فصل: تفسير الآيات رقم (151- 153)

مساءً 6 :41
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏139‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏خالصةٌ‏}‏‏:‏ خبر ل ‏{‏ما‏}‏، وأنثه؛ حملاً على المعنى، لأن ‏{‏ما‏}‏ واقعة على الأجنة، وذكّر ‏{‏محرم‏}‏؛ حملاً على لفظ ‏{‏ما‏}‏، ويحتمل أن تكون التاء للمبالغة، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏تكن‏}‏، بالتأنيث، فالمراد‏:‏ الأجنة، ومن قرأ بالتذكير فراعى لفظ ‏{‏ما‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقالوا ما‏}‏ استقر ‏{‏في بطون هذه الأنعام‏}‏، بمعنى‏:‏ البحائر والسوائب، من الأجنة، ‏{‏خالصة لذكورنا‏}‏ لا يشاركون فيه، ‏{‏ومحرم على أزواجنا‏}‏ أي‏:‏ نسائنا، يعني‏:‏ أن ما يولد للبحائر والسوائب، قالوا هو حلال لذكورهم دون نسائهم، هذا إن وُلد حيًا، ‏{‏وإن يكن ميتة‏}‏؛ بأن ولد ميتًا ‏{‏فهم فيه شركاء‏}‏؛ فالذكور والإناث سواء، ‏{‏سيجزيهم وصفهم‏}‏ أي‏:‏ سيجزيهم على ما صفوا وافترا على الله من الكذب في التحليل والتحريم، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 62‏]‏، ‏{‏أنه حكيم‏}‏ في صنعه، ‏{‏عليم بخلقه‏}‏؛ فيجزي كلاًّ على قدر جُرمه‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن جيفة الدنيا اشترك النساء مع الرجال فيها، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء‏}‏، والزهد في النساء قليل بالنسبة إلى الرحال، واعلم أيضًا أن الحق تعالى يجازي عبده جزاء موافقًا لوصفه، فإن كان وصفه التعظيم لكل شيء عظمه الله، ومن كان وصفه التصغير صغره الله، ومن كان وصفه الإحسان أحسن الله إليه، ومن كان وصفه الإساءة أساء الله إليه، ومن كان وصفه الفرق فرقه الله، ومن كان وصفه الجمع جمعه الله، وهكذا‏:‏ كما تدين تدان، كما تقابل الأشياء تقابلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏سفهًا‏}‏‏:‏ حال أو مصدر، وكذلك‏:‏ ‏{‏افتراء‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قد خسر الذين قتلوا أولادهم‏}‏؛ يعني‏:‏ العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي أو الفقر، ‏{‏بغير علم‏}‏ ولا دليل؛ لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله رازق أولادهم كما يرزقهم، وليسوا هم الرزاقين لهم، ‏{‏وحرَّموا ما رزقهم الله‏}‏ من البحائر والسوائب ونحوهما؛ ‏{‏افتراء على الله‏}‏ من عند أنفسهم، ‏{‏قد ضلوا وما كانوا مهتدين‏}‏ إلى الحق الصواب‏.‏

الإشارة‏:‏ قد خسر الذين ضيعوا قلوبهم فلم تنتج لهم شيئًا من أبكار الحقائق وأسرار العلوم، بل اشتغلوا بالسفه من القول والفعل، بغير علم ولا بصيرة نافذة، وحرموا ما رزقهم الله من العلوم والأسرار، لو طهروا قلوبهم، وخربوا ظواهرهم وخرقوا عوائدهم، لكنهم حكموا على فعل ذلك بالتحريم، تجمدوا على علم الرسوم وحفظ المروءة، والمروءة إنما هي التقوى والدين، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه، قد ضلوا عن طريق الوصول، وما كانوا مهتدين إلى طريق الخصوص، ما داموا على ما هم عليه من زيّ اللصوص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مختلفًا‏}‏‏:‏ حال مقدَّرة؛ لم يكن كذلك عند الإنشاء، والضمير في ‏{‏أُكله‏}‏‏:‏ يعود على النخل، والزرعُ مقيس عليه، أو للجميع؛ على تقدير‏:‏ كل واحد منهما‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأ‏}‏ أي‏:‏ خلق ‏{‏جنات‏}‏؛ بساتين مشتملة على كروم أي‏:‏ دوالي ‏{‏معروشات‏}‏ أي‏:‏ مرفوعة بالعرشان والدعائم، ‏{‏وغير معروشات‏}‏ أي‏:‏ مبسوطة على وجه الأرض، قيل‏:‏ المعروشات‏:‏ ما غرسه الناس في العمران، وغير المعروشات‏:‏ ما أنبته في الجبال والبراري‏.‏

‏{‏و‏}‏ أنشأ ‏{‏النخل والزرع مختلفًا أُكله‏}‏ أي‏:‏ ثمره الذي يؤكل منه، واختلافه في اللون والطعم والرائحة والحجم والهيئة والكيفية، وذلك دليل على عظمة القادر المريد، ‏{‏و‏}‏ أنشأ ‏{‏الزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه‏}‏ أي‏:‏ تتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم، ولا يتشابه بعضها‏.‏ ‏{‏كُلوا من ثمره‏}‏ أي‏:‏ من ثمر كل واحد منهما، ‏{‏إذا أثمر‏}‏ وإن لم يطب، قيل‏:‏ فائدة الأمر بالأكل‏:‏ رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله منه قبل الطيب، أي‏:‏ قبل أن تجب زكاته، وأما إذا طاب فلا بد من التخريص‏.‏

‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏؛ يريد‏:‏ ما كان يتصدق به يوم الحصاد، لا الزكاة المقدرة؛ لأنها فرضت بالمدينة، وكان ذلك واجبًا ثم نسخ بالعشر‏.‏ وقيل‏:‏ الزكاة حقيقةً، والآية مدنية، وقيل‏:‏ مكية، ولم يعيَّن قدرها إلا بالمدينة، والأمر بإتيانها يوم الحصاد؛ ليُهتم به حينئذٍ، حتى لا يؤخر عن وقت الأداء، خلاف ما يفعله العامة من خزنها مع ماله، حتى يدفعها في نوائب المخزن، وليعلم أن الوجوب بالإفراك والطيب، لا بالتصفية، ولذلك شرع التخريص، ‏{‏ولا تُسرفوا‏}‏ بصرفها في غير محلها، ولا تتعدوا ما أمرتم به فتجعلوا ما أنشأ الله للأصنام، أو‏:‏ لا تسرفوا في التصدق بالكل، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ ‏[‏الإسرَاء‏:‏ 29‏]‏، ‏{‏إنه لا يحب المسرفين‏}‏ أي‏:‏ لا يرضى فعلهم‏.‏

وهو الذي أنشأ جنات المعارف لمن خرق عوائده، معروشات بشهود أسرار الحبروت، وغير معروشات بشهود أنوار الملكوت، أو معروشات بشهود المعاني مع الأواني، وغير معروشات بشهود الأواني فقط، أو معروشات بشهود المؤثر والأثر، وغير معروشات بشهود المؤثر فقط، ولكها ترجع لمعنى واحد، والمعروش أرفع من غيره وأكمل، والأول‏:‏ مقام البقاء والصحو، والثاني‏:‏ مقام الفناء والسكر، والنخل والزرع‏:‏ الحقيقة والشريعة على اختلاف علومهما، والزيتون والرمان‏:‏ الأعمال والأحوال، متفقة وغير متفقة، وثمره‏:‏ حلاوة الشهود، فليأكل منها المريد إذا طاب وقته، ولا تُسرفوا في الأحوال، إنه لا يحب المسرفين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 144‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏142‏)‏ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏143‏)‏ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏حَمولة وفرشًا‏}‏‏:‏ عطف على جنات، و‏{‏ثمانية أزواج‏}‏‏:‏ بدل من حَمولة، و‏{‏من الضأن اثنين‏}‏‏:‏ بدل من ثمانية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أنشأ أيضًا ‏{‏من الأنعام‏}‏ أنعامًا ‏{‏حَمولة‏}‏؛ ما يحمل الأثقال، كالكبار منها، ‏{‏وفَرشَا‏}‏؛ ما لا يحمل، كالصغار لدنوها من الأرض، أو حمولة للإبل، وفرشًا للغنم، لأنها تفرش للذبح، ويُفرَشُ ما ينسج من صوفها، ‏{‏كلوا مما رزقكم الله‏}‏ أي‏:‏ كلوا ما أحل الله لكم منها، ‏{‏ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ في التحليل والتحريم من عند أنفسكم، ‏{‏إنه لكل عدو مبين‏}‏؛ ظاهر العداوة‏.‏

ثم فصلها فقال‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏؛ ذكر وأنثى من كل صنف، والصنف‏:‏ ما معه آخر من جنسه يزاوجه، ثم بيَّنها فقال‏:‏ ‏{‏من الضأن اثنين‏}‏؛ ذكر وأنثى؛ كبش ونعجة، ‏{‏ومن المعز أثنين‏}‏؛ التيس وهو الذكر، والعنز وهي الأنثى، ‏{‏قل‏}‏ لهم ‏{‏آلذكرين‏}‏ أي‏:‏ ذكر الضأن والمعز، ‏{‏حرَّم أم الأنثيين‏}‏ منهما‏؟‏ ‏{‏أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين‏}‏ من الأجنة ذكرًا كان أو أنثى‏؟‏ ‏{‏نبّئوني بعلم‏}‏ يدل على أن الله تعالى حرم شيئًا من ذلك، ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ في دعوى التحريم عليه‏.‏

‏{‏ومن الإبل اثنين‏}‏؛ ذكر وأنثى، ‏{‏ومن البقر اثنين‏}‏ كذلك‏.‏ ‏{‏قل آلذكرين حرَّم أم الأُنثيين‏}‏ أم حرم ما ‏{‏اشتملت عليه أرحام الأُنثيين‏}‏ من الجنين مطلقًا‏؟‏ وهذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله، وتوبيخ لهم، حيث حرموا بعض الذكور مرة وبعض الأناث مرة، فألزمهم تحريم جميع الذكور، إن كان علة التحريم وصف الذكورة، أو تحريم جميع الإناث، إن كانت العلة الأنوثة، أو تحريم الجميع إن كان المُحرم ما اشتملت عليه الأرحام، ولا وجه للتخصيص، فالاستفهام للإنكار، وأكده بقوله‏:‏ ‏{‏أم كنتم شهداء‏}‏ حاضرين حين ‏{‏وصّاكم الله بهذا‏}‏ التحريم، ولا طريق لكم إلى معرفة هذا إلا المشاهدة والسماع، وليس لك شيء من ذلك، وإنما أنتم مفترون على الله‏.‏

‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا‏}‏؛ فنسب إليه تحريم ما لم يحرم، والمراد‏:‏ كبراؤهم الأوائل كعمرو بن لحي وأمثاله، أي‏:‏ لا أحد أظلم ممن كذب على الله، ‏{‏ليُضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ إلى مراشدهم، أو إلى ما ينفعهم‏.‏

الإشارة‏:‏ ومن الأحوال ما تحمل صاحبها إلى مقام الحرية، بشهود الربوبية، فيغلب عليه العز والاستظهار، ومنها ما تحمله إلى مقام العبودية، فيغلب عليه الذل والإنكسار، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏حمولة وفرشًا‏}‏، فليتمتع المريد بما يظهر عليه منهما، ولا يتبع خطوات الشيطان فيتعدى طوره، ولا يعرف قدره‏.‏

