الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآيات (70- 73): {يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله} أي بما نَطَقتْ به التوراةُ والإنجيلُ ودلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} أي والحالُ أنكم تشهدون أنها آياتُ الله أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعتَه في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حقٌّ {ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} بتحريفكم وإبرازِ الباطِلِ في صورته أو بالتقصير في التمييز بينهما، وقرئ {تلَبّسون} بالتشديد وتلْبَسون بفتح الباء أي تلبَسون الحقَّ مع الباطل كما في قوله عليه السلام: «كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» {وَتَكْتُمُونَ الحق} أي نبوةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونعتَه {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي حقِّيتَه {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب} وهم رؤساؤُهم ومفسدوهم لأعقابهم {ءامِنُواْ بالذى أنزِلَ على الَّذِينَ آمنُوا} أي أظهِروا الإيمانَ بالقرآن المنْزلِ عليهم {وَجْهَ النهار} أي أولَه {واكفروا} أي أظهِروا ما أنتم عليه من الكفر به {ءاخِرَهُ} مُرائين لهم أنكم آمنتم به بادِيَ الرأي من غير تأملٍ ثم تأملتم فيه فوقَفتم على خلل رأيِكم الأولِ فرجعتم عنه {لَعَلَّهُمْ} أي المؤمنين {يَرْجِعُونَ} عما هم عليه من الإيمان به كما رجعتم والمرادُ بالطائفة كعبُ بنُ الأشرفِ ومالكُ بنُ الصيفِ قالا لأصحابهما لما حُوِّلت القِبلة: آمِنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلّوا إليها أولَ النهار ثم صلوا إلى الصخرة آخِرَه لعلهم يقولون: هم أعلمُ منا وقد رجَعوا فيرجِعون، وقيل: هم اثنا عشرَ رجلاً من أحبار خيبَر اتفقوا على أن يدخُلوا في الإسلام أولَ النهار ويقولوا آخرَه: نظرنا في كتابنا وشاوَرْنا علماءَنا فلم نجِدْ محمداً بالنعت الذي ورد في التوراة، لعل أصحابه يشكّون فيه. {وَلاَ تُؤْمِنُواْ} أي لا تُقِرّوا بتصديقٍ قلبيَ {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} أي لأهل دينِكم أو لا تُظهِروا إيمانَكم وجهَ النهار إلا لمن كان على دينكم من قبلُ، فإن رجوعَهم أرجى وأهمُّ {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} يهدي به من يشاءُ إلى الإيمان ويُثبِّته عليه {أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي دبّرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أو بلا تؤمنوا أي ولا تظهِروا إيمانَكم بأن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لأشياعكم ولا تُفْشوه إلى المسلمين لئلا يزيدَ ثباتُهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام، وقولُه تعالى: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} اعتراضٌ مفيدٌ لكون كيدِهم غيرَ مُجدٍ لطائل أو خبر إن على هدى الله بدل من الهدى، وقرئ {أن يؤتى} على الاستفهام التقريعي وهو مؤيدٌ للوجه الأولِ أي لأن يُؤتى أحدٌ إلخ دبرتم؟ وقرئ {أن} على أنها نافيةٌ فيكونُ من كلام الطائفةِ، أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبِعَ دينَكم وقولوا لهم: ما يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} عطفٌ على {أَن يؤتى} على الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه حتى يحاجوكم عند ربِّكم فيدحَضوا حُجتَكم، والواوُ ضميرُ {أَحَدٌ} لأنه في معنى الجمع إذ المرادُ به غيرُ أتباعِهم {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله واسع عَلِيمٌ} ردٌّ لهم وإبطالٌ لما زعموه بالحجة الباهرةِ. .