فصل: باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها

مساءً 1 :7
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***


باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها

‏(‏قوله‏:‏ شهدوا بحد متقادم سوى حد القذف لم يحد‏)‏ أي شهدوا بسبب حد وهو الزنا أو السرقة أو شرب الخمر لا بنفس الحد وكذلك قوله متقادم معناه متقادم سببه، والأصل أن الحدود الخالصة حقا لله تعالى تبطل بالتقادم؛ لأن الشاهد مخير بين حسبتين أداء الشهادة، والستر فالتأخير إن كان لاختيار الستر فالإقدام على الأداء بعد ذلك لضغينة هيجته أو لعداوة حركته فيتهم فيها، وإن كان التأخير لا للستر يصير فاسقا آثما فتيقنا بالمانع بخلاف التقادم في حد القذف؛ لأنه فيه حق العباد لما فيه من دفع العار عنه ولهذا لا يصح رجوعه بعد الإقرار، والتقادم غير مانع في حقوق العباد ولأن الدعوى فيه شرط فيحمل تأخيرهم على انعدام الدعوى فلا يوجب تفسيقهم ولا يرد حد السرقة؛ لأن الدعوى ليس بشرط للحد؛ لأنه خالص حق الله تعالى على ما مر، وإنما شرط للمال ولأن الحكم يدار على كون الحد حقا لله تعالى فلا يعتبر وجود التهمة في كل فرد ولأن السرقة تقام على الاستشرار على غرة من المالك فيجب على الشاهد إعلامه وبالكتمان يصير فاسقا آثما وأشار المصنف بكون التقادم مبطلا لها إلى أن التقادم يمنع الإقامة بعد القضاء حتى لو هرب بعد ما ضرب بعض الحد ثم أخذ بعد ما تقادم الزمان لا يقام عليه؛ لأن الإمضاء من القضاء في باب الحدود فلا بد من قيام الشهادة حال الاستيفاء وبالتقادم لم تبق الشهادة فلا يصح هذا القضاء الذي هو الاستيفاء وقيد بالشهادة؛ لأنه لو أقر بسبب حد متقادم حد لانتفاء العلة؛ لأن الإنسان لا يعادي نفسه إلا في حد الشرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن التقادم فيه يبطل الإقرار كذا في غاية البيان‏.‏ ولم يفسر المصنف التقادم؛ لأن الإمام الأعظم لم يقدره بشيء، وإنما فوضه إلى رأي القاضي في كل عصر لكن الأصح ما عن محمد أنه يقدر بشهر؛ لأن ما دونه عاجل وهو مروي عنها أيضا وقد اعتبره محمد في شرب الخمر أيضا وعندهما هو مقدر بزوال الرائحة فلو شهدوا عليه بالشرب بعدها لا تقبل وقد جزم به المصنف في بابه فظاهره كغيره أنه المختار فعلم أن الأصح اعتبار الشهر إلا في شرب الخمر ولم يستثن المصنف كون التقادم لبعد المكان عن القاضي؛ لأن العذر لا يختص به بل يكون بنحو مرض أو خوف طريق وحاصله أن كل شيء منع الشاهد من المسارعة إلى أداء الشهادة فهو عذر بقدره ولم يذكر المصنف وجوب الحد على الشهود إذا شهدوا بزنا متقادم وذكر في الخانية لو شهدوا بزنا متقادم اختلفوا فيه قال بعضهم يحد الشهود حد القذف وقال بعضهم لا يحدون ا هـ‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ويضمن المال‏)‏ يعني في صورة شهادتهم بسرقة متقادمة؛ لأن الدعوى شرط في حقوق العباد فتأخير الشاهد لتأخير الدعوى لا يلزم فيه تفسيق ولا تهمة ولذا لم يبطل حد القذف بالتقادم إن كان الغالب فيه حق الله تعالى على الأصح لتوقفه على الدعوى أطلقه فشمل ما إذا كان تأخير الشهادة لعدم الدعوى بسبب عدم علم صاحب المال أو لطلبه الستر أو لكتمان الشهادة بعد طلبه الشهادة منه وينبغي أن لا تقبل شهادتهم في حق المال أيضا في الوجه الثاني لفسقهم بالكتمان‏.‏ واعلم أن قولهم بضمان المال مع تصريحهم بوجود التهمة في شهادتهم مع التقادم مشكل لتصريحهم في كتاب الشهادات بأنه لا شهادة للمتهم سواء كانت في الأموال أو في غيرها إلا أن يقال‏:‏ إن التهمة غير محققة، وإنما الموجود الشبهة، والمال يثبت مع الشبهة بخلاف الحد‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولو أثبتوا زناه بغائبة حد بخلاف السرقة‏)‏ أي لو شهدوا أنه سرق من فلان وهو غائب لم يقطع، والفرق أن بالغيبة تنعدم الدعوى وهي شرط في السرقة دون الزنا وبالحضور يتوهم دعوى الشبهة ولا معتبر بالموهوم؛ لأنه شبهة الشبهة واعتبارها يؤدي إلى سد باب الحدود؛ لأن المقر يحتمل أن يرجع فرجوعه شبهة فيدرأ به الحد واحتمال رجوعه شبهة الشبهة فلا يسقط وكذا البينة يحتمل رجوعها فرجوعها حقيقة شبهة واحتماله شبهة الشبهة وأشار المصنف إلى أنه لو أقر أنه زنى بفلانة وهي غائبة، فإنه يحد بالأولى ولأنه عليه السلام‏:‏ «رجم ماعزا، والغامدية حين أقرا بالزنا بغائبين» وقيد بالزنا؛ لأنه لو كان القصاص بين شريكين وكان أحدهما غائبا لا يتمكن الحاضر من الاستيفاء لاحتمال العفو من الغائب وهو حقيقة المسقط فاحتماله يكون شبهة المسقط لا شبهة الشبهة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وإن أقر بالزنا بمجهولة حد، وإن شهدوا بذلك لا‏)‏ أي شهدوا عليه أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لا يحد لاحتمال أنها امرأته أو أمته بل هو الظاهر بخلاف الإقرار؛ لأنه لا يخفى عليه امرأته وأمته ولا اعتبار باحتمال أن تكون أمته بالميراث ولا يعرفها؛ لأنه ثابت في المعروفة كالمجهولة واعتباره يؤدي إلى انسداد باب الحدود وفي كافي الحاكم الشهيد، وإن قال المشهود عليه‏:‏ إن التي رأوها معي ليست لي بامرأة ولا خادم لم يحد أيضا وذلك؛ لأنها يتصور أنها أمة ابنه أو منكوحة نكاحا فاسدا ا‏.