وهذه الأحوال ثمانية أنواع‏:‏ أربعة سفلية تناسب العبودية، وأربعة علوية تناسب الربوبية‏.‏ فالإربعة السفلية‏:‏ الذل، والفقر، والعجز والضعف‏.‏ والأربع العلوية‏:‏ العز، والغنى، والقدرة، والقوة‏.‏ فمن أراد التعلق بهذه الأوصاف فليناد من كوة الذل‏:‏ يا عزيز من للذليل سواك‏؟‏، ومن كوة الفقر‏:‏ يا غني من للفقير سواك‏؟‏، ومن كوة العجز‏:‏ يا قدير من للعاجز سواك‏؟‏ ومن كوة الضعف‏:‏ يا قوي من للضعيف سواك‏؟‏، ير الإجابة طوع يديه، ومن أراد التحقيق بها، فليتحقق بذله يمده بعزه، وليتحقق بفقره يمده بغناه، وليتحقق بعجزه يمده بقدرته، وليتحقق بضعفه يمده بقوته، «تحقق بوصفك يمدك بوصفه»‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏لا أجد فيما أُوحي إليَّ‏}‏ في القرآن أو مطلق الوحي، ‏{‏محرمًا‏}‏ أي‏:‏ طعامًا محرمًا، ‏{‏على طاعم يطعمه‏}‏، أو يطعم منه غيره، ‏{‏إلاَّ أن يكون‏}‏ الطعام ‏{‏ميتة‏}‏، وفي قراءة بالتاء؛ لتأنيث الخبر، ‏{‏أو‏}‏ يكون ‏{‏دمًا مسفوحًا‏}‏ أي‏:‏ مصبوبًا كدم المنحر، ‏{‏أو لحم خنزير فإنه رجس‏}‏ أي‏:‏ خبيث، قيل‏:‏ إنه يورث عدم الغيرة بالخاصية ‏{‏أو‏}‏ يكون ‏{‏فسقًا‏}‏، من صفته‏:‏ ‏{‏أُهِلَّ لغير الله به‏}‏ أي‏:‏ ذبح لغير الله، وذكر عليه اسم الصنم، وإنما سمي فسقًا؛ لتوغله في الفسق‏.‏

والآية تقتضي حصر المحرمات، فيما ذكر، وقد جاء في السنة تحريم أشياء لم تذكر هنا، كلحوم الحمر الإنسية والكلاب، وغيرها، فذهب قوم إلى أن السنة نسخت هذا الحصر، وذهب آخرون إلى أن الآية وردت على سبب، فلا تقتضي الحصر، وذهب آخرون إلى أن ما عدا ما ذكر‏:‏ مكروه‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ والآية مُحكمة؛ لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أُوحي إليه إلى تلك الغاية محرمًا غير هذه، ولا ينافي ورود التحريم في شيء آخر، فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد، ولا على حل الأشياء غيرها، إلا مع الاستصحاب‏.‏ ه‏.‏

ثم استثنى المضطر، فقال‏:‏ ‏{‏فمن اضطُرَّ‏}‏ إلى تناول شيء من ذلك، ‏{‏غير باغٍ‏}‏ على مضطر مثله، ‏{‏ولا عادٍ‏}‏ أي‏:‏ متجاوز قدر الضرورة، ‏{‏فإن ربك غفور رحيم‏}‏ لا يؤاخذه‏.‏

الإشارة‏:‏ الأحوال كلها تتقوت منها الروح، إلا ما كان غير مباح في الشرع، فلا سير فيه، والمراد بالأحوال‏:‏ خرق عوائدها، بكل ما يثقل عليها، وأما ما كان محرمًا في الشرع فلا بركة في تناوله؛ لأنه رجس، وأجازه بعض الصوفية محتجًا بقضية لص الحمام، وفيه مقال، فمن اضطر إلى تناوله، لغلبة حال عليه، غير قاصد لمخالفة الشرع، فإن الله غفور رحيم، وعليه حمل بعضهم قصة لص الحمَّام‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الحوايا‏}‏ هي الأمعاء، أي‏:‏ المصارين التي فيها البعر، وتسمى المباعر، جمع حوية، فعيلة، فوزنها على هذا‏:‏ فعائل، فصنع بها ما صنع بهرَاوا، وقيل‏:‏ جمع حاوية، فوزنها‏:‏ فواعل، كقوارب، وهو عطف على ما في قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما حملت‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏}‏؛ ماله أصبع، كالإبل والأوز والنعام، وغيرها من الحيوان، الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر، وقيل‏:‏ كل ذي مخلب وحافر، وسمي الحافر ظفرًا؛ مجازًا‏.‏

‏{‏ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما‏}‏ كالثروب وشحوم الكُلى، ‏{‏إلا ما حملت ظُهورهما‏}‏ أي‏:‏ إلا ما علق من الشحم بظهور البقر والغنم، فهو حلال عليهم، لكنهم اليوم لا يأكلونه، حدثني شيخي الفقيه الجنوي أنه سأل بعض أحبارهم‏:‏ هل هو حرام في كتابكم‏؟‏ فقال له‏:‏ لا، لكنهم قاسوه سدًا للذريعة‏.‏ ه‏.‏ فلما شددوا شدد الله عليهم، ‏{‏أو الحوايا‏}‏ أي‏:‏ ما احتوت عليه الأمعاء والحشوة مما يتحوى في البطن من الشحوم، فهو حلال عليهم ‏{‏أو ما اختلط بعظم‏}‏ في جميع الجسد، فإنه حلال عليهم، لكنهم شددوا فحرموا الجميع عقوبة من الله ‏{‏ذلك‏}‏ التحريم جزاءٌ ‏{‏جزيناهم‏}‏ به بسبب بغيهم، أي‏:‏ ظلمهم، ‏{‏وإنا لصادقون‏}‏ فيما أخبرنا به من التحريم، وفي ذلك تعريض بكذب من حرّم غير ما حرم الله‏.‏

الإشارة‏:‏ يؤخذ من الآية أن الذنوب والمعاصي تضيق على العبد لذائذ متعته، وتقتر عليه طيب رزق بشريته، وتضيق عليه آيضًا حلاوة المعاملة في قلبه، ولذة الشهود في روحه وسره، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك جزيناهم ببغيهم‏}‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىَ ءَامَنُواْ وَاتَّقوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتِ مِنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 96‏]‏، وقال في شأن القلب‏:‏ ‏{‏إِن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفَال‏:‏ 29‏]‏، أي‏:‏ نورًا يفرق بين الحق والباطل، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِمُكُمُ اللهُ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 282‏]‏، أي‏:‏ علمًا لدُّنيا، فالمعصية كلها تُبعد العبد من الحضرة، إن لم يتب، والطاعة كلها تقرب من الحضرة‏.‏ والتنعم إنما هو على قدر القرب، ونقصانه على قدر البُعد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فإن كذبوك‏}‏ يا محمد، ‏{‏فقل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏ربكم ذو رحمة واسعة‏}‏ يُمهلكم على التكذيب، فلا تغتروا بإمهاله؛ فإنه يُمهل ولا يُهمل‏.‏ ولذلك أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يُرَدُّ بأسه عن القوم المجرمين‏}‏ حيث ينزل بهم، أو ذو رحمة واسعة على المطيعين، وذو بأس شديد على المجرمين، فأقام مقامه‏:‏ ‏{‏ولا يُرَدُّ بأسه عن القوم المجرمين‏}‏، لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم، مع الدلالة على أنه لازب لا يمكن رده‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وفي ابن عطية‏:‏ ولكن لا تغتروا بسعة رحمته، فإن له بأسًا لا يُرد عن القوم المجرمين‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ يُؤخذ من تقديم الرحمة الواسعة على البأس الشديد أن جانب الرجاء أقوى من جانب الخوف؛ لأن حسن الظن بالله مطلوب من العبد على كل حال، لأن الرجال وحسن الظن يستوجبان محبة العبد وإيحاشه إلى سيده بخلاف الخوف، وهذا مذهب الصوفية‏:‏ أن تغليب الرجاء هو الأفضل في كل وقت، ومذهب الفقهاء أن حال الصحة ينبغي تغليب الخوف لينزجر عن العصيان، وحال المرض يغلب الرجاء؛ إذ لا ينفع حينئذٍ، فالصوفية يرون أن العبد معزول عن الفعل، فليس له قدرة على فعل ولا ترك‏.‏ وإنما ينظر ما تفعل به القدرة، فهو كحال المستشرف على الموت‏.‏ والفقهاء يرون أن العبد له كسب واختيار‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 150‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏(‏148‏)‏ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏149‏)‏ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏هَلُم‏}‏‏:‏ اسم فعل، وهو عند البصريين بسيط، وعند الكوفيين مركب‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏سيقول الذين آشركوا‏}‏ في الاحتجاج لأنفسهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله‏}‏ عدم شركنا ‏{‏ما أشركنا ولا‏}‏ أشرك ‏{‏آباؤنا ولا حرمنا من شيء‏}‏ من البحائر وغيرها، فلو لم نكن على حق مرضى عند الله ما أمهلنا ولا تركنا عليه؛ فإمهاله لنا وتركه لنا على ما نحن فيه دليل على أنه أراده منا‏.‏

والجواب عن شُبهتهم‏:‏ أنه خلاف ما أنزل الله على جميع رسله، والحق تعالى لم يتركهم على ذلك، بل بعث لهم الرسل يكلفهم بالخروج عنه، والإرادة خلاف التكليف، وأيضًا‏:‏ قولهم هذا لم يصدر منهم على وجه الاعتذار؛ وإنما صدر منهم على وجه المخاصمة والاحتجاج‏.‏ ولا يصح الاحتجاج بالقدر‏.‏ والحاصل أنهم تمسكوا بالحقيقة ورفضوا الشريعة، وهو كفر وزندقة، إذ لا بد من الجمع بين الحقيقة في الباطن، والتمسك بما جاءت به الرسل من الشريعة في الظاهر، وإلاَّ فهو على باطل‏.‏

ولذلك ردّ الله تعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك كذب الذين من قبلهم‏}‏ الرسل، فتمسكوا بالحقيقة الظلمانية، ‏{‏حتى ذاقوا بأسنا‏}‏ أي‏:‏ عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏هل عندكم من علم‏}‏ يدل على أن الله أمركم بالشرك، وتحريم ما أحل، وأنه رضي ذلك لكم، ‏{‏فتخرجوه‏}‏ أي‏:‏ فتظهروه ‏{‏لنا‏}‏، بل ‏{‏إن تتبعون‏}‏ في ذلك ‏{‏إلا الظن‏}‏ ولا تحقيق عندكم، ‏{‏وإن أنتم إلا تخرصون‏}‏؛ تكذبون على الله تعالى، وفيه دليل على أن الظن لا يكفي في العقائد‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏فللَّه الحجة‏}‏ على عباده، ‏{‏البالغة‏}‏، حيث بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وأمروا بتوحيد الله وطاعته، فكل من خالفهم قامت الحجة عليه، هذا باعتبار التشريع الظاهر، وأما باعتبار باطن الحقيقة، فالأمور كلها بيد الله؛ يضل من يشاء بعدله، ويهدي من يشاء بفضله، ‏{‏فلو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين، ‏{‏لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 23‏]‏، فقول المشركين‏:‏ ‏{‏لو شاء الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، حق في نفسه، لكنهم لم يعذَروا؛ لإهمالهم الشريعة‏.‏

