الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (148- 150): {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستبقوا الخيرات أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ...} قلت: التنوين {لكل} تنوين العوض، أي ولكل أمة قبلة، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة، و{وجهة} مبتدأ، والخبر: المجرور قبله. و{هو} مبتدأ، و{موليها} خبر مقصور، و(ولّى) يتعدى إلى مفعلوين، وهو هنا محذوف، أي: موليها وجهه إن كان الضمير يعود على المضاف المحذوف، وهو هنا محذوف، أي: موليها وجهه إن كان الضمير يعود على المضاف المحذوف، ويحتمل أن يعود على الله تعالى، أي: الله تعالى موليها إياه، أي: يجعلها موالية له إن استقبل جهتها. وقرأ ابن عامر: {هو مُوَلاَّها} بالبناء للمفعول، فالنائب ضمير يعود على {هو}، وهو المفعول الأول، والثاني: المضاف إليه تخفيفاً، وأصله: مُلي إياها، أي مصروفاً إليها. يقول الحقّ جلّ جلاله: ولكل فريق من المسلمين جهة من الكعبة يستقبلها ويوليها وجهه، أينما كان وحيثما حل، فأكثروا من الصلوات، واستقبلوا الخيرات قبل هجوم هادم اللذات، {أينما تكونوا} في مشارق الأرض ومغاربها، يأتكم الممات، ويأت بكم إلى المحشر حُفاة عراة، ولا ينفعكم حنيئذٍ إلا صالح عمل قدمتوه، أو فعل خير أسلفتموه، {إن الله على كل شيء قدير}، فلا يعجزه بعث العباد، ولا جمعهم من أعماق الأرض وأقطار البلاد. وإذاعلمت أن لكل قوم جهة يستقبلونها، فمن {حيث خرجت} وفي أي مكان حللت {فولّ وجهك شكر المسجد الحرام}، والله {إنه للحق من ربك} فبادر إلى امثاله، {وما الله بغافل عما تعملون} من خير أو شر، فيجازي كل واحد على ما أسلف. ثم كرّر الحق تعالى الأمر بالتوجه إلى الكعبة لعلة أخرى سيذكرها، فقال: {ومن حيث خرجت فوّل وجهك شطر المسجد الحرام} وحيثما حللتم {فولّوا وجوهكم شطره}. قال البيضاوي: كرر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه تعالى ذكر للتحول ثلاث علل: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء مرضاته، وَجَرت العادة الإلهية على أن يُولِّي أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها، ودفع حجج المخالفين على ما بينه، وقرن كل علة بمعلولها، مع أن القبلة لها شأن، والنسخ من مظان الفتنة والشبهة، فبالحَرِيِّ أن يُؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى. اهـ. ثم ذكر العلّة الثالثة وهي دفع الحجج المخالفين، فقال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} قلت: الاستثناء من {الناس} أي: لئلا يكون لأحد من الناس حجة عليكم إلا المعاندين منهم، و{لأتم} متعلق بمحذوف، أي: ولإتمام نعمتي عليكم وإرادة اهتدائكم أمرتكم بالتحول، أو معطوف على محذوف؛ أي: واخشوني لأحفظكم ولأتم نعمتي عليكم. يقول الحقّ جلّ جلاله: وإنما أمرتكم بالتوجه إلى الكعبة دون الخصرة لتدفع حجج الناس، فإن اليهود ربما قالوا: المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، وهذا يستقبل الصخرة، أو إن محمداً يخالف ديننا ويستقبل قبلتنا. والمشركون ربما قالوا: يدعي ملّة إبراهيم ويخالف قبلته، فأمرتكم باستقبال القبلة دفعاً لحجج الناس، إلا المعاندين منهم فلا ينقطع شغبهم، فإنهم يقولون: ما تحول إلى الكعبة إلا مَيلاً إلى دين قومه، وحبّاً لبلده، أو بَدَا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم. فلا تخافوهم ولا تلتفتوا إلى مَطاعنهم، فإنها لا تضركم، {واخشوني} أكْفكم شرهم، فإن مَن خافني خاف منه كل شيء، ومَن لم يخشني خاف