.تفسير الآية رقم (31):
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} يَعْنِي مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ لَا الْأَسْمَاءَ كَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ.وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا الْمُسَمَّيَاتُ بِقَوْلِهِ:
{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} الْآيَةَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي كَانُوا يَكْتُمُونَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ مَا كَانَ يُضْمِرُهُ إِبْلِيسُ مِنَ الْكِبْرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ}.
.تفسير الآية رقم (34):
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ أَوْ بَعْدَ خَلْقِهِ؟ وَقَدْ صَرَّحَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَص بِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ. فَقَالَ فِي الْحِجْرِ:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الآية 28، 29]، وَقَالَ فِي سُورَةِ ص:
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الآية 71، 72].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مُوجِبَ اسْتِكْبَارِهِ فِي زَعْمِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ:
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [7/ 12]، وَقَوْلِهِ:
{قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [15/ 33].تَنْبِيهٌ:مِثْلُ قِيَاسِ إِبْلِيسَ نَفْسَهُ عَلَى عُنْصُرِهِ، الَّذِي هُوَ النَّارُ وَقِيَاسِهِ آدَمَ عَلَى عُنْصُرِهِ، الَّذِي هُوَ الطِّينُ وَاسْتِنْتَاجُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ بِالسُّجُودِ لِمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، مَعَ وُجُودِ النَّصِّ الصَّرِيحِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{اسْجُدُوا لِآدَمَ} يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ: [الرَّجَزُ]:
وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا ** فَسَادَ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَىفَكُلُّ مَنْ رَدَّ نُصُوصَ الْوَحْيِ بِالْأَقْيِسَةِ فَسَلَفُهُ فِي ذَلِكَ إِبْلِيسُ، وَقِيَاسُ إِبْلِيسَ هَذَا لَعَنَهُ اللَّهُ بَاطِلٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ؛ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ الصَّرِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ، بَلِ الطِّينُ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ؛ لِأَنَّ طَبِيعَتَهَا الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ وَالْإِفْسَادُ وَالتَّفْرِيقُ، وَطَبِيعَتَهُ الرَّزَانَةُ وَالْإِصْلَاحُ فَتُودِعُهُ الْحَبَّةَ فَيُعْطِيكَهَا سُنْبُلَةً، وَالنَّوَاةَ فَيُعْطِيكَهَا نَخْلَةً.وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ الطِّينِ فَانْظُرْ إِلَى الرِّيَاضِ النَّاضِرَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الثِّمَارِ اللَّذِيذَةِ، وَالْأَزْهَارِ الْجَمِيلَةِ، وَالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ تَعْلَمُ أَنَّ الطِّينَ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ.الثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْأَصْلِ لَا يَقْتَضِي شَرَفَ الْفَرْعِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْأَصْلُ رَفِيعَ الْفَرْعِ وَضِيعًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: [الْبَسِيطُ]:
إِذَا افْتَخَرْتَ بِآبَاءٍ لَهُمْ شَرَفٌ ** قُلْنَا صَدَقْتَ وَلَكِنْ بِئْسَ مَا وَلَدُواوَقَالَ الْآخَرُ: [الْمُتَقَارِبُ]:
وَمَا يَنْفَعُ الْأَصْلُ مِنْ هَاشِمٍ ** إِذَا كَانَتِ النَّفْسُ مِنْ بَاهِلَهْقَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، بِقَوْلِهِ:
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الآية 23].