‏{‏قل هلُم‏}‏ أي‏:‏ أحضروا، ‏{‏شهداءكم‏}‏ أي‏:‏ كبراءكم وأئمتكم، ‏{‏الذين يشهدون أن الله حرّم هذا‏}‏، استحضرهم ليلزمهم الحجة، ويَظهر بانقطاعهم ضلالهم، وألاَّ متمسك لهم في ذلك‏.‏ ثم قال لنبيه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏فإن شهدوا‏}‏ بشيء من ذلك، ‏{‏فلا تشهد معهم‏}‏ أي‏:‏ لا تصدقهم وبيِّن لهم فساده؛ ‏{‏ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا‏}‏، والأصل أن يقول‏:‏ ولا تتبع أهواءهم، فوضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على أن مكذب الآية متبع الهوى لا غير، وأن متبع الحق لا يكون إلا مصدقًا لها‏.‏ ‏{‏و‏}‏ تتبع أيضًا ‏{‏الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏؛ كعبدة الأوثان، ‏{‏وهم بربهم يعدلون‏}‏؛ يجعلون له عديلاً ومثيلاً‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الحقّ جلّ جلاله كلف عباده في هذا الدار، بالقيام بوظيفتين‏:‏ الشريعة والحقيقة، الشريعة محلها الظواهر، والحقيقة محلها البواطن، الشريعة تقتضي التكليف، والحقيقة تقتضي التعريف، الشريعة شهود الحكمة، والحقيقة شهود القدرة، وجعل الشريعة رداء الحقيقة ولباسًا لها، ثم جعل سبحانه في القلب عينين، وتسمى البصيرة، إحداهما تنظر للحكمة فتقوم بالشرائع، والأخرى تنظر للقرة فتقوم بالحقائق‏.‏ فقوم فتحوا عين الحقيقة وأعموا عين الشريعة، وهم أهل الكفر والزندقة، ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا‏}‏، وقوم فتحوا عين الشريعة وأهملوا عين الحقيقة، ثم وهم عوام المسلمين من أهل اليمن، فلذلك طال خصمهم للمقادير الأزلية مع إقرارهم بها، فإن أنكروها فقد عَمِيَتْ بصيرتهم‏.‏

وقوم أحبهم الله، ففتح لهم عين الحقيقة، فأسندوا الأفعال كلها إلى الله ولم يروا معه سواه، فتأدبوا في الباطن مع الأشياء كلها، وفتح لهم عين الشريعة فقاموا بوظائف العبودية على المنهاج الشرعي، وهم الأولياء العارفون بالله، فمن تمسك بالحقائق العلمية دون الشرائع كان زنديقًا، ومن تمسك بالشرائع دون الحقائق كان فاسقًا، ومن تمسك بهما كان صدِّيقًا، فمن رام تمسك بالشرائع، ولم تُسعفه الأقدار، فإن كان عن سُكر وجذب فهو معذور، وإن كان عن كسل فهو مخذول، وإن كان عن إنكار لها فهو مطرود معدود من حزب الشيطان، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏151- 153‏]‏

‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏152‏)‏ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏تعالوا‏}‏‏:‏ أمر من التعالي، وأصله‏:‏ أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل، فاتسع فيه بالتعميم في كل أمر بالقدوم، و‏{‏ألاَّ تشركوا‏}‏‏:‏ فيه تأويلات؛ أحدها‏:‏ أن كون مفسرة لا موضع لها، و‏{‏لا‏}‏‏:‏ ناهية جزمت الفعل، أو تكون مصدرية في موضع رفع، أي‏:‏ الأمر ألاَّ تشركوا، و‏{‏لا‏}‏‏:‏ نافية حينئذٍ، أو بدل من ‏{‏ما‏}‏ و‏{‏لا‏}‏‏:‏ زائدة، أو على حذف الإغراء، أي‏:‏ عليكم إلا تشركوا‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ والأحسن أن يكون ضَمَّنَ ‏{‏حرَّم‏}‏ معنى وَصَّى، وتكون ‏{‏أن‏}‏ مصدرية، و‏{‏لا‏}‏ نافية، ولا تفسد المعنى؛ لأن الوصية في المعنى تكون بتحريم وتحليل وبوجوب وندب، ويدل على هذا قوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏ذلكم وصاكم به‏}‏ ولا ينكر أن يريد بالتحريم الوصية؛ لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص، وتريد به العموم، كما تذكر اللفظ العام وتريد به الخصوص، فتقدير الكلام على هذا‏:‏ قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم، ثم أبدل منه، على وجه التفسير والبيان، فقال‏:‏ ألاَّ تشركوا، ووصاكم بالإحسان بالوالدين، وهكذا‏.‏‏.‏ فجمعت الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين، وما بعد ذلك‏.‏ انظر بقية كلامه‏.‏

وإنما قال الحق سبحانه‏:‏ ‏{‏من إملاق‏}‏، وقدّم الكاف في قوله ‏{‏نرزقكم‏}‏، وفي الإسراء قال‏:‏ ‏{‏خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ‏}‏ ‏[‏الإِسرَاء‏:‏ 31‏]‏، وأخر الكاف؛ لأن ما هنا نزل في فقراء العرب، فكان الإملاق نازلاً بهم وحاصلاً لديهم، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏من إملاق‏}‏، وقدم الخطاب لأنه أهم‏.‏ وفي الإسراء نزلت في أغنيائهم، فكانوا يقتلون خوفًا من لحوق الفقر، لذلك قال‏:‏ ‏{‏خشية إملاق‏}‏، وقدم الغيبة فقال‏:‏ ‏{‏نحن نرزقهم‏}‏؛ حين نخلقهم وإياكم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏تعالَوا‏}‏ أي‏:‏ هلموا، ‏{‏أتلُ‏}‏ أي‏:‏ أقرأ ‏{‏ما حرم ربكم عليكم‏}‏، واجتمعت عليه الشرائع قبلكم، ولم يُنسخ قط في ملة من الملل، بل وصى به جميع الملل، و‏{‏ألاَّ تُشركوا به شيئًا‏}‏ بل توحدوه وتعبدوه وحده، ‏{‏و‏}‏ أن تحسنوا ‏{‏بالوالدين إحسانًا‏}‏، ولا تُسيئوا إليهما؛ لأن من أساء إليهما لم يحسن إليهما‏.‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم من إملاق‏}‏ أي‏:‏ من أجل الفقر الحاصل بكم، وكانت العرب تقتل أولادها خوفًا من الفقر فنزلت فيهم، فلا يفهم منه إباحة قتلهم لغيره، ‏{‏نحن نرزقكم وإياهم‏}‏، فلا تهتموا بأمرهم حتى تقتلوهم‏.‏

‏{‏ولا تقربوا الفواحش‏}‏؛ كبار الذنوب ‏{‏ما ظهر منها‏}‏ للناس ‏{‏وما بَطَنَ‏}‏ في خلوة، أو‏:‏ ما ظهر منها على الجوارح، وما بطن في القلوب من العيوب، ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق‏}‏؛ كالقود، وقتل المرتد، ورجم المحصن‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحلُّ دَمُ امرىءٍ مُسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ‏:‏ زِنَىً بعد إحصَانٍ، وكُفرٍ بعد إيمَانٍ، وقَتل نَفسٍ بغيرِ نَفسٍ»

‏{‏ذلكم‏}‏ المتقدم، ‏{‏وصّاكم به لعلكم تعقلون‏}‏، فتتدبرون فيما ينفعكم وما يضركم‏.‏

‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي‏}‏ بالخصلة التي ‏{‏هي أحسن‏}‏؛ كحفظه وتثميره‏.‏ والنهي عن القرب‏:‏ يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة؛ لأنه إذا نهى عن القرب كان الأكل أولى، ‏{‏حتى يبلغ أشده‏}‏ وهو البلوغ مع الرشد، بحيث يعرف مصالح نفسه ويأمن عليه التبذير، فيدفع له، ‏{‏وأوفوا الكيل والميزان بالقسط‏}‏؛ بالعدل والتوفية، ‏{‏لا نُكلِّف نفسًا إلا وسعها‏}‏؛ إلا ما يسعها ولا يعسر عليها، ولمَّا أمر بالقسط في الكيل والوزن، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج أمر بالوسع في ذلك وعفا عما سواه‏.‏

‏{‏وإذا قلتم‏}‏ في حكومة ونحوها، ‏{‏فاعدلوا ولو كان‏}‏ المقول له في شهادة أو حكومة ‏{‏ذا قربى‏}‏؛ فيجب العدل في ذلك، ‏{‏وبعهد الله أوفوا‏}‏ أي‏:‏ ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع، أو ما عاهدتم مع عباده، ‏{‏ذلكم وصّاكم به لعلكم تذكرون‏}‏؛ تتعظون به‏.‏

‏{‏وأنَّ هذا‏}‏ أي‏:‏ ما تقدم في السورة كلها، ‏{‏صراطي مستقيمًا فاتبعوه‏}‏؛ لأن السورة بأسرها إنما هي في إثبات التوحيد، والنبوة، وبيان الشريعة، ‏{‏ولا تتبعوا السُّبل‏}‏؛ الأديان المختلفة والطرق التابعة للهوى، فإن مقتضى الحجة واحد، ومقتضى الهوى متعدد؛ لاختلاف الطبائع والعادات، ولذلك تَفرقت‏.‏ والمراد بالطرق‏:‏ اليهودية والنصرانية وغيرهما من الأديان الباطلة، ويدخل فيه البدع والأهواء، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطًا، ثم قال‏:‏ «هذا سبيل الله»، ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال‏:‏ «هذه سُبُلٌ، وعلى كُلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يَدعُو إليها» ‏{‏ذلكم‏}‏ الاتباع ‏{‏وصّاكم به لعلكم تتقون‏}‏ الضلال والتفرق عن الحق‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ قد وصّى الحقّ جلّ جلاله على التخلص من الشرك، جليه وخفيه، ولا يكون إلا بتحقيق الإخلاص والتوحيد الخاص‏.‏ وهو مطلب الصوفية، وبالإحسان بالوالدين الروحانيين والبشريين، أي‏:‏ والد الأرواح وهو الشيخ المربي ووالد الأشباح، ولا بد للمريد من طاعتهما، إلاَّ أنه يقدم طاعة الشيخ، كما تقدم عن الجنيد في ‏(‏سورة النساء‏)‏‏.‏