من كل شيء، وأمرتكم أيضاً بالتوجه إلى قبلة جدكم {لأتم نعمتي عليكم} بإقرار عين نبيكم، وإرادة اهتدائكم، فاشروا ما أوليتكم، واذكروا ما به أنعمت عليكم أزدكم من فضلي وإحساني، وأسبغ عليكم إنعامي وامتناني. الإشارة: من حكمة المدبر الحكيم أن دبر ملكه العظيم، ووجه كل فرقة بوجهه من مصالح عباده، أفناه فيها وولاه إياها. فقوم اختصهم لمحبته واصطفاهم لحضرته؛ وهم العارفون، وقوم أقامهم لخدمته وأفناهم في عبادته؛ وهم العباد والزهاد، وقوم أقامهم حمل شريعته وتمهيد دينه؛ وهم العلماء العاملون، وقم أقامهم لحفظ كتابه رسماً وتلاوة وتفهماً؛ وهم القرّاء والمفسرون، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9]، وقوم أقامهم لتسكين الفتن ودفع المظالم والمحن؛ وهم الحكام ومَن يستعان بهم في تلك الوجهة، وقوم أقامهم لحفظ نظام الحكمة؛ وهم القائمون بالأسباب الشرعية على اختلاف أنواعها وتعدد فروعها، وقوم أعدهم لظهور حلمه وعفوه فيهم؛ وهم أهل المعاصي والذنوب، وقم أعدم للانتقام وظهور اسمه القهار؛ وهم أنواع الكفار. فكل وجهة من هؤلاء توجهت لحق شرعي أقامتها القدرة فيه، وحَكم بها القضاء والقدر، إلا أن القسمين الأخيرين لا تقررهما الشريعة. فلو حسنت المقاصد لكان الكل عُمالاً لله، فيقال لهم: {استبقوا الخيرات} بتحسين المقاصد والنيات، وبادروا إلى الطاعات قبل هجوم هادم اللذات، أينما تكونوا يجمعكم للحساب، وتُعاينوا جزاء ما أسلفتم من عذاب أو ثواب، ومن حيث خرجت أيها العارف فولِّ جهتك وكليتك لمسجد الحضرة باستعمال الفكرة والنظرة، فإنها حق وما سواها باطل، كما قال الشاعر: وحيثما كنتم أيها العارفون فولّوا وجوهكم إلى قبلة تلك الحضرة، واعبدوا ربكم بعبادة الفكرة، فإنها صلاة القلوب، ومفتاح ميادين الغيوب، وفي ذلك يقول القائل: فإذا تحققتم بهذه الحضرة، وتحصنتم بحصن الشهود والنظرة، انقطع عنكم حجج خصيم النفس والجنس، وتنزهتم في رياض القرب والأنس، إلا الخواطر التي تحوم على القلوب، فلا تقدح في مشاهدة الغيوب، فلا تخافوا غيري، ولا تتوجه همتكم إلا لإحساني وبرَّي؛ فإني أتم عليكم نعمتي، وأرشدكم إلى كمال معرفتي، وأتحفكم بنصري ومعونتي. .تفسير الآيات (151- 152): قلت: {كما} متعلق بأتم، أي: ولأتم نعمتي عليكم في شأن القبلة كما أتممتها عليكم بإرسال الرسول. أو باذكروني، أي: كما ذكرناكم بالإرسال، فاذكروني بالمقال والحال. وقدم هنا التزكية على التعليم، باعتبار القصد؛ لأن القصد من الإرسال والتعليم هو التطهير، وأخره في دعوة إبراهيم باعتبار الفعل، لأن الإرسال والتعليم مقدم على التطهير، وأعاد العامل في قوله: {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} إيذاناً بأنه جنس آخر شرفاً له. يقول الحقّ جلّ جلاله يا عبادي اذكروا برّي وإحساني، فقد أتممت عليكم نعمتي وآلائي بإسعافكم في تحويل القبلة، كما أتممتها عليكم بأعظم النعم وأجلها، وهو إرسال من يعلمكم {رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا} الموصلة إلى حضرتنا، ويطهركم من المساوئ والعيوب، {ويعلمكم الكتاب} المشتمل على علم الغيوب ودواء القلوب، ويعلمكم {الحكمة} وهي الشريعة المطهرة والسنّة النبوية، {ويعلمكم} علوماً غيبية لم يكن لكم بها علم ولا معرفة، {فاذكروني} بالطاعة والإحسان {أذكركم} بالثواب ونعيم الجنان. قال صلى الله عليه وسلم: «مَن أطَاعَ الله فقدْ ذكَرَ الله، وإنْ قَلَّتْ صَلاتُه وصيَامُهُ وتِلاوتُه القرآن. ومَنْ عَصيَ اللّهَ فَقَدْ نَسِيَ الله، وإنْ كَثُرتْ صَلاتُهُ وصَيَامُهُ وتِلاوَتُه». أو