فصل: تفسير الآيات رقم (78- 79)

مساءً 6 :7
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 44‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏26‏)‏ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏28‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏29‏)‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏30‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏33‏)‏ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏35‏)‏ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏37‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏41‏)‏ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏43‏)‏ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ‏(‏44‏)‏‏}‏

لما نبه تعالى على منتهى الخلق وهو الحشر يوم القيامة إلى ما يستقرون فيه، نبههم على مبدأ أصلهم آدم، وما جرى لعدوه إبليس من المحاورة مع الله تعالى‏.‏ وتقدم شيء من هذه القصة في أوائل البقرة عقب ذكر الأماتة والإحياء والرجوع إليه تعالى‏.‏ وفي الأعراف بعد ذكر يوم القيامة، وذكر الموازين فيه‏.‏ وفي الكهف بعد ذكر الحشر، وكذا في سورة ص بعد ذكر ما أعد من الجنة والنار لخلقه‏.‏ فحيث ذكر منتهى هذا الخلق ذكر مبدأهم وقصته مع عدوه إبليس ليحذرهم من كيده، ولينظروا ما جرى له معه حتى أخرجه من الجنة مقر السعادة والراحة، إلى الأرض مقر التكليف والتعب، فيتحرزوا من كيده، ومن حمإ قال الحوفي بدل من صلصال، بإعادة الجار‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ من حمإ في موضع جر صفة لصلصال‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المسنون الطين ومعناه المصبوب، لأنه لا يكون مصبوباً إلا وهو رطب، فكنى عن المصبوب بوصفه، لأنه موضوع له‏.‏ وقال مجاهد وقتادة ومعمر‏:‏ المنتن‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سنين ولا يكون إلا منتناً‏.‏ وقال غيره‏:‏ من أسن الماء إذا تغير، ولا يصح لاختلاف المادتين‏.‏ وقيل‏:‏ مصبوب من سننت التراب والماء إذا صببته شيئاً بعد شيء، فكان المعنى‏:‏ أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وحمأ مسنون بمعنى مصور أنْ يكون صفة لصلصال، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصال ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ المسنون المصور من سنة الوجه، وهي صورته‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تريك سنة وجه غير مقرفة *** وقيل‏:‏ المسنون المنسوب أي‏:‏ ينسب إليه ذريته‏.‏

والجان‏:‏ هو أبو الجن، قاله ابن عباس‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والجان للجن كآدم للناس‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ هو إبليس، خلق قبل آدم‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ هو اسم لجنس الجن، والإنسان المراد به آدم، ومن قبل أي‏:‏ من قبل خلق الإنسان‏.‏ وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد‏:‏ والجأن بالهمز‏.‏ والسموم قال ابن عباس‏:‏ الريح الحارة التي تقتل‏.‏ وعنه‏:‏ نار لا دخان لها، منها تكون الصواعق‏.‏ وقال الحسن‏:‏ نار دونها حجاب‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ نفس النار، وعنه‏:‏ لهب النار‏.‏ وقيل‏:‏ نار اللهب السموم‏.‏ وقيل‏:‏ أضاف الموصوف إلى صفته أي‏:‏ النار السموم‏.‏ وسويته أكملت خلقه، والتسوية عبارة عن الإتقان، وجعل أجزائه مستوية فيما خلقت‏.‏ ونفخت فيه من روحي أي‏:‏ خلقت الحياة فيه، ولا نفخ هناك، ولا منفوخ حقيقة، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيي به فيه‏.‏ وأضاف الروح إليه تعالى على سبيل التشريف نحو‏:‏ بيت الله، وناقة الله، أو الملك إذ هو المتصرف في الإنشاء للروح، والمودعها حيث يشاء‏.‏

وقعوا له أي‏:‏ اسقطوا على الأرض‏.‏ وحرف الجر محذوف من أن أي‏:‏ ما لك في أن لا تكون‏.‏ وأي‏:‏ داع دعا بك إلى إبائك السجود‏.‏ ولا سجد اللام لام الجحود، والمعنى‏:‏ لا يناسب حالي السجود له‏.‏ وفي البقرة نبه على العلة المانعة له وهي الاستكبار أي‏:‏ رأى نفسه أكبر من أن يسجد‏.‏ وفي الأعراف صرح بجهة الاستكبار، وهي ادعاء الخيرية والأفضلية بادعاء المادة المخلوق منها كل منهما‏.‏ وهنا نبه على مادة آدم وحده، وهنا فاخرج منها وفي الأعراف‏:‏ ‏{‏فاهبط منها‏}‏ وتقدم ذكر الخلاف فيما يعود عليه ضمير منها‏.‏ وقد تقدمت منها مباحث في سورة البقرة، والأعراف، أعادها المفسرون هنا، ونحن نحيل على ما تقدم إلا ما له خصوصية بهذه السورة فنحن نذكره‏.‏

فتقول‏:‏ وضرب يوم الدين غاية للعنة، إما لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم، وإما أن يراد أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذب، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه‏.‏ ويوم الدين، ويوم يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، واحد‏.‏ وهو وقت النفخة الأولى حتى تموت الخلائق‏.‏ ووصف بالمعلوم إما لانفراد الله بعلمه كما قال‏:‏ ‏{‏قل إنما علمها عند ربي‏}‏ ‏{‏إن الله عنده علم الساعة‏}‏ أو لأنه معلوم فناء العالم فيه، فيكون قد عبر بيوم الدين، وبيوم يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، بما كان قريباً من ذلك اليوم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ومعنى إغوائه إياه نسبته لغيه، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فأفضى ذلك إلى غيه‏.‏ وما الأمر بالسجود الأحسن، وتعريض للثواب بالتواضع، والخضوع لأمر الله، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال‏.‏ والضمير في لهم عائد على غير مذكور، بل على ما يفهم من الكلام، وهو ذرية آدم‏.‏ ولذلك قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً‏}‏ والتزين تحسين المعاصي لهم ووسوسته حتى يقعوا فيها في الأرض أي‏:‏ في الدنيا التي هي دار الغرور لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أخلد إلى الأرض واتبع هواه‏}‏ أو أراد أني أقدر على الاحتيال لآدم، والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء، فأنا على التزيين لأولاده أقدر‏.‏ أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض، ولأرفعن رتبني فيها أي‏:‏ لأزينها في أعينهم، ولا حدثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها، ونحوه‏:‏ يجرح في عراقيبها نصلي قاله الزمخشري‏.‏ وإلاّ عبادك استثناء القليل من الكثير، إذ المخلصون بالنسبة إلى الغاوين قليل، واستثناؤهم إبليس، لأنه علم أنّ تزيينه لا يؤثر فيهم، وفيه دليل على جلاله هذا الوصف، وأنه أفضل ما اتصف به الطائع‏.‏

وقرأ الكوفيون، ونافع، والحسن، والأعرج‏:‏ بفتح اللام، ومعناه إلا من أخلصته للطاعة أنت، فلا يؤثر فيه تزييني‏.‏ وقرأ باقي السبعة والجمهور‏:‏ بكسرها أي‏:‏ إلا من أخلص العمل لله ولم يشرك فيه غيره‏.‏ ولا راءى به، والفاعل لقال الله أي‏:‏ قال الله‏.‏ والإشارة بهذا إلى ما تضمنه المخلصين من المصدر أي‏:‏ الإخلاص الذي يكون في عبادي هو صراط مستقيم لا يسلكه أحد فيضل أو يزل، لأنّ من اصطفيته أو أخلص لي العمل لا سبيل لك عليه‏.‏ وقيل‏:‏ لما قسم إبليس ذرية آدم إلى غاو ومخلص قال تعالى‏:‏ هذا أمر مصيره إليّ، ووصفه بالاستقامة، أي‏:‏ هو حق، وصيرورتهم إلى هذين القسمين ليست لك‏.‏ والعرب تقول‏:‏ طريقك في هذا الأمر على فلان أي‏:‏ إليه يصيرالنظر في أمرك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هذا طريق حق عليّ أن أراعيه، وهو أن يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته انتهى‏.‏ فجعل هذا إشارة إلى انتفاء تزيينه وإغوائه‏.‏ وكونه ليس له عليهم سلطان، فكأنه أخذ الإشارة إلى ما استثناه إبليس، وإلى ما قرره تعالى بقوله‏:‏ إن عبادي‏.‏ وتضمن كلامه مذهب المعتزلة‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ أي‏:‏ هذا صراط عهدة استقامته عليّ‏.‏ وفي حفظه أي‏:‏ حفظه عليّ، وهو مستقيم غير معوج‏.‏ وقال الحسن‏:‏ معنى عليّ إليَّ‏.‏ وقيل‏:‏ عليّ كأنه من مرّ عليه مرّ عليّ أي‏:‏ على رضواني وكرامتي‏.‏ وقرأ الضحاك، وابراهيم‏.‏ وأبو رجاء، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، وقيس بن عباد، وحميد، وعمرو بن ميمون، وعمارة بن أبي حفصة، وأبو شرف مولى كندة، ويعقوب‏:‏ عليّ مستقيم أي‏:‏ عال لارتفاع شأنه‏.‏ وهذه القراءة تؤكد أنّ الإشارة إلى الإخلاص وهو أقرب إليه‏.‏ والإضافة في قوله‏:‏ إنّ عبادي، إضافة تشريف أي‏:‏ أنّ المختصين بعبادتي، وعلى هذا لا يكون قوله‏:‏ إلا من اتبعك، استثناء متصلاً، لأنّ من اتبعه لم يندرج في قوله‏:‏ إنّ عبادي‏:‏ وإنْ كان أريد بعبادي عموم الخلق فيكون‏:‏ إلاّ من اتبعك استثناء من عموم، ويكون فيه دلالة على استثناء الأكثر، وبقاء المستثنى منه أقل، وهي مسألة اختلف فيها النحاة‏.‏ فأجاز ذلك الكوفيون وتبعهم من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن خروف، ودلائل ذلك مسطرة في كتب النحو‏.‏ والذي يظهر أنّ إبليس لما استثنى العباد المخلصين كانت الصفة ملحوظة في قوله‏:‏ إنّ عبادي أي‏:‏ عبادي المخلصين الذين ذكرتهم ليس لك عليهم سلطان‏.‏ ومن في الغاوين لبيان الجنس أي‏:‏ الذين هم الغاوون‏.‏ وقال الجبائي‏:‏ هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما تقول العامة، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة‏.‏ قال‏:‏ وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه، ولموعدهم مكان وعد اجتماعهم والضمير للغاوين‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وأجمعين تأكيد، وفيه معنى الحال انتهى‏.‏

وهذا جنوح لمذهب من يزعم أنّ أجمعين تدل على اتحاد الوقت، والصحيح أنّ مدلوله مدلول كلهم‏.‏

والظاهر أن جهنم هي واحدة، ولها سبعة أبواب‏.‏ وقيل‏:‏ أبواب النار أطباقها وأدراكها، فأعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصائبين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين‏.‏ وقرأ ابن القعقاع‏:‏ جز بتشديد الزاي من غير همز، ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي، ثم وقف بالتشديد نحو‏:‏ هذا فرج، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف‏.‏ واختلف عن الزهري، ففي كتاب ابن عطية‏:‏ وقرأ ابن شهاب بضم الزاي، ولعله تصحيف من الناسخ، لأني وجدت في التحرير‏:‏ وقرأ ابن وثاب بضمها مهموزاً فيهما‏.‏ وقرأ الزهري بتشديد الزاي دون همز، وهي قراءة ابن القعغقاع‏.‏ وأنّ فرقة قرأت بالتشديد منهم‏:‏ ابن القعقاع‏.‏ وفي كتاب الزمخشري وكتاب اللوامح‏:‏ أنه قرأ بالتشديد، وفي اللوامح هو وأبو جعفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏45‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏47‏)‏ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ‏(‏48‏)‏ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ‏(‏50‏)‏‏}‏