ووصى بعدم قتل الأولاد، وهم المواهب والعلوم بإهمال القلب في الغفلة، وعدم قرب الفواحش‏:‏ الظاهرة الحسية، والباطنية القلبية؛ كالحسد، والكبر، وحب الجاه والدنيا، وسائر العيوب‏.‏ وعدم قتل النفس بالانهماك في الهوى والغفلة حتى تموت بالجهل عن المعرفة‏.‏ وعدم قرب مال اليتيم، وهو الذي ليس له شيخ، فإن الغالب عليه عدم المسامحة، وسيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ أَرِنِيَ أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 143‏]‏، إشارة لها أرق من هذه، وعلى التوفية في الأمور كلها؛ لأن الصوفي من أهل الصفاء والوفاء، وعلى الصدق في الأقوال والأفعال والأحوال‏.‏ وعلى الوفاء بالعهد، وأعظمها عهد الشيوخ المُربين، وعلى اتباع طريق السلوك الموصلة للحضرة وهي ما عينه الشيوخ للمريدين، فلا يتعدى نظرهم ولو لحظة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏‏:‏ هنا للترتيب الإخباري، وقال ابن جزي‏:‏ هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها، فصح الترتيب‏.‏ وقال البيضاوي‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ للتفاوت في الرتبة، كأنه قيل‏:‏ ذلكم وصاكم به قديمًا وحديثًا، ثم أعظم من ذلك‏:‏ أنا آتينا موسى الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ وهو عطف على ‏{‏وصّاكم‏}‏، و‏{‏تمامًا وتفصيلاً‏}‏‏:‏ حالان، أو علتان، أو مصدران‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ نخبرك أنا ‏{‏آتينا موسى الكتاب‏}‏؛ التوراة، ‏{‏تمامًا على الذي أحسن‏}‏ القيام به من بني إسرائيل، ويدل عليه قراءة‏:‏ ‏{‏أحسنوا‏}‏، أي‏:‏ تمامًا للنعمة على العاملين به، أو تمامًا على موسى الذي أحسن القيام به، أي‏:‏ آتيناه الكتاب تفضلاً وإتمامًا للنعمة؛ جزاء على ما أحسن من طاعة ربه وتبليغ رسالته، ففاعل أحسن‏:‏ ضمير موسى‏.‏ أو‏:‏ ‏{‏تمامًا‏}‏ أي‏:‏ إكمالاً على ما أحسن الله به إلى عباده، فالفاعل على هذا‏:‏ ضمير الله تعالى، ‏{‏وتفصيلاً‏}‏ أي‏:‏ تبيينًا ‏{‏لكل شيء‏}‏ يحتاجون إليه في الدين‏.‏ ‏{‏وهدى‏}‏ أي‏:‏ هداية للظواهر، ‏{‏ورحمة‏}‏ للقلوب، ‏{‏لعلهم‏}‏ أي‏:‏ بني إسرائيل، ‏{‏بلقاء ربهم‏}‏ للجزاء، ‏{‏يُؤمنون‏}‏ إيمانًا صحيحًا، وهو اللقاء بالأجسام والأرواح، والنعيم أو العذاب للأشباح‏.‏ الله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من أحسن عبادة ربه في الظاهر، وحقق في الباطن، أتم الله عليه نعمته بشهود ذاته وأنوار صفاته، ووهب له علومًا لدنية تفصل له ما أشكل، يكون له هداية لزيادة الترقي، ورحمةً يتهيأ بها قلبه لوحي الإلهام والتلقي‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 157‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏155‏)‏ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏156‏)‏ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أن تقولوا‏}‏‏:‏ مفعول له، أي‏:‏ كراهة أن تقولوا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وهذا‏}‏ القرآن ‏{‏كتاب أنزلناه مبارك‏}‏ كثير النفع ‏{‏فاتبعوه‏}‏ في الأصول والفروع، ‏{‏واتقوا‏}‏ الشرك والمعاصي، ‏{‏لعلكم تُرحمون‏}‏ ببركة أتباعه؛ فتحيا به قلوبكم، وتنتعش به أرواحكم، وإنما أنزلناه؛ كراهة ‏{‏أن تقولوا يوم القيامة‏}‏ في الحجة‏:‏ ‏{‏إنما أُنزل الكتابُ على طائفتين من قبلنا‏}‏؛ اليهود والنصارى، وإنما خصهما بالذكر لشهرتهما دون الكتب السماوية، ‏{‏وإن كنا‏}‏ وإنه، أي‏:‏ الأمر والشأن، كنا ‏{‏عن دراستهم‏}‏ أي‏:‏ قراءتهم ‏{‏لغافلين‏}‏ أي‏:‏ كنا غافلين عن قراءة أهل الكتاب، لا ندري ما هي ولا نعرف مثلها، أو لم ندرس مثل دراستهم، ولم نعرف ما درسوا من الكتب، فلا حجة علينا، فقد قامت الحجة عليكم بنزول القرآن‏.‏

‏{‏أو‏}‏ كراهة أن ‏{‏تقولوا‏}‏ أيضًا‏:‏ ‏{‏لو أنا أُنزل علينا الكتابُ‏}‏ كما أنزل إليهم، ‏{‏لكُنا أهدى منهم‏}‏ لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا، ولذلك تلقفنا فنونًا من العلم، كالقصص والأشعار والخطب والأنساب، مع كوننا أميين، قال تعالى لهم‏:‏ ‏{‏فقد جاءكم بينة من ربكم‏}‏ وهو القرآن؛ حجة واضحة تعرفونها؛ ‏{‏وهدى ورحمةٌ‏}‏ لمن تدبره وعمل به، ‏{‏فمن أظلم‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم ‏{‏ممّن كذَّب بآيات الله‏}‏ بعد أن عرف صحتها، ‏{‏وصَدَف‏}‏؛ أعرض ‏{‏عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب‏}‏؛ ألمه وقبحه، ‏{‏بما كانوا يصدفون‏}‏ أي‏:‏ يعرضون ويصدون عنها‏.‏

الإشارة‏:‏ جعل الله رحمة القلب وحياة الأرواح في شيئين‏:‏ في التمسك بالقرآن العظيم وتدبر معانيه، واتباع أوامره واجتناب نواهيه، وفي التحصن بالتقوى جهد استطاعته، فبقدر ما يتحقق بهذين الأمرين تقوى حياة قلبه وروحه وسره، حتى يصل بالحياة السرمدية، وبقدر ما يُخل بهما يحصل له موت قلبه وروحه، والإنسان إنما فضل وشرف بحياة قلبه وروحه، لا بحياة جسمه، ولا حجة له أن يقول‏:‏ كنت مريضًا ولم أجد من يعالجني، ففي كل زمان رجال تقوم الحجة بهم على عباد الله، فيقال لهم‏:‏ قد جاءكم بينة من ربكم، وهو الولي العارف، وهدى ورحمة لأهل عصره، لمن تمسك به وصحبه، وأما من أعرض عنه بعد معرفته فلا أحد أظلم منه، ‏{‏فَمَن أظلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏ أي‏:‏ ما ينتظر أهل مكة ‏{‏إلا أن تأتيهم الملائكة‏}‏ لقبض أرواحهم، أو بالعذاب، لأجل كفرهم، وهم لم يكونوا ينتظرون ذلك، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين، ‏{‏أو يأتي ربك‏}‏ أي‏:‏ أمره بالعذاب، ‏{‏أو يأتي بعض آيات ربك‏}‏ يعني‏:‏ أشراط الساعة‏.‏

وعن حذيفة والبراء بن عازب‏:‏ كنا نتذاكر الساعة، إذ أشرق علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «ما تداكرون» قلنا‏:‏ نتذاكر الساعة، فقال‏:‏ «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات‏:‏ الدجال ودابة الأرض، وخسفًا بالمشرق، وخسفًا بالمغرب، وخسفًا بجزيرة العرب، والدخان، وطلوع الشمس مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونارًا تخرج من عدن»‏.‏

‏{‏يوم يأتي بعض آيات ربك‏}‏، وهو طلوع الشمس من مغربها، كما في حديث الصحيحين، قال الأقليشي‏:‏ وذلك أن الله تعالى، إذا أراد طلوعها من مغربها، حبسها ليلة تحت العرش، فكلما سجدت وأستأذنت لم يجر لها جواب، حتى يحبسها مقدار ثلاث ليال، فيأتيها جبريل عليه السلام فيقول‏:‏ إن الرب تعالى يأمرك أن ترجعي إلى مغربك فتطلعي منه، وأنه لا ضوء لك عندنا ولا نور، فتبكي عن ذلك بكاء يسمعها أهل السبع سماوات، ومن دونها، وأهل سرادقات العرش وحملته من فوقها، فيبكون لبكائها مما يخالطهم من خوف الموت، وخوف يوم القيامة، قال‏:‏ فيبيت الناس ينتظرون طلوعها من المشرق، فتطلع الشمس والقمر خلف أقفيتهم من الغرب، أسودين مُكدرين، كالقارتين، ولا ضوء للشمس ولا نور للقمر، فيتصايح أهل الدنيا، وتذهل الأمهات عن أولادها، والأحبة عن ثمرة قلوبها، فتشتغل كل نفس بنفسها، ولا ينفع التوحيد حينئذٍ‏.‏ ه‏.‏

وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها‏}‏؛ كالمختصر إذا صار الأمر عيانًا، وإنما ينفع الإيمان بالغيب، وقد فات يومئذٍ، فلا ينفع الإيمان نفسًا ‏{‏لم تكن آمنت من قبل‏}‏؛ ولا تنفع التوبة من المعاصي وترك الواجبات حينئذٍ؛ لقوله‏:‏ ‏{‏أو كسبت في إيمانها خيرًا‏}‏ أي‏:‏ لا ينفع نفسًا مؤمنة لم تكن كسبت خيرًا قبل ذلك اليوم، حيث كانت فرطت فيه قبل‏:‏ وينفع اكتسابه بعد‏.‏

والحاصل‏:‏ أن طلوع الشمس من مغربها يُغلق بعده بابُ التوبة؛ فلا يقبل الإيمان من كافر، ولا التوبة من عاصٍ، وأما الإيمان المجرد عن العمل، إذا كان حاصلاً قبل ذلك اليوم، فإنه ينفع على مذهب أهل السنة، وكذلك العاصي بالبعض ينفعه بعض الذي كان يعمله، كالزاني مثلاً، إذا كان يصلي، فتنفعه صلاته ويعاقب على العصيان، وهكذا، والمنفي قبوله‏:‏ إنما هو الخير المتروك قبل ذلك اليوم، فلا ينفع استدراكه بعد‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل انتظروا‏}‏ إتيان أحد الثلاثة؛ الملائكة بعذابكم، أو أمر الله تعالى بإهلاككم، أو بعض آياته، ‏{‏إنا منتظرون‏}‏ ذلك، لنا الفوز وعليكم الويل‏.‏

الإشارة‏:‏ ما ينتظر الغافلون والمنهمكون في اللذات والشهوات والإعراض عن الله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم فجأة، فيموتون على الغفلة، فتنزل بهم الحسرة والندم، وقد زلت القدم بهم، أو يأتي أمر الله بطردهم والطبع على قلوبهم، فلا ينفعهم وعظ ولا تذكير، أو يأتي بعض آيات ربك؛ مصيبة أو داهية تثقل قلوبهم عن التوجه إلى الله، وجوارحهم عن طاعة الله‏.‏ فالغافل والعاصي بين هذه الثلاثة، إن لم يقلع ويتب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين فرقوا دينهم‏}‏؛ فآمنوا بالبعض وكفروا بالبعض، وهم اليهود والنصارى، وقيل‏:‏ أهل الأهواء والبدع، فيكون إخبارًا بغيب، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» قيل‏:‏ يا رسول الله، وما تلك الواحدة‏؟‏ قال‏:‏ «من كان على ما أنا عليه وأصحابي»‏.‏

وقرىء‏:‏ «فارقوا» أي‏:‏ تركوا دينهم، ‏{‏وكانوا شيعًا‏}‏؛ جمع شيعة، أي‏:‏ فرقًا متشيعة، كل فرقة تتشيع لمذهبها وتتشيع إمامها، أي‏:‏ تنتسب إليه‏.‏ ‏{‏لستَ منهم في شيء‏}‏ أي‏:‏ أنت بريء منهم، فلست في شيء من السؤال عنهم وعن تصرفهم، أو عن عقابهم، وقيل‏:‏ هو نهي عن التعرض لهم؛ فيكون منسوخًا بآية السيف، ‏{‏إنما أمرهم إلى الله‏}‏ يتولى جزاءهم، ‏{‏ثم ينبئُهم بما كانوا يعملون‏}‏ من التفرق فيعاقبهم عليه‏.‏

