فصل: تفسير الآيات (24- 26):

صباحاً 10 :36
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (21):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ألم تَرَ} أيها السامع {أن الله أنزلَ من السماء ماءً} هو المطر، وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء، ينزل منها إلى الصخرة، فيقسمه الله تعالى بين البقاع. {فسَلَكَهُ}: أدخله ونظمه {ينابيعَ في الأرض} أي: عيوناً ومجاري في الأرض، كجري الدماء في العروق في الأجساد: أو: مياهاً نابعة في ظهرها، فإن الينبوع يطلق على المنبع والنابع. فنصب {ينابيع} على الحال، على القول الثاني، وعلى نزع الخافض، على الأول.
{ثم يُخرِجُ به زرعاً مختلفاً ألوانه}: أصنافه، من بُر وشعير وغيرهما، أو: كيفياته من الألوان، كالصفرة والخضرة والحمرة، والطعوم وغيرهما. و{ثم}: للتراخي في الرتبة والزمان، وصيغة المضارع: لاستحضار الصورة البديعة، {ثم يهيجُ} أي: يتم جفافه، ويشرف على أن يثور من منابته، ويستقل على وجه الأرض، ساتراً لها، {فتراه مُصفراً} من بعد خضرته ونَضرته. {ثم يجعله حطاماً}، فُتاتاً متكسرة، كأن لم يغنَ بالأمس، فمَن قدر على هذا قدر على إنشاء الخلق بعد فنائهم ومجازاتهم.
وقيل: المراد من الآية: تمثيل الحياة الدنيا، في سرعة الزوال، وقُرب الاضمحلال، بما ذكر من أحوال الزرع، ترغيباً عن زخارفها وزينتها، وتحذيراً من الاغترار بمَن سُرّ بها، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ} [يونس: 24]... الآية، وقيل: للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغُرف، بما يشاهد من إنزال المياه من السماء، وما يترتب عليه من آثار قدرته تعالى، وإحكام حكمته ورحمته.
{إِن في ذلك} أي: ما ذكر تفصيلاً من إنزال الماء وما نشأ عنه. {لذِكْرى}: لتذكيراً عظيماً {لأُولي الألباب}: لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الهوى، فيتذكرون بذلك أن الحياة الدنيا في سرعة التقضي والانصرام، كما يشاهدونه من حال الحكام كل عام، فلا يغترُّون ببهجتها، ولا يُفتنون بفتنتها، أو: يجزمون بأن مَن قدر على إنزال الماء من السماء، وإجرائه في ينابيع الأرض، قادر على إجراء الأنهار من تحت الغُرف. وأما ما قيل: من أنه استدلال على وجود الصانع؛ فلا يليق؛ لأن هذه الأفعال الجليلة ذُكرت مسندة إلى الله تعالى؛ وإنما يليق الاستدلال بها على وجود الصانع لو ذُكرت غير مسندة إلى مؤثر، فتَعَيّن أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤونه تعالى وشؤون آثاره، كما بيَّن، لا وجوده تعالى. قاله أبو السعود.
الإشارة: قال القشيري: والإشارة في هذا أن الإنسان يكون طفلاً، ثم شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم يصير إلى أرذل العمر، ثم إلى آخره يُخترم، ويقال: إن الزرع ما لم يأخذْ في الجفاف لا يُؤخذ منه الحَبُّ، الذي هو المقصود منه، كذلك الإنسان ما لم يخل من نفسه وحَوْلِه لا يكون له قَدْرٌ ولا قيمةٌ.
قلت: يعني أنه ما لم يمحص نفسه، وينهكها في التقرُّب إلى مولاه، لا قيمة له.
ثم قال: ويقال: إن المؤمن بقوة عقله يوجبُ استقلاله بعمله إلا أن يبرُز منه كمالٌ يُمكِّنه من وفارة بصيرته، ثم إذا بدت لائحةٌ من سلطان المعارف تصير تلك الأبواب مغمورة، فإذا بَدَتْ أنوارُ التوحيد استهلكت تلك الجملة كذلك، وأنشدوا:
فلمَّا استبان الصبحُ أدرج ضوءُه ** بأنواره أنوارَ ضوء الكواكبِ

قلت: استقلال العبد بعمله هو مثل بروز الزرع من منبته، ووفُورِ بصيرته هو إخراج حبه في سنبله، وبدو لائحة من سلطان المعارف هو اصفراره، وظهور أنوار التوحيد التي تفني وجوده وتغمره في وجود الحق هو صيرورتها حطاماً.