السرر‏:‏ جمع سرير، ككليب وكلب‏.‏ وبعض تميم يفتح الراء، وكذا كل مضاعفة فعيل‏.‏ النصب‏:‏ التعب‏.‏

‏{‏إن المتقين في جنات وعيون‏.‏ ادخلوها بسلام آمنين‏.‏ ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سرر متقابلين‏.‏ لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين‏.‏ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم‏.‏ وأن عذابي هو العذاب الأليم‏}‏‏:‏ لما ذكر تعالى ما أعد لأهل النار، ذكر ما أعد لأهل الجنة، ليظهر تباين ما بين الفريقين‏.‏ ولما كان حال المؤمنين معتنى به، أخبر أنهم في جنات وعيون، جعل ما يستقرون فيه في الآخرة كأنهم مستقرون فيه في الدنيا، ولذلك جاء‏:‏ ادخلوها على قراءة الأمر، لأنّ من استقر في الشيء لا يقال له‏:‏ أدخل فيه‏.‏ وجاء حال الغاوين موعوداً به في قوله‏:‏ ‏{‏لموعدهم‏}‏ لأنهم لم يدخلوها‏.‏ والعيون‏:‏ جمع عين‏.‏ وقرأ نافع، وأبو عمر، وحفص، وهشام‏:‏ وعيون بضم العين، وباقي السبعة بكسرها‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ادخلوها ماضياً مبنياً للمفعول من الإدخال‏.‏ وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك، وبضم التنوين، وعنه فتحه‏.‏ وما بعده أمر على تقدير‏:‏ أدخلوها إياهم من الإدخال، أمر الملائكة بإدخال المتقين الجنة، وتسقط الهمزة في القراءتين‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ادخلوها أمر من الدخول‏.‏ فعلى قراءتي الأمر، ثم محذوف أي‏:‏ يقال لهم، أو يقال للملائكة‏.‏ وبسلام في موضع نصب على الحال، واحتمل أن يكون المعنى‏:‏ مصحوبين بالسلامة، وأن يكون المعنى‏:‏ مسلماً عليكم أي‏:‏ محيون، كما حكي عن الملائكة أنهم يدخلون على أهل الجنة يقولون‏:‏ سلام عليكم‏.‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل‏}‏ تقدم شرحه في الأعراف‏.‏ قيل‏:‏ وانتصب إخواناً على الحال، وهي حال من الضمير، والحال من المضاف إليه إذا لم يكن معمولا لما أضيف على سبيل الرفع أو النصب تندر، فلذلك قال بعضهم‏:‏ إنه إذا كان المضاف جزأ من المضاف إليه كهذا، لأنّ الصدور بعض ما أضيفت إليه وكالجزء كقوله‏:‏ ‏{‏واتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ جاءت الحال من المضاف‏.‏ وقد قررنا أنّ ذلك لا يجوز‏.‏ وما استدلوا به له تأويل غير ما ذكروا، فتأويله هنا أنه منصوب على المدح، والتقدير‏:‏ أمدح إخواناً‏.‏ لما لم يمكن أن يكون نعتاً للضمير قطع من إعرابه نصباً على المدح، وقد ذكر أبو البقاء أنه حال من الضمير في الظرف في قوله‏:‏ في جنات، وأن يكون حالاً من الفاعل في‏:‏ ادخلوها، أو من الضمير في‏:‏ آمنين‏.‏

ومعنى إخواناً‏:‏ ذوو تواصل وتوادد‏.‏ وعلى سرر متقابلين‏:‏ حالان‏.‏ والقعود على السرير‏:‏ دليل على الرفعة والكرامة التامة كما قال‏:‏ يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ متقابلين متساوين في التواصل والتزاور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏53‏)‏ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

القنوط‏:‏ أتم اليأس، يقال‏:‏ قنط يقنط بفتحها، وقنط بفتح النون يقنط بكسرها وبضمها‏.‏

‏{‏ونبئهم عن ضيف إبراهيم‏.‏ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنا منكم وجلون‏.‏ قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم‏.‏ قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون‏.‏ قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين‏.‏ قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون‏}‏ ولما ذكر تعالى ما أعد للعاصين من النار، وللطائعين من الجنة، ذكر العرب بأحوال من يعرفونه ممن عصى وكذب الرسل فحل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ليزدجروا عن كفرهم، وليعتبروا بما حل بغيرهم‏.‏ فبدأ بذكر جدهم الأعلى إبراهيم عليه السلام، وما جرى لقوم ابن أخيه لوط، ثم بذكر أصحاب الحجر وهم قوم صالح، ثم بأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ ونبيهم بإبدال الهمزة ياء‏.‏ وضيف ابراهيم هم الملائكة الذين بشروه بالولد، وبهلاك قوم لوط‏.‏ وأضيفوا إلى ابراهيم وإن لم يكونوا أضيافاً، لأنهم في صورة من كان ينزل به من الأضياف، إذ كان لا ينزل به أحد إلى ضافه، وكان يكنى أبا الضيفان‏.‏ وكان لقصره أربعة أبواب، من كل جهة باب، لئلا يفوته أحد‏.‏ والضيف أصله المصدر، والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع للمثنى والمجموع، ولا حاجة إلى تكلف إضمار كما قاله النحاس وغيره من تقدير‏:‏ أصحاب ضيف‏.‏ وسلاماً مقتطع من جملة محكية بقالوا، فليس منصوباً به، والتقدير‏:‏ سلمت سلاماً من السلامة، أو سلمنا سلاماً من التحية‏.‏ وقيل‏:‏ سلاماً نعت لمصدر محذوف تقديره‏:‏ فقالوا قولاً سلاماً، وتصريحه هنا بأنه وجل منهم، كان بعد تقريبه إليهم ما أضافهم به وهو العجل الحنيذ، وامتناعهم من الأكل وفي هو ذاته أوجس في نفسه خيفة، فيكمن أنّ هذا التصريح كان بعد إيجاس الخيفة‏.‏ ويحتمل أن يكون القول هنا مجازاً بأنه ظهرت عليه مخايل الخوف حتى صار كالمصرح به القائل‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ لا توجل مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ بضم التاء مبنياً للمفعول من الإيجال‏.‏ وقرئ‏:‏ لا تاجل بإبدال الواو ألفاً كما قالوا‏:‏ تابة في توبة‏.‏ وقرئ‏:‏ لا تواجل من واجله بمعنى أوجله‏.‏ إنا نبشرك استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، أي‏:‏ إنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل‏.‏ والمبشر به هو إسحاق، وذلك بعد أنْ ولد له إسماعيل وشب بشروه بأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه ذكر‏.‏ والثاني‏:‏ وصفه بالعلم على سبيل المبالغة‏.‏ فقيل‏:‏ النبوة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نبياً‏}‏ وقيل‏:‏ عليم بالدين‏.‏

وقرأ الأعرج‏:‏ بشرتموني بغير همزة الاستفهام، وعلى أنّ مسني الكبر في موضع الحال‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ الكبر بضم الكاف وسكون الباء، واستنكر إبراهيم عليه السلام أنْ يولد له مع الكبر‏.‏ وفبم تبشرون، تأكيد استبعاد وتعجب، وكأنه لم يعلم أنهم ملائكة رسل الله إليه، فلذلك استفهم، واستنكر أن يولد له‏.‏

ولو علم أنهم رسل الله ما تعجب ولا استنكر، ولا سيما وقد رأى من آيات الله عياناً كيف أحيا الموتى‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ كأنه قال‏:‏ فبأيّ أعجوبة تبشروني، أو أراد أنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة، فبأي شيء تبشرون‏؟‏ يعني‏:‏ لا تبشروني في الحقيقة بشيء، لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء‏.‏ ويجوز أن لا تكون صلة لبشر، ويكون سؤالاً على الوجه والطريقة يعني‏:‏ بأي طريقة تبشرونني بالولد، والبشارة به لا طريقة لها في العادة انتهى‏.‏ وكأنه قال‏:‏ أعلى وصفي بالكبر، أم على أني أرد إلى الشباب‏؟‏ وقيل‏:‏ لما استطاب البشارة أعاد السؤال، ويضعف هذا قولهم له‏:‏ بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ تبشروني بنون مشددة وياء المتكلم، أدغم نون الرفع في نون الوقاية‏.‏ وابن كثير‏:‏ بشدها مكسورة دون ياء‏.‏ ونافع يكسرها مخففة، وغلّطه أبو حاتم وقال‏:‏ هذا يكون في الشعر اضطراراً، وخرجت على أنه حذف نون الوقاية وكسر نون الرفع للياء، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها‏.‏ وقالوا هو مثل قوله‏:‏

يسوء القاليات إذا قليني *** وقول الآخر‏:‏

لا أباك تخوفيني *** وقرأ باقي السبعة‏:‏ بفتح وهي علامة الرفع‏.‏ قال الحسن‏:‏ فبم تبشرون على وجه الاحتقار وقلة المبالاة بالمبشرات لمضي العمر واستيلاء الكبر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ عجب من كبره وكبر امرأته، وتقدم ذكر سنة وقت البشارة‏.‏ وبالحق أي باليقين الذي لا لبس فيه، أو بالطريقة التي هي حق، وهي قول الله ووعده وأنه قادر على أنْ يوجد ولداً من غير أبوين، فكيف من شيخ فانٍ، وعجوز عاقر‏.‏ وقرأ ابن وثاب، وطلحة، والأعمش، ورويت عن أبي عمرو‏:‏ من القنطين، من قنط يقنط‏.‏ وقرأ النحويان والأعمش‏:‏ ومن يقنط، وفي الروم والزمر بكسر النون، وباقي السبعة بفتحها، وزيد بن علي والأشهب بضمها‏.‏ وهو استفهام في ضمنه النفي، ولذلك دخلت إلا في قوله‏:‏ إلا الضالون وقولهم له‏:‏ فلا تكن من القانطين نهي، والنهي عن الشيء لا يدل على تلبس المنهى عنه به ولا بمقارنته‏.‏ وقوله‏:‏ ومن يقنط ردّ عليهم، وأن المحاورة في البشارة لا تدل على القنوط، بل ذلك على سبيل الاستبعاد لما جرت به العادة‏.‏ وفي ذلك إشارة إلى أنّ هبة الولد على الكبر من رحمة الله، إذ يشد عضد والده به ويؤازره حالة كونه لا يستقل ويرث منه علمه ودينه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 66‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏57‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏59‏)‏ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏63‏)‏ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏64‏)‏ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ‏(‏65‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