الإشارة‏:‏ الافتراق المذموم، إنما هو في الأصول؛ كالتوحيد وسائر العقائد، فقد افترقت المعتزلة وأهل السنة في مسائل منه، فخرج من المعتزلة اثنان وسبعون فرقة، وأهل السنة هي الفرقة الناجية، وأما الاختلاف في الفروع فلا بأس به، بل هو رحمة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خلاف أمتي رحمة»، كاختلاف القراء في الروايات، واختلاف الصوفية في كيفية التربية، فكل ذلك رحمة وتوسعه على الأمة المحمدية، إذ كل من أخذ بمذهب منها فهو سالم، ما لم يتبع الرخص‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ما دامت الصوفية بخير ما افترقوا، فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم‏.‏ ومعنى ذلك‏:‏ إنما هو في التناصح والإرشاد والنهي بعضهم لبعض عما لا يليق في طريق السير، فإذا سكت بعضهم عن بعض؛ مداهنةً وحياءً فلا خير فيهم، وأما قلوبهم فلا بد أن تكون متفقة متوددة، لا بغض فيها ولا تحاسد، وإلا لم يكونوا صوفية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة‏}‏ قولية أو فعلية أو قلبية، ‏{‏فله عشر أمثالها‏}‏ من الحسنات، فضلاً من الله، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة، وبغير حساب، ولذلك قيل‏:‏ المراد بالعشر‏:‏ الكثرة دون العدد، ‏{‏ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى إلا مثلها‏}‏؛ قضية للعدل، ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ بنفس الثواب وزيادة العقاب‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما تضاعف أعمال الجوارح وما كان من قبل النيات، وأما أعمال القلوب فأجرها بغير حساب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 10‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة» وق الشاعر‏:‏

كُلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبي *** قَدْرُه كَأَلْفِ حِجَّهْ

وقد تقدم هذا في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏161‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏دينًا‏}‏‏:‏ بدل من محل، «صراط»؛ لأن الأصل‏:‏ هداني صراطًا مستقيمًا دينًا قيمًا، و‏{‏قَيَّمًا‏}‏‏:‏ فيعل من القيام، فهو أبلغ من مستقيم، ومن قرأ بكسر القاف‏:‏ فهو مصدر وصف به؛ للمبالغة، و‏{‏ملة إبراهيم‏}‏‏:‏ عطف بيان الدين، ‏{‏وحنيفًا‏}‏‏:‏ حال من إبراهيم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم‏}‏ بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج والآيات، ‏{‏دينًا قيمًا‏}‏؛ مستقيمًا يوصل من تمسك به إلى جوار الكريم، في حضرة النعيم، وهو ‏{‏ملة إبراهيم‏}‏ أي‏:‏ دينه، حال كونه ‏{‏حنيفًا‏}‏‏:‏ مائلاً عما سوى الله، ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏، وهو تعريض لقريش، الذين يزعمون أنهم على دينه، وقد أشركوا بالله عبادة الأوثان‏.‏

الإشارة‏:‏ قد أخذ الصوفية من هذا الدين القيم، الذي هدى الله إليه نبيه عليه الصلاة والسلام خلاصته ولبابه، فأخذوا من عقائد التوحيد‏:‏ الشهود والعيان على طريق الذوق والوجدان؛ ولم يقنعوا بالدليل والبرهان، وأخذوا من الصلاة‏:‏ صلاة القلوب، فهم على صلاتهم دائمون من صلاة الجوارح، على نعت قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏]‏، وأخذوا من الزكاة‏:‏ زكاة نفوسهم بالرياضة والتأديب وإضافة الكل إليه‏.‏ ‏(‏العبد وما كسب لسيده‏)‏، مع أداء الزكاة الشرعية لمن وجبت عليه‏.‏ وكان الشيخ أبو العباس السبتي رضي الله عنه يعطي تسعة أعشار زرعه، ويمسك العشر لنفسه‏.‏

وأخذوا من الصيام‏:‏ صيام الجوارح كلها، مع صيام القلب عن شهود السِّوى‏.‏ وأخذوا من الحج‏:‏ حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب، فالكعبة تشتاق إليهم وتطوف بهم، كما تقدم في آل عمران، ومن الجهاد‏:‏ الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفوس، وهكذا مراسم الشريعة كلها عندهم صافية خالصة من الشوائب، بخلاف غيرهم، فلم يأخذ منها إلا قشرها الظاهر وعمل الأشباح، فهي صُور قائمة لا روح فيها؛ لعدم الإخلاص والحضور فيها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 164‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏162‏)‏ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏163‏)‏ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ربًّا‏)‏‏:‏ حال من ‏(‏غير‏)‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏إن صلاتي ونسكي‏}‏ أي‏:‏ عبادتي كلها، وقرباتي أو حجي، ‏{‏ومحياي ومماتي‏}‏ أي‏:‏ وعملي في حياتي، وعند موتي من الإيمان والطاعة، أو الحياة والممات أنفسهما، ‏{‏لله رب العالمين لا شريك له‏}‏ أي‏:‏ هي خالصة لله لا أشرك فيها غيره، ‏{‏وبذلك‏}‏ أي‏:‏ بذلك القول والإخلاص، أمرني ربي، ‏{‏وأنا أول المسلمين‏}‏؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏أغير الله أبغي ربًا‏}‏ فأشرك مع الله، ‏{‏وهو ربُّ كل شيء‏}‏؛ لأن كل شيء مربوب لا يصلح للربوبية‏.‏ وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم‏.‏ ‏{‏ولا تَكسِبُ كلُّ نفس‏}‏ من شرك أو غيره ‏{‏إلا عليها‏}‏ وزره، فلا ينفعني ضمانكم وكفالتكم من عقاب ربي، وهو رد على الكفار حيث قالوا له‏:‏ اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وأخراك، ثم أوضح ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تزر‏}‏ أي‏:‏ تحمل نفس ‏{‏وازرة‏}‏ أي‏:‏ آثمة ‏{‏وزر‏}‏ نفس ‏{‏أخرى‏}‏ أي‏:‏ لا يحمل أحد ذنوب أحد، ‏{‏ثم إلى ربكم مرجعكم‏}‏ بالبعث والحساب، ‏{‏فينبئُكم‏}‏، أي‏:‏ يُخبركم ‏{‏بما كنتم فيه تختلفون‏}‏ من أمر الدين؛ فيبين الرشد من الغي، والمحق من المبطل‏.‏

الإشارة‏:‏ الإخلاص سر من أسرار الله، يُودعه القلب من أحب من عباده، وهو أخلاص العبودية لله وحده، ولا يتحقق ذلك للعبد إلا بعد تحرره من رق الهوى وخروجه من سجن وجود نفسه، وهذا شيء عزيز‏.‏ ولذلك قيل‏:‏

وقال الشيخ أبو طالب المكي رضي الله عنه‏:‏ الإخلاص عند المخلصين‏:‏ إخراج الخلق من معاملة الخالق، وأول الخلق‏:‏ النفسن والإخلاص عند المحبين‏:‏ ألا يعمل عملاً لأجل النفس، وألاَّ يدخل عليه مطالعة العوض، أو تشوف إلى حظ طبع، والإخلاص عند الموحدين‏:‏ خروج الخلق من النظر إليهم، أي‏:‏ لا يرون مع الله غيره في الأفعال، وترك السكون إليهم، والاستراحة إليهم في الأحوال‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعلكم خلائف الأرض‏}‏ أي‏:‏ يخلف بعضكم بعضًا، أو خلفاء الله في أرضه؛ تتصرفون فيها بإذنه، على أن الخطاب عام، أو خلفاء الأمم السابقة، على أن الخطاب للمسلمين، ‏{‏ورفع بعضكم فوق بعض درجات‏}‏ في الشرف والغناء والقوة والجاه، وفي العلوم والأعمال والأحوال والإخلاص والمعارف، وغير ذلك مما يقع به التفاضل بين العباد، ‏{‏ليبلوكم فيما آتاكم‏}‏ أي‏:‏ ليختبر شكركم على ما أعطاكم، وأعمالَكم فيما مكنكم فيه من الخلافة‏.‏

‏{‏إن ربك سريع العقاب‏}‏ لمن كفر نعمه، إما في الدنيا لمن عجل أخذه؛ لأن كل آت قريب، ‏{‏وإنه لغفور رحيم‏}‏ لمن شكر نعمه وآمن وعمل بطاعته، جمع بين التخويف والترجيه ليكون العبد بينهما‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ من شرف هذا الآدمي أن جعله خليفة عنه، في ملكه، يتصرف فيه بنيابته عنه، ثم إن هذا التصرف يتفاوت على قدر الهمم، فبقدر ما ترتفع الهمة عن هذا العالم يقع للروح التصرف في هذا الوجود، فالعوام إنما يتصرفون فيما ملَّكهم الله من الأملاك الحسية‏.‏ والخواص يتصرفون بالهمة في الوجود بأسره، وخواص الخواص يتصرفُون بالله، أمرُهم بأمر الله، إن قالوا لشيء‏:‏ كن يكون بإذن الله، مع إرادة الله وسابق علمه وقدره، وإلا فالهمم لا تخرق أسوار الأقدار، والحاصل‏:‏ أن من بقي مع الأكوان شهودًا وافتقارًا، كان محبوسًا معها، ومن كان مع المكون كانت الأكوان معه، يتصرف فيها بإذن الله، خليفة عنه فيها، وهم متفاوتون في ذلك كما تقدم‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعلكم خلائف الأرض‏}‏ أي‏:‏ خلفاء عنه تتصرفون في الوجود بأسره بأرواحكم، وأنتم في الأرض بأشباحكم، ‏{‏ورفع بعضكم فوق بعض درجات‏}‏؛ من أقطاب وأوتاد ونجباء ونقباء وغير ذلك، مما هو مذكور في محله‏.‏ خرطنا الله في سلكهم ومنحنا ما منحهم، بمنَّه وكرمه، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حبيبه ونبيه‏.‏ آمين والحمد لله رب العالمين‏.‏

سورة الأعراف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏المص ‏(‏1‏)‏‏}‏