فاذكروني بالجَنَانِ أذكركم بنعمة الشهود والعيان، أو فاذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الحجب، أو فاذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات في الجنان. قال الصِّديق رضي الله عنه: (كفَى بالتوحيدِ عبَادةً، وكَفَى بالجنةِ ثَواباً). أو فاذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة، أو فاذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها: قال الأصمعي: (رأيت أعرابيّاً واقفاً يوم عرفة بعرفات، وهو يقول: إلهي عَجَّتْ لكَ الأصْواتُ بضُروب اللغات يسألونك الحَاجَات، وحاجَتي إليكَ أنْ تَذْكُرني عندَ البلاَءِ إذا نَسِيَني أهلُ الدنيا). أو: فاذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى، أو: فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة، يعني يحييه حياة طيبة. أو: فاذكروني في الخلاء والملأ أذكركم في أفضل الملأ، دليله الحديث: «أنا عِندَ ظنَّ بي فليُظنَّ بي مَا شاء، وأنا معه إذا ذكَرني، فمن ذَكَرَنيِ في نَفْسِه ذَكَرْتُه في نَفْسِي. ومن ذَكَرَنِي في مَلأ ذَكرْتُه في مَلأ خير من مَلَئِهِ...» الحديث. أو: فاذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء، أو: فاذكروني بالتسليم والرضا أذكركم بحسن التدبير ولطف القضاء، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطّلاَق: 3] أو: فاذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصال والقربة. أو: فاذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة، أو: فاذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء، أو: فاذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال، إلى غير ذلك مما لا ينحصر. واعلم أن الذكر ثلاثة أنواع: ذكر اللسان فقط وهو ذكر الغافلين، وذكر اللسان والقلب وهو ذكر السائرين، وذكر القلب فقط، وهو ذكر الواصلين، والذكر هو أفضل الأعمال كما تقتضيه الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى الله تعالى، إذا كان بشيخ كامل، واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة من تهليل وتكبير وتسبيح وحَمْدَلَةٍ وحَسْبَلَةٍ وحوقلة وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكلِّ خاصيةٌ وثمرة، وتجتمع في ذكر المفرد، وهو: الله، الله. فإن ثمرته الفناء في الذات، وهي الغاية والمنتهى. انظر ابن جزي. قال الحقّ تعالى: واشكروا لي ما أوليتكم من إحساني وبرّي بأن تنسبوها لي لا لغيري، ولا تجحدوا إحساني فأسلبكم ما خولتكم من إنعامي. الإشارة: كما أنعم الله على الأمة المحمدية بأن بعث فيهم رسولاً منهم يعلمهم الشرعية النبوية، ويطهرهم من شهود الغيرية، ويعلمهم العلوم اللدنية، كذلك منَّ الله تعالى على عباده من هذه الأمة في كل زمان، ببعث شيوخ التربية يطهرون الناس من العيوب، ويدخلونهم حضرة الغيوب، ويطلعونهم على شهود القدرة الأزلية والحكمة الإلهية، ويعلمهم من غرائب العلوم، ويفتح لهم مخازن الفهوم، فَيَطَّلعون على السر المصون، ويعلمون ما لم يكونوا يعلمون، فيقول لهم الحقّ جلّ جلاله: اذكروني بأرواحكم وأسراركم، أذكركم بالغيبة عن رؤية أشباحكم، اذكروني بالفكرة والنظرة أمتعكم بدوام شهود الحضرة، واشكروا لي آلائي وبرّي، ولا تكفروا بالركون إلى غيري فإني أسلبكم من مزيد معوني ونصري. ولمّا أمر عباده بالشكر أمرهم بمقام الصبر لأنه أخوه في ضده؛ إذ الشكر في النعمة والصبر في البلية. .