لما بشروه بالولد راجعوه في ذلك، علم أنهم ملائكة الله ورسله، فاستفهم بقوله‏:‏ فما خطبكم‏؟‏ الخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد، فأضافه إليهم من حيث أنهم حاملوه إلى أولئك القوم المعذبين‏.‏ ونكر قوماً وصفتهم تقليلاً لهم واستهانة بهم، وهم قوم لوط أهل مدينة سدوم والمعنى‏:‏ أرسلنا بالهلاك‏.‏ وإلا آل لوط‏:‏ يحتمل أن يكون استثناء من الضمير المستكن في مجرمين والتقدير‏:‏ أجرموا كلهم إلا آل لوط، فيكون استثناء متصلاً، والمعنى‏:‏ إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا‏.‏ ويكون قوله‏:‏ إنا لمنجوهم أجمعين، استئناف إخبار عن نجاتهم، وذلك لكونهم لم يجرموا، ويكون حكم الإرسال منسحباً على قوم مجرمين وعلى آل لوط لإهلاك هؤلاء، وإنجاء هؤلاء‏.‏ والظاهر أنه استثناء منقطع، لأنّ آل لوط لم يندرج في قوله‏:‏ قوم مجرمين، لا على عموم البدل، لأنّ وصف الإجرام منتف عن آل لوط، ولا على عموم الشمول لتنكير قوم مجرمين، ولانتفاء وصف الإجرام عن آل لوط‏.‏ وإذا كان استثناء منقطعاً فهو مما يجب فيه النصب، لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن بوجه العامل على المستثنى فيه، لأنهم لم يرسلوا إليهم أصلاً، وإنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة‏.‏ ويكون قوله‏:‏ إنا لمنجوهم جرى مجرى خبر، لكن في اتصاله بآل لوط، لأن المعنى‏:‏ لكن آل لوط منجون‏.‏ وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدر بلكن إذا لم يكن بعده ما يصح أن يكون خبراً أنّ الخبر محذوف، وأنه في موضع رفع لجريان إلا وتقديرها بلكن‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فقوله إلا امرأته مم استثنى، وهل هو استثناء من استثناء‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ استثنى من الضمير المجرور في قوله‏:‏ لمنجوهم، وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء، لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال‏:‏ أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق‏:‏ أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، وفي قول المقر لفلان‏:‏ عليّ عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً‏.‏ فأما في الآية فقد اختلف الحكمان، لأنّ إلا آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين، وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم، فأنى يكون استثناء من استثناء‏:‏ انتهى‏.‏ ولما استسلف الزمخشري أن إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم، لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لما كان الضمير في لمنجوهم عائد على آل لوط، وقد استثنى منه المرأة، صار كأنه مستثنى من آل لوط، لأنّ المضمر هو الظاهر في المعنى‏.‏ والوجه الآخر‏:‏ أن قوله‏:‏ إلا آل لوط، لما حكم عليهم بغير الحكم علي قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم، فجاء قوله‏:‏ إنا لمنجوهم أجمعين تأكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى إلا آل لوط، فلم يرسل إليهم بالعذاب، ونجاتهم مترتبة على عدم الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير قولك‏:‏ قام القوم إلا زيداً، فإنه لم يقم وإلا زيداً لم يقم‏.‏

فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه، فإلا امرأته على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط، لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء به للتأكيد‏.‏

وقرأ الأخوان‏:‏ لمنجوهم بالتخفيف، وباقي السبعة بالتشديد‏.‏ وقرأ أبو بكر‏:‏ قدرنا بالتخفيف، وباقي السبعة بالتشديد، وكسرت إنها إجراء لفعل التقدير مجرى العلم، إما لكونه بمعناه، وإما لترتبه عليه‏.‏ وأسندوا التقدير إليهم، ولم يقولوا‏:‏ قدر الله، لأنهم هم المأمورون بإهلاكهم كما يقول من يلوذ بالملك ومن هو متصرف بأوامره‏:‏ أمرنا بكذا، والآمر هو الملك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم انتهى‏.‏ فأدرج مذهب الاعتزال في تفضيل الملائكة في غضون كلامه، ووصف قوم بمنكرون لأنه نكرتهم نفسه ونفرت منهم، وخاف أن يطرقوه بشرٍ‏.‏ وبل إضراب عن قول محذوف أي‏:‏ ما جئناك بشيء تخافه، بل جئناك بالعذاب لقومك، إذ كانوا يمترون فيه أي‏:‏ يشكون في وقوعه، أو يجادلونك فيه تكذيباً لك بما وعدتهم عن الله‏.‏ ويحتمل أن يكون نكرهم لكونهم ليسوا بمعروفين في هذا القطر، فخاف الهجوم منهم عليه، أو أن يتعرض إليهم أحد من قومه إذ كانوا في صورة شباب حسان مرد‏.‏ وأتيناك بالحق أي‏:‏ باليقين من عذابهم، وإنا لصادقون في الإخبار لحلوله بهم‏.‏ وتقدم الخلاف في القراءة في فأسر‏.‏ وروى صاحب الإقليد فسر من السير، وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني‏.‏ وحكى القاضي منذر بن سعيد أنّ فرقة قرأت بقطع بفتح الطاء، وتقدم الكلام في القطع وفي الالتفات في سورة هود‏.‏ وخطب الزمخشري هنا فقال‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ ما معنى أمره باتباع أدبارهم، ونهيهم عن الالتفات‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ قد بعث الله الهلاك على قومه ونجاه وأهله، إجابة لدعوته عليهم، وخرج مهاجراً فلم يكن بد من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله، لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أهوالهم، فلا يفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحالة المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه، وليكون مسيره مسير الهارب الذي تقدم سريه وتفوت به‏.‏

وحيث تؤمرون قال ابن عباس‏:‏ الشام‏.‏ وقيل‏:‏ موضع نجاة غير معروف‏.‏ وقيل‏:‏ مصر‏.‏ وقيل‏:‏ إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين‏.‏ وحيث على بابها من أنها ظرف مكان، وادعاء أنها قد تكون هنا ظرف زمان من حيث أنه ليس في الآية أمر إلا قوله‏:‏ فأسر بأهلك بقطع من الليل، ثم قيل له‏:‏ حيث تؤمر ضعيف‏.‏

ولفظ تؤمر يدل على خلاف ذلك، إذ كان يكون التركيب من حيث أمرتم، وحيث من الظروف المكانية المبهمة، ولذلك يتعدّى إليها الفعل وهو‏:‏ امضوا بنفسه، تقول‏:‏ قعدت حيث قعد زيد، وجاء في الشعر دخول في عليها‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فأصبح في حيث التقينا شريدهم *** طليق ومكتوف اليدين ومرعف

ولما ضمّن قضينا معنى أوحينا، تعدت تعديها بإلى أي‏:‏ وأوحينا إلى لوط مقضياً مبتوتاً، والإشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من إهلاك قومه‏.‏ وأنّ دابر تفخيم للأمر وتعظيم له، وهو في موضع نصب على البدل من ذلك قاله الأخفش، أو على إسقاط الباء أي بأنّ دابراً قاله الفراء، وجوزه الحوفي‏.‏ وأنّ دابر هؤلاء مقطوع كناية عن الاستئصال‏.‏ وتقدم تفسير مثله في قوله‏:‏ ‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا‏}‏ ومصبحين داخلين في الصباح، وهو حال من الضمير المستكن في مقطوع على المعنى، ولذلك جمعه وقدره الفراء وأبو عبيد‏:‏ إذا كانوا مصبحين، كما تقول‏:‏ أنت راكباً أحسن منك ماشياً، فإن كان تفسير معنى فصحيح، وإن أراد الإعراب فلا ضرورة تدعو إلى هذا التقدير‏.‏ وقرأ الأعمش وزيد بن علي‏:‏ إن دابر بكسر الهمزة لما ضمن قضينا معنى أوحينا، فكان المعنى‏:‏ أعلمنا، علق الفعل فكسر إنْ أو لما كان القضاء بمعنى الإيحاء معناه القول كسران، ويؤيده قراءة عبد الله‏.‏ وقلنا‏:‏ إنّ دابر وهي قراءة تفسير لا قرآن، لمخالفتها السواد‏.‏ والمدينة‏:‏ سدوم، وهي التي ضرب بقاضيها المثل في الجور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 77‏]‏

‏{‏وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ‏(‏68‏)‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏71‏)‏ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏72‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ‏(‏73‏)‏ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

الفضح والفضيحة مصدران لفضح يفضح، إذا أتى من أمر الإنسان ما يلزمه به العار، ويقال‏:‏ فضحك الصبح، إذا تبين للناس‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا *** مثل القلامة قد قصت من الظفر

التوسم‏:‏ تفعل من الوسم، هي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها، يقال‏:‏ توسم فيه الخير إذا رأى ميسم ذلك‏.‏ وقال عبد الله بن رواحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

إني توسمت فيك الخير أجمعه *** والله يعلم أني ثابت البصر

وقال الشاعر‏:‏

توسمت لما أن رأيت مهابة *** عليه وقلت المرء من آل هاشم

واتسم الرجل جعل لنفسه علامة يعرف بها، وتوسم الرجل طلب كلاء الوسمي‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك‏.‏ وأصل التوسم التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير أو غيره‏.‏

‏{‏وجاء أهل المدينة يستبشرون‏.‏ قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون‏.‏ واتقوا الله ولا تخزون‏.‏ قالوا أولم ننهك عن العالمين‏.‏ قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين‏.‏ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون‏.‏ فأخذتهم الصيحة مشرقين‏.‏ فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل‏.‏ إن في ذلك لآيات للمتوسمين‏.‏ وإنها لبسبيل مقيم‏.‏ إن في ذلك لآية للمؤمنين‏}‏‏:‏ استبشارهم‏:‏ فرحهم بالأضياف الذين وردوا على لوط عليه السلام‏.‏ والظاهر أنّ هذا المجيء ومحاورته مع قومه في حق أضيافه، وعرضه بناته عليهم، كان ذلك كله قبل إعلامه بهلاك قومه وعلمه بأنهم رسل الله، ولذلك سماهم ضيفان خوف الفضيحة، لأجل تعاطيهم ما لا يجوز من الفعل القبيح‏.‏ وقد جاء ذلك مرتباً هكذا في هود، والواو لا ترتب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون المجيء والمحاورة بعد علمه بهلاكهم، وخاور تلك المحاورة على جهة التكتم عنهم، والإملاء لهم، والتربص بهم انتهى‏.‏ ونهاهم عن فضحهم إياه لأنّ من أساء إلى ضيفه أو جاره فقد أساء إليه‏.‏ ولا تخزون من الخزي وهو الإذلال، أو من الخزاية وهو الاستحياء‏.‏ وفي قولهم‏:‏ أو لم ننهك دليل على تقدم نهيهم إياه عن أن يضيف، أو يجبر أحداً، أو يدفع عنه، أو يمنع بينهم وبينه، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد‏.‏ وكان هو صلى الله على نبينا وعليه يقوم بالنهي عن المنكر، والحجز بينهم وبين من تعرضوا له، فأوعدوه بأنه إنْ لم ينته أخرجوه‏.‏ وتقدم الكلام في قوله‏:‏ بناتي، ومعنى الإضافة في هود‏.‏ وإن كنتم فاعلين شك في قبولهم لقوله‏:‏ كأنه قال إن فعلتم ما أقول، ولكم ما أظنكم تفعلون‏.‏ وقيل‏:‏ إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم‏.‏ واللام في لعمرك لام الابتداء، والكاف خطاب للوط عليه السلام، والتقدير‏:‏ قالت الملائكة للوط لعمرك، وكنى عن الضلالة والغفلة بالسكرة أي‏:‏ تحيرهم في غفلتهم، وضلالتهم منعهم عن إدراك الصواب الذي يشير به من ترك البنين إلى البنات‏.‏

وقيل‏:‏ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قول الجمهور ابن عباس، وأبو الحوراء، وغيرهما‏.‏ أقسم تعالى بحياته تكريماً له‏.‏ والعمر‏:‏ بفتح العين وضمها البقاء، وألزموا الفتح القسم، ويجوز حذف اللام، وبذلك قرأ ابن عباس‏:‏ وعمرك‏.‏ وقال أبو الهيثم‏:‏ لعمرك لدينك الذي يعمر، وأنشد‏:‏

أيها المنكح الثريا سهيلاً *** عمرك الله كيف يلتقيان

أي‏:‏ عبادتك الله‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ عمرت ربي أي عبدته، وفلان عامر لربه أي عابد‏.‏ قال‏:‏ ويقال تركت فلاناً يعمر ربه أي يعبده، فعلى هذا لعمرك لعبادتك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ألزموا الفتح القسم لأنه أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بلعمرى ولعمرك فلزموا الأخف، وارتفاعه بالابتداء، والخبر محذوف أي‏:‏ ما أقسم به‏.‏ وقال بعض أصحاب المعاني‏:‏ لا يجوز أن يضاف إلى الله، لأنه لا يقال لله تعالى عمر، وإنما يقال‏:‏ هو أزلي، وكأنه يوهم أنّ العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع، وليس كذلك العمر، والعمر البقاء‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إذا رضيت عليّ بنو قشير *** لعمر الله أعجبني رضاها