‏ هـ‏.‏ وهذا التعليل أولى مما علل به لعدم الوجوب من أنه إقرار مرة واحدة؛ لأنه يقتضي أنه لو قال هذه المقالة أربعا حد وليس كذلك وفي الخانية لو قالوا‏:‏ زنى بامرأة لا نعرفها ثم قالوا بفلانة، فإنه لا يحد الرجل ولا الشهود ا هـ‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ كاختلافهم في طوعها أو في البلد ولو على كل زنا أربعة‏)‏ بيان لمسألتين لا حد فيهما الأولى‏:‏ لو اختلف الشهود في طوع المرأة فشهد اثنان أنه استكرهها واثنان أنها طاوعته وعدم وجوب الحد عليهما قول الإمام‏.‏ وقالا يحد الرجل خاصة لاتفاقهم على الموجب عليه وانفراد أحد الفريقين بزيادة جناية وهو الإكراه بخلاف جانبها؛ لأن طواعيتها شرط لتحقق الموجب في حقها ولم يثبت لاختلافهم وله أنه اختلف المشهود عليه؛ لأن الزنا فعل واحد يقوم بهما ولأن شاهدي الطواعية صارا قاذفين لها، وإنما يسقط الحد عنهما لشهادة شاهدي الإكراه؛ لأن زناها مكرهة يسقط إحصانها فصارا خصمين في ذلك أطلقه فشمل ما إذا شهد ثلاثة بالطواعية وواحد بالإكراه وعكسه لكن في الوجه الأول يحد الثلاثة حد القذف لعدم سقوط إحصانها بشهادة الفرد وعند الإمام لا يحدون في الوجوه الثلاثة؛ لأن اتفاق الأربعة على النسبة إلى الزنا بلفظ الشهادة مخرج لكلامهم من أن يكون قذفا‏.‏ الثانية لو اختلفوا في البلد الذي وقع فيها الزنا فهو على وجهين أحدهما أن يشهد اثنان أنه زنى بها بالكوفة واثنان أنه زنى بها بالبصرة فلا حد عليهما؛ لأن المشهود به فعل الزنا وقد اختلف باختلاف المكان ولم يتم على كل واحد منهما نصاب الشهادة ولا يحد الشهود خلافا لزفر لشبهة الاتحاد نظرا إلى اتحاد الصورة، والمرأة وعلى هذا الخلاف إذا جاء القاذف بأربعة شهداء فشهد اثنان أنه زنى في بلد وآخران أنه زنى في بلد آخر وثانيهما أن يتم نصاب الشهادة بالزنا في كل بلد وهو على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يذكروا وقتا واحدا مع تباعد المكانين كما إذا شهد أربعة أنه زنى بها بالبصرة وقت طلوع الشمس في اليوم الفلاني من الشهر الفلاني من السنة الفلانية وأربعة أنه زنى بها بالكوفة في الوقت المذكور بعينه وفي هذه لا حد عليهما وهو المراد بقوله ولو على كل زنا أربعة لتيقننا بكذب أحدهما؛ لأن الشخص الواحد لا يكون في ساعة واحدة في مكانين متباعدين ولا يعرف الصادق من الكاذب فيعجز القاضي عن الحكم بهما للتعارض أو لتهمة الكذب ولا يحد الشهود أيضا؛ لأن كل واحد منهما تم به نصاب الشهادة واحتمل الصدق‏.‏ ثانيهما‏:‏ أن يتقارب المكانان مع اتحاد الوقت فتجوز شهادتهم؛ لأنه يصح كون الأمر فيهما في ذلك الوقت؛ لأن طلوع الشمس يقال لوقت ممتد امتدادا عرفيا لا أنه يخص وقت ظهورها من الأفق ويحتمل تكرار الفعل كذا في فتح القدير وذكر الحاكم في كافيه إذا شهد أربعة على رجل بالزنا فاختلفوا في المزني بها أو في المكان أو في الوقت بطلت شهادتهم إلا أن يكون اختلافهم في مكانين متقاربين من بيت أو غير بيت فيقام الحد استحسانا ا هـ‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولو اختلفوا في بيت واحد حد الرجل، والمرأة‏)‏ أي اختلفوا في مكان الزنا من بيت واحد كما إذا شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه واثنان أنه زنى بها في زاوية أخرى منه وهذا استحسان، والقياس أن لا يجب لاختلاف المكان حقيقة‏.‏ وجه الاستحسان أن التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية، والانتهاء في زاوية أخرى بالاضطراب، والحركة أو لأن الواقع في وسط البيت فيحسبه من في المقدم في المقدم ومن في المؤخر في المؤخر فيشهد بحسب ما عنده أطلق في البيت وهو مقيد بالصغير؛ لأن الكبير كالدار ولو اختلفا في دارين لا حد كالبلدين‏.