.تفسير الآية رقم (22):

{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)}
قلت: الهمزة للإنكار، و{من}: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: كمَن ليس كذلك.
يقول الحق جلّ جلاله: {أفمَنْ شرحَ الله صَدْرَه} أي: وسَّعه وهيَّأه {للإسلام} حتى قَبِله وفرح به، واستضاء بنوره، {فهو على نورٍ} عظيم {من ربه}، وبصيرة في دينه، وهذا النور: هو اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية، والتوفيق للاهتداء بها، أو: بمحض الإلهام من الجود والكرم، فيقذف في قلبه نور اليقين، بلا سبب، أو: بصحبة أهل النور، هل يكون هذا كمَن قسا قلبه، وحرج صدره، واستولى عليه ظلمة الغي والضلالة، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية؟!
ولما نزلت هذه الآية سئل صلى الله عليه وسلم عن الشرح المذكور، فقال: «نور يقذفه الله في القلب، فإذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» قيل: وهل لذلك علامة؟ قال: «نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله».
{فويلٌ للقاسيةِ قلوبهم}: أي الصلبة اليابسة {مِن ذكر الله} أي: من أجل ذكره، الذي من حقه أن ينشرح له الصدر، وتلين له النفس، ويطمئن به القلب، وهؤلاء إذا ذكر الله عندهم اشمأزوا من أجله، وازدادت قلوبهم قساوة.
قال الفخر: اعلم أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية، وزيادة الاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، وقد يوجب القسوة والبُعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، فإذا عرفتَ هذا، فنقول: رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورتبتها: هو ذكر الله، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله سبباً لازدياد مرضها، كان مرض تلك النفوس مرضاً لا يرجى زواله، ولا يُتوقع علاجه، وكانت في نهاية الشر والرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} وهذا كلام محقق. اهـ. وهو كما قيل في الجُعَل أنها تتضرر برياح الورد، أي: وتنتعش بالشين. فكل مَن يفر من ذكر الله، ويثقل عليه، فقلبه جُعَل. ذكره في الحاشية.
{أولئك في ضلال مبين} أي: أولئك، البُعَداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب في ضلال بعيد من الحق، ظاهر ضلاله لكل أحد. قيل: نزلت الآية في حمزة وعليّ رضي الله عنهما وأبي لهب وولده، وقيل: في عمّار وأبي جهل. والحق: إنها عامة.
الإشارة: مَن أراد الله به السعادة شَرَح صدرَه للإسلام، فقَبِله وعمل عمله، ومَن أراد به جذب العناية وتحقيق الولاية، شرح صدره لطريق أهل مقام الإحسان، فدخل في طريقهم، وهيّأ نفسه لصُحبتهم وخدمتهم، فما زال يقطعون به مهامه النفوس حتى يقولون له: ها أنت وربك، فتلوح له الأنوار، وتُشرق عليه شموس المعارف والأسرار، حتى يفنى ويبقى بالله.
قال القشيري: والنورُ الذي من قِبَله تعالى نورُ اللوائح بتحقق العلم، ثم نورُ اللوامع بثبات الفهم، ثم نورُ المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد، وعند ذلك فلا وجد ولا فقد، ولا بُعد ولا قُرب، كلا، بل هو الله الواحد القهّار. اهـ. فمَن لم يبلغ هذا لا يخلو قلبه من قساوة، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، أولئك في ضلال مبين.

.تفسير الآية رقم (23):