وقال الأعشى‏:‏

ولعمر من جعل الشهور علامة *** فبين منها نقصها وكمالها

وكره النخعي أن يقال‏:‏ لعمري، لأنه حلف بحياة المقسم‏.‏ وقال النابغة‏:‏

لعمري وما عمري عليّ بهين *** والضمير في سكرتهم عائد على قوم لوط، وقال الطبري‏:‏ لقريش، وهذا مروي عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ ما خلق الله نفساً أكرم على الله من محمد قال له‏:‏ وحياتك إنهم أي قومك من قريش لفي سكرتهم أي ضلالهم، وجهلهم يعمهون يتردّدن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا بعيد لانقطاعه مما قبله وما بعده‏.‏ وقرأ الأشهب‏:‏ سكرتهم بضم السين، وابن أبي عبلة‏:‏ سكراتهم بالجمع، والأعمش‏:‏ سكرهم بغير تاء، وأبو عمرو في رواية الجهضمي‏:‏ أنهم بفتح همزة أنهم‏.‏ والصيحة‏:‏ صبحة الهلاك‏.‏ وقيل‏:‏ صوت جبريل عليه السلام‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هي صيحة الوحشة، وليست كصيحة ثمود مشرقين‏:‏ داخلين في الشروق، وهو بزوغ الشمس‏.‏ وقيل‏:‏ أول العذاب كان عند الصبح، وامتد إلى شروق الشمس، فكأنه تمام الهلاك عند ذلك‏.‏ والضمير في عاليها سافلها عائد على المدينة المتقدّمة الذكر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لقرى قوم لوط، ولم يتقدم لفظ القرى‏.‏ وقال مقاتل وابن زيد‏:‏ للمتوسمين، للمتفكرين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ للناظرين‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أو كلما وردت عكاظ قبيلة *** بعثوا إلى عريفهم يتوسم

وقال أبو عبيدة‏:‏ للمتبصرين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ للمعتبرين‏.‏ وروي نهشل عن ابن عباس للمتوسمين قال‏:‏ لأهل الصلاح والخير، والضمير في وأنها عائد على المدينة المهلكة أي‏:‏ أنها لبطريق ظاهر بين للمعتبر قاله‏:‏ مجاهد، وقتادة، وابن زيد‏.‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة‏.‏ وقوله‏:‏ لبسبيل أي ممر ثابت، وهي بحيث يراها الناس ويعتبرون بها لم تندرس‏.‏ وهو تنبيه لقريش، وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل‏.‏ وقيل‏:‏ عائد على الصيحة أي‏:‏ وإنّ الصيحة لبمرصد لمن يعمل عملهم لقوله‏:‏ وما هي من الظالمين ببعيد‏.‏ وقيل‏:‏ مقيم معلوم‏.‏ وقيل‏:‏ معتد دائم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هلاك دائم السلوك إنّ في ذلك أي‏:‏ في صنعنا بقوم لوط لعلامة ودليلاً لمن آمن بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏

الأيكة‏:‏ الشجرة الملتفة واحدة أيك‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تجلو بقادمتي حمامة ايكة *** برداً أسف لثاته بالإِثمد

‏{‏وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين‏.‏ فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين‏}‏‏:‏ هم قوم شعيب، والأيكة التي أضيفوا إليها كانت شجر الدوم‏.‏ وقيل‏:‏ المقل‏.‏ وقيل‏:‏ السدر‏.‏ وقيل‏:‏ الأيكة اسم الناحية، فيكون علماً‏.‏ ويقويه قراءة من قرأ في الشعراء وص‏:‏ ليكة ممنوع الصرف‏.‏ كفروا فسلط الله عليهم الحر، وأهلكوا بعذاب الظلة‏.‏ ويأتي ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى في سورة الشعراء‏.‏ وإنْ عند البصريين هي المخففة من الثقيلة، وعند الفراء نافية، واللام بمعنى ألا‏.‏ وتقدم نظير ذلك في‏:‏ ‏{‏وإن كانت لكبيرة‏}‏ في البقرة‏.‏ والظاهر قول الجمهور من أنّ الضمير في وأنهما عائد على قريتي‏:‏ قوم لوط، وقوم شعيب‏.‏ أي‏:‏ على أنهما ممر السائلة‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على شعيب ولوط أي‏:‏ وإنهما لبإمام مبين، أي بطريق من الحق واضح، والإمام الطريق‏.‏ وقيل‏:‏ وإنهما أي‏:‏ الحر بهلاك قوم لوط وأصحاب الأيكة، لفي مكتوب مبين أي‏:‏ اللوح المحفوظ‏.‏ قال مؤرج‏:‏ والإمام الكتاب بلغة حمير‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على أصحاب الأيكة ومدين، لأنه مرسل إليهما، فدل ذكر أحدهما على الآخر، فعاد الضمير إليهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏80‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏81‏)‏ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ‏(‏82‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ‏(‏83‏)‏ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

أصحاب الحجر ثمود قوم صالح عليه السلام، والحجر أرض بين الحجاز والشام، وتقدّمت قصته في الأعراف مستوفاة‏.‏ والمرسلين يعني بتكذيبهم صالحاً، لأنّ من كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين كما قيل‏:‏ الخبيبيون في ابن الزبير وأصحابه‏.‏ وعن جابر قال‏:‏ مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا‏:‏ ‏"‏ لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا ان تكونوا باكين حذر أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء، ثم زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها ‏"‏ وفي بعض طرقه ثم قال‏:‏ ‏"‏ هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلا رجلاً كان في حرم الله منعه حرم الله من عذاب الله ‏"‏ قيل‏:‏ من هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «أبو رغال» وإليه تنسب ثقيف‏.‏

وآتيناهم آياتنا قيل‏:‏ أنزل إليهم آيات من كتاب الله، وقيل‏:‏ يراد نصب الأدلة فأعرضوا عنها‏.‏ وقيل‏:‏ كان في الناقة آيات خمس‏.‏ خروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعاً‏.‏ وقيل‏:‏ كانت له آيات غير الناقة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ينحتون بكسر الخاء‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو حيوة بفتحها وصفهم بشدة النظر للدنيا والتكسب منها، فذكر من ذلك مثالاً وهو نقرهم بالمعاول ونحوها في الحجارة‏.‏ وآمنين، قيل‏:‏ من الانهدام‏.‏ وقيل‏:‏ من حوادث الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ من الموت لاغترارهم بطول الأعمار‏.‏ وقيل‏:‏ من نقب اللصوص، ومن الأعداء‏.‏ وقيل‏:‏ من عذاب الله، يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة، فكانوا لا يعملون بحسبها، بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها‏.‏ ومصبحين‏:‏ داخلين في الصباح‏.‏ والظاهر أنّ ما في قوله فما أغنى نافية، وتحتمل الاستفهام المراد منه التعجب‏.‏ وما في كانوا يحتمل أن تكون مصدرية، والظاهر أنها بمعنى الذي، والضمير محذوف أي‏:‏ يكسبونه من البيوت الوثيقة والأموال والعدد، بل خروا جاثمين هلكى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 99‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ‏(‏85‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏86‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ‏(‏87‏)‏ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ‏(‏97‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

الخفض مقابل الرفع، وهو كناية عن الإلانة والرفق‏.‏ عضين‏:‏ جمع عضة، وأصلها الواو والهاء يقال‏:‏ عضيت الشيء تعضيه فرقته، وكل فرقة عضة، فأصله عضوة‏.‏ وقيل‏:‏ العضة في قريش السحر، يقولون للساحر‏:‏ عاضه، وللساحرة‏:‏ عاضهة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أعوذ بربي من النافثات *** في عقد العاضه المعضه

وفي الحديث‏:‏ «لعن الله العاضهة والمستعضهة» وفسر بالساحر والمستسحرة، فأصله الهاء‏.‏ وقيل‏:‏ من العضه يقال‏:‏ عضهه عضها، وعضيهة رماه بالبهتان‏.‏ قال الكسائي‏:‏ العضه الكذب والبهتان، وجمعها عضون‏.‏ وذهب الفراء إلى أنّ عضين من العضاة، وهي شجرة تؤذي تخرج كالشوك‏.‏ ومن العرب من يلزم الياء ويجعل الإعراب في النون فيقول‏:‏ عضينك كما قالوا‏:‏ سنينك، وهي كثيرة في تميم وأسد‏.‏ الصدع‏:‏ الشق، وتصدع القوم تفرقوا، وصدعته فانصدع أي شققته فانشق‏.‏ وقال مؤرج‏:‏ أصدع أفصل، وقال ابن الأعرابي‏:‏ أفصد‏.‏

‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل‏.‏ إن ربك هو الخلاق العليم‏.‏ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم‏.‏ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين‏.‏ وقل إني أنا النذير المبين‏.‏ كما أنزلنا على المقتسمين‏.‏ الذين جعلوا القرآن عضين‏.‏ فوربك لنسألنهم أجمعين‏.‏ عما كانوا يعملون‏.‏ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين‏.‏ إنا كفيناك المستهزئين‏.‏ الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون‏.‏ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون‏.‏ فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين‏}‏‏:‏ إلا بالحق أي‏:‏ خلقاً ملتبساً بالحق‏.‏ لم يخلق شيء من ذلك عبثاً ولا هملاً، بل ليطيع من أطاع بالتفكر في ذلك الخلق العظيم، وليتذكر النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى‏.‏ ولذلك نبه من يتنبه بقوله‏:‏ وأن الساعة لآتية، فيجازي من أطاع ومن عصي‏.‏ ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصفح، وذلك يقتضي المهادنة، وهي منسوخة بآية السيف قاله قتادة‏.‏ أو إظهار الحكم عنهم والإغضاء لهم‏.‏

ولما ذكر خلق السموات والأرض وما بينهما قال‏:‏ إن ربك هو الخلاق، أتى بصفة المبالغة لكثرة ما خلق، أو الخلاق من شاء لما شاء من سعادة أو شقاوة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الخلاق الذي خلقك وخلقهم، وهو العليم بحالك وحالهم، فلا يخفى عليه ما يجري بينكم‏.‏ أو إنّ ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم، وقد علم أنّ الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح‏.‏ وقرأ زيد بن علي، والجحدري، والأعمش، ومالك بن دينار‏:‏ هو الخالق، وكذا في مصحف أبي وعثمان، من المثاني‏.‏

والمثاني جمع مثناة، والمثنى كل شيء يثني أي‏:‏ يجعل اثنين من قولك‏:‏ ثنيت الشيء ثنياً أي عطفته وضممت آليه آخر، ومنه يقال لركبتي الدابة ومرفقيه‏:‏ مثاني، لأنه يثني بالفخذ والعضد‏.‏