تفسير الآيات (153- 157): قلت: {أحياء} و{أموات} خبران عن مبتدأ مضمر، والابتلاء هو الاختبار، حيثما ورد في القرآن، ومعناه في حقه تعالى: أنه يظهر في الوجود ما في علمه لتقوم الحجة على العبد، وليس كاختبار الناس بعضهم بعضاً؛ لأن الله علم ما كان وما يكون، والصلاة هنا المغفرة والتطهير، والرحمة: اللطف والإحسان. يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا} على نيل رضواني وبرِّي وإحساني {بالصبر} على مشاق الطاعات وترك المعاصي والهفوات، وبالصلاة التي هي أم العبادات، ومحل المناجاة ومعدن المصافاة، فيها تشرق شوارق الأنوار، وتتسع ميادين الأسرار، وهي معراج أرواح المؤمنين ومناجاة رب العالمين، فإن تجرعتم مرارة الصبر فإن {الله مع الصابرين}، وأعظم مواطن الصبر عند مفارقة الأحباب، وذهاب العشائر والأصحاب، فإن كان موتهم في الجهاد فلا ينبغي لأجلهم أسف ولا نكاد؛ لأنهم {أحياء عند ربهم يرزقون}، وكذلك من ألحق بهم من ذي هَدْم وغَرَق وحرق ونفاسٍ وطاعون، فلا تقولوا لمن يقتل {في سبيل الله} من هؤلاء: هم {أموات}، {بل} هم {أحياء} حياة روحانية لا بشرية، {ولكن لا تشعرون} بحياتهم لأنهم مجرد أرواح، وأنتم لبستم طلسم الأشباح، فاختفى عنكم مقام الأرواح، وكذلك أرواح المؤمنين كلهم أحياء. وإنما خصّ الشهداء لمزيد بهجة وكرامة. وإجراء رزقهم عليهم دون غيرهم، ففي الحديث: «أرْواحُ الشُّهَداءِ في حَواصِل طَيرٍ خضرٍ تَعَلقُ مِنْ وَرَقِ الجَنة» أي: تأكل، وفي حديث آخر: «يَخْلُقُ اللهُ الشهداءَ جُسوماً على صُورةٍ طيرٍ خُضرٍ، فتكونُ في حَواصِلهَا، فَتسْرحُ بِها في الجَنة، وتأكلُ مِنْ ثمارِها، وتنالُ مِنْ خَيراتِها ونَعِيمها، حتى تُحشرَ مِنها يومَ القِيامَةِ». ولا يدخل الجنة أحد غيرهم إلى ميقاتها إلا الصدِّيقون، وهم العارفون، فهم أعظم من الجميع؛ لمزيد تصرف وإدراك وسعة روح وريحان، وتحقق شهود وعيان، فهم في نعيم الجنان كالشهداء، لكن الصديقين غير محصورين في حواصل الطيور، بل لهم هياكل وصور سرحوا بها حيث شاءوا. وكذلك من فوقهم من الأنبياء والرسل، والله تعالى أعلم. ثم قال الحق جلّ جلاله: ولنختبركم يا معشر المسلمين {بشيء} قليل {من الخوف} لهيجان العدو وصولة الكفار، {والجوع} لغلاء الأسعار وقلة الثمار، {ونقص من الأموال} بموت الحيوان وتعذر التجارة أو الخسران، {والأنفس} بالموت في الجهاد، {والثمرات} بذهابها بالجوائح. وعن الشافعي رضي الله عنه: (الخوفُ خوفُ الله، والجوعُ صومُ رمضان، والنقصُ من الأموال بالزكوات والصدقات، ومن الأنفسُ بالأمراض، ومن الثمرات مَوتُ الأولاد). وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا ماتَ ولَدُ العبد قال اللّهَ للملائكةِ: أقَبَضْتُمْ ولَدَ عَبدي؟ فيقولون: نَعَم. فيقولُ اللّهُ تعالى: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم. فيقول اللّهُ تعالى: ماذا قال؟ فيقولون: حَمِدَك واستَرْجَع، فيقول الله تعالى: ابْنُوا لعَبْدِي بَيْتاً في الجَنَّةِ وسَمُّوه بَيْتَ الحمدِ». {وبشر الصابرين} يا من تتأتَّى منه البشارة؛ {الذين إذا أصباتهم مصيبة} في بدن أو أهل أو مال أو صاحب {قالوا إنا لله} ملكاً وعبيداً يحكم فينا بما يريد {وإنا إليه راجعون} فيجازينا بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فتغيب مصائب الدنيا في جانبه. وفي الحديث: «من أصابته مُصيبةٌ فقال: إنَّا لله وإنا إليه راجعُون. اللهم أجُرْنِي في مُصيبَتِي واخْلُفْ لي خَيْراً منها، إلا أَخْلَفَ الله له خيراً مما أصابه» قالت أم سَلَمَة: فلما ماتَ زوجي أبو سَلَمَة قلتَ ذلك، فأبدلني الله برسوله صلى الله عليه وسلم. {أولئك} الصابرون الراجعون إلى