الذي يقول: لا يصح التقاط العبد، وكان يجب أن يكون ضمانها في رقبتها، إلا أن السيد قد منع من بيعها بالإحبال، ولم يبلغ بها حالة يتعلق الحق بذمتها إذا لم يعتقها، فوجبت جنايتها في ذمته. وقوله (في ذمتها) غلط من الكاتب. وقال أبو إسحاق: يمكن تأويل قول الشافعي: (في ذمتها) أن يكون فرعه على القول الذي يقول: يصح التقاط العبد، فإذا التقطت أم الولد لقطة.. حصلت في يدها أمانة، إلا أنه يجب عليها أن تعلم السيد بها ليأخذها منها، فإذا لم تفعل حتى تلفت في يدها.. فقد فرطت، فتعلق الضمان بذمتها؛ لأن صاحبها كأنه رضي بكونها في يدها، فصار بمنزلة أن يدفع رجل وديعة إلى أم ولد لتدفعها إلى سيدها، فلم تدفعها حتى تلفت في يدها، فإن ضمانها يكون في ذمتها.
قال الشيخ أبو حامد وهذا وإن كان صحيحًا في الفقه، فلا يحمل كلام الشافعي على هذا؛ لأنه إنما فرعه على القول الذي يقول: لا يجوز التقاط العبد.