ومثاني الوادي معاطفه‏.‏ فتقول‏:‏ سبعاً من المثاني مفهوم سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثني، وهذا مجمل، ولا سبيل إلى تعيينه إلا بدليل منفصل‏.‏ قال ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وابن جبير‏:‏ السبع هنا هي السبع الطوال‏:‏ البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءة، لأنهما في حكم سورة، ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية‏.‏ وسميت الطوال مثاني لأنّ الحدود والفرائض والأمثال ثنيت فيها قاله ابن عباس، وعلى قوله من لبيان الجنس‏.‏ وقيل‏:‏ السابعة سورة يونس قاله ابن جبير، وقيل‏:‏ براءة وحدها، قاله أبو مالك‏.‏ والمثاني على قول هؤلاء وابن عباس في قوله المتقدم‏:‏ القرآن‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتاباً متشابهاً مثاني‏}‏ وسمي بذلك لأنّ القصص والأخبار تثنى فيه وتردّد‏.‏ وقيل‏:‏ السبع آل حميم، أو سبع صحائف وهي الأسباع‏.‏ وقيل‏:‏ السبع هي المعاني التي أنزلت في القرآن‏:‏ أمر، ونهي، وبشارة، وإنذار، وضرب أمثال، وتعداد النعم، وأخبار الأمم‏.‏ قاله زياد بن أبي مريم‏.‏ وقال عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس أيضاً، والحسن، وأبو العالية، وابن أبي مليكة، وعبيد بن عمير، وجماعة‏:‏ السبع هنا هي آيات الحمد‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وهي سبع ببسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ وقال غيره‏:‏ سبع دون البسملة‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ لقد نزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شيء، ولا ينبغي أن يعدل عن هذا القول، بل لا يجوز العدول عنه لما في حديث أبيٍّ ففي آخره، «هي السبع المثاني» وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنها السبع المثاني وأمّ القرآن وفاتحة الكتاب ‏"‏ وسميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها يثني بها على الله تعالى جوزه الزجاج‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي هذا القول من جهة التصريف نظر انتهى‏.‏ ولا نظر في ذلك، لأنها جمع مثنى بضم الميم مفعل من أثنى رباعياً أي‏:‏ مقر ثناء على الله تعالى أي‏:‏ فيها ثناء على الله تعالى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لأن الله استثناها لهذه الأمة ولم يعطها لغيرها، وقال نحوه ابن أبي مليكة‏.‏ وعلى هذا التفسير الوارد في الحديث تكون من لبيان الجنس، كأنه قيل‏:‏ التي هي المثاني، وكذا في قول من جعلها أسباع القرآن، أو سبع المعاني‏.‏ وأما من جعلها السبع الطوال أو آل حميم فمن للتبعيض، وكذا في قول من جعل سبعاً الفاتحة والمثاني القرآن‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ يجوز أن تكون كتب الله كلها مثاني، لأنها تثني عليه، ولما فيها من المواعظ المكررة، ويكون القرآن بعضها‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ والقرآن العظيم بالنصب‏.‏ فإن عني بالسبع الفاتحة أو السبع الطوال لكان ذلك من عطف العام على الخاص، وصار الخاص مذكوراً مرتين‏.‏

إحداهما‏:‏ بجهة الخصوص، والأخرى‏:‏ بجهة العموم‏.‏ أو لأنّ ما دون الفاتحة أو السبع الطوال ينطلق عليه لفظ القرآن، إذ هو اسم يقع على بعض الشيء، كما يقع على كله‏.‏ وإنْ عنى الإسباع فهو من باب عطف الشيء على نفسه، من حيث أنّ المعنى‏:‏ ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم أي‏:‏ الجامع لهذين المعنيين وهو الثناء والتنبيه والعظم‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ والقرآن العظيم بالخفض عطفاً على المثاني‏.‏ وأبعد من ذهب إلى أنّ الواو مقحمة، والتقدير‏:‏ سبعاً من المثاني القرآن العظيم‏.‏ ولما ذكر تعالى ما أنعم به على رسوله صلى الله عليه وسلم من إتيانه ما آتاه، نهاه‏.‏ وقد قلنا‏:‏ إنّ النهي لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة عن طموح عينه إلى شيء من متاع الدنيا، وهذا وإن كان خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم فالمعنى‏:‏ نهى أمته عن ذلك لأنّ من أوتي القرآن شغله النظر فيه وامتثال تكاليفه وفهم معانيه عن الاشتغال بزهرة الدنيا‏.‏ ومد العين للشيء إنما هو لاستحسانه وإيثاره‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي لا تتمنَّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدنيا أزواجاً منهم، أي رجالاً مع نسائهم، أو أمثالاً في النعم، وأصنافاً من اليهود والنصارى والمشرين أقوال‏.‏ ونهاه تعالى عن الحزن عليهم إن لم يؤمنوا، وكان كثير الشفقة على من بعث إليه، وادًّا أن يؤمنوا بالله كلهم، فكان يلحقه الحزن عليهم‏.‏ نهاه تعالى عن الحزن عمن لم يؤمن، وأمره بخفض جناحه لمن آمن، وهي كناية عن التلطف والرفق‏.‏ وأصله‏:‏ أنّ الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه لم ثم قبضه على فرخه، والجناحان من ابن آدم جانباه‏.‏ ثم أمره أن يبلغ أنه هو النذير الكاشف لكم ما جئت به إليكم من تعذيبكم إنْ لم تؤمنوا، وإنزال نقم الله المخوفة بكم‏.‏ والكاف قال الزمخشري‏:‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يتعلق بقوله‏:‏ ولقد آتيناك أي‏:‏ أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، حيث قالوا بعنادهم وعداوتهم‏:‏ بعضه حق موافق للتوارة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل، وعصوه‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم‏:‏ سورة البقرة لي، ويقول الآخر‏:‏ سورة آل عمران لي‏.‏ ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرأونه من كتبهم، وقد اقتسموه بتحريفهم، وبأن اليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم‏:‏ سحر، وشعر، وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم‏.‏ والثاني‏:‏ أن يتعلق بقوله تعالى‏:‏ وقل إني أنا النذير المبين، وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني‏:‏ اليهود، هو ما جرى على قريظة والنضير، جعل المتوقع بمنزلة الواقع، وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان‏.‏

ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير أي‏:‏ أنذر المعضين الذين يجزؤون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم‏:‏ الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم، فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم‏:‏ لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر، ويقول الآخر‏:‏ كذاب، والآخر‏:‏ شاعر، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر، وقبله بآفات‏:‏ كالوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وغيرهم‏.‏ أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام والاقتسام بمعنى التقاسم ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ إذا علقت قوله كما أنزلنا بقوله ولقد آتيناك فما معنى توسط لا تمدن إلى آخره بينهما ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ لما كان ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين انتهى أما الوجه الأول وهو تعلق كما بآتيناك فذكره أبو البقاء على تقدير وهو وأن يكون في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره آتيناك سبعاً من المثاني إيتاء كما أنزلنا أو إنزالاً كما أنزلنا لأن آتيناك بمعنى أنزلنا عليك وأما قوله أن المقتسمين هم أهل الكتاب فهو قول الحسن ومجاهد ورواه العوفي عن ابن عباس وأما قوله اقتسموا القرآن فهو قول ابن عباس فيما رواه عنه سعيد بن جبير وأما قوله اقتسموا فقال بعضهم سورة البقرة وبعضهم سورة آل عمران الخ فقاله عكرمة وقال السدي هم الأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوث والوليد والعاصي والحرث بن قيس ذكروا القرآن فمن قائل البعوض لي ومن قائل النمل لي وقائل الذباب لي وقائل العنكبوت لي استهزاء فأهلك الله جميعهم‏.‏ وأما قوله أن القرآن عبارة عما يقرأونه من كتبهم إلى آخره فقاله مجاهد‏.‏ وأما قوله ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير أي أنذر المعضين فلا يجوز أن يكون منصوباً بالنذير كما ذكر لأنه موصوف بالمبين ولا يجوز أن يعمل إذا وصف قبل ذكر المعمول على مذهب البصريين لا يجوز هذا عليم شجاع علم النحو فتفصل بين عليم وعلم بقوله شجاع وأجاز ذلك الكوفيون وهي مسألة خلافية تذكر دلائلها في علم النحو‏.‏ وأما قوله الذين يجزؤون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير فمروي عن قتادة إلا أنه قال بدل شعر كهانة‏.‏ وأما قوله الذين اقتسموا مداخل مكة فهو قول السائب وفيه أن الوليد بن المغيرة قال‏:‏ ليقل بعضكم كاهن وبعضكم ساحر وبعضكم شاعر وبعضكم غاوٍ وهم حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاصي بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود والسائب بن صيفي والنضر بن احرث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة تقاسموا على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلكوا جميعاً‏.‏

وأما قوله أنهم الذين تقاسموا أن يبيتوا صالحاً فقول عبد الله بن زيد‏.‏ وقال ابن عطية والكاف من قوله كما متعلقة بفعل محذوف تقديره وقل إني أنا النذير عذاباً كالذي أنزلنا على المقتسمين فالكاف اسم في موضع نصب هذا قول المفسرين وهو عندي غير صحيح لأن كما ليس مما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم بل هو من قول الله تعالى فينفصل الكلام وإنما يترتب هذا القول بأن يقدران الله تعالى قال له أنذر عذاباً كما والذي أقول في هذا المعنى وقل أنا النذير المبين كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك ويحتمل أن يكون المعنى وقل أني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً وهذا على أن المقتسمين أهل الكتاب انتهى‏.‏ أما قوله وهو عندي غير صحيح إلى آخره فقد استعذر بعضهم عن ذلك فقال الكاف متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى تقديره أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا وإن كان المنزل الله كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا وإن كان الملك هو الآمر‏.‏ وأما قوله والذي أقول في هذا المعنى إلى آخره فكلام مثبج ولعله من الناسخ ولعله أن يكون وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم‏.‏ وقال أبو البقاء وقيل التقدير متعناهم تمتيعاً كما أنزلنا والمعنى متعناً بعضهم كما عذبنا بعضهم‏.‏ وقيل التقدير إنذار مثل ما أنزلنا انتهى‏.‏ وقيل الكاف زائدة التقدير أنا النذير المبين ما أنزلنا على المقتسمين هذه أقوال وتوجيهات متكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره بخفض جناحه للمؤمنين أمره أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه هو النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر عليه الصلاة والسلام بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمره تعالى بأن يقول لهم إني أنا النذير المبين لكم ولغيركم كما قال تعالى إنما أنت منذر من يخشاها وتكون الكاف نعتاً لمصدر محذوف تقديره وقل قولاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين إنك نذير لهم فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفار المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمنين كما تنذر الكافرين كما قال تعالى نذير وبشير لقوم يؤمنون والظاهر أن الذين صفة للمقتسمين وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن ينتصب على الذم وتقدم تجويز الزمخشري له أن يكون مفعولاً بالنذير فوربك أقسم تعالى بذاته وربوبيته مضافاً إلى رسوله على جهة التشريف والضمير في لنسألنهم يظهر عوده على المقتسمين وهو وعيده من سؤال تقريع ويقال أنه يعود على الجميع من كافر ومؤمن إذ قد تقدم ذكرهما والسؤال عام للخلق ويجوز أن يكون السؤال كناية عن الجزاء وعن ما كانوا يعملون عام في جميع الأعمال‏.‏

وقال أبو العالية يسأل العباد عن حالتين عن ما كانوا يعبدون وعن ما أجابوا المرسلين وقال ابن عباس يقال لهم لم عملتم كذا‏؟‏ قال أنس وابن عمر ومجاهد السؤال عن لا إله إلا الله وذكره الزهراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا ثبت ذلك فيكون المعنى عن الوفاء بلا إله إلا الله والصدق لمقالها كما قال الحسن ليس الإيمان بالتحلي ولا الدين بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال‏.‏ وقال ابن عباس فاصدع بما تؤمر امض به‏.‏ وقال الكلبي اجهر به وأظهره من الصديع وهو الفجر قال الشاعر‏:‏