تفسير الآيات (74- 75): {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} أي يجعل رحمتَه مقصورةً على {مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم} كلاهما تذييلٌ لما قبله مقرِّرٌ لمضمونه. {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب} شروعٌ في بيان خيانتِهم في المال بعد بيانِ خيانتِهم في الدين، والجارُّ والمجرورُ في محل الرفع على الابتداء حسبما مر تحقيقُه في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} إلخ خبرُه قوله تعالى: {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ} على أن المقصودَ بيانُ اتّصافِهم بمضمون الجملةِ الشرطية لا كونُهم ذواتِ المذكورين كأنه قيل: بعضُ أهلِ الكتاب بحيث إن تأمنْه بقنطار أي بمالٍ كثيرٍ يؤدِّه إليك كعبد اللَّه بن سلامٍ استودَعه قرشيٌّ ألفاً ومِائتيْ أوقيةٍ ذهباً فأداها إليه {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} كفِنحاصَ بنِ عازوراءَ استودعه قرشيٌّ آخرُ ديناراً فجحَده وقيل: المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالبُ فيهم الأمانةُ والخائنون في القليل اليهودُ إذ الغالبُ فيهم الخيانة {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أو الأوقات أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامِك أو في وقت دوامِ قيامِك على رأسه مبالِغاً في مطالبته بالتقاضي وإقامةِ البينة {ذلك} إشارةٌ إلى ترك الأداءِ المدلولِ عليه بقوله تعالى: {لاَّ يُؤَدِّهِ} وما فيه من معنى البُعد للإيذن بكمال غُلوِّهم في الشر والفساد {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الاميين} أي في شأنِ مَنْ ليس من أهل الكتاب {سَبِيلٍ} أي عتابٌ ومؤاخذة {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب} بادعائهم ذلك {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون مفترون على الله تعالى وذلك لأنهم استحلوا ظُلْمَ من خالفهم وقالوا لم يُجعل في التوراة في حقهم حُرمةٌ وقيل: عامل اليهودُ رجالاً من قريشٍ فلما أسلموا تقاضَوْهم فقالوا: سقط حقُّكم حيث تركتم دينَكم وزعَموا أنه كذلك في كتابهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولِها: «كذَب أعداءُ الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانةَ فإنها مؤداةٌ إلى البَرِّ والفاجر». .تفسير الآيات (76- 78): {بلى} إثباتٌ لما نفَوْه أي بلى عليهم فيهم سبيلٌ، وقولُه تعالى: {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} استئنافٌ مقرِّر للجملة التي سد {بلى} مسدَّها والضميرُ المجرور لمن أو لله تعالى وعمومِ المتقين نائبٌ منابَ الراجعِ من الجزاء إلى مَنْ ومُشعِرٌ بأن التقوى مَلاكُ الأمرِ، عامٌّ للوفاء وغيرِه من أداء الواجباتِ والاجتنابِ عن المناهي {إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ} أي يستبدلون ويأخُذون {بِعَهْدِ الله} أي بدلَ ما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والوفاءِ بالأمانات {وأيمانهم} وبما حلفوا به من قولهم: والله لنُؤمِنن به ولننصُرَنّه {ثَمَناً قَلِيلاً} هو حُطامُ الدنيا {أولئك} الموصوفون بتلك الصفاتِ القبيحةِ {لاَ خلاق} لا نصيبَ {لَهُمْ فِي الاخرة} من نعيمها {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله} أي بما يسُرّهم أو بشيء أصلاً وإنما يقع ما يقع من السؤال والتوبيخِ والتقريعِ في أثناء الحساب من الملائكة عليهم السلام أو لا ينتفعون بكلماتِ الله تعالى وآياتِه، والظاهرُ أنه كنايةٌ عن شدة غضبِه وسَخَطِه نعوذ بالله من ذلك لقوله تعالى: {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} فإنه مَجازٌ عن الاستهانة بهم والسخطِ عليهم متفرِّعٌ على الكناية في حق من يجوزُ عليه النظرُ لأن مَن اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره بصرَه ثم كثُر حتى صار عبارةً عن الاعتداد والإحسانِ وإن لم يكن ثَمَّةَ نظَرٌ ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظرُ مجرد المعنى من الإحسان مَجازاً عما وقع كنايةً عنه فيمن يجوزُ عليه النظر، ويومَ القيامة متعلقٌ بالفعلين وفيه تهويل للوعيد {وَلاَ يُزَكّيهِمْ} أي لا يُثني عليهم أو لا يُطَهِّرهم من أوضار الأوزار {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على ما فعلوه من المعاصي قيل إنها نزلت في أبي رافعٍ ولُبابةَ بنِ أبي الحقيق وحُيَيِّ بنِ أخطَبَ حرّفوا التوراة وبدلوا نعتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا الرِّشوةَ على ذلك. وقيل: نزلت في الأشعث بنِ قيسٍ حيث كان بينه وبين رجل نزاعٌ في بئر فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «شاهداك أو يمينُه» فقال الأشعث: إذن يحلِفُ ولا ببالي، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حلف على يمين يستحِقُّ بها مالاً هو فيها فاجرٌ لقِيَ الله وهو عليه غضبان»، وقيل: في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يكن اشتراها به. {وَإِنَّ مِنْهُمْ} أي من اليهود المحرِّفين {لَفَرِيقًا} ككعب بنِ الأشرفِ ومالكِ بنِ الصيف وأضرابِهما {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب} أي يفتلونها بقراءته فيُميلونها عن المُنزّل إلى المحرّف أو يعطِفونها بشَبَه الكتاب، وقرئ {يُلوّون} بالتشديد و{يلُون} بقلب الواو المضمومة همزةً ثم تخفيفِها بحذفها وإلقاء حركتها على ما قبلها من الساكن {لِتَحْسَبُوهُ} أي المحرِّفَ المدلولَ عليه بقوله تعالى: {يَلْوُونَ} إلخ وقرئ بالياء والضميرُ للمسلمين {مّنَ الكتاب} أي من جملته وقولُه تعالى: {وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب} حالٌ من الضمير المنصوبِ أي والحالُ أنه ليس منه في نفس الأمرِ وفي اعتقادهم أيضاً {وَيَقُولُونَ} مع ما ذكر من اللَّيِّ والتحريف على طريقة التصريحِ لا بالتورية والتعريض {هُوَ} أي المحرفُ {مِنْ عِندِ الله} أي منزلٌ من عند الله {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} حالٌ من ضمير المبتدأ في الخبر أي والحالُ أنه ليس من عنده تعالى في اعتقادهم أيضاً وفيه من المبالغة في تشنيعهم وتقبيحِ أمرِهم وكمالِ جرأتهم ما لا يخفى، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ والكتاب في محل الإضمارِ لتهويل ما أقدموا عليه من القول. {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون ومفترون على الله تعالى وهو تأكيدٌ وتسجيلٌ عليهم بالكذبِ على الله والتعمُّد فيه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهودُ الذين قدِموا على كعب بنِ الأشرف وغيَّروا التوراةَ وكتبوا كتاباً بدَّلوا فيه صِفةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذت قريظةُ ما كتبوا فخلَطوا بالكتاب الذي عندهم. .تفسير الآية رقم (79): {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} بيانٌ لافترائهم على الأنبياء عليهم السلام حيث قال نصارى نجرانَ: إن عيسى عليه السلام أمرنا أن نتخِذَه رباً حاشاه عليه السلام، وإبطالٌ له إثرَ بيانِ افترائِهم على الله سبحانه وإبطالِه، أي ما صح وما استقام لأحد وإنما قيل: {لِبَشَرٍ} إشعاراً بعلة الحُكم فإن البشريةَ منافية للأمر الذي أسنده الكفرَةُ إليهم {أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب} الناطقَ بالحق الآمرَ بالتوحيد الناهيَ عن الإشراك {والحكم} هو الفهمُ والعلم أو الحكمةُ وهي السنة، {والنبوة ثُمَّ يَقُولَ} ذلك البشرُ بعدما شرّفه الله عز وجل بما ذُكر من التشريفات وعرّفه الحقَّ وأطلعه على شؤونه العالية {لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى} الجارُّ متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لعباد أي عباداً كائنين {مِن دُونِ الله} متعلقٌ بلفظ عباداً لما فيه من معنى الفعل أو صفةٌ ثانيةٌ له ويحتمِلُ الحاليةَ لتخصُّص النكرةِ بالوصف أي متجاوزين الله تعالى سواءٌ كان ذلك استقلالاً أو اشتراكاً فإن التجاوزَ متحققٌ فيهما حتماً. قيل: إن أبا رافعٍ القُرَظيّ والسيدَ النجرانيَّ قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبُدَك ونتخِذَك رباً؟ فقال عليه السلام: «معاذَ الله أن يُعبَدَ غيرُ الله تعالى وأن نأمرَ بعبادة غيرِه تعالى فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرَني» فنزلت. وقيل: قال رجل من المسلمين: يا رسول الله نسلِّم عليك كما يُسلّم بعضُنا على بعض أفلا نسجُد لك؟ قال عليه السلام: «لا ينبغي أن يُسجَدَ لأحد من دون الله تعالى ولكن أكرِموا نبيَّكم واعرِفوا الحقَّ لأهله» {ولكن كُونُواْ} أي ولكن يقولُ كونوا {ربانيين} الربانيُّ منسوبٌ إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحياني والرقباني وهو الكاملُ في العلم والعمل، الشديدُ التمسكِ بطاعة الله عز وجل ودينِه {بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} أي بسبب مُثابرتِكم على تعليم الكتابِ ودراستِه أي قراءتِه فإن جعْلَ خبرِ كان مضارعاً لإفادة الاستمرارِ المتجدِّد وتكريرُ بما كنتم للإيذان باستقلال كلَ من استمرار التعليمِ واستمرارِ القراءةِ بالفضل وتحصيلِ الربانية، وتقديمُ التعليم على الدراسة لزيادة شرفِه عليها أو لأن الخطابَ الأولَ لرؤسائهم والثاني لمن دونهم وقرئ {تَعْلمون} بمعنى عالمين و{تُدَرِّسون} من التدريس و{تُدْرِسون} من الإدراس بمعنى التدريس كأكرم بمعنى كرُم ويجوز أن تكون القراءةُ المشهورةُ أيضاً بهذا المعنى على تقدير بما تدْرُسونه على الناس. .تفسير الآيات (80- 81): {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا} بالنصب عطفاً على ثم يقولَ و{لا} مزيدةٌ لتأكيد معنى النفي في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} أي ما كان لبشر أن يستنبِئَه الله تعالى ثم يأمرَ الناس بعبادة نفسِه ويأمرَ باتخاذ الملائكةِ والنبيين أرباباً، وتوسيطُ الاستدراك بين المعطوفَين للمسارعة إلى تحقيق الحقِّ ببيان ما يليق بشأنه ويحِقُّ صدورُه عنه إثرَ تنزيهِه عما لا يليقُ بشأنه ويمتنِعُ صدورُه عنه، وأما ما قيل من أنها غيرُ مزيدةٍ على معنى أنه ليس له أن يأمُرَ بعبادته ولا يأمرَ باتخاذِ أكفائِه أرباباً بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة فيقضي بفساده ما ذُكِر من توسيط الاستدراكِ بين الجملتين المتعاطفتين ضرورةَ أنهما حينئذ في حكم جملةٍ واحدة وكذا قوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُم بالكفر} فإنه صريحٌ في أن المرادَ بيانُ انتفاءِ كِلا الأمرَين قصداً لا بيانُ انتفاءِ الأولِ لانتفاءِ الثاني، ويعضُده قراءةُ الرفعِ على الاستئناف، وتجويزُ الحالية بتقدير المبتدإ أي وهو لا يأمرَكم إلى آخره بيِّنُ الفساد لما عرَفته آنفاً، وقولُه تعالى: {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} يدل على أن الخطابَ للمسلمين وهم المستأذنون للسجود له عليه السلام {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} منصوبٌ بمضمر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي اذكرْ وقتَ أخذِه تعالى ميثاقَهم {لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} قيل: هو ظاهره وإذا كان هذا حكمَ الأنبياءِ عليهم السلام كان الأممُ بذلك أولى وأحرى، وقيل: معناه أخذُ الميثاقِ من النبيين وأممِهم، واستُغنيَ بذكرهم عن ذكرهم، وقيل: إضافةُ الميثاقِ إلى النبيين إضافةٌ إلى الفاعل والمعنى وإذْ أخذ الله الميثاقَ الذي وثّقه الأنبياءُ على أممهم، وقيل: المرادُ أولادُ النبيين على حذف المضافِ وهم بنو إسرائيلَ أو سماهم نبيين تهكّماً بهم لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهلُ الكتاب والنبيون كانوا منا، واللام في {لَّمّاً} موطئةٌ للقسم لأن أخذَ الميثاق بمعنى الاستخلافِ، وما تحتملُ الشرطيةَ، ولتُؤمِنُنّ سادٌّ مسدَّ جوابِ القسم والشرط، وتحتمل الخبرية، وقرئ {لَّمّاً} بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعضَ الكتاب ثم لمجيء رسولٍ مصدقٍ أخذَ الله الميثاقَ لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنه، أو موصولةٌ والمعنى أخذُه الذي آتيتُكموه وجاءكم رسولٌ مصدقٌ له وقرئ {لَمّا} بمعنى حين آتيتُكم أو لَمِنْ أجل ما آتيتُكم على أن أصله لَمِنْ ما بالإدغام فحُذف إحدى الميمات الثلاثِ استثقالاً. {قَالَ} أي الله تعالى بعدما أخذَ الميثاقَ {ءأَقْرَرْتُمْ} بما ذُكر {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى} أي عهدي سُمّيَ به لأنه يؤصَرُ أي يُشَدّ وقرئ بضم الهمزة إما لغةٌ كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل قالوا: {أَقْرَرْنَا} وإنما لم يُذكر أخذُهم الإصرارَ اكتفاءً بذلك {قَالَ} تعالى {فَأَشْهِدُواْ} أي فليشهدْ بعضُكم على بعض بالإقرار وقيل: الخطابُ فيه للملائكة {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين} أي وأنا أيضاً على إقراركم ذلك وتشاهُدِكم به شاهدٌ، وإدخالُ مع على المخاطبين لما أنهم المباشِرون للشهادة حقيقةً وفيه من التأكيد والتحذيرِ ما لا يخفى.
|