الله {عليهم صلوات} أي: مغفرة وتطهير {من ربهم ورحمة} أي: عطف ولطف {وأولئك هم المهتدون} لكل خير في الدنيا والآخرة. الإشارة: يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس؛ من ترك الحظوظ والشهوات، والميل إلى العادات والمألوفات، وبالصلاة الدائمة، وهي صلاة القلوب بالعكوف في حضرة الغيوب. {إن الله مع الصابرين} بالمعونة والتأييد، وإشراق أنوار التوحيد، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار، وخرق العوائد وخلع العذار: إنه قد مات، بل هو حي لا يموت، قال الله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} فإذا ماتت نفس المريد. واستوى عنده الذل والعز والمدح والذم، والغنى والفقر، والموت والحياة، فقد حييت روحه واتسع عليها فضاء الشهود، وتمتعت بالنظرة إلى الملك المعبود، فلا يزيدها الموت الحسيّ إلا اتصالاً وتمتعاً وشهوداً، فهي في الترقي أبداً سرمداً، ولكن لا تشعرون بما هم فيه في هذه الدار وفي تلك الدار. ويقال لهم عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق: والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشيء من إذاية الخلق وتضييق الرزق، وذهاب الأموال، وضعف الأبدان بالمجاهدة، وتأخير الفتح بظهور ثمرة المشاهدة؛ ليظهر الصادق في الطلب الثبوت في أحكام العبودية، حتى تشرق عليها أنوار الربوبية، ومن الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات، والركون إلى الرخص والتأويلات، {وبشر الصابرين} الثابتين في الطلب، بالظفر بكل ما أمَّلُوا، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية، وتعلقوا بقوة الربوبية، فرجعوا إلى الله في كل شيء، فآواهم إليه من كل شيء، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب. قال ابن جزي: فائدة: وَرَدَ ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً؛ وذلك لعظم موقعه في الدين، قال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره؛ لقوله تعالى: {إِنَمَّا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. وذكر الله للصابرين ثمانياً من الكرامات. أولها: المحبة، قال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عِمرَان: 146]، والثاني: النصر، قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البَقَرَة: 153]، والثالث: غرفات الجنة، قال: {يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ} [الفرقان: 75] والرابع: الأجر الجزيل، قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، فمنها البشارة قال: {وبشر الصابرين}، والصلاة والرحمة والهداية قال: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. والصبر على أربعة أوجه: صبر على البلاء، وهو منع النفس عن التسخط والهلع والجزع، وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبّر بها، وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها، وصبر على المعاصي بكف النفس عنها. وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً، وترك الكراهية باطناً، وفوق التسليم الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر على المحبة، وكل ما يفعل المحبوب. اهـ. ولمّا ذكر الحقّ تعالى الكعبة، وأمر بالتوجهة إليها، ناسب أن يذكر الصفا والمروة؛ لقربهما منها ومشاركتهما لها في أمر الدين، وذلك أن الصحابة تحرجوا أن يطوفوا بهما؛ لأن الصفا كان عليه صنم يقال له إِسَاف، وعلى المروة صنم يقال له نائلة، فخافوا أن يكون الطواف بينهما تعظيماً لهما، فرفع الله ذلك.
|