كأن بياض غرته صديع *** وقال السدي تكلم بما تؤمر‏.‏ وقال ابن زيد أعلم بالتبليغ‏.‏ وقال ابن بحر جرد لهم القول في الدعاء إلى الإيمان‏.‏ وقال أبو عبيدة عن رؤبة ما في القرآن أغرب من قوله فاصدع بما تؤمر وما في بما بمعنى الذي والمفعول الثاني محذوف تقديره بما تؤمره وكان أصله تؤمر به من الشرائع فحذف الحرف فتعدى الفعل إليه‏.‏ وقال الأخفش ما موصولة والتقدير فاصدع بما تؤمر بصدعه فحذف المضاف ثم الجار ثم الضمير‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول انتهى‏.‏ وهذا ينبني على مذهب من يجوز أن المصدر يراد به أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز وأعرض عن المشركين من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف قاله ابن عباس ثم أخبره تعالى أنه كفاه المستهزئين بمصائب أصابتهم لم يسع فيها الرسول ولا تكلف لها مشقة‏.‏ قال عروة وابن جبير هم خمسة الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث ومن بني خزاعة الحرث بن الطلاطلة‏.‏ قال أبو بكر الهذلي قلت للزهري أن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين فقال ابن جبير هو الحرث بن عيطلة وقال عكرمة هو الحرث بن قيس فقال الزهري صدقا إنه عيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في المستهزئين هبار بن الأسود وذلك وهم لأن هباراً أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة‏.‏ وعن ابن عباس أن المستهزئين كانوا ثمانية وفي رواية مكان الحرث بن قيس عدي بن قيس‏.‏ وقال الشعبي وابن أبي بزة كانوا سبعة فذكر الوليد والحرث بن عدي والأسودين والأثرم وبعكك ابني الحرث بن السباق وكذا قال مقاتل إلا أنه قال مكان الحرث بن عدي الحرث بن قيس السهمي وذكر المفسرون والمؤرخون أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه فمنعه الكبر أن يطامن لنزعه فأصاب عرقاً في عقبه‏.‏

قال قتادة ومقسم وهو الأكحل فقطعه فمات وأومأ إلى أخمص العاصي فدخلت فيه شوكة‏.‏ وقيل ضربته حية فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات وأومأ إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي وهلك وأشار إلى أنف الحرث بن قيس فامتخط قيحاً فمات‏.‏ وقيل أصابته سموم فاسودّ حتى صار كأنه حبشي فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا الباب في وجهه فصار يطوف في شعاب مكة حتى مات وفي بعض ما أصاب هؤلاء اختلاف والله أعلم‏.‏ وقال مقاتل أصاب الأثرم أو بعككاً الدبيلة والآخر ذات الجنب فماتا فسوف يعلمون وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وجعلهم إلهاً مع الله في الآخرة كما جوزوا في الدنيا وكنى بالصدر عن القلب لأنه محله وجعل سبب الضيق ما يقولون وهو ما ينطقون به من الاستهزاء والطعن فيما جاء به ثم أمره تعالى بتنزيهه عن ما نسبوا إليه من اتخاذ الشريك معه مصحوباً بحمده والثناء على ما أسدي إليه من نعمة النبوة والرسالة والتوحيد وغيرها من النعم فهذا في المعتقد والفعل القلبي وأمره بكونه من الساجدين والمراد والله أعلم من المصلين فكنى بالسجود عن الصلاة وهي أشرف أفعال الجسد وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ولما كان الصادر من المستهزئين اعتقاداً وهو فعل القلب وقولاً وهو ما يقولون في الرسول وما جاء به وهو فعل جارحة أمر تعالى بما يقابل ذلك من التنزيه لله ومن السجود وهما جامعان فعل القلب وفعل الجسد ثم أمره تعالى بالعبادة التي هي شاملة لجميع أنواع ما يتقرب بها إليه تعالى وهذه الأوامر معناها دُم على كذا لأنه صلى الله عليه وسلم ما زال متلبساً بها أي دم على التسبيح والسجود والعبادة والجمهور على أن المراد باليقين الموت أي ما دمت حياً فلا تخل بالعبادة وهو تفسير ابن عمر ومجاهد والحسن وقتادة وابن زيد ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عثمان بن مظعون عند موته أما هو فقد رأى اليقين ويروى فقد جاءه اليقين وليس اليقين من أسماء الموت وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل فسمي يقيناً تجوزاً أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه‏.‏ وقال ابن عطية ويحتمل أن يكون المعنى حتى يأتيك اليقين في النصر الذي وعدته انتهى وقاله ابن بحر قال اليقين النصر على الكافرين انتهى وحكمة التغيية باليقين وهو الموت أنه يقتضي ديمومة العبادة ما دام حياً بخلاف الاقتصار على الأمر بالعبادة غير مغياً لأنه يكون مطلقاً فيكون مطيعاً بالمرة الواحدة والمقصود أن لا يفارق العبادة حتى يموت‏.‏

سورة النحل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏(‏6‏)‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر‏:‏ هي كلها مكية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة بعد حمزة وهي قوله‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ وقيل‏:‏ إلا ثلاث آيات ‏{‏وإن عاقبتم‏}‏ الآية نزلت في المدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد، وقوله‏:‏ ‏{‏واصبر وما صبرك إلا بالله‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا‏}‏ وقيل‏:‏ من أولها إلى قوله‏:‏ ‏{‏يشركون‏}‏ مدني وما سواه مكي‏.‏ وعن قتادة عكس هذا‏.‏

ووجه ارتباطها بما قبلها أنه تعالى لما قال‏:‏ ‏{‏فوربك لنسألنهم أجمعين‏}‏ كان ذلك تنبيهاً على حشرهم يوم القيامة، وسؤالهم عما أجرموه في دار الدنيا، فقيل‏:‏ أتى أمر الله وهو يوم القيامة على قول الجمهور‏.‏ وعن ابن عباس المراد بالأمر‏:‏ نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهوره على الكفار‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة، أو نزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيباً بالوعد انتهى‏.‏ وهذا الثاني قاله ابن جريج قال‏:‏ الأمر هنا ما وعد الله نبيه من النصر وظفره بإعدائه، وانتقامه منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال، والاستيلاء على منازلهم وديارهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الأمر هنا مصدر أمر، والمراد به‏:‏ فرائضه وأحكامه‏.‏ قيل‏:‏ وهذا فيه بعد، لأنه لم ينقل أنّ أحداً من الصحابة استعجل فرائض من قبل أن تفرض عليهم‏.‏ وقال الحسن وابن جريج أيضاً‏:‏ الأمر عقاب الله لمن أقام على الشرك، وتكذيب الرسول، واستعجال العذاب منقول عن كثير من كفار قريش وغيرهم‏.‏ وقريب من هذا القول قول الزجاج‏:‏ هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم‏.‏ وقيل‏:‏ الأمر بعض أشراط الساعة‏.‏ وأتى قيل‏:‏ باق على معناه من المضي، والمعنى‏:‏ أقي أمر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً‏.‏ وقيل‏:‏ أتى أمر الله، أتت مبادئه وأماراته‏.‏ وقيل‏:‏ عبر بالماضي عن المضارع لقرب وقوعه وتحققه، وفي ذلك وعيد للكفار‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تستعجلوه بالتاء على الخطاب، وهو خطاب للمؤمنين أو خطاب للكفار على معنى‏:‏ قل لهم فلا تستعجلوه‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها‏}‏ وقرأ ابن جبير‏:‏ بالياء نهياً للكفار، والظاهر عود الضمير في فلا تستعجلوه على الأمر لأنه هو المحدث عنه‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الله أي‏:‏ فلا تستعجلوا الله بالعذاب، أو بإتيان يوم القيامة كقوله‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ تشركون بتاء الخطاب، وباقي السبعة والأعرج وأبوه جعفر، وابن وضاح، وأبو رجاء، والحسن‏.‏ وقرأ عيسى‏:‏ الأولى بالتاء من فوق، والثانية بالياء والتاء من فوق معاً؛ الأعمش، وأبو العالية، وطلحة، وأبو عبد الرحمن، وابن وثاب، والجحدري، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية‏.‏ وأفضل قراءته عما يشركون باستعجالهم، لأن استعجالهم استهزاء وتكذيب، وذلك من الشرك‏.‏

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ ينزل مخففاً، وباقي السبعة مشدداً، وزيد بن علي والأعمش وأبو بكر‏:‏ تنزل مشدداً مبنياً للمفعول، الملائكة بالرفع‏.‏ والجحدري كذلك، إلا أنه خفف‏.‏ والحسن، وأبو العالية، والأعرج، والمفضل، عن عاصم ويعقوب‏:‏ بفتح التاء مشدداً مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ ما ننزل بنون العظمة والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفيهما شذوذ كثير انتهى‏.‏ وشذوذهما أنّ ما قبله وما بعده ضمير غيبة، ووجهه أنه التفات، والملائكة هنا جبريل وحده قاله الجمهور، أو الملائكة المشار إليهم بقوله‏:‏ ‏{‏والنازعات غرقاً‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ الروح الوحي تنزل به الملائكة على الأنبياء، ونظيره‏:‏ ‏{‏يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده‏}‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ هو القرآن، ومنه ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ المراد بالروح أرواح الخلق، لا ينزل ملك إلا ومعه روح‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ الروح الرحمة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ما معناه الروح الهداية لأنها تحيا بها القلوب، كما تحيا الأبدان بالأرواح‏.‏ وقيل‏:‏ الروح جبريل، ويدل عليه‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين‏}‏ وتكون الباء للحال أي‏:‏ ملتبسة بالروح‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى مع، وقيل‏:‏ الروح حفظة على الملائكة لا تراهم الملائكة، كما الملائكة حفظة علينا لا تراهم‏.‏ وقال مجاهد أيضاً‏:‏ الروح اسم ملك، ومنه‏:‏ ‏{‏يوم يقوم الروح والملائكة صفاً‏}‏ وعن ابن عباس‏:‏ أنّ الروح خلق من خلق الله كصور ابن آدم، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وقال نحوه ابن جريج‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول ضعيف لم يأت به سند‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ بالروح من أمره، بما تحيا به القلوب الميتة بالجهل، من وحيه أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد انتهى‏.‏ ومِنْ للتبعيض، أو لبيان الجنس‏.‏ ومن يشاء‏:‏ هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنْ مصدرية، وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع، وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم‏:‏ كتبت إليه بأنْ قم، وهو بدل من الروح‏.‏ أو على إسقاط الخافض‏:‏ بأن أنذروا، فيجري الخلاف فيه‏:‏ أهو في موضع نصب‏؟‏ أو في موضع خفض‏؟‏ وقال الزمخشري‏:‏ وأن أنذروا بدلاً من الروح أي‏:‏ ننزلهم بأن أنذروا، وتقديره‏:‏ أنذروا أي‏:‏ بأن الشأن أقول لكم أنذروا‏.‏ أنه لا إله إلا أنا انتهى‏.‏ فجعلها المخفف من الثقيلة، وأضمر اسمها وهو ضمير الشأن، وقدر إضمار القول‏:‏ حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع سهولة كونها الشانية التي من شأنها نصب المضارع‏.‏ وجوّز ابن عطية، وأبو البقاء، وصاحب الغنيان‏:‏ أن تكون مفسرة فلا موضع لها من الإعراب، وذلك لما في التنزل بالوحي من معنى القول أي‏:‏ أعلموا الناس من نذرت بكذا إذا أعلمته‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والمعنى يقول لهم‏:‏ أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فاتقون انتهى‏.‏

