الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
وفي رواية: تركتهما وهما يبكيان، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارجع إليهما فأضحكهما، كما أبكيتهما» فإذا كان ذلك في الجهاد الذي هو فرض ففي حج التطوع أولى. فإن أحرم بغير إذنهما، أو بغير إذن أحدهما، فإن كان في حج واجب لم يكن لهما تحليله؛ لأنهما لا يجوز لهما منعه من الدخول فيه، فلم يكن لهما منعه من إتمامه. وإن كان لحج تطوع فهل لهما تحليله منه؟ فيه قولان: أحدهما: لهما منعه من إتمامه ومطالبته بالتحلل منه؛ لأن لهما منعه من الدخول فيه، فكذلك من إتمامه، كالسيد مع عبده. والثاني: ليس لهما منعه من إتمامه؛ لأنه صار بالدخول فيه واجبا عليه، فلم يكن لهما منعه من إتمامه كحجة الإسلام، ويفارق السيد مع عبده؛ لأنه يملك رقبته ومنفعته.
قال الشافعي في القديم: (يجوز ذلك)، وقال في الجديد: (إن صح حديث ضباعة قلت به) واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يصح هذا الشرط، ولا يتعلق به حكم - وبه قال مالك وأبو حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. ولم يفرق بين أن يشترط أو لا يشترط إلا فيما خصه الدليل. ولأن كل عبادة جاز الخروج منها بالشرط جاز الخروج منها بغير الشرط، كالصوم لما جاز له أن يخرج منه إذا شرط الخروج بالمرض في البلد جاز أن يخرج منه إذا مرض وإن لم يشرط. والصلاة لما لم يجز أن يخرج منها بغير شرط لم يجز أن يخرج منها بالشرط. وكذلك الإحرام قد ثبت أنه: لا يجوز الخروج منه بعذر بغير شرط، فكذلك لا يجوز الخروج منه بشرط. والقول الثاني: أنه يجوز هذا الشرط ويتعلق به الحكم - وهو الصحيح - لما روي: «أن ضباعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله إني أريد الحج وإني شاكية، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحرمي واشترطي أن محلي حيث حبستني». ولأن الإحرام يجب به النسك كما يجب بالنذر، ثم إذا شرط في النذر أن يصوم إن كان صحيحا حاضرا صح شرطه، فكذلك إذا شرطه في الإحرام. ومنهم من قال: يصح هذا الشرط ويتعلق به الحكم قولا واحدا؛ لأن الشافعي إنما علق القول في الجديد على صحة حديث ضباعة وقد صح. إذا ثبت هذا: قال ابن الصباغ: فإن شرط أن يتحلل بالهدي تحلل به، وإن شرط أنه يتحلل من غير هدي تحلل بغير هدي، وإن شرط أنه إذا مرض صار حلالا، فمرض فالمنصوص: (أنه يصير حلالا)؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى» ولا يمكن حمل الخبر إلا على هذا. ولأن هذا التحلل مستفاد بالشرط، فوجب أن يكون على حسب الشرط ومقتضاه. ومن أصحابنا من قال: إنه لا بد من التحلل؛ لأن أصل هذا: هو حصر العدو، والمحصر بالعدو لا يخرج من إحرامه إلا بالتحلل، كذلك هذا مثله. قال الشيخ أبو حامد: وإذا وجد الشرط فهل يجب عليه الهدي؟ فيه وجهان: أحدهما: عليه الهدي؛ لأن الأصل في الإحصار هو حصر العدو، والمحصر بالعدو إنما يتحلل بالهدي، فكذلك هذا مثله. والثاني - وهو المنصوص -: أنه لا هدي عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لضباعة: «أحرمي واشترطي أن محلي حيث حبستني» ولم يأمرها بالهدي، وهذا وقت حاجتها إلى البيان، فلما لم يبين علم أنه ليس بواجب. ولأنه إذا شرط التحلل بالعذر فإحرامه لم يتضمن من الأفعال إلا إلى وقت العذر، فإذا وجد ذلك العذر فقد انتهت أفعال نسكه، فخروجه عن الإحرام هو بعد انتهاء أفعال النسك، فجرى مجرى غير المحصر، إذا أكمل أفعال النسك وخرج منها لا هدي عليه، كذلك هذا مثله. ويفارق هذا المحصر بالعدو؛ لأن إحرامه يتضمن أفعال النسك، فإذا تحلل بالحصر لزمه الدم لأجل ما ترك من أفعال النسك. وظاهر كلام صاحب "المهذب": هو الوجه الأول. فأما إذا شرط في إحرامه: أنه إذا شاء تحلل لم يصح هذا الشرط قولا واحدا؛ لأنه خروج من غير عذر فلم يصح.