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}
قلت: {كتاباً}: بدل من {أحسن}، أو: حال، لوصفه بقوله: {متشابهاً}. و{مثاني}: صفة أخرى لكتابِ، أو: حال أخرى منه، أو: تمييز من {متشابهاً}، كما تقول: رأيت رجلاً حسناً شمائلَ، أي: شمائله، والمعنى: متشابهة مثانيه. و{تقشعر}: الأظهر أنه استئناف، وقيل: صفة لكتاب، أو: حال منه.
يقول الحق جلّ جلاله: {اللهُ نزَّل أحسنَ الحديثِ} وهو القرآن؛ إذ لا حديث أحسن منه، لا تمله القلوب، وتسأمه الأسماع؛ بل تِرداده يزيده تجمُّلاً وطراوة وتكثير حلاوة. رُوي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلُّوا ملةً، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثنا حديثاً، فنزلت. والمعنى: أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث.
وفي إيقاع اسم الجلالة مبتدأ، وبناءِ {نزّل} عليه، من تفخيم أحسن الحديث، ورفع محله، والاستشهاد على حسنه، وتأكيد إسناده إليه تعالى، وأنه من عنده، لا يمكن صدوره من غيره، والتنبيه على أنه وحي معجز، ما لا يخفى.
حال كونه {كتاباً مُتشابهاً} أي: يُشبه بعضُه بعضاً في الإعجاز والبلاغة، أو: تشابهت معانيه بالصحة، والإحكام، والابتناء على الحق والصدق، واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش، وتناسب ألفاظه وجُمَلِه في الفصاحة والبلاغة، وتجاوب نظمه في الإعجاز. {مَّثَانِيَ}: جمع مثنى، أي: مكرر، ومردد، لما ثنى من قصصه، وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ووعظه. وقيل: لأنه يثنّى في التلاوة، ويُكرر مرة بعد أخرى. قال القشيري: ويشتمل على نوعي الثناء عليه، بذكر سلطانه وإحسانه، وصفة الجنة والنار، والوعد والوعيد. اهـ.
{تَقْشَعِرُّ منه جُلودُ الذين يخشون ربهم} أي: ترتعد وتنقبض، والاقشعرار: التقبُّض، يقال: اقشعرّ الجلد: إذا انقبض، ويقال: اقشعر جلده ووقف شعره: إذا عرض له خوف شديد، من منكر هائل دهمه بغتة. والمعنى: أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارعه وزواجره، أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منه جلودهم، وإذا ذكروا رحمة الله تعالى تبدلت خشيتهم رجاءً، ورهبتهم رغبةً، وذلك قوله تعالى: {ثم تَلينُ جُلودُهم وقلوبُهم إِلى ذكرِ الله} أي: ساكنة مطمئنة إلى ذكر الله.
{ذلك} أي: الكتاب الذي شُرِح أحواله {هُدَى اللهِ يهدي به مَن يشاءُ} أن يهديه، بصرف مجهوده إلى سبب الاهتداء به، أو بتأمله فيما في تضاعيفه من شواهد الحقيقة، ودلائل كونه من عند الله. {ومَن يُضللِ اللهُ} أي: يخلق فيه الضلالة، بصرف قدرته إلى مبادئها، وإعراضه عما يرشد إلى الحق بالكلية، وعدم تأثُّره بوعده ووعيده، أو: مَن يخذله {فما له من هَادٍ} يُخلصه من ورطة الضلال. أو: ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء هو أثر هدى الله، يهدي لذلك الأثر مَن يشاء من عباده، {ومَن يُضلل} أي: ومَن لم يؤثر فيه لطفه وهدايته؛ لقسوة قلبه، وإصراره على فجوره {فما له من هادٍ}: من مؤثر فيه بشيء قط.
الإشارة: أول ما يظهر الفتح على قلب العبد في فَهْم كتاب الله، والتمتُّع بحلاوة تلاوته، ثم ينتقل إلى الاستغراق في ذكره باللسان، ثم بالقلب، ثم إلى الفكرة، ثم العكوف في الحضرة، إن وجد مَن يربيه وينقله عن هذه المقامات، وإلا بقي في مقامه الأول.
وقال الطيبي: مَن أراد الله أن يهديه بالقرآن، أوقع في قلبه الخشية، كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ثم يتأثر منه ظاهراً، بأن تأخذه في بدء الحال قشعريرة؛ لضعفه، وقوة سطوة الوارد، فإذا أدمن على سماعه، وأَلِفَ أنواره، يطمئن ويلين ويسكن. اهـ. قلت: وعن هذا عبّر الصدّيق بقوله حين رأى قوماً يبكون عند سماعه: (كذلك كنا ثم قست القلوب) أي: صلبت وقويت على حمل الواردات.
وقال الورتجبي: سماع المريدين بإظهار الحال عليهم، وسماع العارفين بالطمأنينة والسكون. اهـ. وقال على قوله: {متشابهاً}: إنه أخبر عن كلية الذات والصفات، التي منبعهما أصل القدم، وصفاته كذاته، وذاته كصفاته، وكل صفة كصفة أخرى، من حيث التنزيه والقدس والتقديس، والكلام بنفسه متشابه المعاني. اهـ. يعني: إنما كان القرآن متشابهاً؛ لأنه أخبر عن كلية الذات والصفات القديمين، والذات لها شبه بالصفات من حيث اللطافة، والصفات تشبه بعضها بعضاً في الدلالة على التنزيه والكمال، أي: كتاباً دالاًّ على كلية الذات المشابهة للصفات. وهذا حملٌ بعيد.