‏ والحاصل أن الاختلاف في المكان مانع لقبولها إلا إذا أمكن التوفيق بأن يكون صغيرا وقيد الاختلاف بما ذكر؛ لأنهم لو اختلفوا في طولها وقصرها أو سمنها أو هزالها أو في لونها أو في ثيابها، فإنه لا يمنع لإمكان التوفيق وقد استشكل على هذا مذهب الإمام فيما إذا اختلفوا في الإكراه، والطواعية، فإن التوفيق فيه ممكن بأن يكون ابتداء الفعل كرها وانتهاؤه طواعية قال في الكافي يمكن أن يجاب عنه بأن ابتداء الفعل إذا كان عن إكراه لا يوجب الحد فبالنظر إلى الابتداء لا يجب وبالنظر إلى الانتهاء يجب فلا يجب بالشك وهنا بالنظر إلى الزاويتين يجب فافترقا‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولو شهدوا على زنا امرأة وهي بكر أو الشهود فسقة أو شهدوا على شهادة أربعة، وإن شهد الأصول لم يحد أحد‏)‏ بيان الثلاث مسائل لا حد فيها الأولى‏:‏ لو شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة فوجدت فلانة بكرا بقول النساء؛ لأن الزنا لا يتحقق مع بقاء البكارة فلا حد عليهما لظهور الكذب ولا على الشهود؛ لأن سقوطه بقول النساء وشهادتهن حجة في إسقاط الحد وليس بحجة في إيجابه وأشار المصنف إلى أنهم لو شهدوا على رجل بالزنا فوجد مجبوبا أو شهدوا عليها بالزنا فوجدت رتقاء أو قرناء، فإنه لا حد على أحد لما ذكرنا وأطلق في قوله وهي بكر فشمل ما إذا ثبتت بكارتها بقول امرأة واحدة وكذا في الرتق، والقرن وكل ما يعمل فيه بقول النساء كذا في كافي الحاكم الثانية لو شهد أربعة فسقة بالزنا لاشتراط العدالة فلم يثبت الزنا فلا حد ولا حد على الشهود؛ لأن الفاسق من أهل الأداء، والتحمل، وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق ولهذا لو قضى القاضي بشهادته ينفذ عندنا فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا فسقط الحد عنهم وأطلق في الفسقة فشمل ما إذا علم فسقهم في الابتداء أو ظهر فسقهم كما في الهداية‏.‏ وأشار المصنف بسقوط الحد عن الشهود الفسقة إلى أن القاذف لو أقام أربعة من الفساق على أن المقذوف قد زنى يسقط عنه الحد قالوا بخلاف القاتل حيث لا يسقط عنه القتل بإقامة الشهود الفسقة على أن أولياء المقتول قد عفوا؛ لأن وجوب القود بالقتل متيقن فلا يسقط عنه بالشك، والاحتمال وحد القذف لم يجب بالقذف، وإنما يجب بالعجز عن إقامة البينة وتمامه في التبيين الثالثة لو شهدوا على شهادة أربعة فلأن الشهادة على الشهادة لا تجوز في الحدود لما فيها من زيادة الشبهة؛ لأن احتمال الكذب فيها من موضعين في شهادة الأصول وفي شهادة الفروع ولا حد على الفروع؛ لأن الحاكي للقذف لا يكون قاذفا وكذا لا حد على الأصول بالأولى، فإذا شهد الفروع وردت شهادتهم ثم جاء الأصول بعد ذلك وشهدوا على معاينة ذلك الزنا بعينه لم تقبل شهادتهم ولم يحدوا أيضا وهو المراد بقوله‏:‏ وإن شهد الأصول لم يحد أحد؛ لأن شهادة الأصول قد ردت من وجه برد شهادة الفروع قيد بالحد؛ لأنه لو ردت شهادة الفروع في الأموال، فإن شهادة الأصول بعده مقبولة لثبوت المال مع الشبهة دون الحد ولو ردت شهادة الأصول لم تقبل شهادة الأصول ولا الفروع بعده أبدا في كل شيء إن ردت لتهمة مع بقاء الأهلية، وإن ردت لعدم الأهلية كالعبيد، والكفار تقبل شهادتهم في تلك الحادثة بعد العتق، والإسلام لزوال المانع كذا في التبيين‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولو كانوا عميانا أو محدودين أو ثلاثة حد الشهود لا المشهود عليهما‏)‏؛ لأنه لا يثبت بشهادة الأعمى، والمحدود المال فكيف يثبت الحد وهم ليسوا من أهل أداء الشهادة فلم تثبت شبهة الزنا فكانوا قذفة فيحدون ومراده من ليس أهلا للأداء فدخل العبد مع أنه ليس بأهل للتحمل أيضا ولا فرق بين أن يكون الكل كذلك أو بعضهم كذلك، وأما إذا نقص عددهم عن الأربعة فلأنهم قذفة؛ لأن الشهادة قذف حقيقة، وخروجها عنه باعتبار الحسبة ولا حسبة عند النقصان وحد عمر رضي الله عنه الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولو حد فوجد أحدهم عبدا أو محدودا حدوا‏)‏؛ لأنهم قذفة إذ الشهود ثلاثة على ما بينا‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وأرش ضربه هدر، وإن رجم فديته على بيت المال‏)‏ وهذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقالا أرش الضرب أيضا على بيت المال ومعناه إذا كان جرحه وعلى هذا الخلاف إذا مات من الضرب وعلى هذا إذا رجع الشهود لا يضمنون عنده وعندهما يضمنون لهما أن الواجب بشهادتهم مطلق الضرب إذ الاحتراز عن الجرح خارج عن الوسع فينتظم الجارح وغيره فيضافان إلى شهادتهم فيضمنون بالرجوع وعند عدم الرجوع يجب على بيت المال؛ لأنه ينتقل فعل الجلاد إلى القاضي وهو عامل للمسلمين فتجب الغرامة في مالهم وصار كالرجم، والقصاص ولأبي حنيفة أن الواجب هو الجلد وهو ضرب مؤلم غير جارح ولا مهلك ولا يقع جارحا ظاهرا إلا لمعنى في الضارب وهو قلة هدايته فاقتصر عليه إلا أنه لا يجب الضمان عليه في الصحيح كي لا يمتنع الناس عن الإقامة مخافة الغرامة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ فلو رجع أحد الأربعة بعد الرجم حد وغرم ربع الدية‏)‏؛ لأن الشهادة انقلبت قذفا بالرجوع؛ لأن به تنفسخ شهادته فجعل للحال قذفا للميت وقد انفسخت الحجة فينفسخ ما ينبني عليه وهو القضاء في حقه فلا يورث الشبهة بخلاف ما إذا قذفه غيره؛ لأنه غير محصن في حق غيره لقيام القضاء في حقه، وإنما غرم الواحد الراجع ربع الدية لبقاء