وذهب مالك وأبو حنيفة إلى: أن بنفس الردة يحبط عمله، فإذا أسلم لم يجب عليه قضاء الصلوات والصيام وكان عليه قضاء الحج. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217]. فأخبر: أن عمله إنما يحبط بالردة والموت عليها. فمن قال: يحبط بنفس الردة فقد خالف نص الآية. ويدل على ذلك «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأقرع بن حابس، حين قال له: الحج في الدهر مرة واحدة أو أكثر يا رسول الله؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل مرة، وما زاد هو تطوع». وإن أحرم، ثم ارتد، ثم أسلم ففيه وجهان: أحدهما: يبطل إحرامه؛ لأنه إذا بطل الإسلام الذي هو أصل فلأن يبطل الإحرام الذي هو فرع أولى. والثاني: لا يبطل، كما لا يبطل بالجنون والموت، فيبني عليه. وبالله التوفيق
فإن كان ما يهديه من الإبل أو البقر فالسنة أن يقلدها ويشعرها. و(التقليد): هو أن يعلق في رقبتها نعلين. و(الإشعار): هو أن يشق صفحة سنامها الأيمن بحديدة حتى يدميها ويمسح بالدم على السنام. وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف، إلا أن مالكا وأبا يوسف قالا: (يشعرها في شق صفحة سنامها الأيسر). وقال سعيد بن جبير: لا يشعر البقر، وبه قال مالك إذا لم يكن لها سنام. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز الإشعار). دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنه فأشعرها بصفحة سنامها الأيمن، وسلت عنها الدم بيده، ثم قلدها نعلين، ثم أتى براحلته، فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج». وروى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة، فقلدها وأشعرها». ولأنها ربما ندت واختلطت بمال الغير فتتميز بذلك. ولأن اللص إذا رآها مشعرة تجنب أخذها. وربما عطبت ونحرت فتكون علامة لمن أراد أخذ لحمها. وإن كان الهدي من الغنم فالسنة أن يقلدها في رقابها خرب القرب - وهي: عرى القرب الخلقة اليابسة - ولا يقلدها النعال؛ لأن ذلك يثقلها ولا يشعرها؛ لأنها تضعف عنه، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يقلدها). دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى غنما مقلدة». فإن ترك الإشعار والتقليد جاز؛ لأن ذلك يراد للتمييز. وإذا أشعر هديه أو قلده فإنه لا يصير بذلك محرما حتى ينوي الإحرام. وقال ابن عباس: (إذا قلد هديه صار بذلك محرما). دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان يقلدها بيده، وكان لا يجتنب شيئا يجتنبه المحرم». ولأن هذا متجرد عن نية الإحرام، فلم يصر به محرما، كالاغتسال والتجرد عن المخيط.
قال الشافعي: (والأنثى أحب إلي من الذكر؛ لأنها أطيب لحما وأرطب، والضأن أحب إلي من المعز؛ لأن الضأن أطيب لحما). قال: (والفحل أحب إلي من الخصي؛ لأن الخصي ناقص). ولم يرد بـ (الفحل): المعد للضراب؛ لأن ذلك يهزله ويضره، فلا يكون لحمه طيبا، وإنما يريد: الذي لا ينزو على الإناث.