.تفسير الآيات (24- 26):

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)}
قلت: {وقيل}: عطف على {يتقي}، أو: حال من ضمير {يتقي}، بإضمار قد.
يقول الحق جلّ جلاله: {أفمَنْ يتقي بوجهِهِ} الذي هو أشرف أعضائه {سوء العذاب} أي: العذاب السيئ الشديد {يومَ القيامة} كمَن ليس كذلك، بل هو آمن، لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء، بوجه من الوجوه، وإنما كان يتقي النارَ بوجهه؛ لكون يده التي كان يتقي بها المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه. قال القشيري: قيل: إن الكافر يُلقى في النار، فيلقاها أولاً بوجهه؛ لأنه يُرمَى فيها منكوساً؛ فأما المؤمن المُوقَّى ذلك؛ فهو المُلقَّى بالكرامة، فوجهُهُ ضاحكٌ مُسْتَبْشرٌ. اهـ.
{وقيل للظالمين}: يقال لهم من جهة خزنة النار. وصيغة الماضي للدلالة على التحقُّق. ووضع المظهر في مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم، والإشعار بعلة الأمر في قوله: {ذُوقوا ما كنتم تكسبون} أي: وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا، من الظلم بالكفر والمعاصي.
{كذَّبَ الذين مِن قبلهم} من الأمم السالفة، {فأتَاهمُ العذابُ} المقرر لكل أمة {من حيث لا يشعرون} من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم إتيان الشر منها. {فأذاقهم اللهُ الخزيَ} أي: الذل والصغار {في الحياة الدنيا}، كالمسخ، والخسف، والقتل، والأسر، والإجلاء، وغير ذلك من فنون النكال، {ولعذابُ الآخرة} المعد لهم {أكبرُ}؛ لشدته ودوامه {لو كانوا يعلمون} أي: لو كان من شأنهم أن يعلموا شيئاً لعلموا ذلك واعتبروا به.
والآية، يحتمل أن تكون تهديداً لقريش، فالضمير في {قَبْلِهم} يعود إليهم؛ لأن قوله: {ومَن يُضلل الله}... إلخ تعرض بمَن أعرض عن كتابه من كفار قريش. وقال أبو السعود: هو استئناف، مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب، إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي. اهـ.
الإشارة: الوجه هو أشرفُ الأعضاء وإِمَامُها، فإن كانت في الباطن بهجة المحبة، أو سيما المعرفة، ظهرت عليه، فيتنورُ ويبتهج، وإن كانت ظلمة المعاصي، أو كآبة الحجاب، ظهرت عليه، وإن كانت غيبة في الحق أو سكرة، كان هو أول ما يغيب من الإنسان ويغرق، ثم تغيب البشرية في البحر المحيط، وهو بحر الأحدية. وقوله تعالى: {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}، قال القشيري: أشدُّ العذاب ما يكون بغتةً، كما أن أتمَّ السرور ما يكون فلتةً. وفي الهجران والفراق والشدة ما يكون بغتةً غير متوقعة، وهو أنكى للفؤاد، وأشدُّ في التأثير، وأوجعه للقلوب، وفي معناه أنشدوا:
فَبِتَّ بخيرٍ والدُّنى مطمئنةٌ ** فأصبحتَ يوماً والزمانُ تقَلُّبَا

وأتمُّ السرور وأعظمه تأثيراً ما يكون فجأة، حتى قال بعضهم: أشد السرور غفلة على غفلة، وأنشدوا:
بينما خاطرُ المُنى بالتلاقي ** سابحٌ في فؤاده وفؤادي

جمَعَ اللهُ بيننا فالتقيْنا ** هكذا بغتةً بلا ميعاد