إما أن تكون مختصرة من المصطفى، على عادة العشاق؛ يرمزون إلى ذكر بعض حروف المحبوب، اتقاء الرقباء، أي‏:‏ يا أيها المصطفى المختار لرسالتنا؛ هذا كتاب أنزل إليك، وإما أن تشير إلى العوالم الثلاثة‏:‏ الجبروت والملكوت والملك‏.‏ وزاد هنا الصاد، إشارة إلى صدقه فيما يُخبر به من علم الغيوب، ولذلك ذكر هنا جملة من القصص والأخبار‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ كان الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يتكلم مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء، وما جرى عليهم في الدهور والأعصار، وشأنه معهم في الأسرار والحقائق والشرائع، وأراد أن يخصه صلى الله عليه وسلم بشريعته، وما يكون من طريقته الخاصة إلى حضرته، ويخبره بما كان وما يكون، أشار إلى هذه الأشياء بحروف التهجي، واعلمه سر ذلك بخفي الإشارة ولطيف الخطاب، وعلم تعالى أنه عليه الصلاة والسلام يعرف بتلك الإشارة مراده من علم سابق، ونبأٍ صادق، وعلم تعالى أن عموم أمته لا تعرف تلك الإشارة، فعبَّر عنها بسورة طويلة من القرآن؛ ليعرفوا مراده سبحانه من خطابه، وخواص أمته ربما تطلع على سر بعضها، كالصحابة والتابعين والمتقدمين من العلماء والأولياء، كأنَّ حروف المقطعات رموز ومعاني سور القرآن، لا يعرف تلك الرموز إلا الربانيون والأحبار من الصديقين‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كتاب‏}‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ هذا كتاب، و‏{‏أُنزل‏}‏‏:‏ صفته، والحرج‏:‏ الضيق، و‏{‏لتنذر‏}‏‏:‏ متعلق بأُنزل، أو بلا يكن، لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار، وكذا إذا لم يخفهم، و‏{‏ذكرى‏}‏‏:‏ يحتمل النصب بإضمار فعل، أي‏:‏ لتُنذر ولتذكر ذكرى، والجر عطف على ‏{‏لتنذر‏}‏، أي‏:‏ للإنذار والتذكير، والرفع عطف على ‏{‏كتاب‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ هذا ‏{‏كتابٌ أُنزل إليك‏}‏ من ربك، ‏{‏فلا يكن في صدرك حرجٌ منه‏}‏ أي‏:‏ ضيق وثقل من أجل تبليغه لمن يُكذب به، مخافة أن تكذّب فيه، أو مخافة أن تقصر على القيام بتبليغه، أو بحقوقه، وتوجيه النهي إلى الحرج للمبالغة، كقولك‏:‏ لا أرينك ها هنا، كأنه قال‏:‏ فلا يحرج صدرك منه، وإنما أنزلناه إليك لتُنذر به من بلغه، ‏{‏وذكرى للمؤمنين‏}‏ أي‏:‏ وتذكيرًا وموعظة للمؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بمواعظة‏.‏

الإشارة‏:‏ تذكير أهل الإنكار ووعظهم يحتاج إلى سياسة كبيرة وحلم كبير وصبر عظيم، لا يطيقه إلا الأكابر من أهل العلم بالله؛ كالأنبياء والصديقين، لسعة معرفتهم، واتساع صدورهم لحمل الجفاء وتحمل الأذى، ونهيه تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام عن ضيق صدره‏:‏ تشريع لورثته من بعده؛ الداعون إلى الله عز وجل وإلاَّ فهو صلى الله عليه وسلم بحر واسع، لا تكدره الدِّلاءُ، كما قال البوصيري‏.‏

فَهو البَحرُ والأَنَامُ إِضاء *** والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قليلاً‏}‏‏:‏ صفة لمصدرٍ، أو زمانٍ محذوف، أي‏:‏ تتذكرون تذكرًا قليلاً، أو زمانًا قليلاً، والعامل فيه‏:‏ تذكرون، و‏{‏ما‏}‏‏:‏ زائدة لتأكيد القلة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوا‏}‏ أيها الناس ‏{‏ما أُنزل إليكم من ربكم‏}‏ من أحكام القرآن والسنة؛ إذ كله وحي يوحى، ‏{‏وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ‏}‏ ‏[‏النّجْم‏:‏ 3‏]‏، ‏{‏ولا تتبعوا من دونه‏}‏ أي‏:‏ الله، ‏{‏أولياءَ‏}‏ من الجن والإنس يضلونكم عن دينه، أو‏:‏ ولا تتبعوا من دون ما أنزل إليكم أولياء، تتبعونهم فيما يأمرونكم به وينهونكم، وتتركون ما أنزل إليكم من ربكم، ‏{‏قليلاً ما تذكَّرون‏}‏‏:‏ تتعظون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره، بعد كما إنذاره ووضوح تذكاره، وذلك لانطماس البصيرة وعمي القلوب، والعياذ بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ اتباع الحبيب في أمره ونهيه يدل على صحة دعوى المحبة، ومخالفته يدل على بطلانها‏.‏

تَعصِي الإله وأنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ *** هذَا محَالٌ في القِيَاسِ بَدِيعُ

لَو كانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأطَعتَهُ *** إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطِيعُ

وجمع المحبة في محبوب واحد يدل على كمالها، وتفرق المحبة يدل على ضعفها، ولذلك قال الشاعر‏:‏

كَانَت لَقلبِي أهواءٌ مُفرَّقةٌ *** فَاستَجمَعَتْ مُذ رَأتكَ العَيْنُ أهوائي

فلا تجتمع المحبة في محبوب واحد إلا بعد كمال معرفة المحبوب، وشهود أنوار جماله وكمال أسراره‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ‏(‏4‏)‏ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏6‏)‏ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كم‏}‏‏:‏ خبرية، مفعول ‏{‏أهلكنا‏}‏، وهو على حذف الإرادة، أي‏:‏ في الحال أردنا إهلاكها، و‏{‏بياتًا أو هم قائلون‏}‏‏:‏ حالان، أي‏:‏ بائتين أو قائلين، وأغني الضمير في ‏{‏هم‏}‏ عن واو الحال‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ كثيرًا من القرى ‏{‏أهلكناها‏}‏ لما عصت أمرنا، وخالفت ما جاءت به رسلنا، ‏{‏فجاءها بأسُنَا‏}‏ أي‏:‏ عذابنا ‏{‏بياتًا‏}‏ أي‏:‏ ليلاً، كقوم لوط؛ قلبت مدينتهم، عاليها سافلها، وأرسلت عليهم الحجارة بالسَّحَر، ‏{‏أو هم قائلون‏}‏ نصف النهار، كقوم شعيب، نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وهو عذاب يوم الظلمة، وإنما خص الوقتين؛ لأنهما وقت دعة واستراحة، فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع‏.‏

‏{‏فما كان دعواهم‏}‏ أي‏:‏ دعاؤهم واستغاثتهم حين جاءهم بأسنا، ‏{‏إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين‏}‏ أي‏:‏ إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه، تحسرًا، أو‏:‏ ما كان دعاؤهم إلا قولهم‏:‏ ‏{‏يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىَ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 14، 15‏]‏‏:‏ ميتين، فإذا أحييناهم وبعثناهم من قبورهم، فوالله ‏{‏لنسألن الذين أُرسل إليهم‏}‏ عن قبول الرسالة وإجابة الرسل، ‏{‏ولنسألن المرسلين‏}‏ عما أُجيبوا به، والمراد بهذا السؤال‏:‏ توبيخ الكفرة وتقريعهم، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُسْئَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏ ‏[‏القَصَص‏:‏ 78‏]‏، فالمنفي‏:‏ سؤال استعلام؛ لأن الله أحاط بهم علمًا، أو الأول في موقف الحساب، وهذا عند حصول العقاب‏.‏

‏{‏فلَنقصَّنَّ عليهم‏}‏ أي‏:‏ على الرسل والأمم، فنقص على الرسل ما قُوبلوا به من تصديق أو تكذيب، وعلى الأمم ما قابلوا به الرسل من تعظيم أو إنكار، أو فلنقص على الرسل ما علمنا من قومهم حين يقولون‏:‏ ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 109‏]‏‏.‏ نقص ذلك عليهم ‏{‏بعلْمٍ‏}‏ وتحقيق؛ لاطلاعنا على أحوالهم، وإحاطة علمنا بسرهم وعلانيتهم‏.‏ ‏{‏وما كنا غائبين‏}‏ عنهم، فيخفى علينا شيء من أحوالهم، بل كنا حاضرين لديهم، محيطين بسرهم وعلانيتهم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما أهلك الله قومًا وعذبهم إلا بتضييع الشرائع أو إنكار الحقائق، فمن قام بهما معًا كان مصحوبًا بالسلامة، موصوفًا بالكرامة في الدارين، ومن ضيعهما أو أحدهما لحقه الوبال في الدارين، فإذا لحقه إهلاك لم يسعه إلا الإقرار بالظلم والتقصير، حيث فاته الحزم والتشمير، فإذا ندم لم نفعه الندم، حيث زلت به القدم، فالبدارَ البدارَ إلى التوبة والانكسار، والتمسك بشريعة النبي المختار، والتحقق بمعرفة الواحد القهار، وصحبة الصالحين الإبرار، والعارفين الكبار، قبل أن تصير إلى قبرك فتجده إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار‏.‏

وكما أن الحق تعالى يسأل الرسل عما أُجيبوا به، يسأل خلفاءهم وهم الأولياء والعارفون عما إذا قُوبلوا من تعظيم أو إنكار، فيرفع من عظمهم في أعلى عليين، ويحط من أنكرهم في محل أهل اليمين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏8‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الوزن‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏يومئذٍ‏}‏‏:‏ خبره، و‏{‏الحق‏}‏‏:‏ صفته، أي‏:‏ الوزن العدل حاصل يومئذٍ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والوزن‏}‏ أي‏:‏ وزن الأعمال، على نعت الحق والعدل، حاصل يوم القيامة، حين يسأل الرسل والمُرسل إليهم‏.‏ والجمهور على أن صحائف الأعمال تُوزن بميزان له لسان وكفتان، ينظر إليه الخلائق؛ إظهارًا للمعدلة وقطعًا للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم، فتعترف بها ألسنتهم، وتشهد بها جوارحهم، ويؤيده ما رُوِي‏:‏ «أن الرجل يُؤتى به إلى الميزان، فيُنشَر عليه تسعَةٌ وتِسعُونَ سِجلاًّ، كُلُّ سِجِلًّ مَد البَصَرِ، فَتُخرَحُ لَهُ بطَاقة فِيهَا كَلِمةُ الشهَادِة، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفةٍ، والبطاقة في كفّة، فَتثقُل البطاقةُ، وتَطِيشُ السِّجلاَّتُ»‏.‏

وقيل‏:‏ توزن الأشخاص؛ لما رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنّهُ ليأتِي العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيَامَة لا يَزنُ عندَ اللهِ تَعالى جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» والتحقيق‏:‏ أن المراد به الإهانة والتصغير، وأنه لا يساوي عند الله شيئًا؛ لاتباعه الهوى‏.‏

ثم فصل في الأعمال فقال‏:‏ ‏{‏فمن ثَقُلَتْ موازينه‏}‏ أي‏:‏ حسناته، أو الميزان الذي يوزن به حسناته، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن، فعلى الأول هو جمع موزون، وعلى الثاني جمع ميزان، فمن رجحت حسناته ‏{‏فأولئك هم المفلحون‏}‏ الفائزون بالنجاة والثواب الدائم، ‏{‏ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسَهُمْ‏}‏ بتضييع الفطرة السليمة التي فُطِروا عليها، واقتراف ما عرضها للهلاك، ‏{‏بما كانوا بآياتنا يَظلمُون‏}‏ حيث بدلوا التصديق بها بالتكذيب، والعمل فيها بالتفريط‏.‏ نسأل الله تعالى الحفظ‏.‏

الإشارة‏:‏ العمل الذي يثقل على النفس كله ثقيل في الميزان؛ لأنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقًا، والعمل الذي يخف على النفس كله خفيف؛ لأنه فيه نوع من الهوى؛ إذ لا يخف عليها إلا ما لها فيه حظ وهوى، وفي الحكم‏:‏ «إذا التبس عليك أمران، فانظر أثقلها على النفس فاتبعه؛ فإنه لا يثقل عليها إلا بما كان حقًا»‏.‏ وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ والله ما ثقل ميزان عبد إلا باتباعه الحق، وما خف إلا باتباعه الهوى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏والوزن يومئذٍ الحق‏}‏‏.‏ ه‏.‏ بمعناه ذكره في القوت‏.‏ وهذا في غير النفس المطمئنة، وأما هي فلا يثقل عليها شيء، وقد يثقل عليها الباطل، ويخف عليها الحق، لكمال رياضتها‏.‏ والله تبارك وتعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد مكناكم في الأرض‏}‏؛ تتصرفون فيها بالبناء والسكن، والغرس والحرس والزرع، وغير ذلك من أنواع التصرفات، ‏{‏وجعلنا لكم فيها معايش‏}‏‏:‏ أسبابًا تعيشون بها؛ كالتجارة وسائر الحرف، ‏{‏قليلاً ما تشكرون‏}‏ على هذه النعم، فتقابلون المنعم بالكفر والعصيان، فأنتم جديرون بسلبها عنكم، وإبدالها بالنقم، لولا فضله ورحمته‏.‏