.تفسير الآية رقم (40):
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ:
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [2/ 57]، وَقَوْلِهِ:
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ:
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [28/ 5، 6] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا عَهْدُهُ وَمَا عَهْدُهُمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ:
{وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [5/ 12] فَعَهْدُهُمْ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ:
{لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وَعَهْدُهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ:
{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}.وَأَشَارَ إِلَى عَهْدِهِمْ أَيْضًا بِقَوْلِهِ:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [3/ 187] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} الْحَقُّ الَّذِي لَبَسُوهُ بِالْبَاطِلِ هُوَ إِيمَانُهُمْ بِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالْبَاطِلُ الَّذِي لَبَسُوا بِهِ الْحَقَّ هُوَ كُفْرُهُمْ بِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَجَحْدُهُمْ لَهُ، كَصِفَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهَا مِمَّا كَتَمُوهُ وَجَحَدُوهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} الْآيَةَ [2/ 85] وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا إِشْكَالَ فِيهَا، وَأَمَّا نَتِيجَةُ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ، فَقَدْ أَشَارَ لَهَا تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ نَتَائِجِ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا النَّهْيَ عَمَّا لَا يَلِيقُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [29/ 45]، وَأَنَّهَا تَجْلِبُ الرِّزْقَ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}، وَلِذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ بَادَرَ إِلَى الصَّلَاةِ.وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يُنَاجِيهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَرَهْبَةً مِنْهُ، فَيَتَبَاعَدُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ فَيَرْزُقُهُ اللَّهُ وَيَهْدِيهِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ}، الْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا: الْيَقِينُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [2/ 4]، وَقَوْلِهِ:
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [23/ 60].
.تفسير الآية رقم (48):
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} الْآيَةَ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَدَمُ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هِيَ الشَّفَاعَةُ لِلْكُفَّارِ، وَالشَّفَاعَةُ لِغَيْرِهِمْ بِدُونِ إِذْنِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.أَمَّا الشَّفَاعَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِذْنِهِ فَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. فَنَصَّ عَلَى عَدَمِ الشَّفَاعَةِ لِلْكَفَّارِ بِقَوْلِهِ:
{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [21/ 28]، وَقَدْ قَالَ:
{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [39/ 7]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ:
{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [26/ 100] وَقَالَ:
{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [74/ 48] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَقَالَ فِي الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إِذْنِهِ:
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [2/ 255]، وَقَالَ:
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [53/ 26]، وَقَالَ:
{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [20/ 109] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَادِّعَاءُ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا} [10/ 18].تَنْبِيهٌ:هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلْكُفَّارِ مُسْتَحِيلَةٌ شَرْعًا مُطْلَقًا، يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فِي نَقْلِهِ مِنْ مَحَلٍّ مِنَ النَّارِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ مِنْهَا، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ:
{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} الْآيَةَ.
.تفسير الآية رقم (50):
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ فَرْقِ الْبَحْرِ بِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ:
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [26/ 63]، وَقَوْلِهِ:
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} الْآيَةَ [20/ 77].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ إِغْرَاقِهِمْ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ:
{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [26/ 60 إِلَى 66]، وَقَوْلِهِ:
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [20/ 78].وَقَوْلِهِ:
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [44/ 24]، وَقَوْلِهِ:
{رَهْوًا}، أَيْ: سَاكِنًا عَلَى حَالَةِ انْفِلَاقِهِ حَتَّى يَدْخُلُوا فِيهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ وَاعَدَهُ إِيَّاهَا مُجْتَمِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهَا مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَنَّهُ وَاعَدَهُ أَوَّلًا ثَلَاثِينَ، ثُمَّ أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [7/ 124].