من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق فيكون التالف بشهادة الراجع ربع الحق ولا يجب القصاص على الراجع عندنا؛ لأنه تسبب في الإتلاف وليس بمباشرة قيد بالرجوع؛ لأنه لو وجد واحد منهم عبدا فلا حد على واحد منهم لظهور أنها لم تكن شهادة بل هي قذف في ذلك الوقت فصاروا قاذفين حيا ثم مات، والحد لا يورث على ما سيجيء وأشار إلى أنه لو كان حده الجلد فجلد بشهادتهم ثم رجع واحد منهم، فإنه يحد الراجع بالأولى وهو متفق عليه وفي مسألة الكتاب خلاف زفر وإلى أنه لو رجع الكل حدوا وغرموا ربع الدية وإلى أنه لو شهد على رجل أربعة أنه زنى بفلانة وشهد عليه أربعة آخرون بالزنا بغيرها ورجم فرجع الفريقان، فإنهم يضمنون الدية إجماعا ويحدون للقذف عندهما وقال محمد‏:‏ لا يحدون‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وقبله حدوا ولا رجم‏)‏ أي لو رجع أحدهم قبل الرجم حد الكل الراجع وغيره وامتنع الرجم وقال محمد حد الراجع خاصة لأن الشهادة تأكدت بالقضاء فلا ينفسخ إلا في حق الراجع كما إذا رجع بعد الإمضاء ولهما أن الإمضاء من القضاء وصار كما إذا رجع واحد منهم قبل القضاء ولهذا يسقط الحد عن المشهود عليه أطلق في قوله قبله فشمل ما إذا كان قبل القضاء أو بعده وخلاف محمد إنما هو فيما بعد القضاء، وأما قبل القضاء فيحد الكل عند الثلاثة خلافا لزفر، فإنه قال‏:‏ يحد الراجع خاصة؛ لأنه لا يصدق على غيره ولنا أن كلامهم قذف في الأصل، وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به، فإذا لم يتصل بقي قذفا فيحدون‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولو رجع أحد الخمسة لا شيء عليه‏)‏؛ لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق وهو شهادة الأربع وشمل قوله‏:‏ لا شيء عليه الحد، والغرم وما إذا كان قبل القضاء وبعده وأفاد أنه لا شيء على الأربعة بالأولى وحاصله أنه لا شيء على الكل وكأنه لم يرجع أحد قوله ‏(‏‏:‏ فإن رجع آخر حدا وغرما ربع الدية‏)‏ أما الحد فلانفساخ القضاء بالرجم في حقهما، وأما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق، والمعتبر بقاء من بقي على ما عرف وأفاد بالغرامة أن المسألة بعد الرجم؛ لأنه لو كان قبله فلا غرامة، وإنما لزم الأول برجوع الثاني؛ لأنه وجد منه الموجب للحد، والضمان وهو قذفه وإتلافه شهادته، وإنما امتنع الوجوب لمانع وهو بقاء من يقوم بالحق، فإذا زال المانع برجوع الثاني ظهر الوجوب، وإذا رجع الثالث ضمن ربع الدية وكذا الثاني، والأول، وإذا رجع الخمسة ضمنوا الدية أخماسا كذا في الحاوي القدسي‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وضمن المزكون دية المرجوم إن ظهروا عبيدا‏)‏ يعني ضمن المزكون برجوعهم عن التزكية دية المرجوم إن ظهر الشهود أنهم ليسوا أهلا للشهادة عند أبي حنيفة وقالا هي على بيت المال؛ لأنهم أثنوا على الشهود خيرا فصار كما إذا أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن شهدوا بإحصانه وله أن الشهادة إنما تصير حجة وعاملة بالتزكية فكانت التزكية في معنى علة العلة فيضاف الحكم إليها بخلاف شهود الإحصان؛ لأنه محض الشرط قيدنا بكونهم رجعوا بأن قالوا تعمدنا الكذب مع علمنا بأنهم ليسوا أحرارا؛ لأنهم لو ثبتوا على تزكيتهم ولم يرجعوا أو قالوا‏:‏ أخطأنا لم يضمنوا بالإجماع؛ لأنهم أخطئوا فيما عملوا لعامة المسلمين فصاروا كالقاضي وأفاد بالمزكين أنهم أخبروا بحرية الشهود وإسلامهم وعدالتهم لتكون تزكية سواء كان بلفظ الشهادة أو بلفظ الإخبار؛ لأنهم لو أخبروا بأنهم عدول ثم ظهروا عبيدا لم يضمنوا اتفاقا؛ لأنها ليست تزكية، والقاضي قد أخطأ حيث اكتفى بهذا القدر وقيد بالمزكين؛ لأنه لا ضمان على الشهود، والمسألة بحالها؛ لأن كلامهم لم يقع شهادة ولا يحدون للقذف؛ لأنهم قذفوا حيا وقد مات فلا يورث وقوله إن ظهروا عبيدا مثال بل المراد إن ظهر أنهم ليسوا أهلا للشهادة ولو كانوا كفارا ثم اعلم أنه وقع في كثير من الكتب وجوب الضمان على المزكين بظهورهم عبيدا من غير تقييد برجوع المزكين حتى جعلها في المنظومة مسألتين المسألة الأولى فيما إذا ظهروا عبيدا الثانية إذا رجع المزكون وليس الأمر كذلك‏.‏ والحاصل أن ظهور الشهود عبيدا وعدمه لا تأثير له في ضمان المزكين، وإنما الموجب عليهم هو الرجوع فقط عند الإمام، وإذا لم يرجعوا وظهروا عبيدا فالضمان في بيت المال اتفاقا‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ كما لو قتل من أمر برجمه فظهروا كذلك‏)‏ أي يضمن المزكون الدية كما يضمن القاتل لمن أمر القاضي برجمه فظهر الشهود أنهم ليسوا أهلا للشهادة وفي القياس يجب القصاص على قاتله؛ لأنه قتل نفسا معصومة بغير حق، وجه الاستحسان أن القضاء صحيح ظاهرا وقت القتل فأورث شبهة وأشار بكون القاتل ضامنا إلى أن الدية في ماله؛ لأنه عمد، والعواقل لا تعقل دم العمد وتجب في ثلاث سنين؛ لأنه وجب بنفس القتل بخلاف الواجب بالصلح حيث يجب حالا؛ لأنه وجب بالعقد فأشبه الثمن في البيع وقيد بقوله وأمر القاضي برجمه؛ لأنه لو قتله بعد التزكية قبل القضاء بالرجم وجب القصاص في العمد، والدية في الخطأ على عاقلته‏.