الإشارة‏:‏ نعمة التمكين في الأرض متحققة في أهل التجريد، والمنقطعين إلى الله تعالى، فهم يذهبون في الأرض حيث شاؤوا، ومائدتهم ممدودة يأكلون منها حيث شاؤوا، فهم متمكّنون من أمر دينهم؛ لقلة عوائدهم، ومن أمر دنياهم؛ لأنها قائمة بالله، تجري عليهم أرزاقهم من حيث لا يحتسبون، تخدمهم ولا يخدمونها؛ «يا دنياي اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك»‏.‏ فمن قصّر منهم في الشكر توجه إليه العتاب بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد مكناكم في الأرض‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قليلاً ما تشكرون‏}‏، ومن تحقق شكره قيل له‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 18‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏11‏)‏ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏13‏)‏ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏15‏)‏ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ‏(‏17‏)‏ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم‏}‏ أي‏:‏ خلقنا أباكم آدم طينًا غير مصور، ‏{‏ثم صوّرناكم‏}‏ أي‏:‏ صوّرنا خلقة أبيكم آدم‏.‏ نزَّل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره؛ لأنه المادة الأصلية، أي‏:‏ ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا أباكم آدم، ثم صورناه، ‏{‏ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم‏}‏ تعظيمًا له، حيث وجد فيه ما لم يوجد فيهم، واختبارًا له ليظهر من يخضع ممن لم يخضع، ‏{‏فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين‏}‏ لآدم‏.‏

‏{‏قال‏}‏ له الحق تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ما منعك ألا تسجد‏}‏ أي‏:‏ تسجد، فلا‏:‏ زائدة، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه، ومنبهة على أن الموبَّخ عليه ترك السجود، وقيل‏:‏ الممنوع من الشيء كالمضطر إلى خلافه، فكأنه قال‏:‏ ما اضطرك إلى ترك السجود ‏{‏إذ أمرتك‏}‏‏.‏

وفيه دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور، فأجاب بقوله‏:‏ ‏{‏قال أنا خيرٌ منه‏}‏، أي‏:‏ المانع لي من السجود هو كوني أنا خير منه، ولا يحسُنُ للفاضل أن يسجد للمفضول، فكيف يحسُن أن يؤمر به، فإبليس هو الذي سنَّ التكبر، وقال بالتحسين والتقبيح العقليين أولاً، وبهذا الاعتراض كفر إبليس؛ إذ ليس كفره كفر جحود‏.‏

ثم بيَّن وجه الأفضلية، فقال‏:‏ ‏{‏خلقتني من نار وخلقته من طين‏}‏، فاعتقد أن النار خيرٌ من الطين، وقد غلط في ذلك، فإن الأفضلية إنما تظهر باعتبار النتائج والثمرات، لا باعتبار العنصر والمادة فقط، ولا شك أن الطين ينشأ منه ما لا يحصى من الخيرات؛ كالثمار والحبوب وأنواع الفواكه‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ رأى الفضل كله باعتبار العنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، كما أشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ‏}‏ ‏[‏صَ‏:‏ 75‏]‏ أي‏:‏ بغير واسطة، وباعتبار الصورة، كما نبه عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونفخت فيه من روحي‏}‏ وباعتبار الغاية، وهو ملاكه، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له؛ لما تبين لهم أنه أعلم منهم، وأنه له خواصًا ليست لغيره‏.‏ ه‏.‏

ولما تبين عناده قال له تعالى‏:‏ ‏{‏فاهبط منها‏}‏ أي‏:‏ من السماء أو من الجنة، ‏{‏فما يكونُ لك‏}‏ أي‏:‏ فما يصح لك ‏{‏أن تتكبَّر فيها‏}‏ وتعصى؛ فإنها موطن الخاشع المطيع، وفيه دليل على أن الكبر لا يليق بأهل الجنة، فإنه تعالى إنما أنزله وأهبطه؛ لتكبره لا لمجرد عصيانه، ‏{‏فاخرج إنك من الصاغرين‏}‏ أي‏:‏ ممن أهانه الله لتكبره‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ الله، ومَن تَكَبَّر وَضَعَه الله»‏.‏

ولما تحقق إبليس أنه مطرود، سأل الإمهال فقال‏:‏ ‏{‏أنظرني‏}‏ أي‏:‏ أخزني، ‏{‏إلى يوم يُبعثون‏}‏ فلا تمتني، ولا تعجل عقوبتي، ‏{‏قال إنك من المنظرين‏}‏؛ يقتضي أنه أجابه إلى ما سأل، لكنه محمول على ما في الآية الأخرى‏:‏

‏{‏إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ‏}‏ ‏[‏الحِجر‏:‏ 38‏]‏؛ وهو نفخ الصور النخة الأولى، ‏{‏قال فبِمَا أغويتني‏}‏ أي‏:‏ بعد أن أمهلتني لأجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني، بسبب إغوائك إياي، والله ‏{‏لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم‏}‏، وهو الطريق الذي يوصلهم إليك، فأقعد فيه، وأردهم عنه، ‏{‏ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم‏}‏؛ فآتيهم من الجهات الأربع، وذلك عبارة عن تسلطه على بني آدم كيفما أمكنه‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏من بين أيديهم‏}‏‏:‏ الدنيا يُزيّنها لهم، ‏{‏ومن خلفهم‏}‏‏:‏ الآخرة يُنسيها لهم، ‏{‏وعن أيمانهم‏}‏‏:‏ الحسنات يُثبطهم عنها، ‏{‏وعن شمائلهم‏}‏‏:‏ السيئات يُزينها في أعينهم‏.‏ ه‏.‏ ولم يجعل له سبيلاً من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم؛ لأن الرحمة تنزل من أعلى، فلم يحل بينهم وبينها، والإتيان من تحت موحش، وأيضًا‏:‏ السفليات محل للتواضع والخشوع، فتكثر فيه الأنوار فيحترق بها‏.‏ وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏لإنَّ فوق‏:‏ التوحيد، وتحت‏:‏ الإسلام، ولا يمكن أن يأتي من توحيد ولا إسلام‏)‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجدُ أكثرَهم شاكرين‏}‏؛ مطيعين، قال بعض الصوفية‏:‏ ‏(‏لو كان ثم مقام أعظم من الشكر لذكره إبليس‏)‏؛ فالشكر أعظم المقامات، وهو الطريق المستقيم الذي قعد عليه إبليس، والشكر‏:‏ هو إلا يُعصى الله بنعمه، أو‏:‏ صرف الجوارح كلها في طاعة الله، أو رؤية المنعم في النعمة، وإنما قال إبليس ذلك؛ ظنًا لقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ‏}‏ ‏[‏سَبَأ‏:‏ 20‏]‏، وسيأتي في الإشارة حقيقته‏.‏

‏{‏قال‏}‏ تعالى لإبليس‏:‏ ‏{‏اخرج منها‏}‏؛ من السماء أو الجنة، ‏{‏مذءومًا‏}‏ أي‏:‏ مذمومًا، من ذامه، أي‏:‏ ذمه، ‏{‏مدحورًا‏}‏ أي‏:‏ مطرودًا‏.‏ والله ‏{‏لمن تَبِعَكَ منهم‏}‏ في الكفر ‏{‏لأملانَّ جهنم منكم أجمعين‏}‏ أي‏:‏ منك وممن تبعك‏.‏

تنبيه‏:‏ ذكر الفخر الرازي، في تفسيره، عن الشهرستاني أن إبليس جرت بينه وبين الملائكة مناظرة بعد الأمر بالسجود لآدم، فقال لهم‏:‏ إني أسلم أن الله خالقي وموجدي، وهو موجد الخلق، ولكن لي على حكمته أسئلة‏:‏ الأول‏:‏ ما الحكمة في إيجاد خلقه، لا سيما وكان عالمًا بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام‏؟‏ الثاني‏:‏ ما الفائدة في التكليف، مع أنه لا يعود عليه نفع ولا ضرر، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غيره واسطة التكليف‏؟‏ الثالث‏:‏ هب أنه كلفني بطاعته ومعرفته، فلماذا كلفني بالسجود لآدم‏؟‏ الرابع‏:‏ لما عصيته فلمَ لعنني وأوجب عقابي، مع أنه لا فائدة له ولا لغيره منه، وفيه أعظم الضرر‏؟‏ الخامس‏:‏ لما فعل ذلك فلِمَ مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوسة آدم‏؟‏ السادس‏:‏ ثم لما فعل ذلك، فلم سلطني على أولاده‏.‏ ومكنني من إغوائهم وإظلالهم‏؟‏ السابع‏:‏ ثم لما استمهلته بالمدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني، ومعلوم أن العالم لو كان خاليًا من الشر لكان ذلك خيرًا‏.‏ ه‏.‏ قال شارح الأناجيل‏:‏ فأوحى الله إليه من سرادقات الكبرياء‏:‏ إنك ما عوفتني، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض عليَّ في شيء من أفعالي، فأنا الله لا إله إلا أنا لا أُسألُ عما أفعل‏.‏

قال الشهرستاني‏:‏ اعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون، وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات تخلصًا، أما إذا أجبنا بما أجاب به الحق سبحانه زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ من تشمرت فكرته بنور المعرفة، وعرف أسرار الحكمة والقدرة، لم يصعب عليه مثل هذه الشبهات، وسأذكر الجواب عنها على سبيل الاختصار‏:‏

أما الحكمة في أيجاد خلقهم؛ فخلقهم ليعرف بهم‏.‏ وفي الحديث القدسي‏:‏ «كنت كنزًا لم أعرف، فأحببت أن أعرف، فخلقت خلقًا لأعرف بهم»، وليظهر بهم آثار قدرته وأسرار حكمته‏.‏ وأما تعذيب الكافر بالآلام فليظهر فيه مقتضى اسمه المنتقم‏.‏

أما فائدة التكليف؛ فلتقوم الحجة على العبيد، وليتميز من يستحق الإحسان ممن يستحق العذاب، فإذا عذبه لم يكن ظالمًا له؛ ‏{‏وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏، ولتظهر صورة العدل في الجملة‏.‏ وأما تكليفه بالسجود لآدم؛ فلأنه ادعى المحبة، ومقتضاها الطاعة للحبيب في كل ما يشير إليه، ولا تصعب إلا في الخضوع للجنس، أو مَن دونه، فأمره بالسجود لمن دُونه في زعمه؛ ليظهر كذبه في دعوى محبته، وأما لعنه وطرده؛ فهو جزاء من كذب وعصى‏.‏ وهذا الطرد كان في علمه تعالى، ولكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأسباب وارتباطها بالمسببات، فكان امتناعه واعتراضه سببًا لإظهار ما سبق له في علم الله، كما كانت وسوسته لآدم سببًا في إظهار خروجه من الجنة السابق في علم الله‏.‏ وأما تمكينه من دخول الجنة؛ فليتسبب عنه هبوط آدم الذي سبق في علمه؛ لأن الحكمة اقتضت أن لكل شيء سببًا‏.‏ أما تسلطه على أولاده، فليكون منديلاً تمسح به أوساخ الأقدار؛ إذا إن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان إنما هو بمشيئة الواحد القهار، ولا فعل لغيره، لكن الحق تعالى علمنا الأدب، فخلق الشيطان والنفس والهوى مناديل، فما كان فيه كما نسبه لله، وما كان فيه نقص نسبه للشيطان والنفس؛ أدبًا مع الحضرة‏.‏