وإن كان الهدي نذرا زال ملكه عنه بالنذر، فلا يجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة. وقال أبو حنيفة: (لا يزول ملكه عنه، ويجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة وغير ذلك، لكن إن باعه اشترى بثمنه هديا مثله). دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله: إني أهديت نجيبا فأعطيت به ثلاثمائة دينار، أفأبيعه وأبتاع بثمنه بدنا؟ فقال: «لا، انحره» فمنعه من بيعه، وأمره بنحره. فلو جاز البيع لأمره به؛ لأن النجيب دقيق البدن قليل اللحم، والبدنة أكثر لحما منه، وأنفع للمساكين.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يركبه). دليلنا: «ما روى أبو الزبير قال: سألت جابرا عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا» هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وذكر المسعودي [في "الإبانة" ق \ 215] هل له أن يركبه؟ فيه وجهان، إن كان الركوب لا يضر الهدي. وإن كان الهدي المنذور أنثى فولدت تبعها الولد ونحر معها، سواء حملت به بعد النذر أو كانت حاملا به عند النذر؛ لما روي: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها، فقال: (لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فاذبحها، واذبح ولدها معها). ولأن الولد نماء الأم، وهي ملك للمساكين فملكوا ولدها. فإن أمكنه سوق الولد مع الأم ساقه، وإن لم يمكنه سوقه حمله على ظهر أمه؛ لما روي: (أن ابن عمر كان يحمل ولد البدنة عليها إلى أن يضحي). ويسقي الولد لبن أمه، فإن كان اللبن وفق كفاية الولد لم يجز للمهدي شرب شيء منه. وإن فضل عن كفاية الولد شيء، أو مات الولد وبقي اللبن كان للمهدي شربه. فإن قيل: الولد نماء الأم، واللبن نماؤها فكيف جاز للمهدي شرب اللبن دون أكل الولد؟ قلنا: الفرق بينهما من وجوه: أحدها: أن بقاء اللبن في الأم يضر بها، وبقاء الولد لا ضرر فيه عليها. والثاني: أن اللبن يستخلف، فما يتلفه يعود غيره، فدخلت فيه المسامحة. والثالث: أن اللبن لو جمع لفسد وبطلت منفعته، بخلاف الولد. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 215] من أصحابنا من قال: في اللبن وجهان، كالركوب، وليس بشيء. وقال أبو حنيفة: (ليس له شرب لبنها، وإنما ينضح ضرعها بالماء حتى يجف لبنها). دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33]. واللبن من المنافع لحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والمستحب: أن يتصدق باللبن؛ ليحصل له القربة بها، وبما يحدث منها. وإن كان على الهدي صوف، فإن كان في تركه مصلحة له، بأن يكون في وقت البرد لم يجزه؛ لأنه ينتفع به الهدي والمساكين. وإن كان في جزه مصلحة، بأن يكون في وقت الحر جزه، والأولى أن يتصدق به، فإن انتفع به المهدي جاز كاللبن.
في يده، فلم يضمنه من غير تفريط، كالوديعة. وإن أصابه عيب ذبحه ولم يجب عليه بدله؛ لأنه لو هلك جميعه لم يجب عليه بدله فكذلك إذا هلك بعضه. وقال أبو جعفر الأستراباذي من أصحابنا: يجب عليه إبداله سليما. وهو قول أبي حنيفة - وليس بشيء.