‏ والمراد من الأمر بالرجم القضاء به فاستلزم أن لا يكون بعد التزكية فلو أمر برجمه بعد الشهادة قبل التعديل خطأ من القاضي فقتله رجل عمدا وجب القصاص أو خطأ وجبت الدية في ثلاث سنين وقيد بقوله فظهروا كذلك؛ لأنه لو قتله بعد الأمر بالرجم ولم يظهر الشهود كذلك فلا شيء عليه ولم يذكر المصنف تعزير القاتل ولا شك فيه لافتياته على الإمام كما في فتح القدير وقيد بقتل المأمور برجمه؛ لأن من قتل من قضي بقتله قصاصا، فإنه يقتص منه سواء ظهر الشهود عبيدا أو لا؛ لأن الاستيفاء للولي كذا في التبيين من كتاب الردة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وإن رجم فوجدوا عبيدا فديته في بيت المال‏)‏؛ لأنه امتثل أمر الإمام فنقل فعله إليه كذا في الهداية وهو يقتضي أن يضبط رجم بالبناء للفاعل أي وإن رجم رجل من أمر القاضي برجمه فالمسألة الأولى بيان لقتله بالسيف، والثانية بيان لقتله بالرجم واقتصر عليه في فتح القدير ويجوز أن يكون مبنيا للمفعول أي إن رجم المشهود عليه بالزنا في هذه الحالة ثم تبين حال الشهود كذا في غاية البيان ولم أر هل تؤخذ الدية حالا أو مؤجلة‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وإن قال شهود الزنا تعمدنا النظر قبل شهادتهم‏)‏؛ لأنه يباح النظر لهم إلى الفرج ضرورة تحمل الشهادة فأشبه الطبيب، والقابلة، والخافضة، والختان، والاحتقان، والبكارة في العنة، والرد بالعيب قيد بقوله‏:‏ تعمدنا النظر؛ لأنهم لو قالوا‏:‏ تعمدنا النظر للتلذذ لا تقبل شهادتهم إجماعا لفسقهم‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ ولو أنكر الإحصان فشهد عليه رجل وامرأتان أو ولدت منه زوجته رجم‏)‏ أي لو أنكر الدخول بعد وجود سائر الشروط أما إذا ولدت منه فلأن الحكم بإثبات النسب منه حكم بالدخول عليه ولهذا لو طلقها يعقب الرجعة، والإحصان يثبت بمثله، وأما إذا شهد عليه بالإحصان رجل وامرأتان بعد ما أنكر بعض شرائطه كالنكاح، والدخول، والحرية، فإنه يرجم خلافا لزفر والشافعي فالشافعي مر على أصله أن شهادتهن غير مقبولة في غير الأموال‏.‏ وزفر يقول‏:‏ إنه شرط في معنى العلة؛ لأن الجناية تتغلظ عنده فيضاف الحكم إليه فأشبه حقيقة العلة فلا تقبل شهادة النساء فيه احتيالا للدرء وصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم أنه أعتقه قبل الزنا لا تقبل لما ذكرنا ولنا أن الإحصان عبارة عن الخصال الحميدة وأنها مانعة عن الزنا على ما ذكرنا فلا يكون في معنى العلة وصار كما إذا شهدوا به في غير هذه الحالة ولا يرد أنه يصح الرجوع عن الإقرار به فدل أنه كالحد؛ لأنا نقول‏:‏ إنما صح؛ لأنه لا مكذب له فيه بخلاف ما ذكر؛ لأن العتق يثبت بشهادتهما، وإنما لا يثبت سبق التاريخ؛ لأنه ينكره المسلم ويتضرر به المسلم، والمراد بقوله أو ولدت منه أن يكون له من زوجته ولد قبل الزنا قال في غاية البيان ودلت هذه المسألة على أن إثبات الإحصان ليس مثل إثبات العقوبات كالحدود، والقصاص؛ لأنها لا تثبت بدلالة الظواهر قالوا وكيفية الشهادة بالدخول أن يقول الشهود تزوج امرأة وجامعها أو باضعها ولو قالوا دخل بها يكفي عندهما وقال محمد لا يكفي ولا يثبت بذلك إحصانه؛ لأنه مشترك بين الوطء، والزفاف، والخلوة، والزيارة فلا يثبت بالشك كلفظ القربان، والإتيان ولهما أنه متى أضيف إلى المرأة بحرف الباء يتعين للجماع بخلاف دخل عليها، فإنه للزيارة، ولو خلا بها ثم طلقها، وقال‏:‏ وطئتها وأنكرت صار محصنا دونها وكذا لو قالت بعد الطلاق‏:‏ كنت نصرانية وقال‏:‏ كانت مسلمة، وإذا كان أحد الزانيين محصنا يحد كل واحد منهما حده، وإن رجع شهود الإحصان لا يضمنون وهي معروفة وفي المحيط امرأة الرجل إذا أقرت أنها أمة هذا الرجل فزنى الرجل يرجم، وإن أقرت بالرق قبل أن يدخل بها ثم زنى الرجل لا يرجم استحسانا لا قياسا رجل تزوج امرأة بغير ولي فدخل بها قال أبو يوسف لا يكونان بذلك محصنين؛ لأن هذا النكاح غير صحيح قطعا لاختلاف العلماء، والأخبار فيه ا هـ‏.‏ والله أعلم‏.‏

باب حد الشرب