وأما إمهاله؛ فليدوم هذا المنديل عندهم، يمسحون فيه أوساخ المقادير التي تجري عليهم إلى انقضاء وجودهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏معلوم أن العالم لو كان خاليًا من الشر لكان ذلك خيرًا‏)‏، مغالطة؛ لأن حكمته تعالى اقتضت وجود الضدين‏:‏ الخير الشر، وبهما وقع التجلي والظهور؛ ليظهر آثار أسمائه تعالى؛ فإن اسمه المنتقم والقهار يقتضي وجود الشر، فيما نفهم، وليظهر انتقامه وبطشه للعيان، ومعلوم أن الملك إذا وصف بوصف جلالي أو جمالي لا يظهر شرف ذلك الاسم إلا بظهور آثاره في مملكته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إنك ما عرفتني‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الخ‏.‏‏.‏ يقتضي أنه لو عرف الله حق معرفته لفهم أسرار هذه الأشياء التي اعترض بها على ما بيناها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الأكوان ظاهرها أغيار، وباطنها أنوار وأسرار، فمن وقف مع ظاهرها لزمه الاعتراض والإنكار، ومن نفذ إلى شهود باطنها لزمه المعرفة والإقرار، ولعل إبليس لم في حال الأمر بالسجود من آدم إلا الأغيار، ولو رأى باطنه لكان أول ساجد لله الواحد القهار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 25‏]‏

‏{‏وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ‏(‏20‏)‏ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏21‏)‏ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏22‏)‏ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏24‏)‏ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ويا آدمُ اسكُن أنت وزوجُك‏}‏ حواء ‏{‏الجنة فكُلاَ من حيث شئتما‏}‏ من ثمارها، ‏{‏ولا تقربَا هذه الشجرة‏}‏؛ التين أو العنب أو الحنطة، ‏{‏فتكونا من الظالمين‏}‏ لأنفسكما بمخالفتكما، ‏{‏فوسوس لهما الشيطان‏}‏ أي‏:‏ فعل الوسوسة لأجلهما، وهوة الصوت الخفي، ‏{‏ليُبدِي‏}‏ أي‏:‏ ليظهر ‏{‏لهما ما وُورِيَ‏}‏ أي‏:‏ ما غطى ‏{‏عنهما من سَوآتِهما‏}‏ أي‏:‏ عوارتهما، واللام‏:‏ للعاقبة، أي‏:‏ فعل الوسوسة لتكون عاقبتهما كشف عورتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما، ولا أحداهما من الآخر‏.‏ وفيه دليل على أن كشف العورة، ولو عند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع‏.‏

‏{‏وقال‏}‏ لهما‏:‏ ‏{‏ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشجرة إلا‏}‏ كراهية ‏{‏أن تكونا مَلَكين‏}‏‏.‏ واستدل به من قال بفضل الملائكة على الأنبياء، وجوابه‏:‏ أنه كان من المعلوم عندهما أن الحقائق لا تَنقَلبن وإنما كانت رغبتهما فيما يحصل لهما من الغنى عن لطعام والشراب، فيمكن لهما الخلود في الجنة، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏أو تكونا من الخالدين‏}‏ الذين يخلدون في الجنة‏.‏

ويؤخذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما نهاكما ربكما‏}‏، أن آدم عليه السلام لم يكن ناسيًا للنهي، وإلا لما ذكره بقوله‏:‏ ‏{‏ما نهاكما ربكما‏}‏، وقوله في سورة طه‏:‏ ‏{‏فنسي‏}‏، أي‏:‏ نسي أنه عدو له، ولذلك ركن إلى نصيحته، وقبل منه حتى تأول أن النهي عن عين الشجرة لا عن جنسهان فأكل من جنسها؛ رغبة في الخلود، ولكنه غره من حيث الأخذ بالظواهر وترك الاحتياط‏.‏

ولم يقصد إبليسُ إخراجهما من الجنة، وإنما قصد أسقاطهما من مرتبتهما، وإبعادهما كما بعُد هو، فلم يلبغ قصده ولا أدرك مراده، بل ازداد سخينة عين، وغيط نفس، وخيبة ظن‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 122‏]‏، فصار عليه السلام خليفة لله في أرضه، بعد أن كان جارًا له في داره، فكم بين الخليفة والجار‏؟‏

‏{‏وقاسَمَهُما‏}‏ أي‏:‏ خلف لهما ‏{‏إني لكما لمنَ الناصحين‏}‏ فما قلت لكما‏.‏ وذكر قَسَم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين مبالغة؛ لأنه اجتهد فيه، أو لأنه أقسم لهما، وأقسما له أن يقبلا نصيحته‏.‏

‏{‏فدلاّهُما‏}‏، أي‏:‏ أنزلهما إلى الأكل من الشجرة، ‏{‏بغُرور‏}‏ أي‏:‏ بما غرهما به من القَسَم، لأنهما ظنًا أن أحدًا لا يحلف بالله كاذبًا، ‏{‏فلما ذَاقَا الشجرة‏}‏ أي‏:‏ وجدا طعمها، آخذين في الأكل منها، ‏{‏بدت لهما سَوآتُهما‏}‏، وتهافت عنهما ثيابُهما، فظهرت لهما عوراتهما؛ أدبًا لهما‏.‏ وقيل‏:‏ كان لباسهما نورًا يحول بينهما وبين النظر، فلما أكلا انكشف عنهما، وظهرت عورتهما، ‏{‏وطَفِقَا‏}‏ أي‏:‏ جعلا ‏{‏يَخصِفَانِ عليهما من وَرَقِ الجنّة‏}‏ أي‏:‏ أهذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة ليستترا به، قيل‏:‏ كان ورقَ التين‏.‏ فآدم أول من لبس المرقعه، ‏{‏وناداهما ربُّهما ألم أنهكُمَا عن تلكما الشجرة وأقل لكُمَا إن الشيطانَ لكما عدوٌ مبين‏}‏؛ هذا عتاب على المخالفة، وتوبيخ على الاغترار بالعدو‏.‏

وفيه دليل على ان مطلق النهي للتحريم‏.‏

ثم صرّحا بالتوبة فقالا‏:‏ ‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا‏}‏ حين صدّرناها للمعصية، وتعرضنا للإخراج من الجنة، ‏{‏وإن لم تغفر لنا وترحَمنا لنكُوننَّ من الخاسرين‏}‏؛ وهذه هي الكلمات التي تلقاها من ربه فتاب عليه بها‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ فيه دليل على أن الصغائر يُعاقب عليها إن لم تغفر، وقالت المعتزلة‏:‏ لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر، ولذلك قالوا‏:‏ إنما قالا ذلك على عادة المقربين في تعظيم الصغير من السيئات، واستحقار العظيم من الحسنات‏.‏ ه‏.‏

‏{‏قال اهبطوا‏}‏؛ الخطاب لآدم وحواء وذريتهما، أو‏:‏ لهما ولإبليس، وكرر الأمر له تبعًا؛ ليعلم أنهم قرناء له أبدًا‏.‏ حال كونكم ‏{‏بعضُكم لبعض عدوٌ‏}‏ أي‏:‏ متعادين، ‏{‏ولكم في الأرض مستقر‏}‏ أي‏:‏ استقرار، ‏{‏ومتاعٌ‏}‏ أي‏:‏ تمتع، ‏{‏إلى حين‏}‏ انقضاء آجالكم، ‏{‏قال فيها‏}‏ أي‏:‏ في الأرض ‏{‏تحيون وفيها تموتون ومنها تُخرجون‏}‏ للجزاء، بالنعيم، أو بالعذاب الأليم، على حسب سعيكم في هذه الدار الفانية‏.‏

الإشارة‏:‏ قال بعض العارفين‏:‏ كل ما نهى الله تعالى عنه فهو شجرة آدم، فمن دخل جنة المعارف، ثم غلبه القدر فأكل من تلك الشجرة وهي شجرة سوء الأدب أخرج منها، فإن كان ممن سبقت له العناية أُلهم التوبة، فتاب عليه وهداه، وأهبطه إلى أرض العبودية؛ ليكون خليفة الله في أرضه، فأنعِم بها معصية أورثت الخلافة والزلفى‏.‏ وفي الحكم‏:‏ «ربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول»‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ «معصية أورثت ذُلاً وافتقارًا، خير من طاعة أورثت عزًا واستكبارًا»‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كل سوء أدب يثمر لك أدبًا فهو أدب‏.‏ والله تعالى أعلم

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ‏:‏ ‏{‏لباس‏}‏؛ بالرفع، فهو متبدأ، والجملة‏:‏ خبر، والرابط‏:‏ الإشارة، والريش‏:‏ لباس الزينة، مستعار من ريش الطير‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا‏}‏ أي‏:‏ خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة، ونظيره‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ‏}‏ ‏[‏الزُّمر‏:‏ 6‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ‏}‏ ‏[‏الحَديد‏:‏ 25‏]‏‏.‏ من صفة ذلك اللباس‏:‏ ‏{‏يُواري‏}‏ أي‏:‏ يستر ‏{‏سوآتكم‏}‏ التي قصد إبليس إبداءها، ويغنيكم عن خصف الورق‏.‏ رُوِي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، ويقولون‏:‏ لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها، فنزلت‏.‏ ولعل ذكر قصة آدم تقدمه لذلك؛ حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏وريشًا‏}‏ أي‏:‏ ولباسًا فاخرًا تتجملون به ‏{‏ولباسُ‏}‏ أي‏:‏ وأنزلنا عليكم لباس ‏{‏التقوى‏}‏، وهي خشية الله تعالى، أو الإيمان، أو السمت الحسن، واستعار لها اللباس؛ كقولهم‏:‏ ألبسك الله لباس تقواه، وقيل‏:‏ لباس الحرب‏.‏ ومن قرأ بالرفع؛ فخبره‏:‏ ‏{‏ذلك خير‏}‏ أي‏:‏ لباس التقوى خير من لباس الدنيا؛ لبقائه في دار البقاء دون لباس الدنيا؛ فإنه فانٍ في دار الفناء، ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ إنزال اللباس من حيث هو خير ‏{‏من آيات الله‏}‏ الدالة على فضله ورحمته، ‏{‏لعلهم يذَّكَّرون‏}‏ فيعرفون نعمه، فيشكرون عليها، أو يتعظون فينزجرون عن القبائح‏.‏

الإشارة‏:‏ اللباس الذي يواري سوءات العبودية أي‏:‏ نقائصها هي أوصاف الربوبية ونعوت الألوهية؛ من عز وغنى، وعظمة وإجلال، وأنوار وأسرار، التي أشار إليها في الحكم بقوله‏:‏ «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبدًا، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليه»‏.‏ والريش هو بهجة أسرار المعاني التي تغيب ظلمة الأواني، أو بهجة الأنوار التي تُفني الأغيار، ولباس التقوى هي حفظه ورعايته لأوليائه في الظاهر والباطن مما يكدر صفاءهم أو يطمس أنوارهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