الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
ويدل عليه قراءة عبد الله: وقد تب. روي أنه لما نزل: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قال: يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، لا أغني لكما من الله شيئاً، سلاني من مالي ما شئتما ثم صعد الصفا، فنادى بطون قريش: يا بني فلان يا بني فلان وروي أنه صاح بأعلى صوته: «يا صباحاه». فاجتمعوا إليه من كل وجه، فقال لهم: «أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلاً بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فافترقوا عنه، ونزلت هذه السورة وأبو لهب اسمه عبد العزى، ابن عم المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن محيصن وابن كثير: أبي لهب بسكون الهاء، وفتحها باقي السبعة ولم يختلفوا في ذات لهب، لأنها فاصلة، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة. قال الزمخشري: وهو من تغيير الأعلام، كقولهم: شمس مالك بالضم. انتهى، يعني: سكون الهاء في لهب وضم الشين في شمس، ويعني في قول الشاعر: فأما في لهب، فالمشهور في كنيته فتح الهاء، وأما شمس بن مالك، فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع، كما جاء أذناب خيل شمس. قيل: وكني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه، ولم يذكره تعالى باسمه لأن اسمه عبد العزى، فعدل عنه إلى الكنية، أو لأن الكنية كانت أغلب عليه من الاسم؛ أو لأن مآله إلى النار، فوافقت حالته كنيته، كما يقال للشرير: أبو الشر، وللخير أبو الخير؛ أو لأن الاسم أشرف من الكنية، فعدل إلى الأنقص؛ ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم ولم يكنّ أحداً منهم.والظاهر أن ما في {ما أغنى عنه ماله} نفي، أي لم يغن عنه ماله الموروث عن آبائه، وما كسب هو بنفسه أو ماشيته، وما كسب من نسلها ومنافعها، أو ما كسب من أرباح ماله الذي يتجر به.ويجوز أن تكون ما استفهاماً في موضع نصب، أي: أيّ شيء يغني عنه ماله على وجه التقرير والإنكار؟ والمعنى: أين الغني الذي لماله ولكسبه؟ والظاهر أن ما في قوله: {وما كسب} موصولة، وأجيز أن تكون مصدرية. وإذا كانت ما في {ما أغنى} استفهاماً، فيجوز أن تكون ما في {وما كسب} استفهاماً أيضاً، أي: وأي شيء كسب؟ أي لم يكسب شيئاً. وعن ابن عباس: {وما كسب} ولده.وفي الحديث: «ولد الرجل من كسبه» وعن الضحاك: {وما كسب} هو عمله الخبيث في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم. وعن قتادة: وعمله الذي ظن أنه منه على شيء. وروي عنه أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً، فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي. وقرأ عبد الله: وما اكتسب بتاء الافتعال. وقرأ أبو حيوة وابن مقسم وعباس في اختياره، وهو أيضاً سيصلى بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام، ومريئته؛ وعنه أيضاً: ومريته على التصغير فيهما بالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير فيها. وقرأ أيضاً: حمالة للحطب، بالتنوين في حمالة، وبلام الجر في الحطب. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: سيصلى بضم الياء وسكون الصاد؛ وأبو قلابة: حاملة الحطب على وزن فاعلة مضافاً، واختلس حركة الهاء في وامرأته أبو عمرو في رواية؛ والحسن وزيد بن علي والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن محيصن وعاصم: حمالة بالنصب.وقرأ الجمهور: {سيصلى} بفتح الياء وسكون الصاد، {وامرأته} على التكبير، {حمالة} على وزن فعالة للمبالغة مضافاً إلى الحطب مرفوعاً، والسين للاستقبال وإن تراخى الزمان، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة. وارتفع {وامرأته} عطفاً على الضمير المستكن في {سيصلى}، وحسنه وجود الفصل بالمفعول وصفته، {وحمالة} في قراءة الجمهور خبر مبتدأ محذوف، أو صفة لامرأته، لأنه مثال ماض فيعرف بالإضافة، وفعال أحد الأمثلة الستة وحكمها كاسم الفاعل. وفي قراءة النصب، انتصب على الذم. وأجازوا في قراءة الرفع أن يكون {وامرأته} مبتدأ، وحمالة، واسمها أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وكانت عوراء. والظاهر أنها كانت تحمل الحطب، أي ما فيه شوك، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لتعقرهم، فذمت بذلك وسميت حمالة الحطب، قاله ابن عباس. فحمالة معرفة، فإن كان صار لقباً لها جاز فيه حالة الرفع أن يكون عطف بيان، وأن يكون بدلاً. قيل: وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة والسدي: كانت تمشي بالنميمة، ويقال للمشاء بها: يحمل الحطب بين الناس، أي يوقد بينهم النائرة ويورث الشر.قال الشاعر: جعله رطباً ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر. وقال الراجز: وقال ابن جبير: حمالة الخطايا والذنوب، من قولهم: يحطب على ظهره. قال تعالى: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم}. وقيل: الحطب جمع حاطب، كحارس وحرس، أي يحمل الجناة على الجنايات، والظاهر أن الحبل من مسد. وقال عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان: استعارة، والمراد سلسلة من حديد في جهنم. وقال قتادة: قلادة من ودع. وقال ابن المسيب: قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللات والعزى لأنفقنها على عداوة محمد. قال ابن عطية: وإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث، انتهى. وقال الحسن: إنما كانت خرزاً. وقال الزمخشري: والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال، وأنها تحمل الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها، كما يفعل الحطابون تحسيساً لحالها وتحقيراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب، فقال: ويحتمل أن يكون المعنى: إن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه، انتهى.ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر، فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني، ولأفعلنّ وأفعلن؛ وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فروي أن أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، قال لها: هل تري معي أحداً؟ فقالت: أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك. وإن كان شاعراً فأنا مثله أقول: فسكت أبو بكر ومضت هي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله شرها» وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال.