أي الشرب المحرم أخره عن الزنا؛ لأنه أقبح منه وأغلظ عقوبة وقدمه على حد القذف لتيقن الحرمة في الشارب دون القاذف لاحتمال صدقه وتأخير حد السرقة؛ لأنه لصيانة الأموال التابعة للنفوس‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ من شرب خمرا وأخذ وريحها موجود أو كان سكران ولو بنبيذ وشهد رجلان أو أقر مرة حد إن علم شربه طوعا وصحا‏)‏ للحديث‏:‏ «من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه» أخرجه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي ثم نسخ القتل في الرابعة بما رواه النسائي «أنه عليه السلام قد أتي برجل شرب الخمر في الرابعة فجلده ولم يقتله» وزاد في لفظ‏:‏ «رأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد ارتفع» أطلق في شرب الخمر فشمل القطرة الواحدة كما سيصرح به آخرا وفي وجود ريحها فشمل ما إذا كان الريح موجودا وقت الشهادة أو وقت رفعه إلى الحاكم وهي على وجهين، فإن كان المكان قريبا فلا بد من وجود الرائحة عند أداء الشهادة بأن يشهدا بالشرب وبقيام الرائحة أو يشهدا به فقط فيأمر القاضي باستنكاهه فيستنكهه ويخبره بأن ريحها موجود‏.‏ فإن شهدا به بعد مضي ريحها مع قرب المكان فسيأتي، وإن كان المكان بعيدا فزالت الرائحة فلا بد أن يشهدا بالشرب ويقولا أخذناه وريحها موجود؛ لأن مجيئهم به من مكان بعيد لا يستلزم كونهم أخذوه في حال قيام الرائحة فيحتاجون إلى ذكر ذلك للحاكم ولو أخر المصنف اشتراط وجود الرائحة عن السكران بأن قال بعد قوله ولو بنبيذ وأخذ وريح ما شرب منه موجود لكان أولى؛ لأنه لا بد من وجود رائحة الشرب الذي شربه خمرا كان أو نبيذا سكر منه وقد ذكر المصنف الريح حيث قال موجود وفي الهداية وريحها موجودة وهو الحق؛ لأن الريح من الأسماء المؤنثة السماعية كما في غاية البيان وقيد بالرجلين؛ لأن شهادة النساء لا تقبل في الحدود للشبهة ولم يذكر المصنف أن القاضي يسأل الشهود كما يسألهم في الزنا وقد ذكره قاضي خان في الفتاوى فقال‏:‏ وإذا شهد الشهود عند القاضي على رجل بشرب الخمر سألهم القاضي عن الخمر ما هي ثم سألهم كيف شرب لاحتمال أنه كان مكرها ثم يسألهم متى شرب لاحتمال التقادم ثم يسألهم أنه أين شرب لاحتمال أنه شرب في دار الحرب ا هـ‏.‏ وينبغي أن يكون السؤال عن الوقت مبنيا على قول محمد، وأما على المذهب فلا؛ لأن وجود الرائحة كاف ثم قال‏:‏ فإذا بينوا ذلك حبسه القاضي حتى يسأل عن العدالة ولا يقضي بظاهر العدالة ا هـ‏.‏ والمشهود عليه بشربها لا بد أن يكون بالغا عاقلا مسلما ناطقا فلا حد على صبي ولا مجنون ولا كافر قال في الظهيرية‏:‏ رجل ارتد عن الإسلام والعياذ بالله تعالى ثم أتي به إلى الإمام ثم شرب خمرا أو سكر من غير خمر أو سرق أو زنى ثم تاب وأسلم، فإنه يحد في جميع ذلك ما خلا الخمر، والسكر، فإنه لا يحد فيهما؛ لأن المرتد كافر وحد السكر، والخمر لا يقام على أحد من الكفار ا هـ‏.‏ وفي الخانية ولا يحد الأخرس سواء شهد الشهود عليه أو أشار بإشارة معهودة يكون ذلك إقرارا منه في المعاملات؛ لأن الحدود لا تثبت بالشبهات ويحد الأعمى ولو قال المشهود عليه بشرب الخمر‏:‏ ظننتها لبنا أو قال‏:‏ لا أعلم أنها خمر لا يقبل ذلك؛ لأنه يعرفها بالرائحة، والذوق من غير ابتلاع، وإن قال‏:‏ ظننتها نبيذا قبل منه؛ لأن غير الخمر بعد الغليان، والشدة يشارك الخمر في الذوق، والرائحة ا هـ‏.‏ ولا بد من اتفاق الشاهدين فلو شهدا على الشرب، والريح يوجد منه لكنهما اختلفا في الوقت لم يحد وكذا لو شهد أحدهما أنه شربها وشهد الآخر بإقراره بشربها وكذلك لو شهد أحدهما أنه سكر من الخمر وشهد الآخر أنه سكر من السكر كذا في الظهيرية وفي حصره الثبوت في البينة والإقرار دليل على أن من يوجد في بيته الخمر وهو فاسق أو يوجد القوم مجتمعين عليها ولم يرهم أحد يشربونها غير أنهم جلسوا مجلس من يشربها لا يحدون، وإنما يعزرون وكذلك الرجل يوجد معه ركوة من خمر وكان في عهد أبي حنيفة من يقول بوجوب الحد عليه فقال له الإمام‏:‏ لم تحده فقال؛ لأن معه آلة الشرب، والفساد فقال الإمام فارجمه إذن، فإن معه آلة الزنا كذا في الظهيرية وفي قوله‏:‏ مرة رد لقول أبي يوسف‏:‏ إنه لا بد من مرتين اعتبارا بالشهادة كما في الزنا قلنا‏:‏ ثبت ذلك على خلاف القياس فلا يقاس عليه غيره وشرط أن يعلم شربه طوعا وهو بأن يشهد الشهود أنه شربه طائعا؛ لأن الشرب مكرها لا يوجب الحد قال في الخانية ولو قال أكرهت عليها لا يقبل؛ لأن الشهود شهدوا عليه بالشرب طائعا ولو لم يشهدوا بذلك لا تقبل شهادتهم فلو قبلنا قوله كان لكل من شهد عليه بالشرب أن يقول كنت مكرها فيرتفع الحد ا هـ‏.‏ قال في الظهيرية فرق بين هذا وبين ما إذا ادعى المشهود عليه بالزنا أنه نكحها، فإنه لا يحد؛ لأن هناك هو ينكر السبب الموجود للحد؛ لأن الفعل يخرج عن أن يكون زنا بالنكاح وهاهنا بعذر الإكراه لا ينعدم السبب وهو حقيقة شرب الخمر إنما هذا عذر مسقط فلا يثبت إلا ببينة يقيمها على ذلك‏.‏ ا هـ‏.