.تفسير الآية رقم (53):
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الظَّاهِرُ فِي مَعْنَاهُ: أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى، وَأَنَّمَا عَطَفَ عَلَى نَفْسِهِ تَنْزِيلًا لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ مَوْصُوفٌ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكْتُوبٌ كَتَبَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ فُرْقَانٌ؛ أَيْ: فَارَقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَعَطَفَ الْفُرْقَانَ عَلَى الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ نَظَرًا لِتَغَايُرِ الصِّفَتَيْنِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: [الْمُتَقَارِبُ]:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ** وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِبَلْ رُبَّمَا عَطَفَتِ الْعَرَبُ الشَّيْءَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ، فَاكْتَفُوا بِالْمُغَايَرَةِ فِي اللَّفْظِ. كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: [الْبَسِيطُ]:
إِنِّي لَأَعْظُمُ فِي صَدْرِ الْكَمِيِّ عَلَى ** مَا كَانَ فِيَّ مِنَ التَّجْدِيرِ وَالْقِصَرِالْقِصَرُ: هُوَ التَّجْدِيرُ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الْوَافِرُ]:
وَقَدَّدْتُ الْأَدِيمَ لِرَاهِشِيهِ ** وَأَلْفَى قَوْلُهَا كَذِبًا وَمَيْنَاوَالْمَيْنُ: هُوَ الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الطَّوِيلُ]:
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ ** وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُوَالْبُعْدُ: هُوَ النَّأْيُ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ: [الْكَامِلُ]:
حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ** أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِوَالْإِقْفَارُ: هُوَ الْإِقْوَاءُ بِعَيْنِهِ.وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} الْآيَةَ [21/ 48].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هَذَا الْعِجْلُ الْمَعْبُودُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ:
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [7/ 148]، وَقَوْلِهِ:
{وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [20/ 87، 88] وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلِاتِّخَاذِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَتَقْدِيرُهُ: بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي سُورَةِ طَهَ بِقَوْلِهِ:
{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [87/ 88]، قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [2/ 63]، أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ:
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [7/ 171].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [2/ 63] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي آتَاهُمْ مَا هُوَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ الْكِتَابُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [2/ 53].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أَجْمَلَ قِصَّتَهُمْ هُنَا وَفَصَّلَهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ:
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الْآيَاتِ 163].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِيَ} لَمْ يُبَيِّنْ مَقْصُودَهُمْ بِقَوْلِهِمْ:
{مَا هِيَ} إِلَّا أَنَّ جَوَابَ سُؤَالِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ مَا هِيَ أَيْ: مَا سِنُّهَا؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} الْآيَةَ. وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ مَا هِيَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ هَلْ هِيَ عَامِلَةٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ فِيهَا عَيْبٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ فِيهَا وَشْيٌ مُخَالِفٌ لِلَوْنِهَا أَوْ لَا؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} [2/ 71].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} لَمْ يُصَرِّحْ هَلْ هَذِهِ النَّفْسُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا ذَكَرٌ بِقَوْلِهِ:
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [2/ 73].
.تفسير الآية رقم (73):
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} الْآيَةَ، أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ إِحْيَاءَ قَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَلِيلٌ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا نَفْسًا وَاحِدَةً بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ جَمِيعِ النُّفُوسِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي قَوْلِهِ:
{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [31/ 28].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ:
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [5/ 13]، وَقَوْلِهِ:
{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الْآيَةَ [57/ 16].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَمَانِيِّ هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمْنِيَةِ الْقِرَاءَةُ؛ أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا قِرَاءَةَ أَلْفَاظٍ دُونَ إِدْرَاكِ مَعَانِيهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَنَاسَبُ مَعَ قَوْلِهِ:
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَا يَقْرَأُ.الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ، لَكِنْ يَتَمَنَّوْنَ أَمَانِيَّ بَاطِلَةً، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [2/ 111]، وَقَوْلِهِ:
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [4/ 123].
.تفسير الآية رقم (85):
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ، يَعْنِي: تَقْتُلُونَ إِخْوَانَكُمْ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ، كَثْرَةُ وُرُودِهِ كَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [49/ 11] أَيْ: لَا يَلْمِزْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ وَقَوْلِهِ:
{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [24/ 12] أَيْ: بِإِخْوَانِهِمْ وَقَوْلِهِ:
{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [2/ 54] أَيْ: بِأَنْ يَقْتُلَ الْبَرِيءُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ مَنْ عَبَدَهُ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا أُصِيبَ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} يَتَبَيَّنُ مِمَّا قَبْلَهُ أَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي آمَنُوا بِهِ هُوَ فِدَاءُ الْأَسَارَى مِنْهُمْ، وَالْبَعْضَ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ هُوَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَقَتْلِهِمْ وَمُظَاهَرَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَفَرُوا بِغَيْرِ هَذَا مِنَ الْكِتَابِ وَآمَنُوا بِغَيْرِهِ مِنْهُ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ:
{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [3/ 49] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} هُوَ جِبْرِيلُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [26/ 193]، وَقَوْلِهِ:
{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} الْآيَةَ [19/ 17].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الْبَيِّنَاتُ وَبَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ:
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} [7/ 133]، وَقَوْلِهِ:
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} الْآيَةَ [26/ 32- 33]، وَقَوْلِهِ:
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} الْآيَةَ [26/ 63]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
.تفسير الآية رقم (93):
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ مِنَ السَّمْعِ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَمْعًا وَطَاعَةً؛ أَيْ: إِجَابَةً وَطَاعَةً، وَمِنْهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ- فِي الصَّلَاةِ- أَيْ: أَجَابَ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ:
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [24/ 51] وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:
{وَاسْمَعُوا} أَيْ: بِآذَانِكُمْ وَلَا تَمْتَنِعُوا مِنْ أَصْلِ الِاسْتِمَاعِ.وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ رُبَّمَا امْتَنَعَ مِنْ أَصْلِ الِاسْتِمَاعِ خَوْفَ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ:
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [71/ 7].وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [41/ 26]، وَقَوْلِهِ:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [22/ 72] وَقَوْلِهِ:
{قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [2/ 93]؛ لِأَنَّ السَّمْعَ الَّذِي لَا يُنَافِي الْعِصْيَانَ هُوَ السَّمْعُ بِالْآذَانِ دُونَ السَّمْعِ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ.