لما جعل أنْ هي التي حذف منها ضمير الشأن قدر هذا التقدير وهو يقول لهم‏:‏ أعلموا‏.‏ وقرئ‏:‏ لينذروا أنه، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان المنذرون كافرين بألوهيته، ففي ضمن أمرهم مكان خوف، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه، ووعيد وتحذير من عبادة الأوثان‏.‏ ومعنى‏:‏ فاتقون أي اتقوا عقابي باتخاذكم إلهاً غيري‏.‏ وجاءت الحكاية على المعنى في قوله‏:‏ إلا أنا، ولو جاءت على اللفظ لكان لا إله إلا الله، وكلاهما سائغ‏.‏ وحكاية المعنى هنا أبلغ إذ فيها نسبة الحكم إلى ضمير المتكلم المنزل الملائكة، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض، وهم مقرون بأنه تعالى هو خالقها‏.‏ وبالحق أي‏:‏ بالواجب اللائق، وذلك أنها تدل على صفات تحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع وهي‏:‏ الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، بخلاف شركائهم التي لا يحق لها شيء من ذلك‏.‏

وقرأ الأعمش‏:‏ فتعالى بزيادة فاء، وجاءت هذه الجملة منبهة على تنزيه الله تعالى موجد هذا العالم العلوي والعالم السفلي عن أن يتخذ معه شريك في العبادة‏.‏ ولما ذكر ما دل على وحدانيته من خلق العالم العلوي والأرض، وهو استدلال بالخارج، ذكر الاستدلال من نفس الإنسان، فذكر إنشاءه من نطفة فإذا هو خصيم مبين، وكان حقه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر الله‏.‏ والخصيم من صفات المبالغة من خصم بمعنى اختصم، أو بمعنى مخاصم، كالخليط والجليس، والمبين الظاهر الخصومة أو المظهرها‏.‏ والظاهر أنّ سياق هذين الوصفين سياق ذم لما تقدم من قوله‏:‏ سبحانه وتعالى عما يشركون، وقوله‏:‏ أن أنذروا الآية‏.‏ ولتكرير تعالى عما يشركون، ولقوله في يس‏:‏ ‏{‏أو لم ير الإنسان‏}‏ الآية وقال‏:‏ ‏{‏بل هم قوم خصمون‏}‏ وعنى به مخاصمتهم لأنبياء الله وأوليائه بالحجج الداحضة، وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم، أو مردفاً بالذم‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالإنسان هنا أُبي بن خلف الجمحي‏.‏ وقال قوم‏:‏ سياق الوصفين سياق المدح، لأنه تعالى قواه على منازعة الخصوم، وجعله مبين الحق من الباطل، ونقله من تلك الحالة الجمادية وهو كونه نطفة إلى الحالة العالية الشريفة وهي‏:‏ حالة النطق والإبانة‏.‏ وإذ هنا للمفاجأة، وبعد خلقه من النطفة لم تقع المفاجأة بالمخاطبة إلا بعد أحوال تطور فيها، فتلك الأحوال محذوفة، وتقع المفاجأة بعدها‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ اعلم أنّ أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان، ثم ذكر الإنسان وأنه مركب من بدن ونفس في كلام كثير يوقف عليه في تفسيره، ولا نسلم ما ذكره من أنّ الأفلاك والكواكب أشرف من الإنسان‏.‏ ولما ذكر خلق الإنسان ذكر ما امتن به عليه في قوام معيشته، فذكر أولاً أكثرها منافع، وألزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك الأنعام، وتقدم شرح الأنعام في الأنعام‏.‏

والأظهر أن يكون لكم فيها دفء استئناف لذكر ما ينتفع بها من جهتها، ودفء مبتدأ وخبره لكم، ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار‏.‏ وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالاً من دفء، إذ لو تأخر لكان صفة‏.‏ وجوز أيضاً أن يكون لكم حالاً من دفء وفيها الخبر، وهذا لا يجوز لأنّ الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها، لا يجوز‏:‏ قائماً في الدار زيد، فإنْ تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف، أو توسطت فأجاز ذلك الأخفش، ومنعه الجمهور‏.‏ وأجاز أيضاً أن يرتفع دفء بلكم أو نعتها بأل، والجملة كلها حال من الضمير المنصوب انتهى‏.‏ ولا تسمى جملة، لأنّ التقدير‏:‏ خلقها لكم فيها دفء، أو خلقها لكم كائناً فيها دفء، وهذا من قبيل المفرد، لا من قبيل الجملة‏.‏ وجوزوا أن يكون لكم متعلقاً بخلقها، وفيها دفء استئناف لذكر منافع الأنعام‏.‏ ويؤيد كون لكم فيها دفء يظهر فيه الاستئناف مقابلته بقوله‏:‏ ولكم فيها جمال، فقابل المنفعة الضرورية بالمنفعة غير الضرورية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الدفء نسل كل شيء، وذكره الأموي عن لغة بعض العرب‏.‏ والظاهر أن نصب والأنعام على الاشتغال، وحسن النصب كون جملة فعلية تقدمت، ويؤيد ذلك قراءته في الشاذ برفع الأنعام‏.‏ وقال الزمخشري، وابن عطية‏:‏ يجوز أن يكون قد عطف على البيان، وعلى هذا يكون لكم استئناف، أو متعلق بخلقها‏.‏ وقرأ الزهري وأبو جعفر‏:‏ دفء بضم الفاء وشدها وتنوينها، ووجهه أنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء بعد حذفها، ثم شدد الفاء إجراء للوصل مجرى الوقف، إذ يجوز تشديدها في الوقف‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ دف بنقل الحركة، وحذف الهمزة دون تشديد الفاء‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ الزهري دف بضم الفاء من غير همز، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة‏.‏ ومنهم من يعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفاً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ومنافع الركوب، والحمل، والألبان، والسمن، والنضج عليها، وغير ذلك‏.‏ وأفرد منفعة الأكل بالذكر، كما أفرد منفعة الدفء، لأنهما من أعظم المنافع‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ تقدم الظرف في قوله‏:‏ ومنها تأكلون مؤذن، بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معائشهم، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به، وكالجاري مجرى التفكه‏.‏ وما قاله منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص‏.‏ وقد رددنا عليه ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏ والظاهر أنّ مِن للتبعيض كقولك‏:‏ إذا أكلت من الرغيف‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويحتمل أنّ طعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر، والحب والثمار التي تأكلونها منها، وتكتسبون بإكراء الإبل، وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها انتهى‏.‏

فعلى هذا يكون التبعيض مجازاً، أو تكون من للسبب‏.‏ الجمال مصدر جمل بضم الميم، والرجل جميل، والمرأة جميلة وجملاء عن الكسائي وأنشد‏:‏

فهي جملاء كبدر طالع *** بزت الخلق جميعاً بالجمال

ويطلق الجمال ويراد به التجمل، كأنه مصدر على إسقاط الزوائد‏.‏ والجمال يكون في الصورة بحسن التركيب يدركه البصر، ويلقيه في ألقاب، فتتعلق به النفس من غير معرفة‏.‏ وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة‏:‏ كالعلم، والعفة، والحلم، وفي الأفعال‏:‏ بوجودها ملائمة لمصالح الخلق، وجلب المنفعة إليهم، وصرف الشر عنهم‏.‏ والجمال الذي لنا في الأنعام هو خارج عن هذه الأنواع الثلاثة، والمعنى‏:‏ أنه لنا فيها جمال وعظمة عند الناس باقتنائها ودلالتها على سعادة الإنسان في الدنيا، وكونه فيها من أهل السعة، فمنّ الله تعالى بالتجمل بها، كما منّ بالانتفاع الضروري، لأن التجمل بها من أغراض أصحاب المواشي ومفاخر أهلها، والعرب تفتخر بذلك‏.‏ ألا ترى إلى قول الشاعر‏:‏

لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم *** مرابط للإمهاز والعكر الدثر

أحب إلينا من أناس بقنة *** يروح على آثار شائهم النمر

والعكرة من الإبل ما بين الستين إلى السبعين، والجمع عكر‏.‏ والدثر الكثير، ويقال‏:‏ أراح الماشية ردها بالعشيّ من المرعى، وسرحها يسرحها سرحاً وسروحاً أخرجها غدوة إلى المرعى، وسرحت هي يكون متعدياً ولازماً، وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذا سقط الغيث وكبر الكلأ وخرجوا للنجعة‏.‏ وقدم الإراحة على السرح لأنّ الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون، حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر، بخلاف وقت سرحها، وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية، وتجاوب فيها الرغاء والثغاء، فيأتنس أهلها، وتفرح أربابها وتجلهم في أعين الناظرين إليها، وتكسبهم الجاه والحرمة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زُين للناس حب الشهوات‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والأنعام والحرث‏}‏ وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري‏:‏ حيناً فيهما بالتنوين، وفك الإضافة‏.‏ وجعلوا الجملتين صفتين حذف منهما العائد كقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً لا تجزى‏}‏ ويكون العامل في حيناً على هذا، إمّا المبتدأ لأنه في معنى التجمل، وإما خبره بما فيه من معنى الاستقرار والأثقال‏.‏ الأمتعة‏:‏ واحدها ثقل‏.‏ وقيل‏:‏ الأجسام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏ أي أجساد بني آدم‏.‏ وقوله‏:‏ إلى بلد، لا يراد به معين أي‏:‏ إلى بلد بعيد توجهتم إليه لأغراضكم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به معين وهو مكة، قاله‏:‏ ابن عباس، وعكرمة، والربيع بن أنس‏.‏ وقيل‏:‏ مدينة الرسول‏.‏ وقيل‏:‏ مصر‏.‏ وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على المراد، إذ المنة لا تختص بالحمل إليها‏.‏ ولم تكونوا بالغيه صفة للبلد، ويحتمل أن يكون التقدير بها، وذلك تنبيه على بعد البلد، وأنه مع الاستعانة بها بحمل الأثقال لا يصلون إليه إلا بالمشقة‏.‏ أو يكون التقدير‏:‏ لم تكونوا بالغيه بأنفسكم دونها إلا بالمشقة عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ بشق بكسر الشين‏.‏ وقرأ مجاهد، والأعرج، وأبو جعفر، وعمر بن ميمون، وابن أرقم‏:‏ بفتحها‏.‏ ورويت عن نافع وأبي عمرو، وهما مصدران معناهما المشقة‏.‏ وقيل‏:‏ الشق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، ويعني به‏:‏ المشقة‏.‏ وقال الشاعر في الكسر‏:‏

أذي إبل يسعى ويحسبها له *** أخي نصب من شقها ودؤوب

أي مشقتها‏.‏ وشق الشيء نصفه، وعلى هذا حمله الفراء هنا أي‏:‏ يذهبان صف الأنفس، كأنها قد ذابت تعباً ونصباً كما تقول‏:‏ لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك، وبقطعة من كبدك‏.‏ ونحو هذا من المجاز‏.‏ ويقال‏:‏ أخذت شق الشاة أي نصفها والشق‏:‏ الجانب، والأخ الشقيق، وشق اسم كاهن‏.‏ وناسب الامتنان بهذه النعمة من حملها الأثقال الختم بصفة الرأفة والرحمة، لأن من رأفته تيسير هذه المصالح وتسخير الأنعام لكم‏.‏ ولما ذكر تعالى مننه بالأنعام ومنافعها الضرورية، ذكر الامتنان بمنافع الحيوان التي ليست بضرورية‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ والخيل وما عطف عليه بالنصب عطفاً على والأنعام‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع‏.‏ ولما كان الركوب أعظم منافعها اقتصر عليه، ولا يدل ذلك على أنه لا يجوز لكل الخيل، خلافاً لمن استدل بذلك‏.‏ وانتصب وزينة، ولم يكن باللام، ووصل الفعل إلى الركوب بوساطة الحرف، وكلاهما مفعول من أجله، لأن التقدير‏:‏ خلقها، والركوب من صفات المخلوق لهم ذلك فانتفى شرط النصب، وهو‏:‏ اتحاد الفاعل، فعدى باللام‏.‏ والزينة من وصف الخالق، فاتحد الفاعل، فوصل الفعل إليه بنفسه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وزينة نصب بإضمارفعل تقديره‏:‏ وجعلناها زينة‏.‏ وروى قتادة عن ابن عباس‏:‏ لتركبوها زينة بغير واو‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ والزينة مصدر أقيم مقام الاسم، وانتصابه على الحال من الضمير في خلقها، أو من لتركبوها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أي وخلقها زينة لتركبوها، أو يجعل زينة حالاً من هاء، وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والنصب حينئذ على الحال من الهاء في تركبوها‏.‏ والظاهر نفي العلم عن ذوات ما يخلق تعالى، فقال الجمهور‏:‏ المعنى ما لا تعلمون من الآدميين والحيوانات والجمادات التي خلقها كلها لمنافعكم، فأخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، لنزداد دلالة على قدرته بالإخبار، وإنْ طوى عنا علمه حكمة له في طيه، وما خلق تعالى من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمه بشر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ما لا تعلمون، أصل حدوثه كالسوس في النبات والدود في الفواكه‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ لا تعلمون كيف يخلقه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو ما أعد الله لأوليائه في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏.‏ قال الطبري‏:‏ وزاد بعد في الجنة وفي النار لأهلها، والباقي بالمعنى‏.‏