‏ وظاهر كلام المصنف أن الصحو شرط لإقامة الحد حتى لو حده في حال سكره لا يكتفى به لعدم فائدته من كونه زاجرا وفي القنية لا يجوز لقاضي الرستاق أو فقيهه أو المتفقهة وأئمة المساجد إقامة حد الشرب إلا بتولية الإمام‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وإن أقرا أو شهدا بعد مضي ريحها لا لبعد المسافة أو وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها أو رجع عما أقرا وأقر سكران بأن زال عقله لا‏)‏ أي لا يحد في هذه المسائل كلها، أما ثبوته بعد زوال رائحتها بإقرار أو ببينة فللتقادم وهو مقدر به فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عند محمد اعتبارا بحد الزنا وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان، والرائحة قد تكون من غيره كما قيل يقولون لي إنكه شربت مدامة فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا وعندهما يقدر بزوال الرائحة لقول ابن مسعود رضي الله عنه تلتلوه ومزمزوه واستنكهوه، فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة على القرب، وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره، والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل، وإنما يشتبه على الجهال، وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد كما في حد الزنا على ما مر تقريره وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة؛ لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا ورجح في غاية البيان قول محمد فقال‏:‏ والمذهب عندي في الإقرار ما قاله محمد؛ لأن حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنكره بعض أهل العلم قال أبو عبيد‏:‏ لأن الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا بها الرد، والإعراض وعدم الاستماع احتيالا للدرء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقر ماعز فكيف يأمر ابن مسعود بالتلتلة، والمزمزة، والاستنكاه حتى يظهر سكره فلو صح فتأويله أنه جاء في رجل أنه مولع بالشراب مدمن فاستجازه لذلك ا هـ‏.‏ وفي فتح القدير وقول محمد هو الصحيح‏.‏ ا هـ‏.‏ والحاصل أن المذهب قول أبي حنيفة وأبي يوسف إلا أن قول محمد أرجح من جهة المعنى وقدمنا التفصيل في اشتراط وجود الرائحة وأن المسافة إذا كانت بعيدة فالشرط وجودها عند التحمل لا الأداء وهو المراد بقوله لا لبعد المسافة وقدمنا أن وجود الرائحة لا بد منها سواء كان قد شرب الخمر أو سكر من نبيذ، وقول الزيلعي وأشار في الهداية إلى أنه لا يشترط غير صحيح؛ لأنه قال أولا ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة أو جاءوا به وهو سكران وثانيا فإن أخذه الشهود وريحها توجد أو سكران وكونه سكران مغن عن اشتراط وجود الرائحة إذ لا يوجد سكران بغير رائحة ما شربه، وأما إذا وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها فلأنه يحتمل أنه شربها مكرها أو مضطرا، والرائحة محتملة أيضا فلا يجب الحد بالشك وأشار إلى أنه لو وجد سكران لا يحد من غير إقرار ولا بينة لاحتمال ما ذكرنا ولاحتمال أنه سكر من المباح وفي الظهيرية شهد أحدهما أنه شربها، والآخر أنه قاءها لم يحد، وإذا شرب قوم نبيذا فسكر منه بعضهم دون البعض حد من سكر، وأما إذا رجع عن الإقرار فلأنه خالص حق الله تعالى فيعمل الرجوع فيه كسائر الحدود وهذا لأنه يحتمل أن يكون صادقا فصارت شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، وأما إذا أقر وهو سكران فلزيادة احتمال الكذب في إقراره فيحتال للدرء؛ لأنه خالص حق الله تعالى وأشار إلى أن كل حد كان خالصا لله تعالى فلا يصح إقرار السكران به، وإن ما لم يكن خالصا لله تعالى، فإنه يصح إقراره به كحد القذف؛ لأنه فيه حق العبد، والسكران فيه كالصاحي عقوبة عليه كما في سائر تصرفاته‏.‏ والحاصل أن إقراره بالحدود لا يصح إلا حد القذف وإقراره بسبب القصاص وسائر الحقوق من المال، والطلاق، والعتاق وغيرها صحيح؛ لأنها لا تقبل الرجوع ولذا إذا أقر بالسرقة ولم يقطع لسكره أخذ منه المال وصار ضامنا له، وأما ارتداده فليس بصحيح فلا تبين منه امرأته؛ لأن الكفر من باب الاعتقاد فلا يتحقق مع السكر قال في فتح القدير هذا في الحكم أما فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كان في الواقع قصد أن يتكلم به ذاكرا لمعناه كفر وإلا فلا وفي التبيين وعند أبي يوسف ارتداده كفر ذكره في الذخيرة‏.‏ وأما إذا أسلم ينبغي أن يصح كإسلام المكره ا هـ‏.‏ وفي فتح القدير أن إسلامه غير صحيح وقيد بالإقرار؛ لأنهم لو شهدوا عليه بالشرب وهو سكران قبلت شهادتهم وكذا بالزنا وهو سكران كما إذا زنى وهو سكران وكذا بالسرقة وهو سكران ويحد بعد الصحو ويقطع؛ لأن الإنشاء لا يحتمل الكذب فيعتبر فعله فيما ينفذ من غير قصد واعتقاد وهذا كله إذا سكر من المحرم، وأما إذا سكر بالمباح كشرب المضطر، والمكره، والمتخذ من الحبوب، والعسل، والدواء، والبنج فلا تعتبر تصرفاته كلها؛ لأنه بمنزلة الإغماء لعدم الجناية وفي الخانية، وإن زال عقله بالبنج فطلق إن كان حين تناوله البنج علم أنه بنج يقع الطلاق، وإن لم يعلم لا يقع وعن أبي يوسف ومحمد لا يقع من غير فصل وهو الصحيح ا هـ‏.