.تفسير الآية رقم (96):
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ أَحَدَ الْمَذْكُورِينَ يَتَمَنَّى أَنْ يَعِيشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَطُولُ عُمُرِهِ لَا يُزَحْزِحُهُ، أَيْ: لَا يُبْعِدُهُ عَنِ الْعَذَابِ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنَّ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ:
{أَنْ يُعَمَّرَ} فَاعِلُ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ مُزَحْزِحُهُ عَلَى أَصَحِّ الْأَعَارِيبِ، وَفِي لَوْ مِنْ قَوْلِهِ:
{لَوْ يُعَمَّرُ}، وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، وَهِيَ وَصِلَتُهَا فِي تَأْوِيلِ مَفْعُولٍ بِهِ لِ:
{يَوَدُّ} وَالْمَعْنَى:
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} أَيْ: يَتَمَنَّى تَعْمِيرَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَلَوْ: قَدْ تَكُونُ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا لِقَوْلِ قَتِيلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ:
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَّنَتْ وَرُبَّمَا ** مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُأَيْ: مَا كَانَ ضَرَّكَ مِنْهُ.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ لَوْ هُنَا هِيَ الشَّرْطِيَّةُ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: لَوْ يُعَمَّرْ أَلْفَ سَنَةٍ، لَكَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ مَعَ دَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [102/ 5] أَيْ: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَمَا:
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [102/ 1]، وَقَوْلِهِ:
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [13/ 31] أَيْ: لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَوْ لَكَفَرْتُمْ بِالرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ ** وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَاأَيْ: لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ لَدَفَعْنَاهُ. إِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْآيَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى مُبَيِّنًا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ مُتِّعَ مَا مُتِّعَ مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ انْقَضَى ذَلِكَ الْمَتَاعُ وَجَاءَهُ الْعَذَابُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَتَاعَ الْفَائِتَ لَا يَنْفَعُهُ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا بَعْدَ انْقِضَائِهِ وَحُلُولِ الْعَذَابِ مَحِلَّهُ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [26/ 205، 206، 207] وَهَذِهِ هِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي هُوَ طُولُ الْأَمَلِ. كَفَانَا اللَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ شَرَّهُ.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَى الْقُرْآنَ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ قِرَاءَةٍ، وَنَظِيرُهَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} الْآيَةَ [26/ 193، 194] وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ مِنْهُ، فَتَصِلُ مَعَانِيهِ إِلَى قَلْبِهِ بَعْدَ سَمَاعِهِ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى تَنْزِيلِهِ عَلَى قَلْبِهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [75/ 16، 19]، وَقَوْلِهِ:
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [20/ 114].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ} ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُعَاهِدُ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ يُنْقِضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} [8/ 55، 56]، وَصَرَّحَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُمْ أَهْلُ خِيَانَةٍ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [5/ 13].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} الْآيَةَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْكِتَابِ هُمُ الْأَكْثَرُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [3/ 110].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ مَا هُوَ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} الْآيَةَ [4/ 153].