ونحو قوله: {الله الصمد}: مبتدأ وخبر، والأفصح أن تكون هذه جملاً مستقلة بالأخبار على سبيل الاستئناف، كما تقول: زيد العالم زيد الشجاع. وقيل: الصمد صفة، والخبر في الجملة بعده، وتقدم شرح الصمد في المفردات. وقال الشعبي، ويمان بن رياب: هو الذي لا يأكل ولا يشرب. وقال أبيّ بن كعب: يفسره ما بعده، وهو قوله: {لم يلد ولم يولد}. وقال الحسن: الصمد: المصمت الذي لا جوف له، ومنه قوله: وفي كتاب التحرير أقوال غير هذه لا تساعد عليها اللغة. وقال ابن الأنباري: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد هو السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم. قال الزمخشري: {لم يلد}، لأنه لا يجانس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا، ودل على هذا المعنى بقوله: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} {ولم يولد}: لأن كل مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أول لوجوده، وليس بجسم ولم يكافئه أحد. يقال له كفو، بضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء، وبضم الكاف مع ضم الفاء.وقرأ حمزة وحفص: بضم الكاف وإسكان الفاء، وهمز حمزة، وأبدلها حفص واواً. وباقي السبعة: بضمهما والهمز، وسهل الهمزة الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع، وفي رواية عن نافع أيضاً كفا من غير همز، نقل حركة الهمزة إلى الفاء وحذف الهمزة. وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس: كفاء بكسر الكاف وفتح الفاء والمد، كما قال النابغة: الأعلم لا كفاء له: لا مثيل له. وقال مكي سيبويه: يختار أن يكون الظرف خبراً إذا قدمه، وقد خطأه المبرد بهذه الآية، لأنه قدم الظرف ولم يجعله خبراً، والجواب أن سيبويه لم يمنع إلغاء الظرف إذا تقدم، إنما أجاز أن يكون خبراً وأن لا يكون خبراً. ويجوز أن يكون حالاً من النكرة وهي أحد. لما تقدم نعتها عليها نصب على الحال، فيكون له الخبر على مذهب سيبويه واختياره، ولا يكون للمبرد حجة على هذا القول، انتهى. وخرجه ابن عطية أيضاً على الحال.وقال الزمخشري: فإن قلت: الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه، فما باله مقدماً في أفصح الكلام وأعربه؟ قلت: هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه وتعالى، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف، فكان لذلك أهم شيء وأعناه وأحقه بالتقديم وأحراه، انتهى.وهذه الجملة ليست من هذا الباب، وذلك أن قوله: {ولم يكن له كفواً أحد} ليس الجار والمجرور فيه تاماً، إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبراً لكان، بل هو متعلق بكفواً وقدم عليه. فالتقدير: ولم يكن أحد كفواً له، أي مكافئه، فهو في معنى المفعول متعلق بكفواً. وتقدم على كفواً للاهتمام به، إذ فيه ضمير الباري تعالى. وتوسط الخبر، وإن كان الأصل التأخر، لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك. وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره أن له الخبر وكفواً حال من أحد، لأنه ظرف ناقص لا يصلح أن يكون خبراً، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه.وسيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً، ويصلح أن يكون غير خبر. قال سيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً، ويصلح أن يكون غير خبر. قال سيبويه: وتقول: ما كان فيها أحد خير منك، وما كان أحد مثلك فيها، وليس أحد فيها خير منك، إذا جعلت فيها مستقراً ولم تجعله على قولك: فيها زيد قائم. أجريت الصفة على الاسم، فإن جعلته على: فيها زيد قائم، نصبت فتقول: ما كان فيها أحد خيراً منك، وما كان أحد خيراً منك فيها، إلا أنك إذا أردت الإلغاء، فكلما أخرت الملغى كان أحسن.وإذا أردت أن يكون مستقراً، فكلما قدمته كان أحسن، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير. قال تعالى: {ولم يكن له كفواً أحد}. وقال الشاعر: وما نقلناه ملخصاً. وهو بألفاظ سيبويه، فأنت ترى كلامه وتمثيله بالظرف الذي يصلح أن يكون خبراً. ومعنى قوله: مستقراً، أي خبراً للمبتدأ ولكان. فإن قلت: فقد مثل بالآية الكريمة. قلت: هذا الذي أوقع مكياً والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام هو في قوله: كما أن له في الآية أجرى فضلة، فجعل الظرف القابل أن يكون خبراً كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبراً، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد كلام من قوله: ولم يكن له أحد، بل لو تأخر كفواً وارتفع على الصفة وجعل له خبراً، لم ينعقد منه كلام، بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو كفو، وله متعلق به، والمعنى: ولم يكن له أحد مكافئه. وقد جاء في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة، ومنها أنها تعدل ثلث القرآن، وقد تكلم العلماء على ذلك، وليس هذا موضعه، والله الموفق.
|