‏ وهذا يدل على أن البنج حلال مطلقا على الصحيح وقوله بأن زال عقله بيان حد السكر فعند أبي حنيفة السكران من النبيذ الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقا قليلا ولا كثيرا ولا يعقل الرجل من المرأة ولا الأرض من السماء وقالا‏:‏ هو الذي يهذي ويختلط كلامه غالبا، فإن كان نصفه مستقيما فليس بسكران؛ لأنه السكران في العرف وإليه مال أكثر المشايخ وله أن يؤخذ في أسباب الحدود بأقصاها درءا للحد ونهاية السكران يغلب السرور على العقل فيسلبه الميز بين شيء وشيء وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو، والمعتبر في القدح المسكر في حق الحرمة ما قالاه بالإجماع أخذا بالاحتياط وفي الخانية وبقولهما أفتى المشايخ وفي فتح القدير واختاروه للفتوى لضعف دليل الإمام واستدل له في الظهيرية بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال من بات سكرانا بات عروسا للشيطان فعليه أن يغتسل إذا أصبح فهذا إشارة إلى أن السكران من لا يحس بشيء مما يصنع به وحكى أن أئمة بلخ اتفقوا على أنه يستقرأ سورة من القرآن، فإن أمكنه أن يقرأها فليس بسكران حتى يحكى أن أميرا ببلخ أتاه بعض الشرطى بسكون الراء بسكران فأمره الأمير أن يقرأ ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ فقال السكران للأمير اقرأ سورة الفاتحة أولا فلما قال الأمير ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ قال‏:‏ قف فقد أخطأت من وجهين تركت التعوذ عند افتتاح القراءة وتركت التسمية وهي آية من أول الفاتحة عند بعض الأئمة والقراء، فخجل الأمير وجعل يضرب الشرطي الذي جاء به ويقول‏:‏ أمرتك أن تأتيني بالسكران فجئتني بمقرئ بلخ‏.‏ ا هـ‏.‏ وفي فتح القدير ولا شك أن المراد ممن يحفظ القرآن أو كان حفظها فيما حفظ منه لا من لم يدرسها أصلا ولا ينبغي أن يعول على هذا بل ولا معتبر به، فإنه طريق سماع تبديل كلام الله تعالى، فإنه ليس كل سكران إذا قيل له اقرأ ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ يقول لا أحسنها الآن بل يندفع قارئا فيبدلها إلى الكفر ولا ينبغي لأحد أن يلزم أحدا بطريق ذكر ما هو كفر، وإن لم يؤاخذ به‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وحد السكر، والخمر ولو شرب قطرة ثمانون سوطا‏)‏ لإجماع الصحابة رضي الله عنهم روى البخاري من حديث‏:‏ «السائب بن يزيد قال كنا نأتي بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما فنقوم عليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر رضي الله عنه فجلد أربعين حتى عتوا وفسقوا جلد ثمانين» وحاصل ما في فتح القدير أنه عليه الصلاة والسلام لم يسن فيه عددا معينا ثم قدره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بأربعين ثم اتفقوا على ثمانين، وإنما جاز لهم أن يجمعوا على تعيينه، والحكم المعلوم عنه عليه السلام عدم تعيينه لعلمهم أنه عليه السلام انتهى إلى هذه الغاية في ذلك الرجل لزيادة فساد منه ثم رأوا أهل الزمان تغيروا إلى نحوه أو أكثر على ما تقدم من قول السائب حتى عتوا وفسقوا وعلموا أن الزمان كلما تأخر كان فساد أهله أكثر فكان ما أجمعوا عليه هو ما كان حكمه عليه السلام في أمثالهم، والسكر في عبارة المصنف بضم السين وسكون الكاف كذا السماع كما في غاية البيان يعني لا السكر بفتحتين نوع من الأشربة‏.‏ والحاصل أن حرمة الخمر قطعية فيحد بقليله وحرمة غيره ظنية فلا يحد إلا بالسكر منه‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وللعبد نصفه‏)‏ أي نصف هذا الحد وهو أربعون سوطا لما رواه مالك في الموطإ أن عمر وعثمان وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم قد جلدوا عبيدهم نصف الحد في الخمر ولأن الرق منصف للنعمة، والعقوبة على ما عرف‏.‏

‏(‏قوله‏:‏ وفرق على بدنه كحد الزنا‏)‏؛ لأن تكرار الضرب في موضع واحد قد يفضي إلى التلف، والحد شرع زاجرا لا متلفا وأشار بالتشبيه إلى أنه لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا الفرج كما قدمنا في حد الزنا وأنه يضرب بسوط لا تمرة له وأنه ينزع عنه ثيابه قال في الهداية ثم يجرد في المشهور من الرواية وعن محمد أنه لا يجرد إظهارا للتخفيف ووجه المشهور إذا أظهرنا التخفيف مرة فلا يعتبر ثانيا ا هـ‏.‏ وسيصرح المصنف رحمه الله في فصل التعزير أن حد الشرب أخف من حد الزنا وصفا كما هو أخف منه قدرا، والحاصل أن المضروب في الحدود، والتعزير يجرد على ثيابه إلا الإزار احترازا عن كشف العورة إلا حد القذف، فإنه يضرب وعليه ثيابه إلا الحشو، والفرو كذا في غاية البيان إلا أنه قال‏:‏ والأصح عندي ما روي عن محمد من أنه لا يجرد لعدم ورود النص بذلك‏.‏