ورويت تفاسير في‏:‏ ما لا تعلمون في الحديث عن ابن عباس، ووهب بن منبه، والشعبي، الله أعلم بصحتها‏.‏

ويقال‏:‏ لما ذكر الحيوان الذي ينتفع به انتفاعاً ضرورياً وغير ضروري، أعقب بذكر الحيوان الذي لا ينتفع به غالباً على سبيل الإجمال، إذ تفاصيله خارجة عن الإحصاء والعد، والقصد مصدر يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، والسبيل هنا مفرد اللفظ‏.‏ فقيل‏:‏ مفرد المدلول، وأل فيه للعهد، وهي سبيل الشرع، وليست للجنس، إذ لو كانت له لم يكن منها جائز‏.‏ والمعنى‏:‏ وعلى الله تبين طريق الهدى، وذلك بنصب الأدلة وبعثة الرسل‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ إنّ من سلك الطريق القاصد فعلى الله رحمته ونعيمه وطريقه، وإلى ذلك مصيره‏.‏ وعلى أنّ للعهد يكون الضمير في قوله‏:‏ ومنها جائز، عائد على السبيل التي يتضمنها معنى الآية، كأنه قيل‏:‏ ومن السبيل جائر، فأعاد عليها وإن لم يجر لها ذكر، لأنّ مقابلها يدل عليها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يعود منها على سبيل الشرع، وتكون مِن للتبعيض، والمراد‏:‏ فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ كأنه قال‏:‏ ومن بنيات الطرق في هذه السبيل، ومن شعبها‏.‏ وقيل‏:‏ أل في السبيل للجنس، وانقسمت إلى مصدر وهو طريق الحق، وإلى جائر وهو طريق الباطل، والجائر العادل عن الاستقامة والهداية كما قال‏:‏

يجور بها الملاح طوراً ويهتدي *** وكما قال الآخر‏:‏

ومن الطريقة جائر وهدى *** قصد السبيل ومنه ذو دخل

قسم الطريقة‏:‏ إلى جائر، وإلى هدى، وإلى ذي دخل وهو الفساد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ وعلى الله قصد السبيل إنّ هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه لقوله‏:‏ ‏{‏إن علينا للهدى‏}‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ لم غير أسلوب الكلام في قوله‏:‏ ومنها جائر‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ ليعلم بما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان كما تزعم المجبرة لقيل‏:‏ وعلى الله قصد السبيل، وعليه جائرها، أو وعليه الجائر‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ ومنكم جائر يعني ومنكم جائر عن القصد بسواء اختياره، والله بريء منه‏.‏ ولو شاء لهداكم أجمعين قسراً والجاء انتهى‏.‏ وهو تفسير على طريقة الاعتزال‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ومنها يعود على الخلائق أي‏:‏ ومن الخلائق جائر عن الحق‏.‏ ويؤيده قراءة عيسى‏:‏ ومنكم جائر، وكذا هي في مصحف عبد الله، وقراءة علي‏:‏ فمنكم جائر بالفاء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هم أهل الملل المختلفة‏.‏ وقيل‏:‏ اليهود والنصارى والمجوس‏.‏ ولهداكم‏:‏ لخلق فيكم الهداية، فلم يضل أحد منكم، وهي مشيئة الاختيار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لفرض عليكم آية تضطركم إلى الاهتداء والإيمان‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد، لم يحصله الزجاج، ووقع فيه رحمة الله من غير قصد انتهى‏.‏ ولم يعرف ابن عطية أنّ الزجاج معتزلي، فلذلك تأول أنه لم يحصله، وأنه وقع فيه من غير قصد‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ لو شاء لهداكم إلى الثواب، أو إلى الجنة بغير استحقاق‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لو شاء لمحض قصد السبيل دون الجائر‏.‏ ومفعول شاء محذوف لدلالة لهداكم أي‏:‏ ولو شاء هدايتكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏(‏10‏)‏ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما امتن بإيجادهم بعد العدم وإيجاد ما ينتفعون به من الأنعام وغيرها من الركوب، ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان، وما يتولد عنه من أقواتهم وأقواتها من الزرع، وما عطف عليه فذكر منها الأغلب، ثم عمم بقوله‏:‏ ومن كل الثمرات، ثم أتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم، والنهار الذي هو معاش، ثم بالنيرين اللذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه، ثم بما ذرأ في الأرض‏.‏

والظاهر أنّ لكم، في موضع الصفة لماء، فيتعلق بمحذوف، ويرتفع شراب به أي‏:‏ ماء كائناً لكم منه شراب‏.‏ ويجوز أن يتعلق بانزل، ويجوز أن يكون استئنافاً، وشراب مبتدأ‏.‏ لما ذكر إنزال الماء أخذ في تقسيمه‏.‏ والشراب هو المشروب، والتبعيض في منه ظاهر، وأما في منه شجر فمجاز، لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء كما قال‏:‏ أسنمة الآبال في ربابه، أي في سحاب المطر‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ هو على حذف المضاف، إما قبل الضمير أي‏:‏ ومن جهته، أو سقيه شجر، وإما قبل شجر أي‏:‏ شرب شجر كقوله ‏{‏وأُشربوا في قلوبهم العجل‏}‏ أي حبه‏.‏ والشجر هنا كل ما تنبته الأرض قاله الزجاج‏.‏ وقال‏:‏ نطعمها اللحم إذا عز الشجر، فسمى الكلأ شجراً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الشجر هنا الكلأ، وفي حديث عكرمة‏:‏ «لا تأكلوا الشجر فإنه سحت» يعني الكلأ‏.‏

ويقال‏:‏ أسام الماشية وسومها جعلها ترعى، وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، قال الزجاج‏:‏ من السومة، وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ تسيمون بفتح التاء، فإن سمع متعدياً كان هو وأسام بمعنى واحد، وإن كان لازماً فتأويله على حذف مضاف تسيمون أي‏:‏ تسيم مواشيكم لما ذكر، ومنه شجر‏.‏ أخذ في ذكر غالب ما ينتفع به من الشجر إنْ كان المراد من قوله‏:‏ ومنه شجر العموم، وإن كان المراد الكلأ فهو استئناف اخبار منافع الماء‏.‏ ويقال‏:‏ نبت الشيء وأنبته الله فهو منبوت، وهذا قياسه منبت‏.‏ وقيل‏:‏ يقال أنبت الشجر لازماً‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم *** قطينا بهم حتى إذا أنبت البقل

أي نبت‏.‏ وكان الأصمعي يأبى أنبت بمعنى نبت‏.‏ وقرأ أبو بكر‏:‏ ننبت بنون العظمة‏.‏ وقرأ الزهري‏:‏ ننبت بالتشديد قيل‏:‏ للتكثير والتكرير، والذي يظهر أنه تضعيف التعدية‏.‏ وقرأ أبيّ‏:‏ ينبت من نبت ورفع الزرع وما عطف عليه‏.‏ وخص الأربعة بالذكر لأنها أشرف ما ينبت، وأجمعه للمنافع‏.‏ وبدأ بالزرع لأنه قوت أكثر العالم، ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه، وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه، والاطلاء بدهنه، ثم بالنخل لأنّ ثمرته من أطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد، ثم بالأعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال‏:‏ ومن كل الثمرات، أتى بلفظ مِن التي للتبعيض، لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة‏.‏

ولما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل أعقبه بقوله‏:‏ ويخلق ما لا تعلمون، كذلك هنا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، ثم قال‏:‏ ومن كل الثمرات، تنبيهاً على أنّ تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها مما لا يكاد يحصر، كما أن تفصيل ما خلق من باقي الحيوان لا يكاد يحصر‏.‏ وختم ذلك تعالى بقوله‏:‏ لآية لقوم يتفكرون، لأنّ النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل واستعمال فكر‏.‏ ألا ترى أنّ الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان معين لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به، فينشق أعلاها فيصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرة أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى ويقوى، وتخرج الأوراق والأزهار والأكمام، والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع، وذلك بتقدير قادر مختار وهو الله تعالى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ والشمس وما بعده منصوباً، وانتصب مسخرات على أنها حال مؤكدة إن كان مسخرات اسم مفعول، وهو إعراب الجمهور‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ أنه سخرها أنواعاً من التسخير جمع مسخر بمعنى‏:‏ تسخير من قولك‏:‏ سخره الله مسخراً، كقولك‏:‏ سرحه مسرحاً، كأنه قيل‏:‏ وسخرها لكم تسخيرات بأمره انتهى‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ والشمس وما بعده بالرفع على الابتداء والخبر، وحفص والنجوم مسخرات برفعهما، وهاتان القراءتان يبعدان قول الزمخشري إنّ مسخرات بمعنى تسخيرات‏.‏ وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وابن مصرف‏:‏ والرياح مسخرات في موضع، والنجوم وهي مخالفة لسواد المصحف‏.‏ والظاهر في قراءة نصب الجميع أنّ والنجوم معطوف على ما قبله‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ والنجوم منصوب على إضمار فعل تقديره‏:‏ وجعل النجوم مسخرات، فأضمر الفعل‏.‏ وعلى هذا الإعراب لا تكون مسخرات حالاً مؤكدة، بل مفعولاً ثانياً لجعل إن كان جعل المقدرة بمعنى صير، وحالاً مبينة إن كان بمعنى خلق‏.‏ وتقدم شرح تسخير هذه النيرات في الأعراف‏.‏ وجمع الآيات هنا، وذكر العقل، وأفرد فيما قبل، وذكر التفكر لأنّ فيما قبل استدلالاً بإنبات الماء وهو واحد وإن كثرت أنواع النبات، والاستدلال هنا متعدّد، ولأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة‏.‏ وما درأ معطوف على الليل والنهار يعني‏:‏ ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلفاً ألوانه من البياض والسواد وغير ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ مختلفاً ألوانه أصنافه كما تقول‏:‏ هذه ألوان من الثمر ومن الطعام‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به المعادن‏.‏ إنّ في ذلك أي‏:‏ فيما ذرأ على هذه الحال من اختلاف الألوان، أو أنّ في ذلك أي‏:‏ اختلاف الألوان‏.‏ وختم هذا بقوله‏:‏ يذكرون، ومعناه الاعتبار والاتعاظ، كان علمهم بذلك سابق طرأ عليه النسيان فقيل‏:‏ يذكرون أي‏:‏ يتذكرون ما نسوا من تسخير هذه المكونات في الأرض‏.‏