إذا ثبت هذا: فلا يجوز للمهدي أن يأكل منه؛ لأنه واجب عليه، ولا يجوز لأغنياء رفقته؛ لأن الهدي لا حق فيه للأغنياء. قال ابن الصباغ: وكذلك سائقه وقائده، ولا يختلف المذهب: أنه لا يحل له الأكل منه. وأراد: وإن كان فقيرا؛ لأنه متهم في التقصير بعلفه وسقيه. وهل يجوز لفقراء رفقته أن يأكلوا منه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لحديث ابن عباس، ولأن فقراء الرفقة متهمون في إعطابه طمعا في أكله، فحسم الباب لينحسم طمعهم فيه. والثاني: يجوز؛ لأنهم فقراء، فشابهوا غيرهم. ومن قال بهذا حمل الخبر على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أن تلك الرفقة لا فقير فيها. إذا ثبت هذا: فإن الهدي لا يصير للفقراء مباحا إلا باللفظ، وهو أن يقول: أبحته للفقراء والمساكين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنا له، وقال: «ليقتطع من شاء منكم» وإنما لم يصر مباحا إلا بالقول؛ لأن له أن يخص به من شاء من الفقراء، كما قلنا في الزكاة. فإذا أذن المالك جاز لمن سمع الإذن أو علمه أن يأخذ منه، وأما من لم يسمع الإذن ولا أخبر به فهل يجوز له أن يأخذ منه إذا وجده مذبوحا مشعرا؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يحل له حتى يعلم الإذن لجواز أن يكون تطوعا، أو كان واجبا وأراد أن يخص به بعض الفقراء. والثاني: يحل له وإن لم يعلم الإذن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر بهذه العلامة من الدم لهذه العلة، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث الأسلمي لم يأمره أن يخص به قوما دون قوم. وإن أخر ذبحه حتى مات وجب عليه الضمان؛ لأنه فرط بتركه، فلزمه الضمان، كالمودع إذا رأى من يسرق الوديعة فسكت عنه. فإن قيل: أليس لو نذر عتق عبد، فأخر إعتاقه حتى مات لم يجب عليه ضمانه؟ قلنا: الفرق بينهما: أن المستحق للعتق هو العبد وقد تلف، وهاهنا المستحق للهدي هم الفقراء، وهم مجودون.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجب عليه قيمته يوم التلف). دليلنا: أنه لزمه الإراقة والتفرقة وقد فوت الجميع، فلزمه ضمانهما، كما لو أتلف شيئين. فإن كانت القيمة مثل ثمن مثله اشترى بها هديا مثله. وإن كان الثمن أقل من قيمة هدي مثله لزمه أن يشتري مثله. وإن كانت أكثر، فإن أمكنه أن يشتري بها هديين مثله اشترى بها هديين، وإن لم يمكنه اشترى هديا مثله، وفي الفاضل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشتري جزءا من حيوان؛ لأن الإراقة مستحقة وقد فوتها، فإذا أمكنه لم يتركها. والثاني: يشتري به اللحم ويتصدق به؛ لأنه أقرب. والثالث - وهو الصحيح -: أنه يتصدق بالقيمة؛ لأن الإراقة تشق، فسقطت فكان إيجاب القيمة أولى من دفع اللحم. وإن أتلفه أجنبي وجبت عليه القيمة يوم التلف لا غير، والفرق بينه وبين المهدي: أن المهدي وجبت عليه الإراقة، وهذا لم تجب عليه الإراقة، فإن أمكنه أن يشتري بالقيمة هديا مثله اشترى بها، وإن رخص الهدي وقت الشراء فأمكنه أن يشتري بالقيمة هديين مثله اشترى بها هديين، وإن أمكنه أن يشتري بها هديا مثله وبقي هناك بقية لا يمكنه أن يشتري بها هديا آخر ففي البقية الأوجه الثلاثة. وهكذا لو لم يمكنه أن يشتري بالقيمة هديا مثله؟ بأن غلا الهدي وقت الشراء فقد ذكرنا: أنه لا يلزمه إلا القيمة فقط، وفيما يصنع بها الأوجه الثلاثة. وإن اشترى هديا ونذر إهداءه، ثم وجد به عيبا لم يكن له رده، كما لو اشترى عبدا وأعتقه، ثم وجد به عيبا. فعلى هذا: يرجع بالأرش كما قلنا في العبد، وفيما يأخذه من الأرش وجهان: أحدهما قال عامة أصحابنا: يصرفه إلى المساكين؛ لأنه بدل عن الجزء الفائت الذي التزمه بالنذر، فإن لم يمكنه أن يشتري به هديا ففيه الأوجه الثلاثة. والثاني: قال ابن الصباغ: يكون المشتري أحق به؛ لأن الأرش إنما وجب له؛ لأن عقد البيع اقتضى سلامته وذلك حق للمشتري، وإنما أوجبه وهو في ملكه، فلا يستحق الفقراء ما أوجبه عقد الشراء. ولأن العيب قد لا يؤثر في اللحم، فلا يكون ذلك مؤثرا في المقصود.
فإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك فقد تحلل من عمرته. وإن قلنا: إن الحلاق نسك لم يتحلل إلا به؛ إلا أن المستحب أن ينحر قبل الحلق، كما أن السنة للحاج: أن ينحر بمنى بعد الرمي وقبل الحلق. وفي أي موضع من مكة والحرم نحر فيه أجزأه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى وفجاج مكة كلها منحر». وإن كان الهدي للتمتع أو للقران فوقت استحباب ذبحه يوم النحر، ووقت جوازه بعد الفراغ من العمرة، وبعد الإحرام بالحج، وهل يجوز ذبحه بعد الفراغ من العمرة، وقبل الإحرام بالحج؟ فيه قولان مضى ذكرهما. وإن كان الهدي منذورا نحره يوم النحر وأيام التشريق، فإن أخره عن ذلك نحره بعد ذلك وكان قضاء. وإن أخر التطوع عن يوم النحر وأيام التشريق لم يكن هديا، وإنما يكون شاة لحم.
وإذا نحر الهدي فالمستحب: أن يقسم اللحم بين الفقراء والمساكين؛ ليكون أعظم للأجر، فإن سلمه إليهم مشاعا ليقتسموه بينهم جاز لما روي: أنه «قرب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس بدنات فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت جنوبها قال: «من شاء فليقتطع». فإن قيل: أليس النثار عندكم مكروها؟ قلنا: الفرق بينهما: أن النثار لا يزيل ملك صاحبه، وإنما يزول ملك صاحبه عنه إذا أخذ، فربما أخذه من لا يحب صاحبه أن يأخذه، وهاهنا قد زال ملك المهدي عن الهدي، فإذا وقع الذبح، ثم سلمه إليهم فقد سلم إليهم ملكهم، فكان لهم أخذه. ويجب عليه أن يسلم إليهم جميع لحم الهدي وجلده؛ لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمرني رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنه، وأقسم لحمها وجلودها وجلالها في المساكين، ولا أعطي الجازر منها شيئا» فإن كان الجازر فقيرا جاز أن يعطي منه لحق الفقر، وقوله: (ولا أعطي الجازر منها شيئا) أي: لحق الأجرة؛ لأن أجرة الجازر على المهدي. قال الشافعي في القديم: (ويعطي النعال التي قلدها المساكين). قال أصحابنا: هذا مستحب؛ لأنه ليس من أصل الهدي. فإن لم يفرق اللحم حتى أنتن قال الشافعي: (كان عليه قيمته). وذكر في (مختصر الحج): (أن عليه الإعادة). قال الشيخ أبو حامد: فيها قولان: أحدهما: عليه إعادة الذبح، أو يضمنه بمثله؛ لأنه فرط. والثاني: عليه قيمة اللحم. قال: وهو الصحيح؛ لأن الذبح قد وجد، وإنما بقي إيصال اللحم إلى المساكين، فإن تركه حتى أنتن فقد أتلفه، واللحم لا مثل له، فضمنه بقيمته. وقوله: (عليه الإعادة) أراد: إعادة القيمة وإخراجها إلى المساكين. |